مَنْ أول مُستخدم للنانو تكنولوجي؟
د. حيدر بن أحمد اللواتي
“النانو تكنولوجي”: تقنية يتمُّ فيها استخدام مختلف المواد الموجودة في الطبيعة بعد أن يتم إعدادها بشكل مُعيَّن؛ بحيث تكون على شكل جسيمات صغيرة جدًّا، تكون أحد أبعادها على أقل تقدير بحجم النانومتر. والنانومتر هو وحدة قياس صغيرة جدًّا وتساوي 0.000000001 متر، ولكي تتصوَّر صِغَر حجم هذه الوحدة، خُذ شعرة من شعرات رأسك، وانظر إلى سُمكها الذي يصل إلى 60.000 نانومتر، هل لك أن تتصوَّر سماكتها لو قمت بتقسيمها إلى 60.000 قسم!
السرُّ الذي يجعل العلماء يهتمون بهذه الأحجام الصغير يكمُن في أنَّ المادة عموما تختلف في خصائصها، وبشكل غريب، عندما يصل حجمها إلى حجم النانو؛ فمثلا الذهب -هذا المعدن النفيس ذو اللون الذهبي اللامع- يتغيَّر لونه عندما يتم تصنيعه على شكل جسيمات بحجم النانومتر؛ فيصبح لونه أزرق، وإذا أردت أن تغيِّره إلى الأحمر بإمكانك فعل ذلك؛ وذلك بتغيير حجم هذه الجسيمات الصغيرة، وهناك مواد أخرى تصبح صلبة، وثالثة قد تزيد قدرتها على التوصيل الكهربائي بشكل كبير.
نعود إلى السؤال الذي هو عنوان مقالنا هذا: من أول مُستخدم للنانو تكنولوجي؟
الجواب الذي نقطع به: أنَّ أول المستخدمين ليس هو الإنسان! قد تستغرب عزيزي القارئ؛ فإذا لم يكن الإنسان هو أول المستخدمين، فهل هناك كائنات فضائية هي التي استخدمت هذه التقنية أولا؟!
الجواب: رُبَّما تكون هناك كائنات فضائية سبقتنا إلى ذلك؛ فنحن لا نستطيع أن نُجزم إلى يومنا هذا حول ما إذا كانت هناك كائنات حية خارج الكرة الأرضية، تملك ذكاءً يفوق ذكاء البشر، وتستطيع أن تعرف عن النانو تكنولوجي، ولكن ما نعلم به أنَّ عددا من الحيوانات والنباتات قد سبقنا إلى استخدام هذه التقنية، هلُمَّ معي عزيزي القارئ في رحلة لعالم النبات والحيوان؛ لنتعرَّف على بعض هذه الكائنات “المتطورة”.
لا شكَّ أنَّك شاهدت يوما ما على جدار منزلك السحالي وهي تتسلق الجدار، بكل خفة ورشاقة، بل الغريب المدهش في الأمر أنها قد تبقى ساكنة في مكانها دون كلل أو ملل، ترى ما هو السر وراء هذه الرشاقة والقدرة على التسلق، ثم لِمَ لا تسقط على الأرض بفعل قوى الجاذبية؟
الجواب وببساطة أنها تستخدم تقنية متطورة جدًّا توصَّل إليها الإنسان في أواخر القرن الماضي وأدرك أهميتها.. إنها “تقنية النانوا”.
نعم.. فالسحالي تستخدم “تقنية النانوا” منذ آلاف السنين للتسلُّق على الجدران؛ فهناك قوى جذب بين الذرَّات المختلفة تُعرف هذه القوى بقوى “فاندرفال”، وهي قوى ضعيفة للغاية. والسحالي تستعين بقوى الجذب هذه الموجودة بين الذرَّات لتتسلق الجدار، ولكن ولأن هذه القوى ضعيفة، فتحتاج إلى سطح كبير للغاية لتزداد قوى الجذب بين السحلية وبين الحائط، و”تقنية النانوا” مفيدة في هذا الأمر كثيرا؛ إذ إنَّ استخدامها يؤدي إلى زيادة سطح التماس بين السحلية والحائط، وهو ما يسمح للسحلية بتسلق الجدار بكل خفة ويمنعها من السقوط دون الحاجة إلى غراء أو غيره.
