أهل الكهف.. “النائمون السبعة”
كثيرٌ من القصص القرآنية نجدُ لها أصولا في الكتب المُقدَّسة السابقة، بداية من خلق آدم نفسه والأنبياء العِظَام، في سياق تذكيري وتعليمي للأجيال التالية، والقرآن إذ يُعيد سرد القصة فإنه يقوم أحيانا بتصحيح بعض الأفكار المغلوطة حول سيرة الأنبياء التي لحقها تشويه وتحريف بحكم التقادم الزمني.
لكن هُناك بعض القصص التي لم تَرِد في الكتب المقدسة السابقة؛ ولعل أشهرها: قصة أهل الكهف، التي لم ترد في التوراة ولا الأناجيل المعترف بها؛ وذلك لسبب بسيط؛ لأنها وقعت بعد السيد المسيح.. تقريبا سنة 250 ميلادي، لكنَّ القرآن أعاد ذكرها في سورة تُعرَف بسورة الكهف.
وحول سبب النزول، فإنَّ سبب نزول سورة الكهف ذكره عدة مفسرين كابن كثير وغيره؛ قال: “بعثت قريش إلى أحبار يهود بالمدينة، فقالوا لهم: سلوهم عن مُحمَّد، وصفوا لهم صفته، وأخبروهم بقوله، فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم علم ما ليس عندنا من علم الأنبياء، فخرجا حتى قدما المدينة فسألوا أحبار يهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووصفوا لهم أمره وبعض قوله، وقالا: إنكم أهل التوراة، وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا، قال، فقالت لهم: سلوه عن ثلاث نأمركم بهن، فإن أخبركم بهن، فهو نبي مرسل، وإن لم يفعل، فالرجل متقوِّل، فروا فيه رأيكم. سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرهم، فإنهم قد كان لهم شأن عجيب. وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها، ما كان نبؤه؟ وسلوه عن الروح ما هو؟ فإن أخبركم بذلك، فهو نبي فاتبعوه، وإن لم يخبركم فإنه رجل متقوِّل، فاصنعوا في أمره ما بدا لكم.
ونحن نرى أنَّ سياق الأسئلة الثلاثة لا يخلو من مهارة؛ فقصة الإسكندر رغم تاريخيتها المعروفة، إلا أنها تتضمن خبرَ أقوام لم يعرف عنها الكثيرون “يأجوج ومأجوج”، وقصة أهل الكهف أيضا لم ترد في كتاب مقدس، ولا يستطيع أحد أن يُجزم بحقيقة عددهم، والسؤال الأخير حول الروح كان ثالثة الأثافي في البراعة! حيث يُدرك الأحبار اليهود أنَّ الروح هي سرٌّ لا يعلمه إلا الله نفسه، وحقيقة الأمر أن الأسئلة الثلاثة لن يستطيع أن يجيب عنها سوى نبي مُلهَم بالوحي.
ونستطيع أن نرى أنَّ القرآن أجاب بما يَجعل أحبار اليهود أنفسهم يعجبون من دقة الإجابة! فأهل الكهف عددهم بعد تقادم السنين أصبح غير دقيق، رغم أن المسيحية تأخذ بالرواية القائلة أنهم سبعة، ودوما في سياق الأرقام المقدسة، تم تفضيل الرقم سبعة؛ من حيث تطابقه مع السماوات السبع وهلُمَّ جرًّا.. بينما القرآن يُعلن أنه لا يدرك عددهم إلا الله.
لكن إذا كانت القصة لم ترد في الكتب المقدسة، فما هو أقدم مصدر لها؟ ومن هو أول من ذكرها تاريخيا؟ في الحقيقة نحن أمام ثلاثة مصادر تعتبر هي الأقدم ذكرا القصة: مصدران كُتِبا نثرا، ومصدر كُتِب شعرا.. أما المصدران النثريان:
زكريا الفصيح (536+)، ويوحنا الأفسسي (587+)، وكلاهما من المؤرخين الثقات، وهما قريبا العهد من زمن الحادث. أما النص الشعري السرياني لقصة أهل الكهف؛ فهو للشاعر السرياني الملهم مار يعقوب السروجي (521+) الذي نظم قصيدة عصماء على الوزن الاثني عشري، تقع في أربعة وسبعين بيتاً، وهو ولئن سمح لفكره أن يسبح في الخيال، لكنه احتفظ بعناصر القصة الرئيسية.
بَقِي لنا أنْ نُشير إلى ملاحَظَة مهمة؛ أنَّ عدم تحديد النص القرآني لعدد أصحاب الكهف هو تعدُّد الروايات حول القصة نفسها؛ فلو ذكر عددهم لوجد الأحبار الفرصة المناسبة للطعن في صحة السرد! لأنَّ السائل ليس بأعلم من المسؤول، ونحن نعاود التأكيد مرة أخرى على براعة الأحبار في طرح هذه الأسئلة الثلاثة؛ فكل كلمة محسوبة على المسؤول، وتفتح مجالا للشك في أصل نبوته؛ لكنَّ الله أراد لهم أن يعلموا أنهم يحصلون على إجابة ثابتة لا تختلف أصلًا عمَّا يعتقدونه ويؤمنون به!
4,133 total views, 5 views today
Hits: 400