كمزار.. عروسٌ نائِمة
أ. مكيَّة بنت حسن الكمزاريَّة
كاتبة وباحثة
هذ الورقة طرحت في الجلسة الحوارية “الثراء اللغوي في سلطنة عمان” وتنشر بالتعاون مع مُؤسسة بيت الزبير.
————————————-
ذَكَر ياقوت الحموي -574 هجري- في “معجم البلدان” أنَّ كِمزار بُليدة من نواحِي عُمان، على ساحل بحره في وادٍ بين جبليْن، شُربهم من أعين عَذْبَة جارية) المجلد 4 ص: ( 479 وهو الاسمُ الذي سجَّلَه المسعودي في كتابه “مُرُوج الذهب”.
ولتفسير مَعْنَى الاسم أمامنا فريقَان؛ يقول الأول إنَّها أتتْ من اللباس العُماني البحري: الكمة والوزار؛ فكان اسمُها كُمزار بضم الكاف. أما الفريق الثاني، فيقول إنَّها كَمزار -بفتح الكاف- وهي الكَم الخبرية في العربية: كم زَار! لكثرةِ زُوَّار هذا المكان، وتميلُ الكاتبة للرأيِّ الثاني؛ إذ إنَّ اللباسَ البحريَّ لقرية كمزار بعيدٌ تمامًا عمَّا هو معرُوف في بقية سَوَاحل السلطنة؛ فيتأزَّر الصيَّاد الكمزاري بإزار وغِطاء للرأس، وليس كمة كما في التفسير الأول.
وتقعُ قرية كمزار -التابعة لولاية خَصَب في محافظة مسندم- بين ثنايا طيَّات الخلجان والفيوردات الشبيهة بالنرويج – حسب رأي الرحالة والسائحين؛ إذ حَبَاها الله موقعًا إستراتيجيًّا بجُغرافية تتخلَّل مضيق هرمز: البوابَّة التجارية والاقتصادية العالمية، والذي يعبر من خلاله نسبة عالية من النفط إلى مُختلف النقاط في مُختلف المحطَّات العالمية العَابِرة للقارات.
وبالرجوع للحقب الجغرافية التي مرَّت بالمنطقة، وتاريخ تحرُّك الصفائح التكتونية، نجد تلاحُم الأجزاء المتفرِّقة حاليًا بَيْن جبال مسندم وايران؛ الأمر الذي أدَّى لاشتراك المنطقة في الجُذور التاريخية. وبعد الانفصال الجغرافي، ظلَّت العوامل المشتركة بين الحضارتين مَاثِلة لليوم في الظَّوَاهر اللُّغوية والاجتماعيَّة، من عادات ولباس ومفردات -خاصَّة في الجزء الجنوبي من إيران حاليا؛ كالمناطق شديدة القرب من كمزار- ويُذكر أنَّ اللغة الكمزارية -بعد هذه المقدِّمة- باتتْ مُحصلة لكلِّ ما مَرَّ على المنطقة من تِجَارة عالمية أتتْ من أوروبا والهند والسند والعراق والكويت، وظروف جيُوسياسية، وتأثير الحضارات المارَّة عليها، وهي لغة غير سَامِية وحيدة في المنطقة -حسب موقع ويكيبيديا- ثرية الأصول؛ ففي مفرداتها تحملُ لغات عِدَّة؛ مثل: الهندية، والفارسية، والعربية، والبرتغالية، والبلوشية، والإنجليزية، والتركية، وهي لغةٌ غير مكتُوبة إلا أنَّ أصواتَها موجودة في العربية والسندية معًا.. ويتحدث بهذه اللغة:
- سُكَّان كمزار البالغ عددهم 1378 نسمة – حسب إحصاء عام 2010، التابع للمركز الوطني للإحصاء والمعلومات الحكومي.
– بعضُ سُكَّان ولاية خصب الذين استقروا بها للعمل والدراسة.
– بعضُ سُكَّان ولاية دبا الذين انحدَرُوا من أصول كمزارية.
وقبل الوُلُوج في ماهية هذه اللغة، يتوجَّب الحديث عن أهمِّ ما يُميِّز المعيشة في هذه المنطقة: فسُكانها لهم رِحْلَتان صيفًا لخصب وشتاء لكمزار؛ نظرًا لارتفاعِ درجات الحرارة في كمزار، واستراحة الصَّيادِين في هذا الوقت، ومُعظم أهلِها يعملُون في البحرِ، ونسبةٌ بسيطةٌ جدًّا تستزرع أعالِي كمزار شتاءً في بعض المحاصيل المحدودة وجني العسل، وتحتوي كمزار على بِئر ماء عذبة حِيْكَت حَوْلَها أساطير وقصص كثيرة، إلا أنَّها مَوْرِد ماء عذب للصَّيادين المارَّة عبر مياه البحار شديدة الملوحة للاستراحة وتعبئة المياه العذبة، وهذه البئر موجودة لليوم، وتتمُّ حولها أغلب حفلات الزفاف؛ فيتم تغسيل المعرس بمائها، وهي محل تقدير من قبل السُّكان.
