مِيلاد الأبجديَّة العربيَّة
أ.د. اسمهان سعيد الجرو
أستاذة التاريخ القديم
هذ الورقة طرحت في الجلسة الحوارية “الثراء اللغوي في سلطنة عمان” وتنشر بالتعاون مع مُؤسسة بيت الزبير.
————————————-
حَظِيتْ نُقُوش وكِتَابات مَنَاطق جنُوب وشَمال شِبه الجزيرة العربية باهتمامٍ بالغٍ، ودراساتٍ مُكثَّفة من قِبَل علماء اللغات السامية، باستثاء منطقة جنوب شرق الجزيرة العربية (عُمان)؛ حيث ظلَّت مجهولةً بسبب حَدَاثة التنقيبات، واعتراف العلماء بصُعُوبة فك شيفرة الكِتَابات الموجودة بها. في وقتٍ أجْمَع فيه العُلماء على أنَّ اﻟﻠﻐﺔَ اﻟﻌرﺒﯿﺔ القديمة (المسند) في جنُوب وشَمال شِبه الجزيرة العربية تُؤلِّف وحدةً لُغويةً ذات أصلٍ واحد، قسَّمها عُلماء اللغات السامية إلى: عربيَّة جنوبية: السبئية، المعينية، الحضرمية، والقتبانية . وعربية شمالية: اﻟﺜﻤودﯿﺔ، واﻟﺼﻔوﯿﺔ، واﻟﻠﺤﯿﺎﻨﯿﺔ.
ومُنذُ مُنتَصَف القرنِ العشرين، أشار الرَّحالة وعُلماء الآثار إلى أنَّ عُمان تحتضنُ نوعيْن من الكتابة المسندية؛ النوع الأول: نقوشٌ كُتِبت بخط المسند العربي الجنوبي) اليمني القديم)، مُنْتَشِرة في كلٍّ من جنوب عُمان وشَمَالها، أقدم هذه الكتابات يعُود تاريخه إلى القرن الثالث قبل الميلاد؛ أي أنَّ عُمرَها 2300 سنة. والنوع الثاني: نقوشٌ كُتِبت بخط مُختلف، شبيه بالخط العربي الجنوبي) اليمني القديم) والخط الثمودي.. الكتابة العُمانية عربيَّة بِدَائية، تشتركُ في خَصَائصها المظهريَّة مع جميع أبجديات الجزيرة العربية، لكنَّها تختلفُ في بعضِ سِمَاتها، كما أنَّها تحملُ في ثناياها حروفاً جديدة، غير مألوفة في الكتابات العربية الأخرى، أقدم حُرُوف هذه الكتابة العُمانية عُثِر عليها في مَوْقِع رأس الجنز في ولاية صور بمحافظة الشرقية، ويعُود تاريخُها إلى 2200 ق.م؛ أي أنَّها الكتابة الأقدم في الجزيرة العربية على الإطلاق.
وحتى الآن، عُثِر على الآلاف من تِلْك الكتابات، العددُ الأكبر مِنْهَا عُثِر عليه في كُهوف وصَحَاري محافظة ظفار، كما عُثِر على عددٍ قليل منها في أوديةِ محافظة جنوب الباطنة، وشمال وجنوب الشرقية، والداخلية من عُمان شكل (1) التوزيع الجغرافي لمناطق نقوش المسند العُماني.
