الأيديولوجيا وأخلاق العصر
عائشة الدرمكيَّة
يُخبرنا ديفد هوكس -في كتابه “الأيديولوجية”- أنَّ الانفتاح الاقتصادي الذي ظهر في المجتمع الغربي في عصر ما بعد الحداثة، والذي نَحا نحو الاستهلاك والاقتصاد المرتكز على التبادل، قد أثر تأثيرا كبيرا في التطور التكنولوجي للتمثيل الرمزي لهذا الاستهلاك على المستوى الثقافي؛ بحيث أصبحت الثقافة وسيلة للربح عن طريق البيع والشراء. وفي هذا كله، فإن الأمر هنا يعود للبناء اللغوي والخطابات التي توجه إلى “المستهلك” بوصفه مُستهدَفاً.
وإذا كانت الأيديولوجيا قد ارتبطت بـ”نظرية المصلحة” التي كانت تعتبر العُدة المعيارية للإنسان؛ حيث كان ما يميز هذه النظرية -كما يقول كليفورد غيرتز في كتابه “تأويل الثقافات”- هو في “تجذيرها لأنظمة الأفكار الثقافية في التربة الصلبة للبنية الاجتماعية، عبر التأكيد على حوافز أولئك الذين يعتنقون هذه الأنظمة، وعلى اعتماد هذه الحوافز بدورها على الموقع الاجتماعي…”، فغيرتز هنا يُؤسِّس فكرة المصلحة على الأفكار التي يعتبرها “أسلحة” يتم ترسيخها عبر مؤسسات المجتمع؛ فذلك لأن المؤسسة المجتمعية هي الوسيلة لاعتناق الفرد أو الطبقة المجتمعية المعينة -ونعني بها هنا الطبقة الاجتماعية، أو المهنية، أو الثقافية- والطريقة إلى ذلك هي -كما يقول- “القبض على أزمة السلطة”، إلا أن بُعد نظرية المصلحة عن الجوانب النفسية والسيكولوجية جعلها تفشل في معالجة المشكلات الوظيفية التي تُواجه المجتمعات ضمن التسارع الحضاري والامتداد المعرفي، والأكثر من ذلك قدرة الفرد على التعاطي مع المشكلات الحديثة والتوترات المنمطة التي يُواجهها على المستوى الاجتماعي والثقافي.
ولعلَّ نيتشه عندما يُقرر -في كتابه “أصل الأخلاق وفصلها”- بـ”أننا بحاجة لنقد القيم الأخلاقية، وأن قيمة هذه القيم ينبغي أن تُطرح قبل كل شيء على بساط البحث…”، فإنه بذلك يجعل من “الأخلاق” نتيجة من نتائج الأنماط الأيديولوجية التي يجب النظر إليها بوصفها “سببا، وعلاجا، وحافزا، وعائقا، أو سُمَّا زعافا” – على حد تعبيره. وبهذا المنطق، سيكون لدينا قيما إنسانية أرفع من قيم أخرى، هكذا سيكون “الطيِّب” أرفع من “الخبيث” في المجتمعات الإنسانية كلها.
إن نيتشه في حديثه عن الأخلاق، سيجعل مستقبلها تحفَّه الأخطار؛ فالأخلاق (القديمة) -كما يُطلق عليها- يتم استغلالها عصرًا بعد آخر لتظهر بشكل يتوافق مع العصر الذي تزامنه، وهكذا سنجد أن الأخلاق تفقد أصالتها وإخلاصها لقيمتها عصرًا بعد آخر؛ ليقول: “إلى الأمام! ها أخلاقنا القديمة تدخل بدورها ضمن نطاق المهازل”. لهذا؛ ستجد الأخلاق نفسها أمام تحديات متزايدة كلما انفتحت المجتمعات، وأصبحت متسارعة على المستوى الثقافي والاقتصادي، وبالتالي المجتمعي، فكيف للأخلاق الصمود في ظل كل هذه التوترات والاضطرابات الحضارية!! وكيف لها أن تقدم نفسها بوصفها “أصالة” و”قيمة مطلقة” تحاول الانفلات من رَبقة الأدلجة الحضارية المستمرة!!
إنَّ مُحاولة فهمنا للعالم اليوم، في ظل العولمة والتسارع الحضاري والتقني، تتأسس على فهم أيديولوجيا المجتمعات؛ من منطلق أن الأخلاق منبعها المجتمع -كما قُلنا سابقا- لهذا؛ فإنَّ فكرة التقنية والأخلاق والأيديولوجيا تنطلق من (القيود – والحركة – والتغيير)، وهي مُحدِّدات أساسية لهذه المنظومة الفكرية التي نحاول الاشتغال عليها؛ فالأيديولوجيا في جانبها الاجتماعي “استجابة منمَّطة للتوترات المنمَّطة في الدور الاجتماعي” -كما يُعرفها غيرتز- وهي بذلك تحاول إعادة التوازن للاضطرابات العاطفية للمجتمعات، في حين تشتغل “التقنية” نحو تشكيل مُجتمع استهلاكي؛ وبالتالي تمثل عاملَ الحركة لتغيير أخلاقيات المجتمع عبر مجموعة من الأدوات الشمولية، وهي بهذا ستجعل من تلك الأخلاقيات (القديمة) قيمًا جديدة، لها أبعاد وظيفية ومعرفية (تناسب) التغيرات التي أحدثتها، وستُحدثها مستقبلا، عبر أدواتها المتسارعة.
