أخلاقيَّات مهنة التعليم
د.سلوى بنت عبد الأمير بن سلطان
يُعدُّ التعليم رسالة مُقدَّسة، وقدسيتها تكمُن في الأمانة الموضوعَة فيها بإعدادِ جيلٍ يَضَعُ المجتمعَ آمالَه عليه. وقد ازدادَ العبءُ على التعليم من حيث أهمية مُواكبته لتلك المتغيُّرات والأحداث، كما ازداد الثقل على القائمين عليه ليكونوا على مستوى ما يحدث؛ نتيجة للتغيُّرات العالمية المتسارعة، التي يشهدها عالم اليوم؛ بفعل العَوْلمة والانفتاح الثقافي والمعرفي، والتقدُّم العلمي.
وَقَد بدأتْ الكثيرُ من الدول في العالم تسعى إلى أنْ تُقنِّن التعليم، وتؤطِّر معاييره، وتحدِّد مُؤشراته؛ وتضع معايير أخلاقية نابعة من الدور الفاعل للمدرسة والمُعلِّم في المجتمع؛ باعتبارهما يُسهمان في تربية المتعلِّمين على القيم الأخلاقية والإنسانية والحضارية.
وقَبْل أنْ نتطرَّق إلى أخلاقيات المهنة، لا بد من تعريف المهْنة، والمُتطلبات الأساسية لها، وهل يُمكن اعتبار التعليم مهنة أم لا؟ ومدى إمكانية اعتبارها مهنة، وإذا كان بالإمكان اعتبارها مهنة، فلماذا؟
تُعرَّف المهنة على أنَّها: “أعمال تجمع أشخاصًا حول أهداف مُشتركة، يتطلب تحقيقها مهام ونماذج سلوكية منهجية”، أو أنَّها: “أعمال خدمية تطبق مجموعة من المعارف والمهارات على مُشكلات يُقدِّرها المجتمع”، أو أنها: “عمل مُنظَّم ومَيْل واستعداد شخصي، يدفع صاحبه إلى ممارسة عمل خاص مقنع له نفسيا وأدبيا” (1).
كَمَا تُعرَّف على أنَّها: مجموعة من المهام أو الوظائف أو المسؤوليات التي يتطلب أداؤها امتلاك كفايات أدائية مُعيَّنة، يكتسبها الفرد عن طريق التعليم والتدريب في مؤسسات متخصصة (2).
والمهْنة اصطلاحًا تُشير إلى مجموعة من السِّمات الأساسية التي تتَّصف بها الكثير من الأعمال؛ مثل: الطب، والهندسة، والمحاماة، والمحاسبة؛ فمن سماتها أنها: تعتمد على النشاط العقلي أكثر مما تعتمد على النشاط الجسمي، كما تتطلب الإلمام بنوع من المعرفة المتخصصة، وتتطلَّب إعدادًا طويلًا نسبيًّا، ونموًّا مُستمرًا أثناء الخدمة، يُؤهِّل لممارسة المهارات الخاصة بها، وتقدِّم لصاحبها عملًا له طابع الديمومة؛ بحيث لا يفقد الشخص لقبه حتى بعد تركه الوظيفة. والمهنة خدمة حيوية من الناحية الاجتماعية؛ تتمثَّل بالالتزام تجاه المجتمع، واحترام عاداته وتقاليده وخدمته، وتحتاج إلى قِيَم وأخلاقيات تنظِّم مسارها.
وإذا نظرنا إلى التعليم، نجد أنَّ هذه السمات جميعها تنطبقُ عليه؛ فمع نمو حركة التربية الحديثة في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، تزايد الاهتمام بإعداد المُعلِّم، ووَضَع المربُّون والمهتمون بالتعليم قواعدَ مُعينة يسترشد بها المُعلِّمون، وأصبح التعليم يُدرَّس في كليات تربوية مُتخصِّصة، واعْتُبِرَ المهنة الأم، على أساس أنه يسبق جميع المهن؛ فمهنة التدريس هي المهنة الوحيدة التي تتحمَّل مسؤولية بناء الإنسان، وتكوين الأجيال، وإعدادهم للحياة؛ فالمُعلِّمون يُكرِّسون أنفسهم لخدمة المجتمع والبشرية جمعاء.
