المسار الثقافي العماني .. إلى أين ؟
تعاطي أبناء عُمان مع الثقافة يتجاوز تاريخها المعاصر؛ ليستقر في عُصور مُوغلة في القدم، عندما حمل العُمانيون راية الإسلام، وركبوا البحر يجوبون البلدان، ويدعون الناس إلى دين الله. لقد أنشأوا حَوَاضر للثقافة الإسلامية، وساهموا في نشر جُملة من المعارف والعلوم والفنون.
واليوم.. يُريد المثقف العُماني أن يُواكب الحركة الثقافية العربية والعالمية، إلا أنَّ هذا لن يتأتَّى إلا بمراجعة سعة ونمط الحراك الثقافي القائم حاليا، وسُبل الترقي به، والتحديات التي يُواجهها في طريق بلوغه لأهدافه.
————————–
عبد الله العليان – كاتب وباحث
لا شكَّ أن الثقافة تمثل مطلبا مُهما للوجود الإنساني في المجتمع؛ باعتبارها تجسِّد الروح المعرفية للمثقف من أجل التجاوز والانطلاق؛ للوصول إلى النهوض المعرفي الذي ننشده؛ لذلك فإنَّ التنمية الثقافية تلعب دورا مهما، لتحريك الساكن الثقافي في المجتمع وتفعيله؛ من خلال رفع مستوى الوعي الفكري والثقافي في المجتمع، وهذا بدوره يسهم في خلق بذور الجدية المطلوبة فتتحرك البنى الثقافية ومؤسساتها المعنية، في طرح المفاهيم الناضجة التي تجعل من يهتم بالثقافة أكثر حرصا على تبني مشاريع ثقافية تنهض بالواقع المجتمعي؛ بما يعزز الحركة الثقافية، وهذه من مهام المثقف ودروه في أي مجتمع من المجتمعات.
ونحن في السلطنة بما نمثله من إرث عريق، وتاريخ ناصع في المجال الأدبي والثقافي، تدرَّجنا في كيفية النهوض بالفعل الثقافي بعد النهضة العُمانية الحديثة، منذ تولي جلالة السلطان قابوس مقاليد الحكم في البلاد، واهتمت الدولة بهذا الجانب المهم من خلال بعض المؤسسات والهيئات التي تَرْعى التراث والثقافة، وعلى رأسها وزارة التراث والثقافة، إلى جانب بعض الجهات التي تسهم بالفعل الثقافي. والآن، بحمد الله، أصبحت عُمان من خلال مثقفينا وكتابنا على مستوى الوطن العربي، يُشار إليها بالبنان، من خلال حضورهم الفكري والثقافي والأدبي، وما يقدمونه من مشاركات مع أقرانهم من المثقفين العرب، كما أن بعض المجلات العُمانية -خصوصا المجلات الفصلية الثقافية كمجلة نزوى، ومجلة التفاهم…وغيرها- تأخذ المساحة الجيدة في الوسط الثقافي العُماني والعربي، وتلقى الاهتمام والتقدير في الأوساط الفكرية والثقافية العربية، وهذا مبعث فخر واعتزاز بهذه المكانة الثقافية الفكرية للسلطنة، على المستوى العربي والإسلامي، لكننا نود أن يلعب المثقف العُماني الدور الذاتي المنوط به في الفاعلية الثقافية، لتتكامل المهام بين مؤسسات الدولة والمؤسسات التي يرعاها المثقف للثقافة بنفسه؛ لذلك فمن المهم إعطاؤه المساحة الكافية من النشاط والدعم والمساندة، في حدود ما تقتضيه الحرية الثقافية ومناطها في الحراك الثقافي والفكري، دون إعاقة. ومن الحق أن نذكر أن هناك انكفاء وعزلة لبعض المثقفين على أنفسهم، وهذا خيارهم وحقهم في ذلك، لكن من المهم أن يتحرك المثقف من ذاته ومن خلال رؤيته التي يراها مهمة، في تحقيق الفعل الثقافي المبتغى، ويعتمد على ذاته في الحراك الثقافي الذي يهدف لفتح الآفاق المعرفية، وهذا من الجوانب التي نعتقد أنها ضرورية، حتى يؤسس لنفسه وذاته في الانطلاق إلى المجالات الرحبة، وهذا لصالحه في أن تكون له مساحة مستقلة، عن مؤسسات الدولة ومهامها.
