أعط دما وأنقذ حياة
د. رضا بن عيسى اللواتي
تتجدَّد بين الحين والآخر نداءات بنوك الدم في السلطنة؛ باحثة عن قطرات من دم قد تُساعد في إنقاذ حياة مُصاب في حادث مروري، أو مريض بالثلاسيميا، أو آخر أُجريت له عملية جراحية استنزفَ أثناءها الكثير من دمه. ولتحقيق هذا الهدف النبيل، تقوم بنوك الدم في السلطنة بالعديد من الحملات في مُختلف أنحاء البلاد، تهدف لتوعية المجتمع بأهمية وضرورة التبرع بالدم. وعلى الرغم من أنَّ معظم هذه الحملات تلقى إقبالا ملحوظا وتجاوبا لا بأس به من المواطنين والمقيمين، إلا أنه يبدو أنها لا تحقق الهدف المنشود؛ إذ لا تزال هذه البنوك تعاني من نقص في مخزونها من كميات الدم، وبحاجة ماسة إلى مزيد من الدم لتلبية الاحتياجات المتزايدة، لاسيما في الحالات الناتجة عن حوادث المركبات التي تتسبَّب في إصابة عدد كبير من الأشخاص.
ولا شك أن وزارة الصحة -وبالتعاون مع مستشفى جامعة السلطان قابوس…وغيره من المؤسسات الصحية التابعة لمختلف القطاعات في الدولة- تبذل جهودا مشكورة من أجل ضمان توفير الكميات المطلوبة من الدم، ووضع آليات سلسة للتبرع والفحص والتخزين والتوزيع؛ من خلال إنشاء بنوك دم متعددة في جميع أنحاء السلطنة؛ حتى تسهل عملية إيصال الدم إلى المستشفيات في مختلف ولايات ومحافظات السلطنة. وقد خلصت دراسة نُشرت في العام 2010م في المجلة الآسيوية لعلوم نقل الدم، إلى أن السلطنة كوَّنت نظاما ممتازا يعد الأفضل في المنطقة من حيث نقل الدم الآمن بعد إجراء الفحوصات عليه والتأكد من خلوه من الأمراض المعدية، ومن ثم نقله إلى المريض، وكلُّ ذلك عن طريق التبرع بالدم التطوعي من قبل المواطن أو المقيم. ولا يخفى أن بدايات عملية التبرع بالدم كانت تتم بمقابل مادي أو هدايا عينية لتشجيع المجتمع على التبرع بالدم.
قد يتساءل البعض: لماذا هذا التركيز المستمر على التبرع بالدم؟ ولماذا هذه الحملات الكثيرة والتطوعية من أجل حث الناس على التبرع بالدم؟ وما هي فوائد التبرع بالدم؟ وكذلك تساؤل عن أسباب محدودية الدم الموجود في بنوك الدم، والنقص المستمر في الدم على الرغم من هذه الحملات؟ وفي هذا المقال سوف أحاول الرد على بعض هذه الأسئلة، والحديث عن هذا الموضوع بإسهاب.
وقبل الشروع في الحديث عن التبرع بالدم، لا بأس من أن نعرِّف ما هي مكونات الدم، وسيكون ذلك مدخلا مُهمًّا لموضوع هذا المقال. فالدم عبارة عن سائل أصفر اللون يُسمَّى البلازما (Plasma)، ويحتوي هذا السائل على بروتينات، وهرمونات، وأجسام مضادة، إضافة إلى كُريات الدم الحمراء التي تحتوي على الأكسجين، وكريات الدم البيضاء، والصفائح الدموية. ومصدر كُريات الدم الحمراء والبيضاء والصفائح الدموية هو نخاع العظم.
