فريد الدين العطَّار.. و”منطقُ الطير”!!
د. حمد محمد الغيلاني
فتحت الطيور الثلاثون أجنحتها من الشو
وَطَوت الهواء بحثا عن السيمرغ
فلما عدت نفسها في آخر الأمر
رأت أنها هي نفسها كانت السيمرغ
(مُحمَّد أفضل اللاهوري)
العطارُ.. شاعرُ الحب الإلهيِّ الذي سُمِّيت أقواله بـ”سوط العارفين”، وهو واحدٌ من أعظم شعراء الفرس، وأغزرهم إنتاجا، وأعمقهم فِكْرا (يحيى الخشاب، مُقدِّمة كتاب “منطق الطير” للدكتور أحمد القيسي).
وفريد الدين مُحمَّد العطار النيسابوري.. واحدٌ من أكثر ثلاثة شعراء متصوِّفة في تاريخ الأدب الفارسي كله بعد الإسلام؛ هم: سنائي، والعطار، وجلال الدين الرومي (“منطق الطير”، تحقيق د.أحمد القيسي).
وهو الذي قال فيه مَوْلَانا جلال الدين الرومي: كان العطار وجها، وكان السنائي عينيه، وجئنا على أثر السنائي والعطار.
ويقول العطار عن نفسه: قُلت لقلبي: أَقِلَّ القول أيُّها الثرثار، واطلب الحقيقة، فأجاب: أَقِلَّ اللوم، فأنا في نار وإن لم أنطق احترقت.
هكذا يُصوِّر العطار كثرة إنتاجه، وهذا الإنتاج شعر كله عدا تذكرة الأولياء؛ فهي منثورة.
ويصف ريتر رباعيات العطار بأنَّها أقدم مجموعة مرتَّبة وصلتْ إلينا من الأدب الفارسي.
وفي شعر العطار، تجدُ أثر شعراء الفرس الكبار كأبي سعيد بن أبي الخير والفردوسي، وروَّاد الشعر العربي كحسان ابن ثابت ولبيد ورابعة العدوية والمتنبي وأبي العتاهية وأبي العلاء المعري، كما تأثر سلوكه بالحلاج والإمام الشافعي.
كما أنَّ للعطار أثراً كبيرًا في مَوْلانا جلال الدين الرومي، الذي يصف مكانه من العطار بقوله: طوف العطار مدن العشق السبعة، ولا نزال في منعطف جادة واحدة.
وُلِد العطار بين 528 إلى 536 هجرية (1133-1141م)، وكانت وفاته في سنة 607 (1210م)، وهو من أهل نيسابور بخرسان، وتعني خرسان: البلاد الشرقية، وتنقسم خرسان إلى أربعة أقاليم؛ هي: مرو، ونيسابور، وهراة، وبلخ. وتقع نيسابور في أقصى الأربع غربا، ولم يرَ ياقوت مدينة أجمل منها في خرسان.
ونتيجة للاضطراب السياسي في تلك الفترة، فقد انتشر التصوف بشكل واسع، وظهر عدد كبير من المتصوفة؛ منهم: عبدالقادر الجيلاني، وأبو نجيب السهروردي، وسيد أحمد رفاعي، ونجم الدين الكبري، وقطب الدين حيدر، وفريد الدين العطار.
كما أنَّ عصر العطار كان من أخصب العصور أدبا؛ فقد ظهر من الشعراء: الخيَّام، والمعري، وسنائي، والخاقاني.
لقد كان أبو شيخنا عطارا، فورث عنه فريد الدين هذه الحرفة؛ فهو يقول في “منطق الطير”:
ولو أنِّي عطار، وبائع للترياق
عندي كبد محترقة كما هي عند بائع الـ((الناك*))
* والناك: نوع من المسك والعنبر المغشوش، الذي يُصنع من حرق القلب والكبد.