نعم.. من المهم أن تدعم الدولة إقامة المؤسسات الرافدة للثقافة والمثقف، لكن على المثقفين أن لا يتكلوا على الدولة في كل شيء؛ فالاستقلالية تحقق له الإبداع وتفجِّر طاقاته، دون أي توجيه لما هو جدير بالنهوض بالثقافة وحاجة المثقف، ونحن الآن نرى الكثير من المؤسسات والمراكز الثقافية العُمانية، التي تقيم المسابقات والجوائز التي تدفع المثقفين لتحقيق ذاتهم، وهذا بلا شك أحد الإسهامات المهمة في تحريك الساكن الثقافي العُماني، والذي أقصده أن على المثقف أن يبدأ بنفسه في أن يجد للركود الثقافي المخرج الإيجابي، ويتلمَّس ما هو أهم لتفعيله واقعيا، وفق كل مجال يراه مناسبا ومعبراً عن حاجة المجتمع في الوعي الثقافي، وضرورة الدفع به للصدارة الفكرية. والملاحظ للأسف في الكثير من الفعاليات الثقافية والفكرية، قلة حضور المثقف والمثقفين، وهذه ظاهرة لافتة، وتستدعي ندوة أو جلسة حوار لمناقشة أسباب ذلك، بل حتى بعض المثقفين المعنيين بالثقافة، يغيب عن حضور كثير من هذه الفعاليات؛ لذلك أرى أهمية أن يكون المثقف فاعلاً ومتحرِّكاً لإيجاد المخارج الإيجابية لدفع المناشط الثقافية، ومحاولة تقليص السلبيات التي تعيق الدافعية الثقافية والفكرية، وهذا ما نود أن يكون محلَّ اهتمام المؤسسات والمثقفين المعنيين بالثقافة ودور المثقف.
————————–
زينب الغريبية - كاتبة وباحثة
يكادُ القطاعُ الثقافيُّ يقفُ على الخط الراكد في تقدم المجتمع، وكأن الثقافة ليست من أساسيات البناء والتقدم، حتى المبادرات المجتمعية التي تنمو كالشجيرات بعد الأمطار من كثرتها، سُرْعَان ما تذبل، وتتراجع بسبب ضعفها التأسيسي، إلا أن جهودا لا يمكن إنكارها موجودة على أرض الواقع، لإقامة ندوات هنا وهناك، وحلقات حوارية، قد يشتكي الكثير من أن هذه الندوات هي مجرد كلام وتوصياتها حبيسة الأدراج، إلا أن الواقع أنَّ أي تجمع ثقافي تثار فيه قضايا وتناقش، وما يترتب عليه من إثراء في مجالات علمية معينة، واستفادة عامة للحاضرين، في حد ذاته كافٍ للاستمرار في عقد مثل هذه التجمعات العلمية، وحديث الخبراء في المجال من أجل تعميم الفائدة، كما توجد جهود متناثرة كإنشاء مجلة وصحف ثقافية لا سيما الإلكترونية منها؛ كونها الأسهل من حيث الإجراءات الرسمية المعقَّدة، ونشر الكتاب العُماني، وعدد من الجوائز الثقافية من قبل مؤسسات إعلامية خاصة، كما لا يمكن إغفال المبادرات الطلابية في الجامعات والكليات للتحفيز على القراءة، وإقامة فعاليات قرائية، وأخرى لتنمية مواهب الكتابة الأدبية. في الحقيقة من يعمل في القطاع الثقافي يحتاج أن يتسلح بالتحدي لتحطيم كل التحديات في هذا الطريق الوعر، حتى يستطيع أن يصنع شيئا.
وبنظرةٍ عامةٍ على باقي القطاعات والإنتاجات الثقافية -من ناحية: الإنتاج المسرحي، والسينمائي، والبرامج التليفزيونة الثقافية، ومجالات الأطفال المرئية- فإنه للأسف لا تزال في مرحلة التأهب للحركة، وتتحرَّك ببطء شديد، رغم وجود محاولات بسيطة من هُنا وهناك، وهذا الوضع حقيقة قد لا تختص به السلطنة دون غيرها من دول الوطن العربي؛ فالحال تكاد تكون سيان، إلا أن هناك تفاوتات بسيطة قد تحسب لدولة دون أخرى في أحد جوانب الحياة الثقافية.
