حوار مع خنجر حمية
الجزء الآول
”لا يمكن للعالم الوضعاني أن يطفئ هذا النزوع المتقد نحو البحث عن مغزى لحياتنا“ د.خنجر حمية
الاسئلة الوجودية الكبرى استولت عليه منذ الصغر، معروف بشغفه بالفلسفة “بإعتبارها تجارب فكر تطمح إلى تقديم رؤى شاملة للعالم” ويرى بأنها لم تنصف في عالمنا العربي حتى يومنا هذا.. حدثنا عن العارف والصوفي، وعن الشبه بين الفلسفة والعرفان، وعن القلق الوجودي للإنسان المعاصر، إذن حول شؤون وشجون الفلسفة والميتافيزيقيا أجرينا هذا الحوار مع الدكتور في الفلسفة الأستاذ الجامعي الشيخ خنجر حمية.
اجرى الحوار: نسرين نجم – اختصاصية علم نفس اجتماعي
يعيدني سؤالك إلى ما يقرب من خمس وثلاثين عامًا، لقد تقادم الزمن على هذا الإختيار… وليس من السهل الآن تحديد طبيعة الظروف والأسباب والعوامل التي وقفت وراء إنخراطي في تعلم الفلسفة ثم التفرغ لها كل هذا الوقت. لكن شيئًا واحدًا أعرفه قد يكون أحد هذه الأسباب ، وأنا أعرفه لأني ما زلت أشعر به وأعيش تأثيره إلى الآن، وهو رغبة استولت عليّ في مطلع شبابي بالإنشغال بأسئلة وجودنا الكبرى، ولقد ساهمت دراستي الدينية في أول الأمر في تنبيهي إلى جوهر هذه الأسئلة ومغزاها العميق. ثم دفعني فضولي إلى التوسع في سبر الإجابات التي قدمتها عقول جبّارة في فضاءات حضارية متباينة ومختلفة إزاء هذه الأسئلة، منذ اليونان القديمة مرورًا بالقرون الوسطى وصولًا إلى أيامنا.. وكان من الطبيعي جدًا لدارس متفرغ للعلوم الدينية شغوف بالفلسفة بإعتبارها تجارب فكر تطمح إلى تقديم رؤى شاملة للعالم، أن يتقلب في مذاهب الفكر شرقًا وغربًا، وأن يدقق في تجارب البشر الدينية والفلسفية قدر وسعه، وإمكاناته، كان ذلك أيضًا مدخلي إلى عالم الأديان على سعته، وإلى التجارب الدينية المتنوعة والمختلفة وإلى الإختبارات الروحية التي حفل بها العالم..
واضطربت بها نفوس وأمم وحضارات كما هو حال تجارب الشرق الروحية ودياناته، أو التجارب المختلفة كالتصوف، والعرفان…الخ…
بدأت هناك ولما أنتهي إلى الآن..
هل الفلسفة في وقتنا الحالي وفي بلادنا وبعد صراعات طويلة ومعارك لتشويه صورتها قد أنصفت؟
لا لم تنصف، ما زال الموقف منها كما كان منذ مئات السنين، لا أرغب في أن أتحدث عن طبيعة الموقف التاريخي في الإسلام من الفلسفة فهو معقد جدًا ومربك ومتشعب، ولا عن الأسباب الحقيقية التي كانت وراءه ووجهته في مدى الأزمان، كذلك فهي كثيرة ومعقدة ومتشابكة…يكفي أن نصور المشهد لنعرف التصور العام الذي تم ترسيخه منذ القرون الأولى العصرية لما سمي بعلوم الأوائل…كان نقل التراث الفلسفي اليوناني إلى العربية حدثًا استثنائيًا، وهو اللقاء الأول للمسلمين بما نسميه اصطلاحًا الآن :” فلسفة”، أو بما سماه المسلمون:” علوم الأوائل” أو “علوم الحكمة”، لقد بدّل نقل هذا التراث إلى العربية مشهد الفكر كله.. ففي قرون وجيزة دخل العالم الإسلامي في ما يحلو لي بتسميته “الأنوار”، قبل أن تعرف أوروبا فترتها “الأنوارية” لما يزيد على خمسة عشر قرنًا… وانتشر الإشعاع العلمي والفكري الذي قدر أن يُنهض به هذه الحضارة على مدى مساحة العالم المعمور آنذاك شرقًا وغربًا… ليست علوم الأوائل وحدها التي نقلت إلى العربية في القرن الرابع بتوسع هي السبب هكذا ببساطة…بل لأن عالمًا متدفقًا تحركه رغبة جامعة في إحتلال التاريخ، وشعور ديني خلاصي جامع… كان عالم الإسلام حينها كشعلة تتقد، وشكلت علوم الأوائل التي عرفها العرب كالترجمة المادة التي سوف يولد منها العقل المسلم – إذا صح التعبير- كل هذه الأشكال المبهرة من العلوم والمعارف، وهذا النمط المتقدّ من العقلانية والإبداع، لكن مع ذلك لم تحظ الفلسفة بالرغم من توسع، وبالرغم من إسهاماتها التي لا مرد لها في تألف هذه الحضارة… لم تحصل على العناية المطلوبة، يضاف إليه أن العرب المسلمين الذين استثمروا تراث اليونان الفلسفي ليقيموا رؤيتهم الشاملة للإنسان وللعالم مستجيبة لذرى الوحي ومضامينه… في فترة تمتد من القرن الرابع إلى القرن السابع.. والذين دفعوا بالعقل البشري إلى ذرى لم يكن مقدرًا للعالم القديم أن يبلغها بدونهم، ولم يعد بمقدورهم إلا التكرار، وإستعادة تراث الأسلاف من غير إبداع أصيل، ومع هذا بقي موقفهم من الفلسفة كما كان من غير تغيير.