وتُطْلَق كلمة العطار بالفارسية على بائع العطور وبائع الأدوية، وقد تطور مدلول كلمة العطار في العصور الوسطى من بائع العطور والدواء إلى الكيميائي، فالمتطبب. وكانت فاعليته تشمل الطب وبيع الدواء، وكان عليه أن يعرف العقاقير المختلفة والمعالجة والأشربة والعطور، وكان العطار يمارس الطب، يستقبل المرضى في صيدليته فيفحصهم ويشخِّص أمراضهم، ويقدِّم لهم ما يحتاجون من أدوية وعلاج.
ولقد كان العطار مُحبًّا لمهنته؛ فهو يقول على لسان أحد أصدقائه، الذي كان يعاتبه:
قال لي: يا مضيء العالم بالمعنى
لقد أصبحت هكذا مشغولا بالطب ليلا ونهارا
إن الطب من أجل جسم كل ضعيف،
ولكن الشعر والحكمة قوت الروح….
فقد تربَّى العطار في كنف أبويْن صالحيْن تقييْن ورعيْن؛ فنشأ على الصَّلاح والتُّقى والورع وحُب الصوفية منذ نعومة أظفاره، وأثرت في نفسه هذه البيئة الصالحة؛ فلما كبر نما في قلبه حبه للصالحين من رجال الدين ومن أهل التصوف، وتبع ذلك حبه للاطلاع على أحوال السالفين منهم، ولقراءة أخبارهم وآثارهم.
… إنَّ العطار كان أويسيا؛ أي حصل على التربية الصوفية، وقطع مراحل السلوك بلا احتياج لشيخ، كما تربى أويس القرني، في حجر النبوة، ولم يكن قد تشرف برؤية سيد الأنبياء عليه الصلاة والسلام. كما اكتسب العطار من روحانية المتصوف أبي سعيد أبي الخير، وشخصيته المعنوية الخالدة، فهو شيخه الروحي وهاديه في سلوك الطريق.
والحق أنَّ العطار قد أحرز الأستاذية الكاملة في نظمه وشعره، فكما أنه ممتاز في شعره -من حيث السلاسة والانسجام وقوة التأثير- يملك هذه الأوصاف تامة كاملة في النثر أيضا (كتاب “شرح أحوال العطار”). وللعطار مَلَكة البيان بالمعنى الواسع لهذه الكلمة، وهو شاعرٌ عظيمٌ، وكاتبٌ ماهرٌ، والظاهر أنَّ هذه الأوصاف بحد الكمال، قلما اجتمعت لشخص اجتماعها لدى العطار (كتاب “شرح أحوال العطار”).
يقول نجم الدين الكبري في كتابة “الأصول العشرة”: الطريق إلى الله تعالى بعدد أنفاس الخلائق، وطريقنا الذي نشرع في شرحه أقرب الطرق إلى الله تعالى وأوضحها وأرشدها؛ وذلك لأنَّ الطرق مع كثرة عددها، محصورة في ثلاثة أنواع؛ الأول: طريق أرباب المعاملات بكثرة الصلاة والصوم وتلاوة القرآن والحج والجهاد…وغيرها، وهو طريق الأخيار؛ فالواصلون بهذا الطريق أقل من القليل. الثاني: طريق أصحاب المجاهدات والرياضات في تبديل الأخلاق وتزكية النفس، وتصفية القلب وتجلية الروح، والسعي فيما يتعلق بعمارة الباطن، وهو طريق الأبرار؛ فالواصلون بهذا الطريق أكثر من ذلك الفريق، ولكن وصول ذلك من النوادر. والثالث: طريق السائرين إلى الله تعالى، والطائرين بالله تعالى، وهو طريق الشطار من أهل المحبة، السالكين بالجذبة؛ فالواصلون منهم في البدايات أكثر من غيرهم في النهايات.
والعطار من سالكي الطريق الثاني؛ فمجاهدة النفس عنده واجبة؛ فهو كثيراً ما يُشبِّهها بالكلب، وأنها هي جحيم مُفعم نارا؛ فمن يقيِّدها برجولة فهو قادر على تقييد الأسُوْد في العالمين، ومن يُذلها فلن يبلغ عبارة أحد.