أقدم حُرُوف عربيَّة قديمة مُكْتَشَفة في عُمان
عَثَرتْ البعثةُ الفرنسيَّة-الإيطاليَّة عام 1985م، في موقع رأس الجنز بولاية صور، على خَتْميْن صغيريْن من الحجر الصابوني صُنِعَا محليًّا، نُقِشَت عليهما حروفٌ عربيَّة مسندية، يُقدَّر عمرهما بـ4200 عام؛ أي الألف الثالث قبل الميلاد، وقد نحتت العلامات الكتابةَ باحترافيةٍ شديدةٍ وكأنَّها شيء اعتيادي.( شكل (2) ختمان صغيران صنعا من الحجر الصابوني، يحملان حروف عربية في شكلها البدائي عثر عليهما في مستوطنة رأس الجنز بولاية صور) دراسة البعثة الفرنسية الإيطالية*(
حُروف الخَتم الأوَّل من اليمين:
حرفُ الطَّاء في مرحلتِه البدائية، عن حرف الطاء في الأبجدية العربية الجنوبية) اليمنية القديمة) .هذا الحرف يتكرَّر في نقوشِ ظفار، كُتِب باتجاهاتٍ مُختلفة، ثُمَّ نجدُه يُكتب في النقوش العُمانية بثلاثة خطوط تأخذ اتجاهاتٍ مختلفة، كحرف الطاء في النقوش الثمودية والصفوية.
حرف العَيْن معروفٌ في أغلبِ الكتابات العربية القديمة.
حرف الكَاف معروفٌ في نقوشِ ظفار والأبجدية العربية الجنوبية) المسند اليمني)، إلا أنَّه هُنَا يأخذُ اتجاهًا دائريًّا ليتوافق مع شكل الختم.
حرف النُّون معروفٌ في نقوشِ ظفار، وفي النقوش الثمودية.
حُرُوف الخَتم الثَّاني:
حرف البَاء معروفٌ في نقوشِ ظفار، وفي كلِّ الكتاباتِ العربيَّة الجنوبية، والعربيَّة الشمالية، والعربيَّة الحديثة.
حرف الكَاف معروفٌ في نقوشِ ظفار، وفي جميع الكتابات العربية القديمة، أخذ شكلًا ذا زاويةٍ مُستقيمةٍ؛ ليتوافَق مع الشكل المربَّع للختم.
حرف الطَّاء – سبق وتحدَّثنا عنه.
المُلَاحَظ أنَّ اتجاهَ الحُرُوف يتغيَّر وفقا لاتجاهِ الكتابة .ولا شكَّ أنَّ هذه الحُرُوف رمزيَّة مقطعيَّة، أو ساكنة، جزءٌ من الأبجدية العربية القديمة.
قراءة في نماذج من نقوش ظفار:
- الجرو/ ظفار 1
Garoo-Dhofar 1 = KMGdr 4
الرسم التفريغي للنقش:
شكل (3) نقش يحمل أسماء ثلاثة أشخاص متجهين إلى معركة ما .الحروف ذات الدائرة الحمراء سبق وأن وردت في أختام رأس الجنز
ترجمة النقش:
يقرأ النقش من الأعلى إلى الأسفل:
أ ظ ب ب وي ط ع أ ب ن وو أ ب ك ه ل ظ ب وع د ي (.) ط ك ي
- أ ظ ب ب: على وزن أفعل؛ اسمٌ مُشتقٌّ من الجذر) (ظَ بَ بَ)، جاء ذكره في نقش سبئي )كياس (95.41/b4؛ يعني: منطقة مسائل الأمطار. وقد يكُون اسم علم لشخصٍ من الجذر (ظب)؛ ويعنِي: ظبي؛ أي غزال، وهو اسم مُشتق من أسماء الحيوان.
- و: حرف عطف.
- ي ط ع :اسم علم على وزن فعل؛ من الطاعة.
– أ ب ن و: اسم عائلة أو قبيلة) (أبنو)؛ ذُكِرَت في نقش سبئي )إرياني 12).
– و: حرف عطف.
– أب كهل: اسم علم تردَّد في عدد من النقوش العربية الجنوبية بنفس الصيغة؛ مثال: نقش (RES 4115) ”صيدم أب كهل”؛ أي أنَّ أبًا كهلًا قد أدَّى الصيد (المقدس الملزم بتأدية) .وفي هذا النقش، جاءتْ كلمة صيد بصيغة: “ص ي د م ،” بلفظ مُفرَد. كهل: إلهٌ قمريٌّ عَبَده عربُ الجزيرة كافة.