وإذا ما عُدنا الى اللغة الكمزارية، بعد ما ذكرنا سالِفا عن غِنَى مُفْرَداتها باللغات: التركية، والفارسية، والبلوشية، والإنجليزية، وشيئا ربما من البرتغالية التي هِي محلُّ خِلَاف – فمن قائلٍ يقول إنَّ الاستعمارَ البرتغاليَّ لم يكن طويلا حتى يُؤثِّر في اللغة، وقائل بأنَّ الاستعمارَ أثَّر حتى في الجينات وبعض المعالم البشرية؛ فتأثُّر اللغة وارد، وهو أمر يفترض التسليم به حتى يثبت العكس.. ومن أهم مميزات هذه اللغة:
- غالبية الجُمَل فيها جمل اسمية؛ مثال: دوشو ريسسم وسا شم باجر (الترجمة الحرفية : أمس عُدت، والآن سأذهب). إلا أنَّ الجُمل الفعلية أيضا موجودة : تلفون كن ب فالن (في جُمَل فعل الأمر).
– احتواؤها على معظم حروف اللغة العربية، عدا حروف “ث، ذ، ظ”.
- عدم نُطق العين الصريحة: فيقولون “ساءتمي”؛ أي: “ساعتي”.
- الراء الرقيقة: روروي؛ أي: أبنائي.
– وُجُود p إلى جانب الباء الفصيحة: بيدم )بالـp ) وتعني: وارم.
- وُجُود g؛ مثل: جردنمي؛ أي: رقبتي.
– وُجُود الأصوات المركَّبة -كما في هجائية أهل السند- مثل (Ch)؛ حين يقولون: تشابيئي: (الترجمة: كيف حالك؟).
- وُجُود فعل الأمر الصريح: “كتبكن”؛ أي: “اكتب”.
– وُجُود قرائن للفعل المضارع: نشتي كتبتكا؛ أي: الآن يكتب. وقرائن للفعل الماضي: دوشو رفت؛ أي: أمس ذهب.
- وُجُود ما نُسمِّيه في اللغة العربية النحت )في العربية يُسمُّون الحوقلة؛ أي: لا حول ولا قوة إلا بالله)؛ فيقولون في الكمزارية “بيو شره”، وهي تغيير في البيع والشراء؛ فجاءت في الكمزارية مُركَّبة مع تغييرات صَوْتية.
– وُجُود كلمات قديمة في العربية؛ كتسمية القميص قابا، وبالعربية اسمها قباءة.
- وُجُود الجناس -وهو كلمات تحمل معنيين- حيث يُطْلِقون على الصلاة نواز، وعلى يوم الغد نواز، وما يُفرِّق بينها السِّياق، ويقولون: سوور؛ أي: عرس، وسور بتفخيم الواو أي: أكلة المالح المعروفة، وسورو أي: الدبور.
– وُجُود حَكَايَا وقَصَص باللغة الكمزارية مُتَّحدة البدايات؛ مثل ما نعرفه: “كان يا ما كان” .. إلخ، يقولون: “رفت تيسكني وآما حكايتي” (ما معناه: ذهب الموقف وظلت كحكاية).
– وُجُود بعض الأهازيج الخاصة ببعض المناسبات والعادات؛ كعادة جلوس الطفل فيُغنُّون له: “كوس كوس بي شرقي حتى غربي كوس كوس ببالا حتى زيرن”؛ وما معناه :تمنياتهم للطفل أن يطوف الدنيا شرقا وغربا وشمالا وجنوبا تفاؤلا ببداية جلوسه دُوْن اعتمادِه على إسناد أحد، إضافة إلى بعض العادات الأخرى في البحر، أو ختم القرآن الكريم، أو الأعراس.
– عدم وُجُود نصٍّ شعريٍّ باللغة الكمزارية؛ أي أنَّ الكمزارية لغة نثرية وليست شعرية.
– لغة فنونها الشعبية هي اللغة العربية.
– وُجُود الكلمات لأجنبيَّة الأصل؛ مثل ” :دور”؛ أي : باب . و”سليو”؛ أي: بطيء. و”أنجنير”؛ أي: مهندس.
- اقتراب بعض الكلمات من مَعْنَاها في الفارسية؛ كقولهم للماء “آو”، وهي في الفارسية “آب” وقولهم لليل “شو ” وهو في الفارسية “شب”.
.. وستبقَى الكمزارية حيَّة في ألسنة أبنائها الذين بدَوْرِهم يُدْخِلون مُفَرَدات جديدة عليها كلَّ يوم، وما هذا المقال سوى خُطْوَة في تأصيل هذه اللغة.
8,145 total views, 2 views today
Hits: 1572