في ظل التطور الحاصل في العلوم والمعارف ، ووصول الإنسان إلى كواكب أخرى ، نسأل هل غلب العقل الميتافيزيقيا؟
السؤال ذو شقين أو هكذا أفترض، الأول ما هي العلاقة التي تربط الميتافيزيقيا بتطور العلوم من جهة؟ ومن جهة أخرى ما هي الميتافيزيقيا؟
لنبدأ بإختصار من الأخير الميتافيزيقيا هي كل تفكير نظري كلي في الإنسان والوجود والعالم.. يتجاوز النظر المباشر الجزئي والآني والمتقلب، بغية إكتشاف قوانين شاملة تؤسس عليها رؤى كلية لوجودنا.
بهذا المعنى الميتافيزيقيا لا تنتهي ولا تزول… مهما تقدمت العلوم الوضعانية وتطورت وتوسعت…هذه تفحص وتكشف وتميط اللثام عن وقائع محددة.. وهي تدعي إنما يُتصف فيها هو وقائع مباشرة قابلة للإختبار… والعلم أو المعرفة لما هي خيرة مباشرة بالعالم، لا يمكنها تقديم إجابات حاسمة تتصل بوجودها في كليته، ولا بالعالم كذلك في كلية قوانينها ونظامه… ولا يمكن للعالم الوضعاني أن يطفئ هذا النزوع المتقد نحو البحث عن مغزى لحياتنا، وتمس المعاني الكلية الشاملة التي تنطوى عليها خيرة وجودنا، ولا الدلالات التي تكشف عنها كلية العالم من حولنا..بل إلى كل تقدم علمي بالمعنى الوضعاني للكلمة فيولد تساؤلات جذرية جديدة تتطلب بدورها إجابات مقنعة مرضية… تسمح لنا في كل مرحلة من مراحل وجودنا توليد شكل من أشكال الإنسجام مع التبدل الذي يصيب حياتنا.أكبر دليل على ذلك أن عصر التقنية الراهنة هو أكثر عصور التفلسف إطلاقًا، عصر هو ولّاد أسئلة جذرية وهواجس ومشكلات.. عصر يكاد توسعه وتوسع آفاقه ودلالاته أن يدفع بنا إلى الركض من أجل فهم طبيعته الجذرية وطبيعة تحولاته، وطبيعة وجودنا فيه ، والمصير الذي نندفع نحوه، وهو عصر أعاد من جديد تظهير سؤال الإنسان نفسه.. ما الإنسان؟ وما يرتبط به من أسئلة ظن يومًا أنه تم تجاوزها…وسؤال التقنية نفسه ما التقانة؟ وما العلم؟ وما العالم؟ أساسًا كيف إذن تموت الميتافيزيقيا؟ ثم لا علم بلا ميتافيزيقيا هذا شيء كتب عنه الكثير.. بعد فورة عارمة من العداوة التي أبرزها العلم الوضعاني للميتافيزيقيا في القرن الماضي.. بسبب الدهشة التي ولدها إندفاع العلوم وتقدمها والإنبهار بنتائجها.. ليعود العلميين متواضعين مقتنعين بأن العلم الطبيعي لا يوجد بلا أسئلة توجهه ولا طروحات تدعيه ولا استنتاجات كلية، ولا قوانين مصادرة تخدم تقدم العلم وإتساقه وسلامة كشوفه ونتائجه… لا تموت الميتافيزيقيا عزيزتي قط.. لكنها تعود في كل عصر بشكل جديد وحلة جديدة.
برأيكم إلى أي حدّ تساهم العبادات في إستقامة الفكر ونضوجه؟
الموضوع بتصوري أعمق من ذلك بكثير، للعبادات في كل الأديان أعنى للطقوس العبادية- فوق الشكل- مقاصد تطمح إلى توليدها فيما يتصل بكلية الوجود الفعلي للشخص. .. بوجوده الروحي والمعنوي وبوجوده المادي، بما هو شيء ضمن أشياء ما تطمح إليه الطقوس هو توليد إنسجام بين الدوافع والقوى والبواعث، وبين الغايات والمقاصد والأهداف من جهة.. وإلى خلق توازن نفسي وروحي، وإستقامة مسلك وعمل وحركة.. هذا ما تطمح إليه الأديان من تشريعها العبادات أو الطقوس العبادية… وهو يتصل بالإنسان في كلية وجوده بما هو كائن يريد ويرغب، وبما هو كائن يفكر ويتأمل، وبما هو كائن يعيش ويحيا…
إنسجام الروح والدوافع والرغائب واستقامتها، وإنسجام الفكر والرؤية والتدبير واستقامتها وانتظامها.. وإنسجام العمل والتصرف والحركة وإستقامة طريقها.. تجعل العبادة هدفًا.. ومن هنا نفهم لم َاعتبر المتصوفة المتأصلون والعرفان في ديانات العالم كلها العبادة وسيلة تأمل وتدبير وطريقة وعي للعالم وللوجود، وبصرًا في الأشياء ثاقبًا ، وبصيرة في عوالم المعنى عميقة غائرة.
