أدب الطفل.. بَيْن همُوم الأسرة وتحدِّيات العَصْر
إذا كان النصُّ الأدبيُّ للطفل لا يستطيع أنْ يُجَاري الصُّورة الجميلة في شدِّ انتباه الأذهان الصغيرة إليه، إلا أنَّ له ميزة لا تستطيع كل صُور العالم الجميلة أنْ تجاريه فيه، وتلك المَيْزة هي أنَّه يؤهل الطفل تدريجيا لأن يحاكي في عقله الصغير النص، ويبتكر مثيلا له بأنْ يلبس مخيلته المُرهفة حُللا قشيبَة تُمكنه يومًا بعد يوم من أنْ يبرع في سَكب الأدب على الورق الأبيض.
والأديبُ السوريُّ مُهنَّد العاقوص، أحد روَّاد صناعة قصة الطفل في الوطن العربي، الذي يَحكي عن أُوْلى أيَّام حياته الناعمة والغليظة في آن واحد؛ فيقول: وُلدتُ في أحد المخيَّمات؛ حيث الحكايات تولَد مرسومة على الجدران، وعلى وُجوه الفقراء، عملتُ بائعًا متجوِّلًا في طفولتي، فاختزنتْ ذاكرتي حكايات تتدفق مثل شلال يركض بطفولة لعِناق كل الأطفال العطشى، الذين قد ترويهم كلمة صادقة تخرج من قلب لا يزال يجُول في حارات دمشق، قاطفا الياسمين، ممتلئا بالهديل والزقزقات، ناثِرا صدى خُطوات حذاء صغير مُهترِئ يقفزُ بكلِّ سعادة نحو مغامرات صارت حكايات للجميع.
ويتابع: “بعدها، عملتُ مُعلِّما للأطفال، فتعلمت منهم أنَّ الأحلام التي تولد من ثقب إبرة، قد تُصبح سماءً، وأنَّ القلب كالناي، كُلَّما صدقت نواياه ازداد العُشب والقطيع والالحان، ثم عملتُ مُعلِّما مع الأطفال المكفوفين، فادركتُ أنَّ النور الذي يخرُج من الظلام يدُوم طويلا؛ فكتبتُ لهم كي أضِيء لهم ساعات الدرس؛ فاضاؤوا لي مُستقبلا لا تنطفئ فيه فوانيس الكلمات، ومعهُم بدأ الطريق، وبدأتْ الحكاية؛ لأصِير كاتبا بنتاجٍ غزير في: القصَّة، والشِّعر، والمَسرح، والرُّواية، والسِّيناريو مُتدِّرجا في وظائف عديدة “أمين تحرير، مُدير تحرير، رئيس تحرير، مُترجم، مُدرب ومُعد للبرامج الإذاعية والتليفزيونية”.
—————————————————-
أجرى الحوار :محمد بن رضا اللواتي
—————————————————-
اختار مُهنَّد أن يُبقي الطِّفل في حجرِه وهو يُسمعه حكايات المساء الدَّافئ، فيملأ قلبُه بالحنان والأمل والجمال.. لماذا؟
في بدايتي، كتبتُ الشِّعر والقصَّة للكبار، وحققتُ جائزة بالقصة القصيرة، لكنَّ صَوت الطفولة كان يجرفني نحو أفق أكثر اتساعًا؛ مِمَّا يضيق به عالم الكبار؛ فأنت حِين تخاطب الكبار قد تؤثر، وقد تفشل بالتأثير على وعيهم، لكنَّك حين تعمل مع الأطفال، فإنك بطريقة ما تُغيِّر شيئا في كوكب ازداد فيه وعي الصغار، وازدادتْ نسبة الأكسجين في رئتيه.
حلمتُ أن أصير شاعرًا كنِزار قباني، أو قاصًّا محترفا مثل زكريا تامر، أو رُوائيًّا مثل حنَّا مِينا، أو مسرحيًّا مثل سعد الله ونوس وممدوح عدوان.. كانت رُوْحي تحلُم في هذا العالم الإبداعي الواسع. ولأنَّ طاقة الكَوْن تتناغم مع الطاقة الإنسانية، وجدت القدر يرتب لي المواعيد مع أدب الطفل، ليكبُر الحلم مِثلما يكبُر الأطفال فجأة، لأكتُب حُالمًا بأنْ أكون الأفضل في هذا المجال على الإطلاق، وأن أكُون كجدي سليمان العيسى، وكالعظيمة السويدية أستريد ليندغرين، خليَّة حيَّة تُسَاعِد هذا الجسد الإنساني الواحد على أنْ يَحْيَا بشكلٍ أفضل، وبكامل عافيته.
ما أهميَّة أدب الطفل ورسالته في الوقت الحاضر؟
إنَّ أدبَ الطفل هو أهم ما يُنتجه الفكر الابداعي من فنون وآداب حاليًا؛ فقد تنبِّه الجميع لضرُورة التعلُّم بالاستمتاع، وصار أدب الطفل هو الحافلة الملوَّنة المتَّجِهة نَحو الآفاقِ الرحبة، وهو الحقنة الواقية التي بها نتفادَى أمراض تَنْشأ عند من يُعَانون من نقص مَناعة فنية وأدبية وقيمية في الصِّغر، وهو الجِسر بَيْن الماضي والمستقبل لشُعوب تَطْمَح لمد أيادي المحبَّة والسلام لبعضها، وأدبُ الطفل هو إستراتيجيَّة مُتَكامِلة يُخطط لها العقل الواعي لترتقي به الأمم وتزدهر.