يتم استخدام “تقنية النانوا” في عالم الحشرات أيضًا؛ فهناك الخنفساء المعروفة بخنفساء ستينوكارا، وتعيش في إحدى أكثر الصحاري جدبا في العالم، صحراء تكاد تخلو تماما من أي مصدر للمياه، وتعرف بصحراء ناميبيا، ولكن هذه الخنفساء تستطيع العيش فيها. أما كيف تعيش؟ ومن أين تأتي بالماء؟ فالجواب يكمُن في “تقنية النانوا”؛ حيث إنَّ هذه الخنفساء لها ظهر فيه نتوءات شمعية صغيرة جدًّا كارهة للماء، وهناك في قمم هذه النتوءات الكارهة للماء مناطق صغيرة جدًّا بحجم النانوا مُحبة للماء، وتقوم هذه الخنفساء برفع ظهرها في الصباح الباكر حيث يكون في الهواء بعض الرطوبة؛ فتلتصق حبيبات الماء بقمم النتوءات النانوية المحبة للماء الموجودة على ظهر هذه الخنفساء، ونظرا لصغر مساحة قمم هذه النتوءات النانوية، فما إن تتكوَّن هذه الحبيبات عليها حتى تتزحلق من تلك القمم فوق الأسطح الشمعية الكارهة للماء، ولأنَّ هذه الأسطح مكونة من مواد شمعية كارهة للماء؛ لذا تتزحلق قطرات الماء من القمم النانوية، وبسرعة؛ لتصل إلى فم الخنفساء وتطفئ ظمأها.
حسنا.. يبدو أنَّ السحالي والخنفساء سبقتنا بآلاف السنين، وقاموا باستخدام هذه التقنية لكي يستطيعوا أن يعيشوا ويتأقلموا مع بيئاتهم، فهل الزواحف والحشرات هي المخلوقات الوحيد التي سبقتنا إلى استخدام هذه التقنية؟
الإجابة: لا؛ لأن استخدام النانو تكنولوجي لا يقتصر على الزواحف والحشرات فحسب، بل حتى النبات يقوم باستخدام هذه التقنية بأسلوب جميل وذكي؛ لنلق نظرة على أحد النباتات التي تعرف بزهرة اللوتس، وهي زهرة جميلة خلابة متألقة، ولكنها تعيش في وسط مستنقعات من الطين والماء، ولكنها ترغب دوما في الحفاظ على جمالها وتألقها. أما السروراء قدرتها في الحفاظ على جمالها وتألقها الدائم، فهي قدرتها على التخلص من كل القاذورات التي تلتصق بأوراقها، وبشكل ذاتي، مستعينة بالنانو تكنولوجي؛ فسطح أوراقها مغطاة بنتوءات نانوية شمعية، وهذه النتوءات الشمعية الظاهرة عل سطح الأوراق لا تسمح لذرات الغبار والأتربة أن تلتصق بأوراق هذه النبتة، بل تجعلها طافية على سطحها، ومع قطرات الندى الصباحية والمسائية في هذه المستنقعات الرطبة فإنَّ قطرات الماء التي تتزحلق من على هذه النتوءات الشمعية، تجرف معها كل ذرَّات الغبار والأتربة تاركة سطح أوراق هذا النبات متألقة خلابة تسر الناظرين.
فهل سبقت نبتة اللوتس كل المخلوقات إلى استخدام هذه التقنية، أم أنَّ الزواحف أو الحشرات كان لهما قصب السبق؟ ما نُجزم به أنَّ الإنسان هو آخر المستخدمين لهذه التقنية؛ لذا فإذا قلنا بأنَّ هذا الإنسان صاحب العقل الكبير استطاع أن يصل إلى هذه التقنيات المعقدة بعد جهود حثيثة وبحوث طويلة على مدى سنوات من البحث العلمي المضني، فهل يُعقل أن تكون الزواحف أو الحشرات توصَّلت إلى هذه التقنية من تلقاء نفسها، أو أن زهرة اللوتس اكتشفت هذه التقنية بذاتها، أم أنَّ الطبيعة التي لا تعقل هي التي أهدتهم الطريق وكشفت لهم عن هذه التقنية، أم أنَّ الأمر كله وقع صدفة وما أكثر ما تقع هذه الصدف لدى البعض؟
… إنَّ زهرة اللوتس وخنفساء ستينوكارا، وجدا قبل أن يكتشف الإنسان تقنية النانو بملايين السنين، بل يعود الفضل لهما في أن يتوصل الإنسان إلى هذه التقنية؛ فمن خلال متابعة العلماء لهذه المخلوقات توصلوا إلى هذه التقنية الرائعة، تُرى من الذي كوَّن النتوءات النانوية الشمعية على ظهر ورقة اللوتس وعلى ظهر خنفساء ستينواكارا وفي أقدام السحالي؟ أليس من السخف القول بأنَّ الأمر حدث صدفة، وأن هذه الأسطح العجيبة تكونت بشكل “تلقائي” وبمحض الصدفة دون أن يخلقها أحد؟ حقا: “… كان الإنسان أكثر شيئا جدلا”
8,276 total views, 2 views today
Hits: 490