في بحث قدمتموه تحت عنوان: “التأويل المعرفي الأخلاقي للعبادات” تقارن سريعًا بين جهد الفقيه ورؤيته وفهمه وبين طريقة الصوفي أو العارف.. إلى أين وصلتم بهذه المقارنة؟ وهل هناك نقاط التقاء بينهما؟
المسألة واضحة للغاية ، ما دمنا نفهم طريقة كل منهما في التعامل مع الدين نفسه، مع مفاهيمه، وتشريعاته، وأحكامه.. الفقيه صاحب صنعة يتملك عدته المعرفية التي تخدم هذه الصنعة وتوفر لها ركائزها، وتحقق أهدافها .. ما يروجه الفقيه هو إستخراج الأحكام التي تحدد شكل العلاقة بين الإنسان ونفسه، وبينه وبين العالم من حوله، بشرًا وأشياء…، فيما يصح أو لا يصح، يجوز أو لا يجوز.. ومنهجه في ذلك منهج بيّن يقصد إلى إستخراج ما أشرنا إليه من الدلالة العرفية للنصوص كما تقرها قوانين اللغة ونظامها.. أعني أنه يتم فهمه للنصوص في دلالة الظاهر، وعلى سياق الاستعمال اليومي العرفي للغة، كما يفهمها أهلها.. بينما غرض الصوفي أو العارف مختلف تمامًا، فهو لا يقف عند الدلالات المباشرة وإن كانت تعنيه، ولا يحصر تدبيره للنصوص في غرض استيعاب دلالاتها بغية إستخراج أحكام للعمل.. أعني أحكامًا تتصل بعمل الجوارح، يقدم أو يحطم، يفعل أو لا يفعل، العارف يتعامل مع النص كأفق وجودي.. أعني كعلاقة تشير أو كإشارة ترمز إلى… وتعرض ب.. وتولد مقاربة عميقة ودلالات خاصة… ورؤى وتبصيرات… لا تملك اللغة بما هي أداة توصيل عرفي للمعنى قدرة توليدها.. ذاك يعتمد على إستبطان روحي وتأمل عقلي يتجاوز الظاهر إلى ما يقع وراءه، ويقبع في العمق… ولأجل ذلك لا يكون الغرض للصوفي العارف اكتشاف الأحكام من دلالات النصوص المباشرة، ذاك عمل الفقيه، بل إكتشاف دلالات تتصل بالعالم في كليته وصوره وأخيلته، تكشف عن نظامه وقانونه، عن مقاصده وغاياته. تأمل الصوفي- العارف ينتج ما نسميه (رؤى للعالم)متولدة عن استبطان فريد للنصوص، استلهام عميق لبواطنها، استكشاف متبحر روحي لعوالمها.. من هنا وجد الشبه بين الفلسفة والعرفان…
الأولى تولّد رؤى العالم استنادًا إلى تفكير منطقي نسقي وتنظيم للمعطيات في منهج، وهذا يولدها، استنادًا إلى تأمل مستبطن في دلالات النصوص تنكشف في أثره للعارف العوالم التي توصي بها وتشق عنها.
بعد هذا نسأل أين إنسان اليوم المليء بالقلق الوجودي من عالم العرفان؟
العرفان اصطلاح، أفضل عليه لفظ التأمل الروحي، أو الروحانية.. مثل هذا النمط من الإنشغال بالذات وبالعالم لا تزول.. تختفي تحت وطأة دعاوى العقل والعقلانية، أحيانًا، وتحت شعور بالنشوة يولده إحساسنا المنبهر والمتفائل بقدرتنا على تطويع العالم من حولنا لإنتاج سعادتنا وبالقوة التي نملكها، والتي تسمح لنا بإستنفاد العالم والكشف عن خفاياه ودلالاته.. لكنها لا تلبث أن تعود بقوة عند أول منعطف… أو عند أول محطة من محطات إخفاقنا أو فشلنا أو ضعفنا.. لم تعد مبادئ عصر الأنوار التي مجدت مكانة الإنسان المقتدر الحر المستقل، سيد نفسه وإله العالم الجديد، قادرة على الحياة، لقد حرفتها نزوع العدمية واليأس، والشك والريبة، بعدما قوضت أركانها إخفاقات الإنسان نفسه في قيادة ذاته والعالم عبر حروبه المدمرة، ونزوات السيطرة التي عصفت به، وأشكال التردي الأخلاقي والروحي والنفسي التي عاشها في مطلع القرن والتي ولدت حروبًا كارثية ومآس، وظهور صورة الإنسان المنقطع عن الروح: المنعزل عن دلالات القداسة في العالم… الباحث عن الهيمنة والاستئثار، الراغب في السيطرة .. وأثبتت الوقائع أن شيئًا من الإنشغال بالروح وبالمعنى هو وحده القادر خلق التوزان في حياتنا، ولأجل ذلك استعادة أشكال متعددة من الروحانيات حضورها في زمن فرط الحداثة الذي نعيش فيه، تحصر الإرتياب والشك والعدمية وفقدان المعنى والقيمة، وإستعادت أشكال متعددة كذلك من الديني حضورها، ما أقصده بذلك بأـن النزوع الروحي يعود فيتوقد حتى في أشكال غريبة في الرؤى والتبصر والممارسات، كشفت ذلك بعمق في كتابي “اختبارات المقدس” منذ عقود طويلة.