بعد أن تعرفنا على مكونات الدم، نأتي للسؤال الأهم؛ وهو: لماذا نتبرع بالدم؟ وللإجابة عن هذا السؤال استعنت بموقع منظمة الصحة العالمية (WHO)، فوجدت فيه جوابا أرى أنه هو الأنسب والأكثر دقة. تُقسِّم منظمة الصحة العالمية المحتاجين إلى الدم إلى عدة أقسام؛ أولا: ضحايا الحوادث -سواء كانت حوادث السيارات، أو ضحايا الحروب والدمار، والكوارث الطبيعية- إضافة إلى الذين تُجرى لهم عمليات جراحية يكون فيها نزيف الدم كثيرا، وكذلك النساء الحوامل اللائي يُواجهن مُضاعفات خطيرة في حملهن، وتشترك هذه الشريحة من الحالات بوجود نزيف شديد للدم يستدعي تبرعا بالدم. ثانيا: مرضى الثلاسيميا، وأنيميا الخلايا المنجلية، وهم من أكثر المرضى المحتاجين إلى عمليات نقل الدم؛ بسبب حاجتهم المستمرة له؛ بسبب الخلل الحاصل في جيناتهم الوراثية المسؤولة عن إنتاج الهيموجلوبين. وكما هو معلوم، فإنه لا يمكن تخزين الدم لفترات طويلة، فيلزم التبرع المستمر حتى تتم تغطية النقص الحاصل فيه.
ولا نُغالي إذا قلنا إنَّ كل قطرة دم قد تنقذ حياة إنسان، إلا أنَّ المتبرِّع بالدم أيضا ينال ثواب كرمه في الدنيا قبل الآخرة. إنَّ أول فائدة وأهم فائدة يجنيها المتبرع بالدم هي حصوله على فحص إكلينيكي مجاني؛ أي فحص الضغط ودقات القلب…وغيرها، ثم يطمئن على أن نسبة الهيموجلوبين في دمه طبيعية من خلال فحص عينة من الدم المتبرع به، إضافة إلى فحص العينة للتأكد من خلوها من الأمراض المعدية. كما أنَّ عملية التبرع بالدم تفيد في تنشيط الدورة الدموية؛ حيث يقوم نخاع العظم بالعمل على إعادة ما فقده الإنسان بعد عملية التبرع بالدم. كما يتم إعادة التوازن إلى كمية الحديد الموجودة في الجسم بعد عملية التبرع، وهذا الأمر مُفيد جدًّا لصحة الإنسان.
وقد يتساءل البعض: متى يُعوَّض الدم المفقود؟ وكما أسلفنا سابقا، فإن الدم ينقسم إلى عدة أقسام؛ والسائل البلازمي يتم تعويضه مباشرة خلال 12-72 ساعة، بينما يتم تعويض البروتينات الموجودة في الدم خلال 3-4 أيام، أمَّا كريات الدم الحمراء فإنها تأخذ 120 يوما -أي 4 أشهر تقريبا- لأجل تعويضها؛ لذلك لا يُنصح بالتبرع بالدم إلا كل 4 أشهر.
وفي السلطنة، تُنظم الجهات المعنية سلسلة من الحملات التطوعية التي تقام بين فترة وأخرى من أجل نشر ثقافة التبرع بالدم. وما عنوان المقال إلا شعارٌ لإحدى هذه الحملات التي قامت في هذا المجال، والتي أسهمت بشكل أو بآخر بزيادة عدد المتبرعين بالدم ولو جزئيا. ووفق إحصائية نشرتها وزارة الصحة في كُتيب إحصائياتها السنوي للعام 2014م، تفيد بأنه قد زاد عدد المتبرعين بالدم بين عامي 2012 و2014م، ولكن على الرغم من ذلك فإنَّ العدد لا يزال قليلا إذا ما قُوْرن بالوحدات التي يتم رفضها بسبب الأمراض المعدية أو بسبب نقص في الهيموجلوبين لدى المتبرع المفترض.
فالرقم 57.750 -وهو عدد المتبرعين خلال الفترة المذكورة- هو رقم مُتدنٍّ بالمقارنة بعدد سكان السلطنة، والذي كان يقارب الـ4 ملايين نسمة وفق إحصائية العام 2014م، والمأمول هو بذل مزيدٍ من الجهد لزيادة عدد المتبرعين في كل عام، لنصل إلى النتيجة المرجوة والعدد الكافي من وحدات الدم القادرة على سد النقص الحاصل في مختلف محافظات السلطنة.