وبناءً على المنطلقات السابقة، يُمكن أنْ نعد التعليم مهنة؛ لأنه يستند إلى عددٍ من المعايير الأساسية؛ فهو يحتاج لقاعدة معرفية تتمثَّل في الإلمام بكل ما يخص هذه المهنة من معارف، وإلمام بالقوانين في الجانب التعليمي، ودراسة متخصصة، وقدرة فكرية فائقة، وبصيرة فنية مُتميزة، فضلًا عن أنَّه فنٌ يحتاج إلى مهارات، ويتطلب نموًّا مستمرا لمواكبة المستجدَّات بالبحث والاطلاع في مجال العمل، وهذا لا يتأتى إلا بالعمل على تدريب المُعلِّمين تدريبًا جيدًا قبل الخدمة وفي أثنائها؛ لذلك ازدادت الدعوات التي تؤيد تمهين التعليم، وربط كليات التربية بمناهج تهتم بإعداد المُعلِّمين، واحتياجات المهنة ومُتطلباتها، عبر برامج تشمل المادة التي يقوم المُعلِّمون بتدريسها، وأخرى تهتم بالأصول التربوية المتعلقة بنمو الطفل وتربيته، وطرق التدريس ونظرياتها.
وَقَد أكَّدتْ ورشة العمل الإقليمية حول تمهين التعليم وإعداد المُعلِّمين وتأهيلهم وتدريبهم -والتي أقامها مكتب اليونسكو الإقليمي للتربية في الدول العربية، بالتعاون مع الجامعة الأردنية- في العام 1995م، على ضرورة اعتبار التعليم مهنة؛ إذ يُنتظر من المُعلِّم أنْ يُتقن مادته بشكل مُتعمِّق، فضلًا عن الإلمام بطرائق التدريس وتوظيف الوسائل التعليمية والتقنية في التعليم (3).
وأيُّ مهنة لابد لها من أخلاقيات تُنظِّم السلوك العام لأعضاء المهنة بعضهم مع بعض، ومع غيرهم من العاملين في مجالات المهن الأخرى، وتحدِّد للمهني أنماطًا سلوكية معروفة تحكم سلوكه، ومعايير انتقائه، وترتيب مستوياته لينتقل من رتبة إلى أخرى، كما أنَّها تشمل تنظيمًا مهنيًّا، يتمتَّع بقَدْر كبير من الاستقلالية، ويتحمَّل مستوى عالياً من المسـؤولية، ويترفَّع عن التركيز على حصول مكسب شخصي. وبناءً على ذلك، لا بد أنْ تلتزم الدولة بميثاقها الأخلاقي الذي تتضح فيه الحقوق والواجبات. وكما أنَّ هناك أخلاقيات لكل مهنة، فهناك أخلاقيات خاصة بمهنة التعليم أيضًا (4).
وتعرَّف أخلاقيات المِهْنَة بأنها: “جُملة الأسس والمبادئ والمُثل التي يلتزم بها أفراد المهنة عند ممارستهم لمهنتهم؛ وذلك حِفَاظًا على مُستوى المهنة، وعلى حقوق المنتسبين لها”، ومن أهداف أخلاقيات مهنة التعليم: توجيه سلوك العاملين في حقل التعليم، وتنظيم العلاقة بين أفراد المهنة أنفسهم، وبينهم وبين من يتعاملون معهم، وتحديد مسؤولية الأفراد وحقوقهم وواجباتهم تجاه العمل، ومساءلتهم عن القصور، وتوفير الحماية لهم، وتحديد معايير الكفاءة في تقديم العمل، وتحديد إطار مهني عام لمُتطلبات المهنة، وتنمية روح الالتزام والولاء المهني لديهم (5).
ومهنة التعليم رسالة شريفة؛ فشرفُ المهنة شرفٌ لصاحبها، وتستمدُّ أخلاقياتها من عقيدة المجتمع السامية وقِيَمها ومبادئها، وتوجِب على القائمين بها أداء حق الانتماء إليها، عبر الإخلاص في العمل والتحلِّي بالمروءة والضمير المهني، والتضحية والحلم والصبر والتواضع، والصدق مع الذات، والاقتناع والرضا عن المهنة، والحرص على صيانة النفس عن أي خطأ قد يُقلِّل من شأنه في الميدان التربوي، واستمرارية العطاء لنشر العلم.