وهذا ما يدفعنا لطرح السؤال التالي هل استطعنا أن ننقل فكرة العرفان الإسلامي بكتاباتنا وأبحاثنا لتصبح فكرة كونية يتلهف إليها كل عارف؟
التصوف الإسلامي أو شكله العرفاني اللاحق، أعني التصوف الزهدي والتصوف العرفاني التأملي، ميدانان أثيران للبحث والدراسة ولقد شكلا معًا مادة لدراسات واسعة متشعبة شرقًا وغربًا، العالم بأسره يعرف نصوص “الحلاج” و “ذي النون المصري” ورابعة، ويعرف كذلك شطحات أحمد الغزالي ، ويعرف جيدًا العطار وجلال الدين الرومي ، ويعرف إبن عربي وشراحه الكبار معرفة وطيدة.. والدراسات في الميادين هذه لا تكاد تنتهي. أعرف مثلًا هنا بدراسات بلاتنيون حول إبن عربي، ودراسات ماسينيون عن الحلاج.. وكوربان عن إبن روزبان إلخ…
وثمة جهود عندنا في السياق نفسه، لكن بلورة رؤية تسمح للتصوف أو للروحانية الإسلامية أن تصبح تجربة عالمية كونية كما هو الحال في البوذية مثلًا أو الروحانية المسيحية مثلًا كما هو الحال عند سويدنبرغ، أو كارل ماركس، ما زالت بعيدة…. هذا فضلًا عن التعريف بالروحانية الشيعية أقصد في المجال الشيعي، منذ السهروردي ومحمد اللاهيجي …. واللاهوت الباطني الاسماعيلي مرورًا بحيدر آملي وصولًا حتى الامام الخميني، ومهدي اشتياني، ثمة جهود غريبة في السياق أبرزها أعمال كورسان وشيمل وثمة عمل ترجم جزئيًا إلى العربية ل كريستيان بونو حول العرفان المتأخر.. وهناك عمل لحيدر آملي (العرفان الشيعي) لكن ذلك يبقى جهودًا فردية … نعم الروحانية الإيرانية معروفة جدًا في الغرب، ثمة دراسات واسعة النطاق حول تجارب العرفان الإيراني وآفاقه والفلسفات التي تنهل منه كما هو الحال مع المُلا صدرا أو السبزواري، لكن ذلك لم يجعل من الروحانية هذه تجربة كونية…
هل الحداثة أثرت إيجابًا في التجربة الدينية أم أنها عززت الدعوة إلى العلمنة ؟
الحداثة الغربية وريثة عصر الأنوار الذي مجد الطبيعة والإنسان والعقل، ودفع العلمنة في مسارها الأكيد ورسخ العقلانية الوصفانية في سمو دلالاتها.. وجعل الإنسان سيد العالم، يدبر حياته ووجوده ويكتشف الطبيعة من حوله إستنادًا إلى إرادته الحرة، واستقلال فكره، ولأجل ذلك نحى الدين عن الحياة العامة، وقيد حضوره في العام بقوانين صارمة حفاظًا على علمنة الحياة والمجتمع… لكن هذا المناخ المندفع من العلمنة والعقلانية الذي ولدته الأنوار أخفق بشدة كما قلت قبل ذلك، وولد حربين عالميتين وحروبًا أخرى، تركت آثارها التي لا تمحى على وجه العالم.
لقد أخفقت الأنوار ونموذجها العقلاني، هكذا افترض الغرب نفسه، واندفع ليتطهر من تقربها بالشك والعدمية، وبأشكال متفاوتة من الريبة واللامبالاة ، والفوضى في القيم والأفكار والسلوكيات والدلالات والمعاني.. وبإطلاق العنان للتخلص من الموروث الذي قدس الإنسان ورفع مكانته إلى حدود الإله، أعني المذهب الانساني..
هذا هو زمن ما بعد الحداثة، أو ما يحلو لي أن أسميه (زمن فرط الحداثة) لقد استبعدت في حمأته رؤى دينية، وممارسات وتبصرات وتجارب حضورها في محاولة ” لإستثمار مناخ من الريبة والشك” كتبت وجودها في مشهد العالم، ولتقدم صفات الإنسان المكلوم الملقى على وجهه، المتردد والعاجز ، المندفع بلا هوادة نحو تسليع العالم وتشيئه… الغارق في اللامعنى وفقدان الوجهة.
هذا ما يفسر عودة الدين في الراهن، وحضوره العام، أعني حضوره في الفضاء العام في أكثر مجتمعات العالم تقدمًا من الناحية التقنية ، ومن ناحية التنظيم.. لكن عودة الدين لها تبعات خطرة…إنها عودة للإستثمار ولملئ الفراغ…وهي تتوسل التقنية من أجل إبتكار وجود مشهدي فارغ يقوم على استمرار طقوس مبتذلة.. كنت قد قلت في كتابي ” اختبارات المقدس” أن الحرية الفردية التي يكفلها الغرب لأفراده تدفع بعودة متحررة فردانية للديني، خارج إطار الأديان المؤسسة .
أتؤمن بأن حياتنا قائمة على الفيزياء؟
نعم جزء كبير من حياتنا بات يعتمد على التقنية، العصر هو عصر الآلة والتقانة المتقدمة التي تسير الحياة وفق منطقها الخاص، والتي يلهث الإنسان وراءها من غير إرادة أو حرية فكر..
هل من خطر على الحياة؟ نعم مئات الدراسات بل الآف الدراسات والأبحاث التي تهتم الآن بدراسة الأثار الكتابية لزمن التقنية على الحياة نفسها وعلى تعريفنا لها..وعلى الإنسان وعلى فهمه لطبيعته، لقد دخل التقني إلى حرم الحياة نفسها إلى الحياة والموت، إلى ما كان بقي لأزمان ضمن المجالات التي تتم صيانتها من الإنتهاك.. أصبح رهان التقني رهان حياة وموت، التلاعب بالشيفرة الوراثية، والأوبئة المولدة في المختبرات ليوم حشر دنيوي… وإعادة تشكيل الانسان صُبغيًا، والوعد بتأخير الحياة ، وهزيمة الشيخوخة والمرض. أشياء تصاحب عصر التقنية .. قرأت ذلك بتفصيل في اختبارات المقدس وكشفت عنه فلاسفة وعلماء وحذر من خطره رجال فكر وسياسة واجتماع، لكن هذا واقع لا مرد له في نتائجه ومحتوياته..
ما تفضلتم به يدفعنا لطرح السؤال التالي : يُقال بأن المعرفة لم تعد قوة في عصر السرعة والانترنت، وإنما تطبيق المعرفة هو القوة، ما رأيكم بوجهة النظر هذه؟
فرق كبير بين المعرفة والمعلومة…ليست المعلومة معرفة، زمن السرعة هذا ساهم في تعميم المعلومة وإشاعتها وإنتشارها عبر وسائل متقدمة جدًا، فلم يعد ثمة احتكار للمعلومات، بل باتت تعرض هنا في فضاء مفتوح وتنتقل بسرعة البرق، لكن ما علاقة ذلك بالمعرفة؟ المعرفة تستبطن فهمًا واستيعابًا وإدراكًا، ومعه كيفية استثمار واستغلال وانتفاع، وخلق وابتكار، لا يمكن لمجتمع أن يقوم على المعلومة بالمطلق، ما لم يكن قادرًا على فهم عميق لهذا العلم واكتشاف شامل لبنيته الداخلية وللنظام الذي يقوم عليه، وللمغزى الذي يحمله، ولعلاقته بالحقيقة والكيفية التي يستفاد بها منه ويستثمرها، هذه المعرفة، وعليها تقوم الحياة وتتقدم وتنهض المجتمعات وتقدر، لا مجتمع بلا معرفة ، أي بلا فهم واع لما يوفره عالم العلم من معلومات تتم إشاعتها وتنتقل بسرعة، وبلا فهم لكيفية تشغيلها واستثمارها.