– ظ ب و: من الفعل ”ض ب أ”، فعل ماضٍ ثلاثي؛ يعنى: غزا، قاتل، أو حارب، نقش ثمودي (16) العنزي 2006 ،، ورد في السبئية Ja 635/26.
- ع د ي: سار أو مضى) .العجم السبئي 182،12.)
- (.) ط ك ي: الحرف الأول من الكلمة مطمُوس، رُبَّما اسم المكان الذي شَهِد الحملة العسكرية.
- معنى النقش:
أظبب ويطع أبنو) ينتمون إلى عائلة أو قبيلة أبنو). وأب كهل اتجهوا في مهمة عسكرية إلى مكان يدعى (. (ط ك ي) ،فقدنا الحرف الأول من اسم المكان .زُوِّد النص برسمةٍ لكفِّ اليد، وهذا دليلٌ على طَلَب الحماية من الإله، أو لصد القوى الشريرة .. رمزية كف اليد معروفة عند شُعُوب حضارات الشرق الأدنى القديم.
- الجرو/ظفار2
(Garoo/ Dhofar 2)
الرسم التفريغي للنقش:
ترجمة النقش:
- ط وع :مصدر طاعَ، طوَّع حيوانًا، جعله يطيع، أي روَّضه.
- ب ع ر ي :البَعيرُ؛ ويشمل: الجمل والناقة، والجمع أبْعِرةٌ وأبَاعِرُ وبُعْرانٌ، والبَعْرةُ واحدة البَعْر والأبْعارِ، وقد بَعَرَ البعير والشاة -من باب جمل المعجم :”مختار الصحاح – ” حرف الياء: نسبة الملكية.
* معنى النقش :روضت بعيري.
ا – لجرو/ ظفار 3
Garoo Dhofar 3
الرسم التفريغي للنقش:
ترجمة النقش:
النقش يُقْرَأ من الشمال إلى الجنوب:
ح وط ت د ب ح ر أ ش ن ن
ح وط ت: حوطة؛ قد يكون اسمًا لشخص، أو فعلًا، من الجذر حوط: أي الأرض المحوطة، تحملُ معنييْن: منطقة تم تحويطها لغرض معين أو منطقة مُقدَّسة.. في نقوش ظفار يُذكر الفعل: ح وط أكثر من مرة (G25).
ب ح ر: بحر؛ اسم علم لشخص، معروفٌ في النقوش العربية الجنوبية، كما تُوْجَد قبيلة بتحمل باسم بني بحر، جاء ذكرها في نقش “أم ليلى/إرياني:76”، شمال صعدة، كما نجد اسمَ بُحَيْر -تصغير بحر- في أحد نُقُوش محافظة الشرقية.
أ ش ن ن: الألف مُضَافَة للاسم :شنن أو شنان اسم عائلة أو قبيلة، تكرَّر ذكرها في عددٍ من نقوش ظفار، وهي من الفعل) (شن) وكلمة شُّنَانُ في قواميس اللغة العربية تَعْنِي السَّحابُ عندما يَشُنُّ الماءَ، ولا تزال كلمة ”شن “تُسْتَخدم في اللهجةِ اليمنية، ويُقصد بها نفحات المطر، كما أنَّ الشنان اسمُ نباتٍ يُطْلَق عليه صابون العرب، ويُستَخدم كعلاج لعدد من الأمراض.
خصائص نقوش المسند العُماني:
أ- نقوش المسند العُماني عربية صِرف؛ جميعُ الأسماءِ والأفعالِ عربيَّة مألوفَة في المعاجم العربية، والقرآن الكريم، والشعر الجاهلي.