… إنَّ تكوينَ المُعلِّم اختيارًا وإعدادًا وتدريبًا لا يكفي، بل لا بد من تعريفه بطبيعة مهنة التعليم، والتزامه بأخلاقياتها عن قناعة ذاتية، مطبقًا لمعاييرها ليكون قدوة حسنة في علمه وأخلاقه في المدرسة وخارجها، لا أنْ يكون العائد المادي هو الدافع الرئيس من اختيارها؛ إذ إنَّ أدوار المُعلِّم اختلفتْ في هذا القرن عمَّا كانت عليه في الماضي، وزادتْ مسؤولياته؛ الأمر الذي جَعَل من الضروري أن يستمر في تعلمه طوال حياته. وفي ضَوْء المستجدات في العملية التربوية، والأدوار الجديدة التي أُنيطَتْ للمعلم، ظهرتْ حاجة مُلحَّة إلى مُقرَّر يتعلق بأخلاقيات مهنة التعليم في كليات التربية.
وتُشير الأدبيات التربوية إلى أنَّ اللجنة الوطنية للتربية والمعايير المهنية للمعلمين في الولايات المتحدة الأمريكية وضعتْ ميثاقَ آداب المهنة عام 1924م، ثم تبنَّته بعد خمس سنوات عدد من الولايات الأخرى (6).
ويُطْلَقُ على الميثاق الأخلاقي لمهنة التعليم في الولايات المتحدة الأمريكية “دستور الاتحاد القومي للتعليم”، وهو الدستور الرسمي لمهنة التعليم في أمريكا، وتبنته معظم الولايات منذ العام 1952م، ويتكوَّن من خمسة مبادئ؛ يتناول المبدأ الخامس: علاقة المُعلِّم مع زملائه، وينصُّ على: إن على المُعلِّم أنْ يتعامل مع زملائه بالطريقة التي يحب أنْ يعاملوه بها، وأنْ يتعاون مع زملائه، وأنْ يحافظ على عضوية نشاطه في المنظمات المهنية، وأنْ يسعى للنمو المهني المستمر (7).
أمَّا على صعيد الوطن العربي، فيُمكن اعتبار السبعينيات من القرن الماضي بداية الاهتمام بأخلاقيات المهنـة؛ ففي العام 1968م كانت أوْلَى المحاولات العربية في هذا المجال؛ إذ اعتمد مُؤتمر وزارة التربية والتعليم العرب ميثاق المُعلِّم العربي -وتكون من 19 بندًا- مع تحديد قَسَمِ المهنة، وقامت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم بتقديم دستور أخلاقي لمهنة التعليم، قُدمَ إلى الحلقة الدراسية التي عُقِدَتْ في العام 1979م بمسقط، وتناولتْ مفهومَ الدستور وأهميته وأهدافه، ومسؤوليات المُعلِّم نحو مهنته ونحو المجتمع (8).
… إنَّ برامجَ التنمية المهنية في دول الخليج العربي، أوْلَت اهتمامًا بعوامل المُعلِّمين الإنسانية المرتبطة بعمليات التعليم؛ مثل: القيم والاتجاهات وأخلاقيات مهنة التعليم، وغرس الاحترام المتبادل بين المُعلِّمين والإدارة المدرسية والتلاميذ وأولياء الأمور، على أنْ يصبح الالتزام الخلقي تجاه الذات وتجاه الآخرين دافعًا ذاتيا يلتزم به المُعلِّم. والدليلُ على ذلك: اهتمام مكتب التربية العربي لدول الخليج العربي بوضع إعلان لأخلاق مهنة التعليم، وإقراره في المؤتمر العام الثامن لمكتب التربية العربي لدول الخليج، وإعلانه في كتيب صغير صَدَرَ خصيصَا لذلك، في شهر مارس من العام 1985م، وتم توزيعه على وزارات التربية والتعليم في جميع دول الخليج العربي، وقد جاء في 19 بندًا؛ تضمَّن البند الرابع ما يأتي: “المُعلِّم في مجال تخصصه طالب علم، وباحث عن الحقيقة، لا يدَّخر وسعًا في التزوُّد من المعرفة، والإحاطة بتطورها في حقل تخصصه؛ تقويةً لإمكاناته المهنية موضوعًا وأسلوبًا ووسيلة” (9).