والطريقة أوضحها العطار في “منطق الطير” و”مصيبة نامة”، وقد جعلها سفرا في النفس ذا سبع مراحل في “منطق الطير”، وكلُّ مرحلة من هذه المراحل تقابل عند الصوفية مقاما، ويسمِّي العطار كلَّ مرحلة أو مقام واديا، والمقامات عند العطار، كما يصفها هي:
إن وادي الطلب هو أول العمل،
وبعده وادي العشق،
ثم الثالث وادي المعرفة،
ثم الرابع وادي صفة الاستغناء،
والخامس وادي التوحيد الطاهر،
ثم السادس وادي الحيرة الصعب،
والوادي السابع هو وادي الفقر والفناء
وبعد ذلك، لن يكون لك سير
وتقع في الجذبة، فيمي عنك السير،
فإن تكن قطرة تصبح لك قلزما.
وأما نتاج العطار الفكري؛ فهو كُتب: “الديوان”، و”مصيبة نامة”، و”إلهي نامة”، و”أسرار نامة”، و”مختار نامة”، و”منطق الطير”، و”خسروا نامة”، إضافة إلى كتابه “تذكرة الأولياء”، الذي هو نثر وليس شعرا.. ويصف العطار كتبه بقوله:
إن “مصيبة نامة” هو زاد السالكين،
وإن “إلهي نامة” هو كنز الملوك،
ودنيا المعرفة هو “أسرار نامة”،
وجنة أهل القلب “مختار نامة”،
وأما “مقامات الطيور” فهكذا
هي لطير العشق معراج الروح،
وإذ إنَّ لـ”خسروا نامة” طرزا عجيبا،
كل صغير وكبير ذو نصيب من طرزه.
ويُعتبرُ كتاب “مقامات الطير” -أو “منطق الطير”- أهم مثنويات فريد الدين العطار، وهو من أوضح كتب التصوف التي تصوِّر فكرة وحدة الوجود، وهو إلى جانب ذلك عمل فني كامل أيضا؛ حيث يقول العطار عن هذا الكتاب:
ختم عليك كما ختم على الشمس النور
“منطق الطير” و”مقامات الطيور”
ويقول عنه أيضا:
و”مقامات الطيور” الناطقة بلغة الطيور وصل إلى محل الكشف.
ويقول عنه أيضا:
أما “مقامات الطيور” فهو هكذا
هو معراج الروح لطائر العشق.
ويقول فرزوان فر -أحد الباحثين في سيرة وفكر العطار- إنَّ تسمية “منطق الطير” هي لسان الاستعداد، وظهور المرتبة والمقام عند سالكي طريق الحقيقة.
وقد وَرَد هذا الاصطلاح -“منطق الطير”- في الآية السادسة عشرة من سورة النمل في قوله تعالى: “وورث سليمان داوود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء، إن هذا لهو الفضل المبين”.
ولم يقتصرُ التأثير القرآني على اختيار العطار لاصطلاح “منطق الطير” فقط، بل تعداه في ظل هذا التأثير إلى اختياره الهدهد دليلا للطيور في سفرها المرهق الطويل خلال الوديان السبعة بحثا عن السيمرغ، فإنَّ الهدهد قد بلغ منزلة عظيمة عند نبي الله سليمان، فهو واسطة بينه وبين الخلق.
أمَّا عدد أبيات منطق الطير، فهي أربعة آلاف وستمائة وستة وتسعون بيتاً.
أما فكرة الكتاب، فهي العروج والسفر إلى العالم الآخر؛ بحثا عن الله.
والرحلة إلى العالم الآخر في ذاتها فكرة قديمة جدًّا، بل ربما تبلغ في قدمها الإنسانية نفسها.