ومن أجل تحليل هذا الوضع، ومعرفة أسباب عُزوف البعض عن تلبية هذا النداء الإنساني في السلطنة -سواء المواطن أو المقيم- قُمت بالبحث عمَّا إذا ما كانت قد أجريت دراسات لتقييم الوضع؟! ولماذا لا يقوم الناس بالتبرع بالدم بشكل منتظم؟! إلا أنني -وللأسف الشديد- لم أجد إجابة شافية لتساؤلاتي. لكني وجدت دراسة أجريت في المملكة العربية السعودية، والتي من الممكن أن تُقدِّم بعض الإجابات عن هذا السؤال.
ذكرتْ هذه الدراسة السعودية -والتي أُجريت تحت عنوان “وعي مجتمع المناطق الوسطى من السعودية بالتبرع بالدم”، ونُشرت في المجلة الدولية للطب الباطني في العام 2014م؛ حيث أجريت فيها مقابلات مع قرابة 470 شخصا من كلا الجنسين- أنَّ حوالي 50% من هؤلاء قد سبق لهم التبرع بالدم، بينما أجاب الباقي بأنهم لم يتبرعوا، وذلك إمَّا بسبب ضيق الوقت أو بسبب الخوف من مضاعفات التبرع بالدم. وأرجعتْ الدراسة التعذُّر بسبب ضيق الوقت والذي كان رد غالبية الذكور الذين شملتهم الدراسة، كما أرجعته إلى طبيعة المجتمع السعودي واستحواذ الوظيفة والعائلة على معظم وقت الرجل، مما لا يترك المجال للذهاب إلى مراكز التبرع. أمَّا بالنسبة للإناث، فقد ذكرت الدراسة سببيْن أساسيين لعزوفهن عن التبرع بالدم؛ الأول هو عدم قدرتهن على قيادة السيارات لمسافة طويلة؛ وذلك بسبب القوانين المعمول بها في المملكة، والسبب الثاني هو خوفهن من إصابتهم بنقص في الدم.
وإذا استحضرنا الأسباب المذكورة، وحاولنا إسقاطها على الحالة في السلطنة، نجد أنَّ معظمها ينطبق عليها أيضا، عدا عدم القدرة على قيادة السيارة بالنسبة للنساء؛ فالخوف من عملية التبرع بالدم نفسه -أو الخوف من الآثار الجانبية للتبرع- يبدو لي من خلال طبيعة عملي واحتكاكي بالمرضى وأهاليهم ومعارفهم، أنَّه أحد الأسباب الرئيسية لعزوف الناس عن التبرع بالدم في عُمان. كذلك فإنَّ التعذر بضيق الوقت بالنسبة للرجال بالفعل يُشكِّل عائقا أمام سلاسة حركة التبرع بالدم في السلطنة. ويمُكن أن نضيف إلى تلكم الأسباب سببًا آخ؛ ألا وهو: انتشار أمراض الدم الوراثية، ومرض ضغط الدم، والسكري، عند الكثير من المواطنين والمقيمين، والتي لا تسمح لهم بالتبرع بالدم.
واستخلصتْ الدراسة المذكورة أعلاه وجوب العمل على إقامة ندوات تعريفية وحملات دعائية حول التبرع بالدم؛ لجذب أكبر عدد من المتبرعين بالدم وسد النقص الحاصل. وهذا الأمر الذي نشاهده في السلطنة كثيرا -من خلال الحملات التوعوية التي تنظمها الجهات المعنية في مختلف محافظات وولايات السلطنة؛ بهدف اجتذاب أكبر عدد من المتبرعين، ومن ثم الحصول على أكبر كمية ممكنة من الدم- كذلك فإنَّ وحدات التبرع بالدم المتنقلة التي تزور المتبرع في مكان عمله لم تدع لعامِل ضيق الوقت مُبررا مقبولا لتلبية هذا النداء النبيل.
ومن هذا المنبر، أوجِّه دعوة عامة لجميع أبناء الوطن والمقيمين على أراضيه بضرورة التبرع بالدم بين فترة وأخرى، حتى نكون عونا للمرضى والمحتاجين لنقل الدم في كل وقت وآن. كما أتمنى من المختصين إجراء بعض الدراسات لاستكشاف مزيد من أسباب ضعف الإقبال على التبرع بالدم في السلطنة، حتى تقدم على أساس نتائجها الحلول والمقترحات المناسبة لضمان استمرارية الحياة للمحتاجين لهذا السائل الثمين.
10,232 total views, 5 views today
Hits: 563