تَزداد قصص الأطفال، وتتوافر على رُفوف معارض الكتب بشكل لافت، لكن رُبَّما تختلف هذه الأعمال من زاوية الجودة.. فما رأيك؟
هذا أدبُ الطفل عامَّة، لكنه عِنْدَنا يكاد يكُون أدبًا ربحيًّا لم تتبلوَر ملامحه الاحترافية بعد، فنجد تباينات تستعصي على الفهم أحيانا، وهذا لا يلغي التطوُّر الكبير الذي شَهده أدبُ الطفل في العالم العربي في السنوات الأخيرة؛ فكُتب الأطفال ملأت الرُّفوف والواجهات، لكن هل ملأت مكتبات المنازل؟ وهل وصلتْ إلى الوعي الباطن لتغيِّر شيئا ما في حياة الطفل نحو الأفضل؟
لا أُنْكِر وُجود بعضِ الأدب الراقي عربيًّا استطاعوا الوصول للعالمية، لكنَّ الطُّموح أنْ يُصبح للأدب العربي ملامح تميِّزه، وتطلعات مُنبثقة عن بنات أفكاره، وتبقَى التمنياتُ أن نُقدِّم أفلامَ رُسوم مُتحركة “آنيميشن” تصلُ إلى العالمية؛ فنؤكد عَبْرَها أنَّنا فاعلون، وأصحاب حِرَاك إنساني إبداعي.
ما هي أهم عَنَاصر نَجاح القصص المُوجَّهة للطفل؟ وكيف للمربِّي أنْ يُحدد المعايير في اختيار القصة المناسبة للطفل؟
من تجرِبتي، وجدتُ الصِّدق في الخطاب، واحترام الآخر على أنَّه كائنٌ ذكيٌّ قارِئ لما تختزنه الكلمات من قُوَّة كامِنة تتفجر عِنْدَما تلامسها العين، لتُخبرنا بمَكنُونات الكاتب، وما يشعر ويُريد إيصاله؛ لذلك أَرى الصِّدق والعُمق والخَيال من أهمِّ عَوَامل نجاح القصة، والقصَّة الجيدة لها فعل الحلوى، قد لا نُدرِك تركيبتها، ولا نعرفُ سرَّ مَذاقها، لكنَّنا نستسلمُ لِمَا تتركه من أثرٍ جميلٍ فينا.
والتَّسَاؤل: هل كلُّ الحَلوى مُفِيْدة؟
للأسف، ليس كلُّ ما تُحبه العين هو مُفيد وجيِّد؛ لذلك على الأهل أنْ يمتلكُوا الثقافة والقُدرة على الاختيارِ الجيِّد بِمَا يَتَنَاسب مع المُيول، ويُعزِّز القيم، ويُطلِق الخيال، ويخلُق تساؤلات تَتَنَاسب مع الفئةِ العمرية، وتدريب الطِّفل على الاختيارِ بنفسِهِ، بعد التأكُّد من صَوَابية ذائقتِه الفنيَّة والأدبيَّة.
وَقَبل أنْ تأتي مسؤوليَّة الأهل والمربِّين، تَقَع المسؤوليَّة على الجِهات العُليا وأسواق المال التي تُوجِّه السوق والناشر والكاتب، نحو بنك قَضَايا قد لا تكُون دائمًا بنَّاءة وسلِيْمَة، خاصَّة عِند الارتجالِ والعشوائيَّة في الحِرَاك الأدبيِّ في هذا المَيْدان.
كَيْف تُقيِّمون تجربة أدب الطفل والتَّأليف في السلطنة؟
فِي سلطنةِ عُمان بَدَأ نسيمُ أدب الطفل يهبُّ مُنعِشًا الرُّوح الفتيَّة التي أُرَاهن أنَّها ستَتصدَّر المشهد قريبًا، رغم أنَّ التجربة لا تَزَال مُقيَّدة بعض الشيء، ولم تُنَافس الرِّواية والشِّعر والقِصَّة التي تميَّز بها العُمانيون.
وَمَا أهمُّ التحدِّيات التي تُوَاجهها هذه الصِّناعة في السلطنة تحديدًا؟
أدبُ الطِّفل هُنَا لا يَزال بعيدًا عن الدعم، وهذا أخطر ما يُوَاجِهه من تحدِّيات، وأعتقد أنَّ السببَ هو أننا لا نَعِي القدرة الاستثمارية لأدب الطفل؛ فلو تكلَّمنا على مُستوى الإستراتيجيات، فإنَّ كلَّ نظريات الدُّنيا تُؤكِّد أنَّ الاستثمارَ بالإنسان هو أهم أنواع الاستثمار، وهُنَاك شواهد كثيرة على أُممٍ نهضتْ بفضلِ الاهتمام بمرحلةِ الطفولة، فأنتَ حِيْن تُعد طفلًا واعيًا مُثقَّفا، سيُسهم هذا الطفل مُستقبلا بطريقةٍ ما في رفدِ مُقدِّرات الدولة، وإن بسَّطنا الأمور لننظُر من زاويةٍ ربحيةٍ، فإنَّني اسأل كلَّ مستثمر “هل تعلم أنَّ إنتاج فيلم “آنيميشن” جيد، يعود عليك بربح لا تُحقِّقه بأي منتج آخر؟”.