وأقدم نص يحمل هذه الفكرة هو “ملحمة جلجامش”، التي دُوِّنت في القرن الثاني قبل الميلاد، وهو العهد البابلي القديم في حضارة وادي الرافدين. وقد تناولتْ ثقافة البشر عالم ما بعد الحياة، منذ أقدم العصور، عند مختلف الأمم، عند الهنود والمصريين والسوريين والإيرانيين واليونانيين والرومانيين والإسكندنافيين والأيرلنديين والعرب المسلمين.. ومن أهم الأعمال الأدبية في هذا الشأن: “الأوديسة” لهوميروس، بين 1000 إلى 500 قبل الميلاد، و”الضفادع” لأرسطو 405 قبل الميلاد عند اليونانيين، و”أرداويراف نامة” عند الفرس، و”سير العباد إلى الميعاد” للسنائي، و”منطق الطير” للعطار، و”مصباح الأرواح” للكرماني، و”جاويد نامة” لإقبال الباكستاني، و”قصة المعراج النبوي على صاحبه أفضل الصلاة والسلام”، و”معراج بايزيد” البسطامي، و”معراج الخرقاني”، و”رسالة الغفران” للمعري عند المسلمين، و”الكوميديا الإلهية” عند الإيطاليين، و”رحلة الحاج” لجون بنيان الإنجليزي.
وهيكل قصة “منطق الطير” هو: تجتمع الطيور، وتبحث فيما بينها قضية انتخاب ملك لها؛ فتسير سالكة الأودية السبعة، بزعامة الهدهد؛ بحثا عن السيمرغ الذي هو العنقاء.
والرَّمز بالطير للنفس الإنسانية أو للروح قديمٌ جدًّا، حتى إننا لنجد هذا في ملحمة جلجامش التي مضى على تدوينها أربعة آلاف سنة، وكان المصريون القدماء أيضا -كالعراقيين القدماء- يتصورون الأرواح على هيئة الطيور. وفي الحديث الشريف: “إنَّ أرواح الشهداء طيور خضر – أو في أجواف طيور خضر” (سنن النسائي والترمذي وابن داود)، والملائكة في قصة المعراج النبوي نجدهم على هيئة الطيور.
وقد رمز العطار إلى مراحل السلوك -أي المقامات- بالوديان، وإلى الذات العلية بالسيمرغ، وإلى النفوس البشرية بالطيور؛ فالهدهد الدليل الهادي والرجل الكامل والشيخ، والبلبل رمز لمحبي الجمال ومن شأنهم العشق، والببغاء رمز لأهل التقليد، والطاووس رمز لأهل الظاهر، والبط رمز الوسواس؛ فهم من يصرفون عمرهم في غسل ظاهر بدنهم، والبوم رمز لطالب العزلة والزهد، والباز رمز لطالب القريب من السلطان، والسيمرغ هو طائر كبير من الكواسر لعله النسر، يقول الفردوسي عن السيمرغ:
كان جبل اسمه جبل البز
وهو قريب من الشمس بعيد عن الجموع
وللسيمرغ عش هناك
وكان ذلك البيت مجهولا عند الخلق.
إنَّ شيخنا العطار بعد أن رمز لكل نوع من النفوس الإنسانية بطير يناسبه في بعض الأوصاف، ويلائمه في بعض العبادات، اتخذ من قصة اجتماع الطيور لانتخاب ملكها، وقيامها بسفرها الطويل المرهق -بزعامة الهدهد- بحثا عن السيمرغ، إطارا ملأه بعدد كبير من الحكايات التي تختلف طولا، والتي قد تطول فتبلغ أربعمائة بيت -كما نرى في حكاية شيخ صنعان- وقد تُختَصَر فلا تتجاوز بيتين، ويذكر العطار هذه القصص الفرعية ليوضِّح بها ما يعرض من أفكار صوفية، وليمثل بها على ما يقول.