وبناءً على طلبٍ من مكتب التربية العربي لدول الخليج، قام الغامدي بدراسة هدفها صياغة مبادئ ميثاق أخلاقيات مهنة التعليم؛ حدَّد فيها المعايير العملية والأخلاقية لعمل المُعلِّم؛ وهي: التعليم رسالة، والتعليم مهنة، والمُعلِّم قدوة، والمُعلِّم مُربٍّ، والمُعلِّم وعلاقته بالمجتمع. وأوْصَى بضرورة وضع ضوابط يُحاسَبُ بناءً عليها العاملون الذين يخلون ببنود ميثاق أخلاقيات مهنة التعليم، على أنْ يؤدِّي كل معلم عند بدء مزاولة مهنة التعليم قَسَمَ المهنة. ومن بين البنود المُصاغة في كل ما له علاقة بالتنمية المهنية ما يأتي:
أ- أنْ يُدرك المُعلِّم الحاجة إلى التعلم الذاتي المستمر لتطوير مهنته.
ب- أنْ يعرف المُعلِّم أنَّ مهنة التعليم تتطلَّب عطاءً مُستمرا لتنمية قدراته العلمية.
ج- أنْ ينقل المُعلِّم الخبرات والتجارب التعليمية الجديدة إلى المؤسسة التي يعمل فيها.
د- أنْ يُدرك المُعلِّم أهمية البحوث التربوية في رفع مستوى أدائه.
هـ- أنْ يُطالب المُعلِّم بإيجاد جهة رسمية مسؤولة عن منح رخص لمزاولة مهنة التعليم(10).
وبالرغم من أهمية هذه المواثيق الأخلاقية للتعليم، فإنَّها لا تزال في بداية عهدها، ولم تُتَحْ الفرصة لتفعيلها، كما لمْ تصبح أساسًا في كليات إعداد المُعلِّمين، ولم تُفَعلْ في الواقع من حيث أنَّ التعليم لم يأخذ صفة المهنية في كثير من الدول العربية، كما أنَّ أخلاقيات مهنة التعليم تعدُّ شرطًا أساسيّا من معايير المهنة لا يُمكن تجاهله، إلا أنَّ بعضَ المُعلِّمين يجهلون أخلاقيات المهنة التي تحكم ممارساتهم داخل المدرسة وخارجها.
وإذا نظرنا إلى واقع اختيار المُعلِّمين في الوطن العربي، نجد أنه يواجه تحديات كثيرة ينبغي مواجهتها؛ فمهنة التعليم مليئة بالمشكلات؛ منها: تدنِّي رواتب المُعلِّمين الذي يؤدي بدوره لعدم رغبة العناصر المتميزة من الطلاب والطالبات في الالتحاق بها، وعزوف العديد من الذكور عنها، كما أنَّ ظروف العمل السيئة التي تحيط بها؛ كضغط العمل، وقلة تقدير المجتمع للمعلمين، فضلًا عن ضعف انتمائهم إلى مهنة التعليم، بسبب أن التحاقهم بكليات التربية لا يكون باختيارهم أنفسهم، بل يوجهَّون إليها بناءً على درجاتهم في الدبلوم العام (الصف الثاني عشر).
وقد واجهتْ الدول المتقدِّمة -مثل: الولايات المتحدة الأمريكية، واليابان- هذا الوضع، لكنها قامتْ بإجراءات لجذب العناصر المتميزة والموهوبة إلى التعليم، والعمل على تمهين التعليم؛ بحيث يتحمل المُعلِّم مسؤوليته الأكاديمية والأخلاقية، وتطبيق ميثاق أخلاقي يُحدِّد الواجبات والمسؤوليات التي يجب أنْ يلتزم بها المُعلِّم، وتوفير فرص التنمية المهنية والشخصية المستدامة له؛ للارتقاء بمستواه التعليمي وتهيئته للاضطلاع بمهامه المنوطة به، وظهور مفهوم الترخيص لممارسة مهنة التعليم (11). فعلى سبيل المثال: أشار نور إلى دراسة ذكرت في كتاب “التعليم في اليابان”، مفادها أنَّ بعض الدراسات اليابانية التي تضمَّنتْ معلومات عن الأهمية الاجتماعية والاحترام الاجتماعي الممنوح لمعلمي المدارس الابتدائية -تمثل مدارس الحلقة الأولى في سلطنة عُمان- تضع مكانة المُعلِّم فوق مكانة المهندسين والموظفين ورؤساء الأقسام في المؤسسات الكبيرة (12).