وجه الله سبحانه وتعالى خطابه في الكثير من الآيات الكريمة إلى “أولي الألباب” من الناحية الفلسفية لماذا يا أولي الألباب؟ وهل هذا يعني بأن ليس الكل إرتقى إلى جوهر اللّب؟
الملفت أن اللب لم يرد مطلقًا في القرآن الكريم (مفردًا) استعمله القرآن وصفًا لقوم لجماعة.. (أولو الألباب).. في ستة عشر موضعًا من القرآن، وكلها جاءت في معرض الثناء والمدح، ولقد جعل الله سبحانه لمثل هؤلاء صفات استحقوا بسببها أن يكونوا في زمرة أولي الألباب وهي أنهم يوفون بالعهد، ولا ينقضون الميثاق، وأنهم أصحاب عقول سليمة وأفكارًا ذكية، يصلون الرحم ويحسنون، ويخشون الله ويخافونه فيما يأتون ويتركون من الأعمال، ومن صفاتهم الصبر على ما يحبون وعلى ما يكرهون، وهم الذين يقيمون الصلاة وينفقون..الخ…
ملفت لمن يتتبع هذه الآيات كيف يقرن كل وصف من أوصاف هؤلاء بتعقيب هو ” أولو الألباب، يا أولي الألباب).. وهذا يكشف عن مقام فريد من التقوى والورع والحكمة.. ومن الإستقامة والثبات، أولي الألباب ليسوا فقط أصحاب عقول ذكية وأفكار سليمة ، وقناعات صحيحة متزنة، هم أصحاب أخلاق عالية وهمم شامخة، وإرتقاء نفس وسمو ذات، وعلو همة.. الخ.. أي الذين استجمعوا مكارم الأخلاق من جهة وسلامة العقل وصفاءه من جهة ثانية..
واللب من كل شيء جوهره، وأولو الألباب الذين يملكون جوهر ما به يكون الإنسان في سمو معناه، وصفاء السريرة…
حتى الآن كم يبلغ رصيد الدكتور خنجر حمية الفلسفي؟ وما هو جديده؟ وإلى أين يقوده طموحه؟
في جعبتي عشرة كتب آخرها ” الماضي والحاضر” الصادر عام 2018 ، لكن ما أُعرف به هو العرفان الشيعي الذي كان في الأساس أطروحتي للدكتوراة عن حيدر حسين علي الأملي والذي نشر بالعربية مرتين ، ثم ترجم إلى الفارسية ونشرته مطبوعات موسى في طهران.
ثمة علاقة خاصة تربطني بكتابين من كتبي هما: اختبارات المقدس، ومرتضى مطهري.. وأنا أعود إليهما دومًا أتفحص أفكارهما بروية وأعلق هنا وهناك..
والآن ثمة كتابان سيصدران في معرض الكتاب القادم في بيروت، كلاهما في الفلسفة الغربية، واحد عن الوجودية ومنعطفاتها والدلالات التي ولدتها في العالم المعاصر وأصداءها، والآخر عن التفكير وتضخم الإنشغال اللغوي في الفلسفة المعاصرة …. طموحي … القراءة ..لا أظن أن طموحي يقودني في غير هذه الوجهة.
الجزء الثاني
”الفلسفة تفكير حر في الإنسان والوجود والعالم“ د.خنجر حمية
يعتبر أن ما يميز الفلسفة الاسلامية بالعموم هو السعي لوضع رؤية توحيدية عقلية للعالم، ويرى بأنه لنكون متأثرين ومؤثرين يجب أن نكون شركاء في فكر العالم، مبدعين، مع الحفاظ على الهوية ومكانة الذات.. ويتحدث في هذا الحوار عن حيدر الآملي وتجربته الروحية المميزة، ومقارنة ما قدمه مع تجارب غربية.. هذه المواضيع وغيرها هي محور الجزء الثاني من حوارنا مع الدكتور في الفلسفة والكاتب والباحث خنجر حمية.
اجرى الحوار: نسرين نجم – اختصاصية علم نفس اجتماعي
العرب ما بين تراثي اليونان والهند والتراث الغربي الحديث:
إهتم العرب بمتابعة تراث وحضارات بقية الشعوب والمجتمعات ومنها تراثي اليونان والهند، فأخذوا منهما الكثير بما يتصل بالأدبيات والأخلاقيات، ووضعوا عددًا لا بأس به من الكتب، ولا يمكن أن نغفل عن تأثر العرب بنموذج الحداثة الغربية المتعددة للوصول (تبعًا لمفهوم بعض العرب) إلى النهوض الحضاري، ولكن رغم كل هذا بقي للفلسفة الاسلامية طابعها الخاص.