وهذه الطريقة التي اتبعها العطار في عرض قصته العامة، ناثرا الحكايات خلالها، هي طريقة هندية دخلت الأدبيْن العربي والفارسي منذ أن تُرجم كتاب “كليلة ودمنة” من اللغة البهلوية إلى العربية، ثم من العربية إلى الفارسية الدرية.
ويبدأ كتاب “منطق الطير” بهذه الأبيات:
الحمد لله الطاهر خالق الروح
ذلك الذي منح التراب الروح والإيمان
ووضع أساس العرش على الماء
وجعل عمر أهل الأرض كالهباء
حيث يبدأ كتاب “منطق الطير” بباب التوحيد، ثم يبدأ في نعت الرسول -عليه الصلاة والسلام- في البيت الخامس والستين بعد المائتين، فيقول:
يا شفيع حفنة من التعساء
تلطف وأضئ شمع الشفاعة
حتى تأتي بين جمعك كالفراشة
مصفقي الجناح أمام شمعك
ثم يتحدَّث العطار عن فضائل الخلفاء الأربعة، عاقدا لكل واحد منهم فصلا، ويتبع ذلك في فصل في ذم التعصُّب، ثم يبدأ موضوع الكتاب بالترحيب بالهدهد:
مرحبا أيُّها الهدهد الذي صار هاديا
وصار في الحقيقة الرسول إلى كل واد
يا من سيرة طيب على حدود سبا
وكلامه طيب مع سليمان
لقد أصبحت صاحب سر سليمان
وأصبحت لذلك متوجا من التفاخر
ثم يرحب ببقية الطيور، وهذا القسم شاعري لطيف، يستفيد فيه من الأقاصيص الدينية، ومن أشكال الطيور نفسها، ومن أوصاف حياتها، وينسى نفسه.. يحادثها كما يحادث البشر، داعيا إلى أن تترك الدنيا والزهد، وتتخلَّى عن كل شيء، وتقصر نفسها على أمر الله لتصل إليه، فيقول:
واحرق من الحرارة كل ما يأتي أمامك
وأطبق عين الروح إطباقا تاما عن الخلق
فحين تحرق كل ما يأتي أمامك
يتنزل عليك قرى الحق في كل لحظة
فإذا أصبح قلبك وقفا على أسرار الحق
فقف نفسك على أمر الحق
وإذا صرت في أمر الحق خيرا كاملا
فلن تبقى أنت، وسيبقى الحق والسلام.
وتجتمعُ طيور الدنيا من كلِّ مكان، تقول لا تخلو مملكة من ملك، فينبغي أنْ نساعد بعضنا بعضا في البحث عن ملك؛ فيأتي الهدهد وعلى رأسه التاج، فيذكر لهم أنه عرف الملك، وأنه يجب عليهم أن يضحوا بأرواحهم في سبيله، وأن يتخلَّصوا من الخير والشر ليصلوا إليه، ويوضح لهم أنَّ ذلك الملك هو السيمرغ.
ويُخبر الهدهد الطيور بأنَّ الطريق إلى حضرة السيمرغ طويل، دونه أرضون، ودونه بحار، وتلك البحار عميقة جدا:
ينبغي التخلي عن الروح برجولة
حتى يمكن القول: إنك رجل عمل
إنَّ الروح بغير الحبيب لا تساوي أي شيء
فضح بالروح العزيزة مثل الرجال
فإن تبذل روحا برجولة
فما أكثر ما يبذل الحبيب لك من روح
بهذه الأبيات، يُبيِّن لنا العطار أنَّ الحب هو طريقنا للحق، وأن الحياة بغيره عار.
فتفكِّر الطير فيمن يكون الدليل، فتقترع فتصيب القرعة الهدهد، فتسير خلفه، ويسأله أحد الطيور عن طول الطريق؛ إذ يبدو له بعيدا، فيجيبه:
إن لنا سبعة أودية
فإذا قطعت السبعة أودية فهناك الحضرة
لم يرجع من هذا الطريق أحد في الدنيا
ولا أحد عالم بفراسخه
وإذ لم يرجع من هذا الطريق أحد إلى الدنيا
كيف يعلمونك به يا من لا صَبْر له…!