وقد لجأتْ الكثيرُ من الدول إلى وضع أسس وشروط لمهنة التعليم؛ تتمثل في: أهمية حصول المُعلِّم على شهادة للقيام بمهمته التعليمية، تُجدَّد كل (3-5) سنوات، كأحد أهم مُتطلبات الاستمرار في العمل في هذه المهنة بحسب احتياجات العملية التعليمية. وعليه؛ فإنَّ تطبيقَ معايير الجودة في الإدارة، والمساءلة من أجل المحاسبة في المؤسسات التعليمية، والارتقاء بجودة الأداء فيها، لن يتأتى إلا مع البدء في تطبيق نظام رُخصة المُعلِّم المهنية؛ بهدف تحقيق الجودة فيما يتعلق بإعداد المُعلِّم وتأهيله.
ويُمكن للدول العربية أنْ تقتدي بالمملكة الأردنية الهاشمية، وتعمل على إدخال فكرة رتب لترقية المُعلِّمين؛ بحيث تتناسب كل رتبة مع درجة المسؤولية والاستقلالية والمكافأة المادية والمعنوية. وقد تمَّ التفكير مبدئيًّا بثلاث رتب للمعلم؛ هي: المُعلِّم العام، والمُعلِّم الخبير، والمُعلِّم الاستشاري؛ بحيث لا تتم ترقية المُعلِّم من رتبة إلى أعلى، إلا بعد اجتياز برامج تدريبية معينة، والنجاح في بعض الاختبارات العلمية والعملية، وأنْ ترتبط أعلى رتبة بإظهار القدرة على التطوير والإبداع، وقد تمَّ تنفيذه في العام 2004م، وحصل شخص واحد على رتبة خبير تربوي حتى العام 2005م، إلا أنَّ وجودَ النظام وسلامة تطبيقه، حفَّز آلاف المُعلِّمين على الارتقاء إلى هذه الرتب (13).
كما قامتْ قطر بوَضْع سياسة واضحة وقابلة للتطبيق؛ هدفها اعتماد برامج تدريبية للمعلمين والترخيص بمزاولة المهنة؛ حيث تمنح هيئة التقييم التابعة للمجلس الأعلى للتعليم في قطر رخص المُعلِّمين، وقادة المدارس المهنية، حسب خطوات علمية مُقنَّنة، من شأنها أنْ ترتقي بهم إلى المستوى المنشود، ويعزز البرنامج إعداد أجيال من المتعلمين يمتازون بآفاق واسعة في التفكير الإبداعي، والتفكير الناقد، وحل المشكلات كعوامل تؤسس للتعليم مدى الحياة (14).
وتعدُّ ولاية نيوجرسي من الولايات الأمريكية التي تشترط أنْ يحلف المتقدِّم لمهنة التعليم قَسَمَ الولاء، كما هو معمول به في مهنة الطب؛ فالهدف الأساس من الترخيص لممارسة مهنة التعليم، هو أنْ يُصانَ حق المواطن وصالحه، في أن يُكْفَل له معلمون أُعِدُّوا إعدادًا كافيًا، ومن ثمَّ يُؤمَن جانبهم في ممارسة التعليم؛ فالممارس غير الكفء في مهنة التعليم، قد يلحق الضرر بالتلاميذ؛ الأمر الذي يَجْعَل من ذلك حقًّا قانونيًّا، والتزامًا أخلاقيًّا (15).
وقد قامتْ وزارة التربية والتعليم في سلطنة عُمان بصياغة ميثاق أخلاق مهنة التعليم في العام 2010م، وهو يُحدِّد الواجبات والمسؤوليات التي يجب أنْ يلتزم بها المُعلِّم، ويوفِّر فرصَ التنمية المهنية والشخصية المستدامة له؛ للارتقاء بمستواه التعليمي، وتهيئته للاضطلاع بمهامه، ونُشِرَ هذا الميثاق في الموقع الالكتروني (بوابة سلطنة عُمان التعليمية)، في شهر أكتوبر من العام نفسه، وهو مُقتبس من الميثاق الذي وَضَعه مكتبُ التربية العربي لدول الخليج العربي، إلا أنَّ هذا الميثاق غير مُفعَّل في الواقع الميداني، كلُّ ما في الأمر أنَّه تمَّ تعريف المُعلِّمين بموضوع “أخلاقيات مهنة التعليم”، عن طريق القيام ببرامج تنمية المُعلِّمين المهنية.