ما هو الفصل المميز للفلسفة الاسلامية عن بقية الفلسفات الشرقية والغربية؟
كلنا يعلم أن الفلسفة الاسلامية ارتكزت في جوهر عناصرها إلى التراث اليوناني المنقول منذ عهد بني أمية واتصالًا بزمن العباسيين. لكن الظروف التي أحاطت بالنشأة الأولى لهذه الفلسفة ليست بهذه المثابة من الوضوح… كان قد سبق للفلسفة اليونانية أن نقلت زمن الامبراطورية الرومانية، ثم زمن البيزنطيين إلى السريانية بواسطة النصارى الشرقيين الذين كانوا جزءًا من الامبراطورية ويعرفون جيدًا اللسان اليوناني ويحيطون علمًا بالتراث الفلسفي والأدبي الإغريقي كسُنة قديمة درجت عليها المسيحية … ولأن هؤلاء كانوا يحتاجون إلى مثل هذا التراث الذي يشكل في جانبه المنطقي والفلسفي بنية التفكير اللاهوتي للمسيحية، من أجل أن يدافعوا عن عقائدهم الخاصة في مواجهة مسيحية غربية مهيمنة ورسمية. حينما فتح العرب أماكن وجود المسيحيين الشرقيين روجوا لتراث متشعب وغني.. وواجهوا جماعة تملك لاهوتًا يكاد يكون منظمًا ورؤية لمشكلات الانسان والوحي والنبوة شاملة ومستوعبة… ولد هذا اللقاء الأول شكلًا من أشكال التثاقف، وسمح للنصارى بشيء من الحرية قد منح لهم، من خلال اعتبارهم “أهل كتاب” بالإعلان عن معتقداتهم، وبإطلاق العنان لنقاش سوف يدوم طويلًا ولجدل فرضته عليهم مواجهة ديني جديد ذي كتاب، بدأت تترسخ سطوته وتفرض سلطانه، وفي خضم هذا الجدل وجد المسلمون أنفسهم بحاجة إلى أدوات ومفاهيم وطرائق فكر تعينهم في ترسيخ مفاهيمهم اللاهوتية أولًا في سياق الجدل مع النصارى، وفي الدفاع عن معتقداتهم فراحوا يترجمون من السريانية ما كان ترجمه السريان أنفسهم عن اليونانية من تراث استخدموه في الجدل مع المسيحية الغربية… واستعان العرب بمترجمين سريان…
هكذا بدأ اهتمام العرب بتراث اليونان، وذلك ساهم أولًا في نشوء علم الكلام أو اللاهوت الذي يقوم على منهج الجدل من أجل الغلبة في أمور العقيدة، ثم تطور الأمر حين اطلع المثقفون المسلمون على نصوص الفكر الكبرى للإغريق، إلى محاولة بناء نسق شامل للتفكير في الوجود والإنسان والعالم، مستلهمين رؤى أفلاطون وأرسطو ونتاج الاسكندرية المتأخر، وبعض شذرات من علوم قديمة، لكن هذا التقليد لم يكن مجرد تفكير خالص لتراث مختلف… بل ابتكار.. رغب في عمومه في إعادة بناء التفكير العقلي كفلسفة تأخذ بعين الاعتبار السياق العام لمفاهيم الاسلام وأسسه من أجل رؤية توحيدية عقلية للعالم… ومن أجل وضع تفسير للوجود يقوم على أولية المعرفة بالوحي… وعلى تقدم مكانة النبوة، هذا ما ميز هذه الفلسفة في العموم.
لماذا اهتم المفكرون العرب بالفلسفات الغربية ولم يهتموا أو يطلعوا على الفلسفات الشرقية علمًا بأن التعاملات التجارية مع الشرق خاصة الهند والصين كان منذ القديم، ومع ذلك لم يحدثنا التاريخ بأنه كانت هناك رحلات علمية أو اطلاع على الثقافة الشعبية إلا نادرًا؟
ينبغي أن نميز بين الماضي والحاضر من جهة، ونركز على الظروف التي تسهم في الاقتباس الثقافي أو التثاقف إذا صح التعبير أو اللقاء الفكري بين تراثين أو أمتين أو ثقافتين…
في خصوص الموضوع الأول من المعروف أن العرب اقتبسوا كثيرًا من تراث الهند حين عرفوه واتصلوا به، ونهلوا شيئًا ممن يعتد به من ثقافته خاصة ما يتصل بالأخلاق والأدبيات، وعرفوا شيئًا ليس بالقليل من تصوراتهم الدينية ومعتقداتهم، وها هو البيروني الذي أقام هناك عشرين عامًا يضع كتابًا حول عقائد الهند وهو :” تحقيق ما للهند من مقولة”…. والقرن الرابع الهجري في ثقافته وفكره شاهد على حجم هذا التأثي، مع ابن مسكويه والتوحيدي، ثم مع كتاب “المرايا” ومنظري شؤون التدبير من فقهاء ومنظرين. نعم لم تنشأ حركة ترجمة للتراث الهندي كما حصل مع تراث اليونان.. والسبب في اعتقادي هو الحاجة الدينية، كانت حاجة المسلمين لتراث اليونانيين المترجم إلى السريانية والمستعمل في الجدل وفي بناء قضايا الاعتقاد وعلم المنطق والميتافيزيقيا، هو الدافع وراء الترجمة.. ولقد وجد العرب المسلمون في مثل هذا التراث خير معين على غرضهم هذا..مثل هذه المواجهة مع تراث اليونان الذي انتشر في أماكن تواجد السريان الشرقيين، ومثل هذه القناعة بضرورة هذا التراث، لم يتفق حضورها مع تراث الهند البعيدة. والتي لا يشكل تراثها الديني خطرًا يذكر على العقائد الدينية، ولا يريد أي مواجهة مع الدين الجديد ولا أي مواجهة فكرية..
