نشأة الحياة والقفاز الأيسر.. حكاية تتحدَّى علماء الكيمياء
د. حيدر أحمد اللواتي
إذا كان العلماء قد قطعوا شوطًا كبيرًا في معرفة الأحداث التي صاحبتْ اللحظات الأولى من نشأة الكون، وكيف تكوَّن وتطوَّر، فإنهم يقفون عاجزين إلى يومنا هذا عن معرفة ما حدث في اللحظات الأولى لتكون الحياة على وجه الأرض.. في هذا المقال سوف نتناول حكاية واحدة من حكايات نشأة الحياة في هذا الكون، إنها حكاية القفاز الأيسر، وليتسع صدرك عزيزي القارئ، لسؤالي الذي سأبدأ به هذا المقال.
هل تعتقد أن كفك الأيسر صور مطابقة تمامًا لكفك الأيمن؟ حسنا قم بعمل الآتي خذ يدك اليمنى وحاول أن تضع كل إصبع فوق مثيله -لا مقابله؛ بحيث يكون إبهام اليد اليمنى على إبهام اليد اليسرى…وهكذا بقية الأصابع.
لاحظ أنك لن تستطيع القيام بذلك، وسوف تجد أنك لا تستطيع حتى أن تضع إصبعًا واحدًا على مثيله فضلاً عن كفك بأكمله، تمامًا كما هو موضَّح في الصورة أعلاه، حسنا قم الآن وخُذ قفازًا مخصصًا لكفك الأيمن، وحاول أن تلبسه في كفك الأيسر، هل يمكنك فعل ذلك؟ الإجابة لا، وهذا يعني أن كفك الأيسر ليس مطابقًا لكفك الأيمن؛ إذ لو كان مطابقًا لأمكنك فعل ذلك.. الآن قم بالآتي: ضع كفك الأيمن مقابل كفك الأيسر؛ بحيث يقابل إبهام كفك الأيمن إبهام كفك الأيسر، إذا قمت الآن ووضعت كفك الأيمن أمام المرآة لظهر كفك الأيسر!
ماذا يعني ذلك؟ الذي يعنيه أن كفك الأيسر ليس مطابقًا تمامًا لكفِّك الأيمن، وإنما هو صورة مرآتيه له، وهذا هو السبب الذي يمنع من قدرتك على لبس القفاز المخصص لكفك الأيمن بالأيسر.
أعتذر منك عزيزي القارئ إذا أحسست بنوع من الاستغراب من أن أبدأ مقالي هذا بهذا النوع من الحديث، والذي قد يبدو للبعض غير مُجْد ولا فائدة تُرجى منه.
والواقع أن هذا الحديث عن كفك الأيمن والأيسر ولبس القفاز له صلة مباشرة بمقالنا هذا؛ وذلك لأن هذا الحديث له صلة مباشرة بموضوعنا عن نشأة الحياة؛ لأن بعض المركبات الكيميائية لها صور مرآتية تمامًا كما ليدك اليمنى صور مرآتية هي يدك اليسرى.
سوف نخصِّص الحديث هنا عن عدد من مركبات الكربون؛ وذلك لأن الكربون عنصر مهم جدًّا، يدخل في تكوين عدد كبير من المركبات الحياتية؛ ومن مزاياه أنه يكون أربعة روابط كيميائية؛ أي أنه يستطيع أن يرتبط بأربع ذرات أو مجموعات كيميائية في آن واحد؛ فإذا ارتبط بأربع مجموعات أو ذرات مختلفة عبر عن ذرة الكربون تلك بأنها ذرة غير متناسقة، ويكون لهذا المركب مشابهة ضوئية؛ أي أن لهذه المركبات صورة مرآتية وهما يتشابهان تمامًا في خواصهما الكيميائية أو الفيزيائية كدرجة الغليان، وتفاعلهما مع المركبات الكيميائية الأخرى، والتي لا توجد لها مشابهات ضوئية، تمامًا كما لا يختلف كفك الأيمن عن كفك الأيسر في الشكل والحجم، ولكن هذه المشابهات الضوئية تتفاعل بشكل مغاير تمامًا عن بعضها عندما تتفاعل مع مشابهة ضوئية لمركب آخر، تمامًا كما أن كفك الأيسر والأيمن يتفاعلان بصورة مغايرة مع القفاز المخصص للكف الأيمن.
كما أنَّ هذه المشابهات الضوئية تختلف في قدرتها على التأثير في مسار الضوء المستقطب (نوع معين من الضوء يملك خواصَّ محددة)؛ فأحدهما يدير الضوء المستقطب في اتجاه دوران عقارب الساعة -أي إلى اليمين- لذا يسمَّى الصورة اليمينية (D) (Dextrorotatory) والآخر يديره في عكس اتجاه عقارب الساعة -أي إلى اليسار- لذا يسمَّى بالصورة اليسارية (L) (Levorotatory).