ولا شكَّ أنَّ مِثْل هذه الجهود تعبر عن مدى الاهتمام بأخلاقيات مهنة التعليم، ونرى أننا أصبحنا بحاجة ماسَّة للتطبيق العملي لميثاق أخلاقيات مهنة التعليم، وتفعيل مبادئه بين المُعلِّمين عن طريق إقامة الدورات التدريبية والورش العملية، والندوات، والبحوث التربوية، ونشر ثقافة أخلاقيات مهنة التعليم بين المُعلِّمين؛ حتى تُصبح هذه الثقافة نابعة عن قناعاتهم الشخصية، ومغروسة في نفوسهم، فضلًا عن تفعيل قَسَمٍ خاص بمهنة التعليم، يُؤدِّيه كلُّ مُعلِّم بأمانة وإخلاص؛ لكي يستشعر دومًا قداسة المهنة وعظيم مسؤولياتها.
يُذكر أنَّه وفي إطار سَعْي مجلس التعليم لرعاية المُعلِّم تأهيلًا وتدريبًا وتمكينًا، فقد ناقش مجلس التعليم في الخامس من شهر ديسمبر في العام 2016 مشروعَ الإطار الوطني العُماني لمهنة التعليم، وتضمَّن أبرز المعايير المِهنِية لوظيفة المُعلِّم وتكوينه المهني، والتراخيص المهنية، وآليات تنفيذ مُقترح الارتقاء الوظيفي للمُعلِّم، وأقرَّ المجلسُ المشروعَ، ووجَّه وزارة التربية والتعليم باتخاذ الإجراءات المناسبة في شأن تنفيذه.
ونَرَى أنَّ الحاجة ماسَّة لاستحداث جهاز أو هيئة مُتخصِّصة ومُحايدة -حكومية أو خاصة (أهلية)- لها صفة الاستقلالية، لمنح تراخيص ممارسة مهنة التعليم؛ هدفها تقييم كفاءة برامج إعداد المُعلِّمين بكليات التربية في سلطنة عُمان، ووضع معايير الاعتماد لهذه البرامج، فيما يُسمَّى بـ”معايير الاعتماد الأكاديمي لكليات التربية”؛ تمهيدًا للاعتراف أو الإجازة لخريجي هذه الكليات، وهو ما يُسمَّى بـ”الاعتماد المِهنِي”، وهو اعتمادٌ خاصٌّ للاعتراف بكفاية الأشخاص لممارسة مهنة التعليم، أو الترخيص لمزاولتها، والعمل على منح إجازات الترخيص عن طريق حساب النقاط بحسب الدورات والمؤتمرات التي شارك فيها المُعلِّم؛ الأمر الذي يجعل من المُعلِّم في تعلُّم مُستمر؛ سواء بطريقة ذاتية، أو بالالتحاق ببرامج خاصة بالتنمية المهنية.
وسيلتزمُ المُعلِّمون بتطوير قدراتهم إذا ما تمَّ إصدار تراخيص المُعلِّمين المهنية، وتجديد صلاحيتها كل ثلاثة أو خمسة أعوام حسب ظروف كل دولة؛ حيث إنَّ ممارسة التعليم ستتجه إلى أنْ تكون مِهْنَة لها شروطها وضوابطها؛ الأمر الذي سيُؤدي إلى ارتفاع مستوى المُعلِّمين، وبالتالي ارتفاع مستوى جودة التعليم.
ويُمكن تمهين التعليم في سلطنة عُمان بعد أنْ يتم إعادة النظر في أوضاع المُعلِّمين الاقتصادية، والعمل على زيادة رواتبهم، عن طريق منحهم المكافآت المالية العالية، والاهتمام بترقياتهم الوظيفية بشكل مستمر، وجعل راتب المُعلِّمين التقاعدي متميزًا، والعمل على تحسين ظروفهم الاجتماعية، واعتبار مهنتهم مهنة مرموقة، والثقة بهم، وتوفير الظروف التي ترفع من صورة الذات لديهم، وتحسين ظروف العمل المدرسي.