ورغم هذه العقبات، فإنه لابد من الاعتراف بأن هذه الحركات التوعوية، والإصرار على الحركة نحو التقدم وإنجاز شيء ملموس، وباستمرار الحركة الطلابية في الجامعات، وغرس البذور لتثمر في المستقبل، مع الاستمرارية والعناية بها.
————————–
بدرية الملاك - كاتبة وشاعرة
في بداية الأمر، ولكي نُقيِّم ما ينقصُ البُنى الثقافية العُمانية، وَجَب أنْ نعرِّف ما هي أهداف الثقافة التي نَرَاها على أرض الواقع، إذ إنَّ الثقافة لا يمكن أن يقام لها أثر ووجود إلا إذا تحقَّق لها أمران؛ أولهما: صنع فارق وبُعد واضح في المجتمعات، والثاني: إظهار فئة شابة جديدة متفردة.
إلا أنَّه -وكما يبدو- في الوضع الرَّاهن البُنى الثقافية تحتوي على فئات تكاد تصنع كلٌّ منها نمطا مغايرا عن الأخرى، فضلا عن ذلك -كما هو واضح- قد يصل الأمر لعزوف كل منهما عن الاطلاع على الآخر، وكأن كل فئة لم يُخلق سواها في الوسط الثقافي. وهذا الأمر مُؤْسِف يجعل البُنى الثقافية ضَحْلة بالأشياء السيئة، وبطيئة التطور؛ بمعنى أدق الأمر أقرب للتكرار وعدم التجديد؛ حيث يجعلها تبدو شديدة التصدع وآيلة للسقوط. إضافة إلى أننا لا يُمكن أن ننسى مدى سلطوية المجتمع على هذه البنية والموروث الديني الذي أخذ بها بشكل كبير إلى أمورٍ كان من الممكن تلافيها، عبر قيام مؤسسات ثقافية تعمل على تحلُّل وخروج هذه التكوينة الثقافية من أعراض التحزبات والشللية الظاهرة، والطرح المتسم بصبغة سلطوية ودينية بحت.
وفي المقابل، فإنَّ البُنى الثقافية من أكثرالقضايا جدلية في المجتمع، والتي لها دور كبير في تطوير البنية الأساسية للدولة، وهذا ما قامت به خلال السنوات الماضية، إلا أن الأمر يبقى للآن تمحور الجانب الثقافي على نطاق مقيد وفئة -ربما بسبب مركزها العلمي أو العملي- محصورا لها، وتدعم متناسية الطاقات الإبداعية والأخذ بيديها عن طريق إتاحة فرص على مستوى يخدم تلك الطاقات ويحيدها عن الإحباط أو التوجه لأمور أخرى، مُطْفِئا شُعلة الإبداع الثقافي فيها.
وفي الختام، إنَّ هذا الخلل أو النقص إذا أردنا حَصْره، لا يُمكن أن نلقيه على مؤسسة ثقافية معينة، أو وزارة مختصة، بل في الجانب الأول والأخير للمجتمع دَوْر كبير في تمكين الفرد لهذه الساحة، خاصة فيما يتعلق بالجانب النسوي الذي أراه حتى الآن مؤطرًا تحت “القبيلة، الجمال، الطرح الغزلي”؛ مما يدعو لكبح وموت وجود المرأة في الساحة الثقافية؛ كونها تناقش مواضيع وتتواجد في محافل تخرج عن إطار المفهوم الذي ذكرته أعلاه.
إننا بحاجة في نهاية الأمر لبنية ثقافية متنوعة ومتجددة، تخرج قليلا عن إطار المعتقدات والتقاليد والطقوس، وتلك الشعارات الرنانة التي تظهر فئة ومواضيع على الطرف الآخر المنسي.. بحاجة لبنية ثقافية عُمانية عالمية، وليس كما يبدو الأمر على نطاق ضيِّق.
فالبحر يراه الوطن
والنجم في السماء
يراه كل العالمين
390 total views, 11 views today