إذا صاروا في ذلك الموضع فنوا جميعا
فمن يرجع إليك الخبر ممن لا خبر لهم؟
إنَّ وادي الطلب هو أول العمل
وبعده، وادي العشق الذي لا ساحل له
ثم الثالث: وادي المعرفة
ثم الرابع: وادي صفة الاستغناء
ثم الخامس: وادي التوحيد الطاهر
ثم السادس: وادي الحيرة الصعب
ثم السابع: وادي الفقر والفناء
وبعد ذلك، لن يكون لك سير
وتقع في الجذبة، فيمحي عنك السير
فإن تكن قطرة تصبح لك قلزما
ومات كثيرٌ من الطير في الطريق، واستمرَّت البقية سائرة في طريقها عمرًا طويلاً، ووصل القليل منهم بعد أن هلك الآخرون، وصل ثلاثون طائراً وقد أنهكهم السير وهد قواهم.
ومضى دهرا أيضا، وبرز نقيب الحضرة، فرآهم ثلاثين طائراً مُنهكة القوى، عاجزة، ضعيفة، حيرى، فسألهم عن بلادهم واسمهم وأسباب حضورهم، فأجابوا إنما جاؤوا إلى هنا حتى يكون السيمرغ ملكاً لهم، فقال لهم: ارجعوا إلى بلادكم، وفتح حاجب اللطف الباب، وأخذ يزيح الحجب، وأجلسهم على مسند القرية، ووضع أمامهم رقعة، قال لهم: اقرؤوها، وكان مسجلًا فيها كل ما فعلوا، فخجلوا حتى فنوا، ولما تطهَّروا من كلِّ شيء سرت فيهم روح جديدة في الحضرة، وأشرقت شمس القرية فأشرقت أرواحهم من شعاعها، فلما نظروا إلى ذلك النور رأوا فيه صورة السيمرغ، أي صورة ثلاثين طيرا، فتحيَّروا، فطلبوا كشف السر:
وجاء الخطاب من تلك الحضرة، بلا لسان
إنَّ هذه الحضرة مرآة الشمس
وكل من يأتي يرى نفسه فيها
يرى الجسم والروح جسما وروحا فيها أيضا
ولأنكم أتيتم إلى هنا وأنتم ثلاثون
ظهرتم في المرآة ثلاثين
فإن تأتوا مرة ثانية وأنتم أربعون أو خمسون طيرا
فستفتحون الحجاب عن أنفسكم
كل هذه الوديان التي خلفتموها وراءكم
وكل هذه الرجولة التي أبديتموها جميعا
إنما مارستم فيها الأفعال
وقد نمتم في وادي ذات الضفة
ولأنَّكم قد بقيتم ثلاثين طيرا حيران
وبقيتم بلا قلب، ولا صبر، ولا روح
نحن أوْلَى جدا بالسيمرغية
لأننا سيمرغ حقيقي
فافنوا فينا في صدر العز والدلال
حتى تجدونا ثانية في أنفسكم
ففنوا فيه خير على الدوام
وفني الظل في الشمس والسلام
تنتهي هنا قصة الطيور في رحلتها النفسية، ويبدأ العطار في خاتمة الكتاب في وصف حاله:
لقد نثرت أيها العطار على العالم
في كل لحظة مائة ألف نافجة (مسك) من الأسرار
فامتلأت آفاق الدنيا منك عطرا
فشاع بسببك الهياج في عشاق الدنيا
فادر مرة حديث العشق على الأخلاق حينا
وغنِّ لحنَ بردة العشاق حينا…
—————————————————-
المراجع:
– “منطق الطير”، فريد الدين العطار، تحقيق د.أحمد ناجي القيسي، دار نينوى.
– “تذكرة الأولياء”، فريد الدين العطار، تحقيق محمد أديب الجادر، دار المكتبي.
16,943 total views, 5 views today
Hits: 3529