عبدالله بن قاسم الهميمي روح الفنان وأصالة إبداعه
سما عيسى – كاتب وناقد سينمائي
ورقة مُقدمة ضمن احتفائية المركز الثقافي بنزوى، ضمن سلسلة ندوات عبدالله بن قاسم الهميمي الفكرية ”من أعلامنا”
يَذْهَب الباحثُون مِمَّن درس تصميم المحاريب ونقشها في المساجد العُمانية، إلى أنَّ أقدم مِحْرَاب مُزخرف حفظه الزمن من التلف والضياع والكسر، هو مِحْرَاب جامع سعال بنزوى، والذي يعُود تصميمه ونقشه إلى العام 650هـ/1252م، وصولًا إلى آخر مِحْرَاب أُرِّخ تصميمه وزخرفته وهو مِحْرَاب مسجد الأغبري بسمائل المُؤرَّخ في العام 1245هـ/1829م، أي في عهد السيد سعيد بن سلطان البوسعيدي، مِثلما تذكُر كتابة على المِحْرَاب، دون أن يذكُر اسم صانعه وناقشه، والأمر كذلك بالنسبة لمِحْرَاب جامع سعال؛ حيث نحتفظُ فقط بالاسم الأول للنقاش محمد، مع عدم بقاء اسم أبيه ولقبه.
أي أنَّ بين المِحْرَابين الأول والأخير زهاء فترة امتدت ستة قرون، وهي فترة كفيلة بنضج الشخصية الفنية لدى النقاشين العُمانيين، الذين تتالتْ أعمالهم جيلًا بعد جيل، رغم فترةِ انقطاعٍ طويلة حَدَثت بين تصميم وزخرفة المِحْرَاب الأول، واستئناف التجربة متواصلة فيما بعد. هذا التطوُّر الفني رَفَد تجربته من مؤثرات مختلفة؛ سواء من آسيا أو إفريقيا، لكنها في النهاية حافظتْ -أي التجربة- على كَمَال ونُضج الشخصية الفنية العُمانية، والتي نحنُ اليوم بصَدَد الاحتفاءِ بواحدٍ من أهم رمُوزها المصمِّم والنقاش عبدالله بن قاسم الهميمي، الذي أبدع تجربته المتميزة في الربع الأول من القرن العاشر الهجري / الربع الأول من القرن السادس عشر الميلادي.
(1)
وعلى صعيد الدراسات والأبحاث التي قُدِّمت حول مدرسة النقش على المحاريب في المساجد العُمانية، نُجمِل أهمها على النحو التالي:
1- دراسة الباحثة مونيك كيرفان المنشورة عام 1996م.
2- الكتابة في المساجد العُمانية القديمة.
للدكتور إيروس بلدسيرا – أستاذ الأدب العربي بجامعة البندقية في إيطاليا، والصادر في 1994 عن وزارة التراث والثقافة.
3- مساجد عُمان وأضرحتها التاريخية.
للأستاذ باولو م.كوستا – جامعة بولونيا/إيطاليا 2001م، ترجمه إلى العربية الدكتور عبدالله الحراصي عام 2006م، والصادر عن وزارة الأوقاف والشؤون الدينية.
4- الفن الإسلامي في عُمان.
موسوعة ألَّفها الدكتور عبدالرحمن السالمي، والدكتور هاينز جوبي، والدكتور لورنز كورن، الصادرة عن وزارة الأوقاف والشؤون الدينية 2014م باللغة الإنجليزية، ترجمها إلى العربية الدكتور هلال الحجري.
(2)
الحد الأعلى للمحاريب الجبسية المنقوشة -التي تم مسحها حتى الآن- يبلغ عددها 29 مِحْرَابا، توزَّعت على الأزمنة التالية: مِحْرَاب واحد يعود للقرن السابع الهجري / الثالث عشر الميلادي.
أ- 16 مِحْرَابا تعود للقرن العاشر الهجري / السادس عشر الميلادي.