ولهذه المركبات أهمية خاصة في النظم البيولوجية؛ فمثلا جميع الأحماض الأمينية -والتي تعد اللبنة الأساسية لجميع الكائنات الحية- لها مشابهة ضوئية، ولها صورتان: صورة يمينية، والأخرى يسارية. ولكن تركيبتهما الكيميائية متطابقة تمامًا وبنسبة 100%، لكنَّ الغريب في الأمر أن في الطبيعة توجد الصورة اليسارية فقط؛ فجميع الأحماض الأمينية الموجودة في الطبيعة هي مشابهة ضوئية من نفس الصنف، والذي يعبر عنه باليسارية، ولا أثر للصورة اليمينية (D).
وهذا بدوره أدى إلى أن تكون جميع البروتينات من وحدات من الأحماض الأمينية من نوع واحد من المشابهة الضوئية وليس الاثنين معا فجميعها من النوع (L). الغريب في الأمر أن الحمض النووي المعروف بـ(DNA)، والذي يتكون من ملايين من جزيئات تعرف بـ(nucleotides)؛ فهذه جميعها من الصنف (D) فقط، ولا يوجد منها المشابهة الضوئية الأخرى والتي تعرف بـ(L).
قلنا إنَّ الأحماض الأمينية هي اللبنة الأساسية التي تتكون منها النظم البيولوجية؛ فإذا أمكننا معرفة كيفية تكوين هذه المركبات في بَدْء الخليقة لتوصلنا إلى كيفية نشوء الحياة في هذا الكون.
وللإجابة عن هذا التساؤل، قام ستانلي ميلر -وكان آنذاك طالبا يقوم بأبحاثه تحت إشراف د.هارولد سي يوري- بتجربته؛ وذلك في العام 1953.
حاول ستانلي أن يحاكي الظروف الجوية الموجودة في بداية الكون؛ حيث هيَّأ خلالها جوًّا مكوَّنًا من مزيج من الغازات افترض أنها كانت موجودة في بداية الكون، ثم قام بتوصيل تيار كهربائي إلى داخل هذا المزيج لمدة استمرت أسبوعًا تقريبًا، وفي نهاية هذه الفترة لاحظ أن بعض الأحماض الأمينية قد تركبت وتمازجت مع بعضها البعض.
كان لهذه التجربة صدى علمي كبير؛ لأنها أثبتت أنَّ اللبنة الأولى للحياة تولَّدت من مواد أولية بسيطة لا حياة فيها؛ وبذلك اعتبر الماديون أن هذه التجربة ألجمت كل من يقول بأن قوة خارجة عن المادة هي التي أوجدت الحياة.
لكنَّ تحليل هذه الأحماض الأمينية يوضِّح أنها كانت خليطًا بنسبة مُتساوية تمامًا بين المشابهتين الضوئيتين (R) و(L)، وعليه فلو تغاضينا جدلاً عن الإشكالات الأخرى على هذه التجربة، فإنَّ التجربة لا تفسر لنا كيفية تكوين الأحماض الأمينية في هذا الكون؛ لأننا كما ذكرنا آنفا، لا يوجد في الطبيعة سوى صنف واحد فقط من المشابهة الضوئية للأحماض الأمينية وهو (L)، بينما كان نتاج هذه التجربة خليطا من المشابهتين الضوئيتين وبنسب متساوية.
فإذن؛ كيف إذا تم تصنيع أول مركب يتكون من مشابهة واحدة يسارية (L)؟
الإجابة لكي تكوِّن أو تصنِّع مركبًا كيميائيًّا يتكوَّن من مشابه ضوئي واحد فقط -وليس خليطا- ولنطلق عليه مركب (س)، عليك أن تصنعه من مركب آخر يتكون من مشابه ضوئي واحد فقط ولنطلق عليه (ص)، ولكي نصنع المركب (ص) سنحتاج إلى مركب آخر فيتكون مشابه ضوئي واحد ولنطلق عليه (ع)…وهكذا.
ولذا؛ يبقى السؤال قائمًا: كيف تكوَّنت الأحماض الأمينية ذات الصورة اليسارية فقط؟
يقول العالم الكيميائي الشهير وليام بونر: “لقد قضيت 25 سنة أحاول أن أجد تفسيرًا لوجود نوع واحد من مركبات المشابهة الضوئية وكيف وجد، ولم أعثر على شيء”.
وما زال العلماء يحاولون الإجابة عن هذا التساؤل.. تُرى: هل سنصل إلى إجابة، أم أنَّ محاولاتنا سيكون مصيرها مصير من يحاول أن يلبس القفاز الأيسر في يده اليمنى؟
10,312 total views, 8 views today
Hits: 519