أما في خصوص الراهن فالأسباب التي دفعت العرب المسلمين إلى الانشغال بالتراث الفلسفي والعلمي للغرب الحديث، لها علاقة بفكرة التقدم أو بفكرة الاصلاح والتجديد أو بفكرة المدنية…
خرج المسلمون من هيمنة شاملة للإمبراطورية العثمانية، يرغبون في إعادة بناء مجتمعاتهم على أسس علمية ويطمحون إلى النهوض الحضاري، ويرغبون في بلوغ المدنية، لم يجدوا أمامهم إلا نموذج الحداثة الغربية المتعددة ونموذجها الملهم في العلم والفلسفة والتقانة… فافترضوا على تنوع فيما بينهم أن الاقتباس عن هذه الحضارة كفيل بتوفير الأرضية للنهوض، وبتحقيق الشروط اللازمة للتقدم، هكذا فكر كثيرون في مطلع القرن الماضي ولا زالوا يفكرون… وهذا ما جعل من اقتباس الفكر الغربي على مدى قرن ظاهرة راسخة.
قلتم في تقديكم لكتاب د. خاقاني أن المشكلة تكمن في الخطاب الذي يرد من خلاله تشكيل ثقافتنا المعاصرة وميتافيزيقانا، ما عيوب هذا الخطاب؟ وما البديل الذي تقترحونه حتى يعود فاعلًا في حياتنا؟
خطابنا الفكري الفلسفي يذهب دائمًا في اتجاهين، الأول تراث خالص يستعيد جملة ما أنتجه أسلافنا في محاولة لبناء تجربة الراهن استنادًا إليه أعني من خلاله، والثاني محاولة استلهام تراث غربي نشأ في سياق حضاري جد مختلف، وتشكلت مفاهيمه في بيئة فكرية وروحية متمايزة.. كلا الاتجاهين خطير… لإنه الآن يعيدنا إلى تراث خدم أصحابه في التاريخ وتولد عن أسئلة ملحة كانت تواجههم.. ونشأ في سياق فكري ثم تجاوزه في العموم وأجاب على مشكلات كانت تخص تاريخًا بعينه وتجربة حضارة محددة. ولأن الثاني ينشغل بفكر هو وليد تجربة حضارة الآخرين، وخلاصة هواجسهم وتأملاتهم وصورة ثقافتهم، ولا يتأتى بحال الفكر أن يخدم في غير سياقه الحضاري، إن لم يتم استثماره نقديًا، ما أراه على الدوام أن الفكر المنتج المؤثر هو الذي تولده مآزق الإنسان في سياق حضاري محدد، والذي ينبثق في خصوصيته الحضارية، وأسئلته وشروط وجوده والروح التي توجه حياته.. نعم في لحظة من لحظات الزمن يصبح التأثر والتأثير أمرًا حتميًا ، لكن لا على جهة الغلبة، ولا عبر اقتباس متحرر لفكر الآخرين.. أن نتأثر ونؤثر حين نكون شركاء في فكر العالم… وفي تجربة حضارية.. مبدعين.. مستلهمين لتراثنا مفتنيين بالإنفتاح على تجربة الغير على تنوعها.. وهذا يتطلب وعيًا لمكانة الذات والهوية ووعيًا بالامكانات التي نملكها وبقيمة التراث الذي نحمل.
لقد شغلكم كثيرًا حيدر الآملي ما الذي تجدونه فيه ، وما الذي جعلكم تختصونه بالبحث والتدقيق؟
حيدر الآملي مفتتح تجربة روحية في الإسلام الشيعي استوت ركائزه استنادًا إلى تراثه…لم يكن الرجل معروفًا ولا نصوصه الكبرى، إلى أن كشف عنه المستشرق الفرنسي المعروف (هنري كوبان) الذي نشر بالإشتراك مع الباحث السوري المرحوم عثمان يحيى المختص بإبن عربي كتابين كبيرين من كتبه، واحد منهما شرح لإبن عربي.. في محاولتي لفهم مكانة هذا المفكر، وقعت على تجربة ممتدة عبر قرون ( من السابع إلى أيامنا تقريبًا) تحاول تأصيل تفكير في الدين يقوم على أولية الخبرة الحدسية أو الروحية إذا صح التعبير… فيما بات يُعرف بالعرفان أو التصوف الفلسفي… نحن نقع على مثله في التراث السني حتى مثل إبن عربي لكن أن نرى إمتدادًا في التشريع لتراث متشابه وعميق فهذا ما لم يكن معروفًا.. وبحثي هو للكشف عن هذه التجربة وهو في الأساس دراسة لنيل شهادة الدكتوراة ثم نشرها بعنوان ( العرفان الشيعي : دراسة في الحياة الروحية والفكرية لحيدر آملي).
تدريس الفلسفة ضرورة لتكوين الوعي:
لا يزال المطلب الرئيس والأساس على مدى العصور هو “التجديد” الذي أصبح ملحًا سيما في أيامنا هذه لما له ضرورة للتطور والتقدم، ومن الضرورة أيضًا أن يكون لتدريس الفلسفة حيزًا هامًا في مناهجنا، فهي تعمل على تحفيز العقل على التفكير الحر والسليم، سيما في ظل سيطرة النزعة الاستهلاكية المادية التي تعمل على القضاء على الابداع والانتاج الفكري والمعرفي..
هل ترون أن الحكمة الاسلامية خصوصًا الحكمة المتعالية لا تزال تستطيع العطاء في هذا العصر؟
ما الذي نقصده بالحكمة الاسلامية؟ تراث المفكرين والفلاسفة من إبن سينا حتى السبزواري؟ أو تراث اللاهوتيين والكلاميين من واصل بن عطاء إلى محمد عبده؟ إذا كان الأمر كذلك فالإجابة إنما هي ب “لا” .. لا يمكن لهذا التراث أن يستجيب لأسئلة الحاضر ولا للمشكلات التي يواجهها الدين في العموم، في حضوره التاريخي.. ولا يلبي طموح تكوين سياق روحي لجماعة.. من هنا كان مطلب التجديد مطلبًا ملحًا على الدوام.. لكن بحركة لم يقدر لها الاستمرار، كتب شبلي نعمان في القرن الماضي تجديد علم الكلام، وحاول محمد أفتال خلق تجربة كميتافيزيقيا روحية مقابل النزعة المادية العدمية التي عرفها عصره. ورسخ جمال الدين الأفغاني نمط تأمل جديد في الدين والحداثة، وفي الدين والعلم.. لكن ذلك لم ينهض أساسًا لتجربة راسخة.. ظني أن كل تجديد ديني أو فلسفي أو لاهوتي ينبغي أن يكون في سياق أوسع ليكون وجهًا من وجوه النهوض الحضاري الشامل وصورة من صوره..
