المؤسَّسة الزوجيَّة: شراكة أم تنافس؟
نسرين نجم - اختصاصية علم نفس اجتماعي
يقول الله عزَّ وجلَّ: “وَمِنْ آيَاتِهِ أنْ خَلَقَ لَكُم مِنْ أَنْفُسِكُم أَزْوَاجًا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَوَدَّةً وَرَحْمَةً”.
ويقول جلَّ شأنُه: ”عَاشِرُوهُنَّ بالمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيِئًا وَيَجْعَل اللهُ فِيْهِ خَيْرًا كَثِيْرًا”.
كما هو معروف وشائع، فإنَّ المؤسسة الزوجية هي النواة الأساس في بناء المجتمع، والمدرسة الأولى لصناعة شخصية الأبناء، أو بالأحرى أجيال المستقبل؛ لذا تقع عليها مسؤوليات جمَّة؛ من بينها -لا بل أهمها- تحديد الأدوار المنوطة بكل فرد من أفراد الأسرة، سيما الأبوين، والعمل على احترام هذه الأدوار وما يصدر عنها من قرارات؛ لئلا يكون هناك تصادم في الأراء يؤدي لخلافات وتشنجات تُعيق لغة الحوار والتفاهم، وينتج عنها فيما بعد مشكلات عميقة تصل إلى: “أبغض الحلال عند الله ألا وهو الطلاق”.
إذن؛ الزواج ليس عبارة عن ثوب أبيض ترتديه العروس فقط، ولا قالب كاتو، ولا صورًا يقوم العروسان بعرضها على مواقع التواصل الاجتماعي لحصد العدد الأكبر من “اللايكات”، ولا يعني تحويل الحالة الاجتماعية على “الفيسبوك” من “أعزب” إلى “متزوج”؛ فالزواج يحتاج شريكيْن واعييْن مُدركيْن للحقوق والواجبات والمسؤوليات التي تقع على عاتقهما، عندما يُصبحان تحت سقف بيت واحد. لذا؛ فإنَّ اختيار الشريك هو المعيار الأهم لبناء أسرة ناجحة، فكلما كان هناك تقاربٌ في الفكر، والثقافة، والعلم، والقيم، والأخلاق، والإيمان، متوجة كل هذه بالاحترام والانسجام والتفاهم، مع الإيمان بضرورة المصارحة والحوار في كلِّ الأمور التي تتعلق بالشراكة الزوجية مهما كانت بسيطة -مع الحفاظ على خصوصية، أو بالأحرى، المساحة الخاصة لكل فرد- كلما حصنَّا الحياة الزوجية بالمحبة والوئام، والمودة والرحمة.
ومن الضَّروري أنْ يكون هناك اتفاق وتوافق حول القضايا المتعلقة بشؤون وشجون الأسرة وكيفية إدارة الخلافات، وعدم السماح للآخرين بالتدخل في كل شاردة وواردة، وعدم نشرها على مواقع التواصل الاجتماعي؛ لكي لا تصبح الحياة الخاصة عامة في مُتناول الكل، ويبدأ كل صديق افتراضي بعرض عضلاته التحليلية دون أن يعِي حقيقة المشكلة، فيلجأ إلى دعم الزوج أو الزوجة حسب الأهواء، وتتحوَّل عندها الحياة الزوجية إلى ساحة للملاكمة، من سيُوجِّه الضربة القاضية والقاتلة للآخر؟ والمشاهدون كُثر، سيصفِّقون، سيهللون للرابح، لكنهم لا يعلمون أنَّ ما خسره الزوجان لا يُمكن لأي تهليل ولا ترحيب أن يعوضه؛ فقد خسرا ما من أجله ارتبطا: الحب، الأسرة، الأطفال، الرحمة والمودة.
وللأسف، نُعَاني في بلادنا العربية من أزمات علائقية عديدة ضمن العنوان الكبير “الحياة الزوجية” نذكر منها:
- رغم الانفتاح والتطور التكنولوجي والتقني، ما زالت الثقافة الذكورية هي الحاكمة والمسيطرة على عقول عدد كبير من شباب اليوم، ولا تزال بعض الأفكار البالية المتخلفة هي التي توجه بعض الذكور (وليس الرجال) في كيفية تعاطيه مع زوجته، وهذا الأمر يبدو جليًّا عندما نلقِي نظرةً سريعةً على الأمثال الشعبية: “المرا متل السجادة ما بتمشي إلا بالخبط”، و”المرا لو طلعت على المريخ آخرها للطبيخ”، فتتحول علاقته بما يفترض أن تكون شريكة حياته، إلى علاقة “سي السيد بجاريته”، عليها فقط أن تُطيع أوامره، وتنفذ رغباته، وتخضع لأوامره ونواهيه، دون أن يكون لها أي “اعتبار” لديه، وإن حاولت أن تتذاكى -حسب رأيه- وتُطالب بحقوقها التي مَنَحها إياها الله عزَّ وجَل، تُصبح عندها وبنظره “امرأة سيئة” لا تريد “السترة”، ويصبح عندها البيت الزوجي مسرحًا للخلافات والتشنجات والتوترات التي تؤثر ليس فقط على الشريكين، بل على الأطفال وبشكل خطير؛ فتتولَّد لديهم الاضطرابات النفسية؛ الأمر الذي ينتج عنه خلل في الصحة النفسية.