ب- 3 محاريب تعود للقرن الحادي عشر الهجري / السابع عشر الميلادي.
ج- 9 محاريب تعود للقرن الثالث عشر الهجري / التاسع عشر الميلادي.
مُساهمة النقَّاش والمُصمِّم عبدالله بن قاسم بن محمد الهميمي، توزَّعت على الأمكنة والأزمنة التالية:
مسجد العالي بمنح – أُنجِز عام 909 هـ/ 1503م.
مسجد العين بمنح – أُنجِز عام 911 هـ/ 1505م.
مسجد الجامع ببهلا – أُنجِز عام 917هـ/ 1511م.
مسجد الشراة بمنح – أُنجِز عام 922هـ/ 1516م.
* مسجد الشرجة بنزوى – أُنجِز عام 924هـ/ 1518م.
مِمَّا هو لافت للنظر أيضا أنَّ تجربته الأولى في مسجد العالي بمنح، كان المتكفل بإنجازها وهب بن أحمد، بينما يحضر اسم ابنه عبدالله بن وهب كقائم على تجربته في جامع بهلا، وفي مِحْرَاب مسجد العين بمنح. أما في مسجد الشراة بمنح ومسجد الشرجة بنزوى، فتحضر أسماء عديدة أخرى.
(3)
عَوْدَة إلى دِراسة مونيك كيرفان -والمنشورة عام 1996م- تذهب في دراستها إلى أن تجربة النقَّاشين العُمانيين مُستمدة في تكوينها الفني من النقش الفارسي، أبعد من ذلك تقول إنَّ المحاريب العُمانية مثَّلت نموذجًا للمحافظة على تقاليد إيرانية عريقة؛ أي أنَّها ترى أنَّ العُمانيين نقلوا بشكل حرفي تجربة النقش الفارسي الذي سبقهم بعدة قرون. تعقد كيرفان مقارنة بين بعض المحاريب في إيران مثل مِحْرَاب مسجد نايين المصمم عام 350هـ /960م، ومِحْرَاب مسجد أصفهان المصمم عام 1310هـ/ 960م من جهة، وبين مِحْرَاب جامع سعال بنزوى المصمم عام 650هـ، ومحاريب المرحلة اللاحقة التي صمَّمها عبدالله بن قاسم الهميمي، وعائلة شمل المنحي وغيرهم في القرن العاشر الهجري.
عودةً إلى دراسة لاحقة لدراسة مونيك كيرفان، قدَّمها الأستاذ باولو كوستا، من جامعة بولونيا بإيطاليا، ونشرها ضمن مؤلفه “مساجد عُمان وأضرحتها التاريخية”، والصادر عام 2006م عن وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، وترجمه للعربية الدكتور عبدالله الحراصي، وهو حصيلة جُهُود استمرَّت عشرة أعوام في الفترة ما بين 1976-1986م.
ينتقدُ الأستاذ باولو كوستا ما أسمَاه بالتبسيط الذي أقدمت عليه مونيك كيرفان، والتي بكلِّ بساطة لم تَر في النقَّاشين العُمانيين غير نقلة لذوق وتقنيات الفرس، مُستخلصا وجود تأثيرات أخرى غير فارسية؛ أهمها: ثقافة شعوب البحر الأبيض المتوسط، مُنتبها إلى كثيرٍ من الاختلافات في تجربة النقاشين العُمانيين، بينهم وبين النقاشين الفرس، مثل التشبيك الضفيري الذي يتخذ لديهم شكل منحنى الأضلاع، وذلك بتأثير من ثقافة البحر الأبيض المتوسط، في الوقت الذي يكون فيه التشبيك الفارسي مستقيم الخطوط. كما لاحظ أيضا اختلاف وضع النجمات في كلا التجربتين، حيث جاءت لدى العُمانيين متضافرة، أي على هيئة ظفيرة، في الوقت الذي رصت فيه رصا بمسجد بنايين الفارسي.