فتمهين التعليم في السلطنة، وغرس أخلاقيات مهنة التعليم في نفوس المُعلِّمين سيسهم في تفرُّغ المشرفين التربويين لبرامج التنمية المهنية التي تقام في المدارس، والانتفاع من خبراتهم، وسيُسهم ذلك في تحسين اتجاهات المُعلِّمين نحو النشاطات التدريبية عن بُعد؛ مثل: الاجتماعات وورش التدريب، والإشراف الإلكتروني، وتخطيط برامج فردية لتنميتهم مهنيا.
… إنَّ إقرار أخلاقيات مهنة التعليم ضرورة أوجبتها قيمة المهنة؛ فوجودها مطلب أساسي وحتمي فرضته قدسية المهنة؛ لما للمعلمين من دور مهم في تربية الأجيال وإعدادهم للمستقبل؛ فلم يعُد الهدف من التعليم تنظيم المعارف ونقلها من المُعلِّم إلى المتعلِّم، بل أصبحتْ مهنة التعليم تتطلَّب نشاطات أكثر من ذلك. وبناء على ذلك، تمَّت المناداة والتأكيد على حتمية تمهين التعليم؛ باعتباره الركيزة والأساس المناسب لعمليات التطوير والإصلاح. وفي ضوء ذلك، ظَهَر مفهوم “إجازة التدريس” أو “الترخيص لممارسة مهنة التدريس”؛ كتعبير عن الاهتمام المتزايد من قبل المسؤولين والمتخصصين بأمور التعليم.
—————————————————-
الهوامش:
(1) توفيق مرعي، وأحمد بلقيس، “أخلاقيات مهنة التعليم”، ط 1، مسقط: وزارة التربية والتعليم، 1986م، ص:95.
(2) دينا أحمد، “الاعتماد المهني للمعلم”، بدون طبعة، الإسكندرية: دار الجامعة الجديدة، 2007م، ص:58.
(3) إبراهيم الأسطل، وفريال الخالدي، “مهنة التعليم”، ط 1، الإمارات العربية المتحدة: دار الكتاب الجامعي، 2005م، ص:42.
(4) توفيق مرعي، وأحمد بلقيس، مرجع سابق، ص:17- 20.
(5) أحمد بطاح، “قضايا معاصرة في الإدارة التربوية”، ط 1، عمَّان: دار الشروق، 2006م، ص:92، ص:94.
(6) خالد الحميدي، “نماذج تطبيقية على مواثيق أخلاقية لمهنة التعليم”، مجلة التطوير التربوي، وزارة التربية والتعليم: مسقط، ع:51، أكتوبر 2009 م، ص:50.
(7) يحيى الخبراني، “مُتطلبات تفعيل ميثاق أخلاقيات مهنة التعليم”، اللقاء 25 للجمعية السعودية للعلوم التربوية والنفسية (جستن)، الرياض، ص:652.
(8) علياء الحجرية، “أهمية ميثاق أخلاقيات مهنة التعليم وأهدافه”، مجلة التطوير التربوي، وزارة التربية والتعليم: مسقط، ع:51، أكتوبر 2009، ص:39.
(9) مكتب التربية العربي لدول الخليج، إعلان مكتب التربية العربي لدول الخليج لأخلاق مهنة التعليم، بدون طبعة، الرياض، 1985م، ص:18.
(10) حمدان الغامدي، “ميثاق مقترح لأخلاقيات مهنة التعليم في دول الخليج العربية”، مجلة رسالة الخليج العربي، ع:82، 2002م، ص:84-88.
(11) جاسم الكندري، وهاني فرج، “الترخيص لممارسة مهنة التعليم”، المجلة التربوية، الكويت، مجلد:15، ع:58، شتاء 2001م، ص:32.
(12) طارق نور، “التنمية المهنية لمعلم الابتدائي في مصر”، مجلة كلية التربية ببور سعيد، ع:5، يناير 2009م، ص:212.
(13) ذوقان عبيدات، وسهيلة السميد، “إستراتيجيات حديثة في الإشراف التربوي”، ط1، عمَّان: دار الفكر، 2007م، ص:112.
(14) وزارة التربية والتعليم (قطر)، “سياسات الرخص المهنية للمعلمين وقادة المدارس”، الدوحة: المجلس الأعلى للتعليم، 2011م، ص:5.
(15) يحيى الحارثي، “الجودة الشاملة في نظام التعليم بسلطنة عمان”، كتاب التطوير التربوي؛ وزارة التربية والتعليم، الكتاب الأول، 2009م، ص:42.
116,299 total views, 92 views today
Hits: 44882