ب - أبجدية الكتابة المكتَشَفَة في عُمان ذات سِمات سَامية هي الأقدم في شبه الجزيرة العربية حتى الآن .وتُؤكِّد لنا هذه المُعطَيَات المادية أنَّ عرب جنوب الجزيرة العربية في عُمان، عرفوا الكتابة العربيّة منذ الألف الثالث قبل الميلاد، بالتزامن مع معرفة سُكَّان بلاد الرافدين بالكتابة المسمارية، وسكان مصر بالكتابة الهيروغليفية، خاصة وأنَّ حروفَ هذه الكتابة تتكرَّر في نُقوش ظفار، وهو ما يَجْعَلنا نُعِيد النظرَ في الفرضية القائلة بأنَّ الكتابة العربية قد ظهرتْ بعد كتابات الشرق الأدنى القديم.
ج - نقوش شمال عُمان ومنطقة الجوف وصحراء ظفار نُحِتَت على الجبال بوَاسِطة النَّقر، وبأسلوب الخطِّ المستقيم .أما نُقُوش كُهُوف وجبال ظفار في ظفار فقد رُسِمَت بالألوان.
د - تتميَّز النصوصُ النقشيَّة العُمانيَّة بتنوُّعها؛ حيث نجد في المنطقة الواحدة أكثر من نوع للكتابة، كما تتَّسم هذه النُّصوص بفرادتها؛ فالنصُّ النقشيُّ الواحِد يَجْمَع في ثناياه حروفًا ذات سِمَات عربية جنوبية، وثمودية مبكرة ومتأخرة، وصفوية ولحيانة، وحروف جديدة لم نَعْهَدها من قبل.
هـ- أبجدية لغات الجزيرة العربية لا تتعدَّى 29 حرفا، أما أبجدية عُمان فيزيدُ عددُها على 33 حرفًا تقريبًا.
و- الكتابات العربية القديمة المُكْتَشَفَة في الجزيرة العربية، ساكنة ليس لها أيَّة عَلَاقة بالكتابات المعاصِرة لها – كالكتابة المسمارية، والعيلامية، والهيروغليفية.
ز - الكتابة على أختام رأس الجنز يعود تاريخها إلى 2200 ق.م، والحروف العربية المنحُوتة على شكل رمز مونوجرامي -الذي عُثِر عليه بقرية شافع بولاية إزكي – في إحدى المقابر التي تنتمي إلى حقبة العصر البرونزي 3000-2700 ق.م ، هذه المعطيات تجعلنا نعيد النظر في الفرضية القائلة بأن أقدم كتابة عربية يعُود تاريخها إلى القرن الرابع عشر قبل الميلاد (Robin 1992:130) ،عُثِر عليها في موقع عين شمس بسوريا؛ فنحن أمام مُعْطَيَات جديدة تعُود بالكتابة العربية إلى مطلع الألف الثالث قبل الميلاد.
التوصيات:
– تُشكِّل نقوشُ المسند العُماني إرثًا حضاريًّا، ومصدرًا أساسيًّا من مصادر تاريخ عُمان القديم؛ لذا ينبغِي عَمَل مسحٍ شاملٍ لكلِّ النقوش في ربوع عُمان كافة، وتوثيقها ودراستها.
- حِمَاية هذه الكِتابة والحفاظ عليها مسؤولية وطنية كبيرة.
– لدراسة نُقُوش المسند العُماني أهمية كبيرة؛ كونها تَسْمَح لنا بتتبُّع تطور اللغة العربية القديمة منذ نشأتها الأولى.
- ضرُورة التعمُّق في دراسة اللغات العربية القديمة الحية؛ كالجبالية والمهرية؛ لتتبُّع نشأة وتطور اللغة العربية.
شكل (١)
شكل (٢)
شكل (٣)
———————————-
-C* Cleuziou, Serge Gnoli, Gherardo Robin, Christian Tosi, Maurizio.1994. Cachets inscrits de la fin du IIIe millénaire av. notre ère à Ra’s al-Junays, sultanat d’Oman (note d’information), Comptes rendus des séances de l’Académie des Inscriptions et Belles-Lettres Année 1994 Volume 138 Numéro 2 pp. 453-468
1,779 total views, 2 views today