فريق عمل وزارة الأوقاف والشؤون الدينية -المُؤلَّف من: الدكتور عبدالرحمن السالمي، والدكتور هاينز جوبي، والدكتور لورنز كورن- ذهب إلى تفرُّد العُمانيين في تصاميم زخرفية متميزة مختلفة؛ ابتداءً من مِحْرَاب جامع سعال في القرن السابع الهجري، حتى آخر تجاربهم في مِحْرَاب مسجد الأغبري بسمائل والمنجز عام 1245هـ/1829م؛ وذلك عبر دراسة عميقة تناولت الفراغ المجوَّف الهلالي الشكل للقوس الخارجي بمِحْرَاب مسجد سعال، في الوقت الذي كانتْ فيه المحاريب الفارسية ذات فراغات مجوفة زهرية، والفراغات المجوفة بمسجد سعال جاءتْ بتصميم زهرة سباعية التويجات، ذات وحدة زخرفية مركزية. يحيط الحد المرصع بلؤلؤة في هذه الوحدة الزخرفية المركزية؛ وذلك بكتابة قرآنية دائرية؛ على سرير من الزهور وضفيرة من الكواكب؛ ذلك مثلما يرى المؤلفون أقرب إلى الفن الفاطمي منه إلى الفن الفارسي؛ الذي ربما عرفه العُمانيون عبر اليمن القريبة منهم جغرافيا وحضاريا.
الأهمُّ هُنا أنَّ مِحْرَاب جامع سعال يُعتبر المِحْرَاب الأساس؛ في تجربة النقاشين العُمانيين لأقدميته (650هـ)؛ إذ إنَّ كافة المحاريب اللاحقة جاءت بعدة مئات من الأعوام، وهنا ونحن نتَّخذ من النقاش عبدالله بن قاسم بن محمد الهميمي نموذجا، يجدر بِنَا دراسة الإضافات المتميزة لتجربته، مقارنة بالمرجع الأساس، لنقف على تميز وأهمية موهبة النقاش الهميمي.
(4)
الأهم في تجربة النقاش الهميمي، هو اعتماده على عنصر التجريب المتنوع والمختلف من مِحْرَاب إلى آخر، دون الركون إلى صيغة ثابتة؛ ذلك تم دون أن يترك تأثيره الواضح فنيًّا بالمِحْرَاب الأساس في جامع سعال؛ إذ يتمثَّل تأثره واضحا في تمسكه بالضفيرة منحنية الأضلاع، والأثر العام لسطح منبسط مغطَّى بجبس منقوش، لكنه أيضًا استلهم مؤثرات أخرى أسهمت في تغذية موهبته المتميزة، والدفع بها إلى ابتكار اتجاه خاص به في زخرفة المِحْرَاب العُماني.
نُجمِل إضافاته المتميزة في النقاط التالية:
1) التجريب المستمر في العمل، دون الركون لصيغة محددة ثابتة، استخدامه القرميد المقولب في مسجد العالي بمنح المنجز عام 909هـ، ثم ليترك استخدامه في مسجد العين بمنح عام 911هـ، ليعود إلى استخدامه في مِحْرَاب جامع بهلا عام 917هـ.
2) تنبثق الأقواس في مسجد سعال من قاعدة المِحْرَاب، بينما اعتمد الهميمي في تركيبها بمسجد العين؛ على فكرة الأقواس المتراكبة على بعضها البعض.
3) زخرفة الأزهار بمسجد العين توسَّطها طائر العنقاء، كما أنه أدرج وحدة زخرفية إضافية على شكل طوق من العقد المركبة، تتعاقب ووحدات زخرفية زهرية.
4) تصميم مِحْرَاب له رأس بصلة في جامع بهلا، ثم الإقلاع عنه إلى مِحْرَاب بقلنسوة في مسجد الشراة بمنح؛ ليُصبح بعد ذلك تقليدا تسير عليه تصاميم المحاريب في عُمان عامة.