- غياب الوعي والمعرفة بما للزواج وبما عليه؛ لذا يبرز ضرورة القيام بالدورت التأهيلية للمقبلين على الزواج، من ناحية توعيتهم وتثقيفهم وتعريفهم على أدوارهم وواجباتهم الشرعية والأخلاقية والإنسانية والاجتماعية، إضافة لإخضاعهم لاختبارات نفسية -كما يحدث من فحوصات طبية للتوافق الصحي- ومن شأن هذه الاختبارات أن تُشير إلى مدى الانسجام والتأقلم والتكيف، والتوافق “النفس اجتماعي” بين الشريكين، ومدى قدرتهما على تحمل الضغوطات وكيفية حل خلافاتهما، وتساعد على الاتفاق على الخطوط العريضة لكيفية تربية أبنائهما، والحرص على اعتماد لغة الحوار الهادف كوسيلة لحل المشكلات، عندها يُمكن أن تعالج الأمور بأقل خسائر ممكنة.
- عدم متانة الوازع الديني، والجهل من الناحية الشرعية بما لكل شريك من حقوق وواجبات؛ فعند عَقْد القرآن يُمكنهما أن يضعَا الشروط المناسبة التي تحصِّن الزواج، وتحافظ على حقوقهما بطريقة لا تعني تفوق واحد منهما على الآخر. وهنا المسؤولية تقع على عاتق رجال الدين من ناحية التوعية والتثقيف وإزالة أي فهم خاطئ؛ لأنَّ الإسلام عزَّز وحَمَى وصَان الحياة الزوجية، وأعطى لكلا الزوجين ما يحفظ كرامتهما ويجنبهما من أي خضة أو اضطراب، ولو اطلع كل منا على ما ذُكِر في القرآن الكريم وفي الأحاديث النبوية الشريفة، وما تحدث به أئمة آل البيت عليهم السلام، لكُنَّا تجنبنا الكثير من المناقشات والمهاترات وواجهنا “أدعياء الحفاظ على الحياة الزوجية بعيدًا عن الدين”، لكنَّ المشكلة الحقيقية، والتي تتطلب من المؤسسة الدينية الآن وقبل أن يُغرَّر بالأجيال الصاعدة بأن الدين وشريعة الله -عزَّ وجلَّ- فيها من العبودية بحق المرأة، أن تقوم بالإصلاح داخل هذه المؤسسة؛ لأنَّ الشرع واضح وصريح بحقوق المرأة والرجل، إلا أنَّ الطامة الكبرى هي في التطبيق، وفي بعض ممارسات رجال الدين تجاه هذه الأمور.
وما حدث في قضية السيدة فاطمة حمزة، بغضِّ النظر عن مظلوميتها، من ناحية عدم مراعاة جانب الأمومة، وتوقيفها في السجن. إلا أنَّ هذه القضية كشفتْ أن الكثيرَ غير مُطَّلع على الشرع الإسلامي، وفضحت الكثير من التجاوزات التي تحصل تحت اسم الدين، والدين بريء منها.
إذن؛ نصل لأنْ نقول بأنَّ الزواج هو شبكة الأمن والأمان العاطفي والنفسي والاجتماعي؛ وذلك لكل من يريد فعلًا أن يتزوَّج بالمعنى الفعلي وليس بمعنى الـ”prestige”، أو لإغاظة الصديقات، أو فقط الزواج عن حُب؛ لأنَّ بالحب وحده لا يدوم الزواج، ما لم يكن مقترنًا بالتفاهم الفكري والثقافي والاقتصادي والأخلاقي؛ لأنه ومهما بلغت حرارة الحب لا يُمكنها أن تخبز رغيفًا. سيما وأن نسب الطلاق في بلادنا العربية والإسلامية ارتفعتْ بشكل مُخيف؛ فعلى سبيل المثال: في مصر هناك سنويًّا نحو مليون حالة طلاق (المصدر مركز معلومات مجلس الوزراء في مصر)؛ حيث تقع 240 حالة طلاق يوميًّا بمعدل عشر حالات طلاق كل ساعة. أما في لبنان، فقد بلغت نسبة الطلاق خاصَّة بين الزيجات الجديدة التي لم تتجاوز الـ5 سنوات حوالى الـ75%.
لذا؛ ولتحصين الزواج وبناء أسرة سعيدة بعيدة عن التخبطات والفوضى، علينا: أن نُحسِن الاختيار لأن الزواج ليس رحلة مؤقتة، بل هو مشوار العمر، وأن نتثقَّف من الناحية الشرعية والأخلاقية للتعرُّف على حُقوق وواجبات كل شريك، وأنْ تكون المصارحة والحوار الهادئ عناوين أساسية لحل أي خلاف، مع الحفاظ على خصوصية المشكلة، وعدم إدخال الآخرين مِمَّن لا يستطيعون الربط والحل، ومِمَّن لا يكونون على مسافة واحدة من الطرفين؛ لأنها قد تتأزم أكثر وأكثر.
ونصلُ إلى السؤال الكبير: هل نحنُ فعلًا على استعداد -أو بالأحرى نملك- الإرادة الحقيقية للتغيير نحو الأفضل، ومعالجة الخلل، والبدء بالتوعية والتثقيف؛ للحفاظ على النواة الأساس والركيزة الأولى في بناء المجتمع، عنينا بها “الأسرة”؟ من؟ ومتى؟ وكيف ستبدأ الخطوة الأولى من مشوار الألف ميل؟
نترك الإجابة للأيام المقبلة…،
3,068 total views, 5 views today
Hits: 186