إننا عندما نتحدث عن هذه الثلاثية لا نحاول المساس بأهمية كلٍّ منها، بل نعتبر جميعها مرجعيات انتماء؛ ذلك أن المجتمعات لا يمكن أن تبني هُويتها دونما قدرة على التشخيص والتعامل مع المتغيرات الحضارية ضمن التوجه الأيديولوجي الذي تتبناه. ومهما كانت ردَّات فعل المجتمعات -سواء كان متضامنا، أو مناصرا، أو مدافعا- لتلك المتغيرات، إلا أنَّ تلك الردات كلها تُعبر عن قدرة المجتمعات وقيادتها للفكر الأيديولوجي الذي تتبناه، والتفوُّق الثقافي الذي تنطلق منه أخلاقها للدفاع عن المجتمع -أفرادا ومؤسسات- انطلاقا من مبدأ “الإلزام” الذي يُحدثنا عنه كانط عندما يتساءل في كتابه “ميتافيزيقيا الأخلاق” عن تلك الحكمة، والدور الفاعل الذي تقدمه الأخلاق للمجتمعات، وهو دَور يندرج -على المستوى الفلسفي- ضمن آفاق الحرية المجتمعية التي لا يُمكن أن تُوضع في مجال غير ما يسميه “قاعدة الإلزام”؛ إذ يقول: ”…أليس من صواب الرأي أن يكون من أشد الأمور ضرورة إعداد فلسفة أخلاقية خالصة، نقية نقاء تاما من كل ما يمكن أن يكون تجريبيا، ومن كل ما يتصل بعلم الإنسان (الأنثروبولوجيا)…”، وهذا -بحسب رأيه- سيُسهم في تشكيل القوانين الأخلاقية، التي تؤسس قاعدة الإلزام.
وقاعدة الإلزام هذه.. لا يُمكن أن تنشأ إلا عن طريق هذا البُعد الاجتماعي والتاريخي، الذي تتأسس عليه الأخلاق بوصفها “فعلا”. وعليه، فإنه يمكننا القول بأن الفعل الأخلاقي ينشأ ضمن المنظومة الثقافية المجتمعية التي تتأسَّس بدورها على مستويين؛ هما: المستوى الاستبدالي (ونقصد به: الوجود العام والمجرد للقيم التي تمثل الإكسيولوجيا)، والمستوى التوزيعي (وهو الوجود المشخص التصويري، والذي سيتمثل في الفعل الأيديولوجي نفسه). وهما مستويان يجعلان من الأخلاق قيمةً معرفية وثقافية من ناحية، وقيمة ملموسة أو أفعالًا ممكنة من ناحية أخرى.
ويشرح لنا هابرماس في كتابه “العلم والتقنية كأيديولوجيا” القاعدة الإلزامية الكانطية، بأنها “لا تعني كلية القوانين الأخلاقية إجمالا فقط الإلزامية المشتركة بين الذوات، وإنما الشكل المجرد للصلاحية العامة التي هي مرتبطة قبليا بالتوافق…”، وهذا التوافق الذي يُؤكد عليه هابرماس يتأسَّس من فعل التواصل، وهو فعل يرتبط مباشرة بما يطلق عليه كانط -في “تأسيس ميتافيزيقيا الأخلاق”- بـ”فعل الإرادة الإنسانية”؛ وهو فعل يقوم على مجموعة من المرتكزات؛ منها: علم النفس المرتبط بالقوانين الأخلاقية والواجب من ناحية والعلم من ناحية أخرى؛ من حيث أن الأخلاق مرتبطة بالدوافع التي يمكن تمييزها عن طريق العقل وبطريقة قبلية، والعلم المرتبط بالتجربة والمقارنة؛ وبالتالي بدوافعه التجريبية. لهذا؛ فإن كانط يضرب لنا مثالًا في ذلك بالصُّناع والحرفيين الذي يعملون بشكل فردي/جماعي من أجل إنتاج منظومة حِرَفية متكاملة، تجمع بين الأخلاق العملية والعلم التجريبي في التنفيذ والتقنية.