5) الاستفادة من تقليد النقش المزدهر آنذاك باليمن عبر استخدام السكين الحاد في النقش الغائر لوحدات زخرفية هندسية مختلفة.
6) استخدام الخطين الكوفي والنسخ معافي تتال جمالي، كما هو في مِحْرَاب مسجد العالي بمنح؛ حيث نقشت الشهادة على سطر ضخم بالخط الكوفي، يتبعه سطر مزدوج بخط النسخ.
7) استخدام الطاسات الخزفية لأغراض الزينة في المساجد، يؤرخ ذلك لأول مرة في مِحْرَاب مسجد العين بمنح عام 911هـ/1505م؛ حيث وضع صحن خزفي كبير في وسط الكوة العليا للمِحْرَاب. كرر الهميمي ذلك لاحقا في مِحْرَاب مسجد الشرجة بنزوى، وهو آخر إنجازاته عام 924هـ/1518م.
وحول استخدام الطاسات الخزفية في القرن العاشر الميلادي، يذهب الأستاذ كوستا إلى أنَّ العُمانيين جلبوا هذا التأثير من شرق إفريقيا، من مدن أونغوانا وجيدي ومافوي وكلوه، وهي فترة عرفت دورة تصدير الخزف الصيني إلى العالم، والذي تعهدته حكومة منج الصينية.
(5)
كَتَب الأستاذ باولو كوستا مُتحدِّثا عن تجربة النقاش الهميمي في مِحْرَاب جامع بهلا خاصة: “إنَّ الآثار المتبقية من زخرفة المِحْرَاب في جامع بهلا مثيرة، خصوصا في أسلوبها وتقنية الجص التي تظهر في أعلى التجويف. وهنا، تأخد الأوراق الضخمة والأزهار والصرر أشكالا ثلاثية الأبعاد تبرُز من خلفية ملساء. وليس لهذه الزخرفة شبيه في عُمان وشبه الجزيرة العربية”. يذهب بعد ذلك مُقَارِنًا بين زخرفة جامع بهلا وزخرفة مِحْرَاب قبر (Alaviyan) بإيران، والذي صُمِّم في القرن السادس الهجري، يذهب مُستخلصا بأن لا علاقة مباشرة بين المبنيين؛ نظرا للفاصل الزمني بين التجربتين، فضلا عن ملاحظته المهمة بأنَّ كل المحاريب في عُمان تعتبر عناصر منفصلة عن المساجد المسيجة بها، بخلاف مِحْرَاب همدان الذي هو جُزء لا يتجزأ من القبر بأكمله، وهو المِحْرَاب الذي اعتمدته مونيك كيرفان نموذجا تقلل به أصالة مدرسة النقش العُماني ومواهب مبدعيها.
(6)
هل قدَّم النقاش الهميمي وأبناء جيله من النقَّاشين العُمانيين أسلوبا متميزا وإبداعيا في النقش على المحاريب وتصميمها؟
دُون شك، لا نُنكِر التأثير الخارجي عليهم؛ سواء كان من أرض فارس أو اليمن أو مصر أو الهند أو إفريقيا، إلا أنَّ هذا القول يأتي في سياق إيجابي؛ بمعنى انفتاحهم على العالم وتفاعلهم معه، أي عدم انغلاقهم وتقوقعهم. كلُّ هذا التأثير الخارجي لم يستطع طَمْس الأساليب الخاصة في النقش لدى الهميمي وزملائه. مدرسة النقش العُماني تركت لنا إرثا جماليًّا يقف شاهدا على حُبِّ العُمانيين للفنون، لا يتعارض ذلك أبدًا مع انتماءاتهم الدينية والإسلامية، التي عرفوا بالتمسك والاعتزاز بها، بل وبالدفاع عنها ونصرتها وإعلائها على مر العصور.
2,956 total views, 2 views today
Hits: 470