إلى اليوم تبقى الفلسفة ممنوعة من أن تُدرس في المنهج الكلاسيكي العربي والإسلامي المتبع في المدارس، ويعزو البعض السطحية في تفكير الأجيال إلى حرمانها من دراسة المعارف العقلية.. ما تقييمكم لهذه الرؤية؟ وما الذي تقترحونه لكي تعود الفلسفة إلى طاولات الدراسة؟
الأمر مبالغ فيه.. السطحية لها أسباب متعددة .. بعض مجتمعات الغرب تعاني من هذه السطحية كذلك بالرغم من إنتشار تدريس الفلسفة في جامعاتها .. نعم أحد أسباب الفهم السطحي وأحد أسباب الجمود المعرفي والفكري، وأحد أسباب قلة الخلاقية والإبداع، إنما هو غياب التدريس الفلسفي… الفلسفة تفكير حر في الإنسان والوجود والعالم، شراكة تفكير التاريخ والمصير الانسانيين ، بحث عن المعنى والمغزى والدلالة في تنوعات العالم، كما يرسخ من القيمة والمكانة.. مثل هذا التدريس ضرورة لتكوين الوعي، وضرورة من أجل تفكيرنا الحر بأنفسنا وبالعالم من حولنا.. وبجدوى تنوعنا واختلافنا.. ثمة من يرى في مثل هذا التفكير خطرًا على التراث على المستقر الثابت من قناعاتنا، وعلى المؤكد من رؤانا ومبادئنا، لعل ذلك صحيح إذا ما أريد لهذه القناعات أن تكون بإسم الحقيقة، وأن ترسخ من غير فحص نقدي أو مساءلة.. أما كيف يمكننا أن نعيد الفلسفة إلى مدارسنا؟ .. هي لم تكن بمدراسنا أصلًا، بعض مجتماعتنا لم تعرف الفلسفة في مناهجها الدراسية على مرّ التاريخ، ومن عرف ذلك تراجع اهتمامه بالفلسفة سنة بعد سنة، والأمر ليس مختصًا بنا.. الفلسفة تتراجع حتى في أكثر العوالم علمانية.. والسبب طغيان التقني والتسارع، ونمط العيش الاستهلاكي.. والمآلات التي اندفع إليها عالمنا المادي.. وسطوة العلوم التجريبية .
يُعد “هيدغر” من فلاسفة الوجود، كيف تقارنون الوجود عنده بأصالة الوجود عند المُلا صدرا؟
أنا مع البحث في مثل هذه المقارنات، ولكن لا أعول جدًا على التماثلات.. هيدغر آت من تراث معقد بدأ باليونان مثل سقراط خاصة مع هيراقليط، وبيرفييد وصولًا حتى هيغل.. عمل هيدغر على إعادة فحص طبيعة الوجود استنادًا إلى كينونة الانسان الخاصة التي هي كينونة زمانية، أي استنادًا إلى وعي الانسان بكينونته، بما هو كائن تاريخي- زماني يتوجه نحو المستقبل، ويقبل بكليته على الموت.. فرق كبير بين نمط الانشغال بعلم الكينونة عند هيدغر ونمط انشغال حيدر .. لكن لا بأس ببناء مقارنات.. أحد طلابي في الجامعة اللبنانية ينجز دكتوراة عن الوجود بين “هيدغر” و “السبزواري” لكنه لم ينته من بحثه بعد.
لماذا لا تستطيع أوروبا إيجاد فلسفة توحيدية عالية الدقة على نسق الحكمة الإلهية لدى فلاسفة الإسلام؟
لقد أنجز فلاسفة القرون الوسطى الكثير، وما زال صدى تصوراتهم يتردد إلى الآن، من أغسطينوس إلى توماس اكينيوس فضلًا عن التراث الذي سبق أغسطينوس والذي رسخ دعائم المسيحية في لاهوتها العقلي. ولم يمت هذا النمط من أنماط التفكير كليًا حتى في أزماننا الراهنة.. الميتافيزيقيا الدينية أو الروحانية نجد أن لها موطئ قدم هنا في الحداثة وما بعدها، منذ ما قبل الوجودية الدينية عند بولطمان مرورًا بعرفان سويدنبرغ، لا يخلو الأمر من إنجازات على مستوى عال من التقدم.. نعم هو ليس ظاهرة منتشرة ولا طاغية.
هل هنالك جدوى من وجهة نظركم في المشاريع التي تعمل على ترجمة نتاج الفلسفة الاسلامية إلى أوروبا؟
الترجمة لا تكفي، ولا تترك أثرًا.. الحضور الفكري والثقافي لنخب ترى في هذا التراث شيئًا من الفائدة… سيد حسين نصر مثلًا يؤثر في وجوده وفي نتاج أكثر من ترجمة تراثنا الفلسفي كله.. أكبر أحمد يخدم الفكرة الفلسفية للإسلام أكثر مما يخدمها ترجمة الأسس المنطقية للإستقراء أو فلسفتنا، طلال أسد يخدم بحضوره الحر في الجامعات الغربية أكثر مما يخدم تراث الأفغاني بأكمله أو ترجمته الأسفار إلى الانكليزية… لا بدّ من حضور النخب المسلمة بفعلها ومشاركتها، ذاك هو المؤثر والفاعل، عندها الترجمة تخدمه وتعينه وترفده بالأدوات والمواد والعناصر.
6,781 total views, 5 views today
Hits: 493