ولعلَّنا نتساءل هنا عن آليات اشتغال الأيديولوجيا في “الفعل الأخلاقي”؟ وكيف يُمكن للفعل الأخلاقي أن يحقق الإلزام المجتمعي المعاصر، إنْ كان يتأسس على قيمة تاريخية ثابتة؟! الأمر الذي يجعلنا أمام تحدٍّ كبير يظهر أمام تتمَّة هذه الثلاثية؛ وهي: “التقنية”، التي جعلت من المجتمعات أكثر استهلاكية ومتجهة نحو “المصلحة” بمعناها الاقتصادي.
وإذا نظرنا إلى الأيديولوجيا باعتبارها “تشكيلات الأفكار قبل كل شيء، تبريرات لشرعية، إلى كونها تسير كأدوات إقناع وإفحام وإخضاع، وأنها مغمورة كليًّا في الممارسات الاجتماعية؛ بسبب كونها مستقلة كليًّا في اقتصادها الاستدلالي” -كما يعرفها فرانسوا شاتليه في “تاريخ الأيديولوجيات”- فإننا يجب أن لا ننسى أن تلك الأفكار والممارسات التي أبدعها الإنسان عبر حيواته المختلفة تعتمد مجموعة من الوسائل التي تمكنها من إنتاج أشكال مختلفة من المعارف التي تزيد من إنتاجاتها؛ وبالتالي تتأسس تلك العلاقة الاستبدالية بين القيم والإنتاج، ويصبح المجتمع في مواجهة التقنيات من ناحية، والأخلاق من ناحية أخرى، وهو أمرٌ يجعل المجتمعات المعرفية والتقنية في نزاعٍ مُستمر بين المصلحة العامة ومصالح الأفراد والجماعات الصغرى.
ولأنَّ الأيديولوجيا فعلٌ اجتماعيٌّ -كما هي حال الأخلاق- فإنَّ التصورات التي يخلُص إليها الإنسان من هذه العلاقة التي تُؤسِّسها التجربة والعقلية تقودنا لتقابلية جديدة هي “الأخلاق/الواقع”؛ ذلك أن الأخلاق تهدف لما هو مُطلق وثابت نسبيًّا من الناحية التاريخية. أما الواقع، فهو مُتسارع ومُتغيِّر -أيديولوجيًّا، وتقنيًّا، وحضاريًّا- وكلما زاد الانفتاح زادتْ تلك المسافة بينهما من الناحية النظرية، إلا أنَّ سلوك الإنسان الذي يقع ضمن هذه المنظومة سلوكٌ مُتغيِّر على الدوام؛ ففي كل عصر يتطور الإنسان بتطور المتغيرات التي تحيط به ثقافيًّا وحضاريًّا.
لهذا؛ فإنَّ فلسفة الأخلاق ليست هي فلسفة علم النفس الذي يندرج ضمن فلسفة الطبيعة؛ إذ يقول كانط -في “نفد العقل المحض”- “إنَّ فلسفة الطبيعة تتناول كلَّ ما هو كائن. أما فلسفة الأخلاق، فلا تتناول إلاَّ ما يجب أن يكون”. وهذا يعني أن “فلسفة الأخلاق” ليست مُلْزِمة سوى للإنسان وحده، بوصفه قادرًا على فعل “الالتزام”، ومهما كان فعل الإلزام ذا سُلطة في المجتمعات، إلا أنه يبقى مُتغيِّرا على الدوام. لهذا؛ لا يُمكن بأي حال أن تظل الأخلاق ثابتة وصامدة أمام التحولات والتغيرات، بل ستكون على الدوام في حركة وتطوُّر منبثقين من تاريخية المجتمعات، ومدى قدرتها على الانفلات من رَبقة الماضي على صعيد الأيديولوجيا، والتنبُّه لخطر الانجراف نحو التقنية والاستهلاك على صَعيد المصلحة. لهذا؛ سنجد أنَّ منظومة الأخلاق لأي مجتمع تتأسَّس على تلك القيم المعرفية المرتكزة على السياقات: الاجتماعية، والنفسية، والتراثية، وبالتالي الثقافية. وعليه، لا يُمكن النظر إلى الأخلاق إلا بوَصْفها حالًا من أحوال الإنسانية المتغيِّرة بحسب العقلنة العصرية التي ينتمي إليها الفرد أو المجتمع عامَّة.
وكما ينسف نموُّ قوَى الإنتاج المتأسِّس على التقدُّم العلمي التناسبات الاجتماعية، فإنه أيضًا يحاول أن ينسف منظومة الأخلاق التي يتأسس عليها المجتمع، وسيكون على المجتمعات التنبُّه لذلك، عبر منظومة القيم المجتمعية التاريخية التي اتركزت عليها في تطوراتها الحضارية المتعاقبة؛ بحيث لا تكون عُرضة للتيارات التقنية، أو المصالح الاستهلاكية، التي تجعل من الصَّعب تصنيف فعلها الأخلاقي ضمن منظومة القيم التاريخية؛ وبالتالي سيكون المجتمع عُرْضَة للانجراف نحو “التلوث الأخلاقي” – بتعبير نيتشه.
4,298 total views, 2 views today
Hits: 193