ومن هُنا، تنشَأ أهميَّة الاهتمام بالحركة الأدبيَّة التي يُحَاول العُماني إيلاءها لأدب الطفل عبر طاقاته التي لا ينقُصهَا سِوَى الدَّعْم والقَرَارات، وتَخْلِيص العجلةِ من الرُّوتين والبيروقراطيَّة والتقوقُع الجغرافي.
إنَّ بِناء البنية الأساسية، أو دعنا نقُول توفير التربة الخَصْبة، يبدأ عبر قَرَارات حُكوميَّة فعَّالة تضخ الدم في عُروق الجِهَات المؤثِّرة في الوعي المجتمعي بأهميَّة أدبِ الطفل، ثمَّ يأتي دَوْر الأهل والمدربين والتربويين ليكُونوا قُدوةً تستهلكُ الثقافة إيجابيًّا، وتخلقُ جيلاً من الأطفال يستهلك الأدب بكل مَحبَّة وتفاعل وإيجابية.
وَهَذَا ينطبقُ على الأدبِ القادم من خَارج الحدود؛ فنحن لَسْنا في قوقعة مُنعزلة، بل كَان الدَّور الحضاري للعَرب قائمًا على إنتاجِ المعرفة وترجمتِها ونقلِها؛ فلا أجد مُبرِّرا للخوف من ثقافة الآخر التي تغني ثقافتنا، شرط ألا تتعارَض مع قيمنا: الوطنية، والمجتمعية، والأخلاقية، والدينية؛ لذلك يُنْصَح بترجمةِ ما يُسمَّى بـ”الأدب الإنساني”، الذي يُقرب الشعوب، ويناسب الإنسان أينمَا كان في أرضٍ هي وطن واحد يسكُنه شعب واحد، لكن كلَّ هذا بشرط أن نُنتج الفكرَ الذي يُنَاسِبنا ونُلقِّحه بما يغنيه. أما الاعتماد الكلي على ما يَأتي مِن وَرَاء الحُدُود، فهُو تبعيَّة فكريَّة قد تَنْشَأ عنها سلبيَّات كبيرة. وبشكل عام، فإنَّ التعريبَ أجدى من الترجمة لأنَّه ينقي الأفكار، ويُلائمها مع البيئة واللغة، ولا نغفل عن ضرورة المُوَازنة بَيْن ما نُترجِمه من لغات أخرى، وما نُترجمه إلى لغات أخرى من أدبنا الذي في بَعْضِه يحملُ ملامح إنسانية مُشرفة.
.. أنا أرَى أنَّ مُعدَّلات القراءة لم تَنْخَفِض، لكن هي عِبَارة عامَّة يُطلقها الناس في كلِّ مكان وزمان. فالكتابُ خَضَع لمنافسةٍ شرسةٍ من مُنافسين كُثر عبر تاريخه؛ فكان يُحَافِظ على مكانته، إنَّ اكتشاف فاكهة جديدة لن يدفعنا لإهمال باقي الفاكهة، وليس المطلوب مِنَّا المقارنة بين الكتاب ومنافسيه، بقدر ما علينا فَلْتَرة كلِّ هذه المنابع، لنقدِّم للطفل أعذب ما يَرْوِي فكرَه وروحَه.
المُنتَج الجيِّد هو أفضل دِعَاية؛ لذلك أرَى كل كتاب جيد هو دعوة وترويج للقراءة، إضافة إلى ضَرُورة امتلاكِ تقنيات القراءةِ الإبداعيَّة، والعاطفيَّة، والتفاعليَّة، وإنتاج الكتب التفاعليَّة التي تُؤاخي بين الورق والتكنولوجيا، وهُنَا نشير رافعين القُبَّعة إلى كل المبادرات والمسابقات والميزانيات التي خُصِّصت، مُؤخرا، للترويجِ للقراءة في الوطن العربي، ولإنتاج كتاب عصري.
الكتاب ليس المصدر الوحيد لأدب الطفل؛ فالمسرح هو السِّحر الأكبر والأقدر على مُخَاطبة الطفل، والصُّورة هي لغة العَصر؛ لذلك نحن بانتظار شاشات تليفزيونيَّة وسينمائيَّة -عُمانيَّة وعربيَّة- تُثبت أنَّنا أصحاب رُؤى سليمة، تُدرك أنَّ معركة الوعي يربحُها أولئك الذين يعرفون كيف يرسمُون إستراتيجيات كبرى، نواتُها طِفل تأدَّب ليكبر وتكُبر به الأوطان.
5,961 total views, 2 views today
Hits: 464