الضَّوء البَّارِد
د. حيدر أحمد اللواتي
هل حدث وأن مررت في ليلة ظلماء على ساحل البحر وشاهدت ضوءً لامعًا جميلاً على الشاطئ؟ ضوء ليس كالضوء الذي نعرفه، هو ضوء من نوع مميز، لافت للنظر ألقه غير طبيعي، إنه ضوء من نوعخاص يعرف بالألق البيولوجي أو التضوء البيولوجي.
تُرى ما سر هذا الضوء؟ وما سر وجوده على شواطىء البحر ليلاً؟
لكي نفهم حقيقة هذا الضوء البارد أو ما يُعرف بالتضوء البيولوجي لنبدأ حديثنا عن ضوء الشمس أو ما يعرف بالضوء الأبيض. الضوء الأبيض هو ضوء مركب وناتج من عملية خلط ألوان الطَّيف المعروفة (الأحمر، البرتقالي، الأصفر، الأخضر، الأزرق ،النيلي والبنفسجي)، وعندما ينتقل الضوء عبر طبقات البحر المختلفة فان جزيئات الماء والأملاح المختلفة الذائبة فيه تقوم بامتصاص بعضًا من أجزاء هذا الضوء الأبيض المرَّكب، وكلما انتقل الضوء إلى طبقة جديدة في عمق البحر امتصَّت جزيئات الماء والأملاح الموجودة جزءً أكبر من الضوء، فإذا وصل الضوء إلى ما يُقارب إلى ثلاثين مترًا تحت سطح البحر، فان جزيئات الماء والأملاح الذائبة فيه تقوم بامتصاص أحد الألوان الأساسية والتي يتكوَّن منها الضوء الأبيض وهو اللون الأحمر ولا تسمح بمروره، وهذا يعني أن العين البشرية لن تستطيع أن ترى الأجسام الحمراء في تلك الأعماق، فإذا انتقلنا إلى طبقة أعمق فإن مكونًا آخر من مكونات الضوء الأبيض يبدأ بالاختفاء وهو اللون البرتقالي، وبعدها سيختفي اللون الأخضر، أي أننا إذا وصلنا إلى ما يُقارب الخمسين مترًا تحت سطح البحر، فإن الأجسام والكائنات الحية والتي تتميز بألوانها الحمراء والبرتقالية والخضراء ستصبح نقاطًا مظلمة وستعجز حاسة الإبصار لدينا عن رؤيتها والتعرُّف عليها، وهكذا،
فكلما انتقلنا إلى عمق جديد انتقلنا إلى ظلمة جديدة حتى نصل إلى ظُلمة شديدة وعتمة لا مثيل لها حيث لا ضوء يصل مطلقًا، وذلك لأن كل ألوان الطَّيف قد تم امتصاصها بالكامل ولم يصل منها شيء في تلك البقاع، فالضوء الساقط من الشمس يتم امتصاصه كله عبر جزيئات الماء المختلفة، ولعل القرآن الكريم أشار إلى هذه الظلمة الشديدة في أعماق البحار في قوله تعالى {أوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ۚ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} (النور/ 40) والبحر اللُّجِّي هو البحر العميق المُتلاطِم المَوج.
ترى كيف تعيش الكائنات البحرية المختلفة في تلك الظلمة الشديدة؟ هل تعيش في ظلام دامس؟ هل هناك شمس خاصة بها؟ أم أن لها حاسة إبصار مختلفة؟ أم نور خاص؟ {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} (النور/40).
هُنا تبرُز العظمة الإلهية بأجلى صُوَرِها وأروعها، فحوالي ما يصل إلى 90 % أو أكثر من المخلوقات البحرية التي تعيش في تلك الظلمات تنتج نوعًا خاصًّا من الضوء، نعم هناك في تلك العتمة، جعل الله لكل مخلوق منها شمسه الخاص به، لكنها شمس تتميز بأنها بردًا وسلامًا على أهلها، فهي تبعث ضوء لا حرارة فيه، ضوء ينبعث نتيجة عملية كيميائية / بيولوجية تُعرف بعملية التضوء البيولوجي، نعم لقد جعل الله لهذه الكائنات نورًا خاصًّا بها وألقا عجيبًا تنفرد به، لم يستطع الإنسان على الرغم من التطور العلمي الكبير الذي يعيشه أن يصنع ضوء مثيلاً له في كفاءته.
ماهو هذا الضوء؟ وكيف يُنتج؟
قبل الشروع بالإجابة لابد أن ندرك أن الضوء ما هو إلا شكلاً من أشكال الطاقة، فالطاقة قد تكون حركية أو حرارية أو تتحول إلى طاقة ضوئية، والضوء البارد الذي نتحدث عنه والذي يحدث في عمق البحار هو نوع خاص من الضوء، فالضوء الذي نعرفه ونستخدمه في حياتنا اليومية هو نتيجة تحول ما يقارب من 10 إلى 20 % من الطاقة إلى ضوء أما بقية الطاقة والتي تصل من 80 إلى 90 %، فإنها تنبعث على شكل حرارة، ولذا فإن مصدر الضوء كالمصباح مثلاً يكون مصدرًا للحرارة أيضًا، أما في الضوء البارد والذي هو موضع حديثنا فإن 96 % من الطاقة الناتجة تتحول إلى طاقة ضوئية، هذه النسبة العالية من الطاقة التي تتحول إلى ضوء تنتج ضوء لامعًا وألقًا مبهجًا للنفس، ويتميز بأنه ضوء بارد مقارنة بالضوء الذي يصدر من المصابيح وذلك لأن نسبة الحرارة الصادرة من هذا الضوء لا تزيد عن 4 %، ولهذا فإن هذا الضوء الناتج من التفاعلات الكيميائية / البيولوجية معاكس للضوء الذي نألفه في علاقته بالحرارة، فالمعروف لدينا أن الضوء تزداد شدته كلما ارتفعت درجة حرارة مصدره، بينما الأمر في التضوء البيولوجي معاكس تمامًا، فكلما أردت أن تزيد من شدة الضوء ضعه في مكان أبرد فيزداد ألقًا وشدة.
وأما سبب تسميته بالألق البيولوجي أو التضوء البيولوجي فلأن هذا الضوء ينتج من خلال تفاعل كيميائي بين بروتين يعرف بـ luciferin والأكسجين بوجود إنزيم يُدعى luciferase تتحول الطاقة الناتجة فيه إلى ضوء أو ألق.
تستخدم هذه الكائنات التي تعيش في عمق البحار هذا الضوء للوصول إلى غذائها فهو يعمل لدى البعض ككشاف ضوئي، وعند الآخرين للتواصل مع الآخرين من ذات الجنس وقد يستخدم لأغراض أخرى كالعمليات الدفاعية.
بقي أن نعرف أن هناك بعض الحشرات والفطريات التي تعيش على اليابسة تنتج هذا النوع من الضوء، وما نشاهده أحيانًا على بعض الشواطىء هو ألق بيولوجي تنتجه بعض الكائنات المجهرية والتي تعرف بالعوالق البحرية.
التضوء الكيميائي
كانت وما تزال الطبيعة المعلم الأول للإنسان، فالاكتشافات العلمية المختلفة إنما هي ثمار فهم الطبيعة من حولنا ومحاولة محاكاتها، فالطائرات ما هي إلا محاكاة للطيور، والكاميرا محاكاة للعين، وهكذا هو الحال مع بقية الاكتشافات العلمية، ولا يقتصر محاكاة الطبيعة في المجالات الهندسية فحسب، بل حتى في مجالات الكيمياء المختلفة، والتضوء الكيميائي ما هو إلا مثال واضح على ذلك، فلقد استطاع الإنسان أن يقلد الطبيعة وينتج مركبات معينة تمتلك خاصية التضوء البيولوجي، ولكن نظرًا لأن المركبات التي تم استخدامها في عملية التضوء الكيميائي هي مواد مصنعة وليست طبيعية فلقد عرف الضوء الصادر من هذه العملية بالتضوء الكيميائي تمييزًا له من ذلك الضوء الناتج من التفاعلات البيولجية التي أشرنا إليها سابقًا، لكن عملية التضوء الكيميائي بعكس التضوء البيولوجي فيها الكثير من التحديات والصعوبات، وتحتاج إلى ظروف مخبرية معينة ومعقَّدة، كما أنها تفتقر إلى كفاءة مثيلاتها التي تحدث في الطبيعة، وقد تم تصنيع عدد معين من المواد الكيميائية والتي تمتلك خاصية التضوء الكيميائي كمادة اللومينول وعدد محدد من مركبات فلز الريثينيوم، بالإضافة إلى بعض المركبات الأخرى.
يتم استخدام التضوء الكيميائي بشكل كبير في عمليات التحليل الكمِّي للمركبات البيولوجية المختلفة والمركبات الموجودة في الأدوية والمواد الغذائية وبعض الملوثات البيئية، حيث إن التحليل الكمي لهذه المركبات يتم من خلال الكشف عن شدة الضوء الصادر من عملية تفاعل هذه المركبات مع المواد الكيميائية التي تمتلك خاصية التضوء الكيميائي، ويتناسب شدة الضوء الصادر من هذه التفاعلات مع تركيز المركب المراد تحليله كميًّا، وتتميز الطرق التي يتم الاعتماد فيها على التضوء الكيميائي بأنها طرق حساسة جدًّا ويمكن الكشف باستخدام هذه الطرق عن واحد من المليون من المليغرام في الليتر الواحد من المحلول.
كما يتم استخدام التضوء الكيميائي في العمليات الجنائية، حيث إن مادة اللومينول الآنفة الذِّكر تنتج ألقًا مميزًا عندما تتفاعل مع مادة أخرى تعرف بـ«يروكسيد الهيدروجين» بوجود فلز الحديد، ونظرًا لأن دم الإنسان يحتوي على فلز الحديد، فإنه يمكن الكشف عن كميات قليلة جدًّا من الدم الجاف في حال وجوده في موقع الجريمة، ويستمر هذا التضوء الكيميائي لمدة تصل إلى حوالي 30 ثانية ويمكن تمييزه بسهولة في الغرفة المظلمة حيث يتميز بلونه الأزرق اللامع.
13,768 total views, 2 views today
Hits: 2042