العلوم بين الحضارات الشرقيَّة القديمة والحضارة اليونانيَّة
د. حيدر بن أحمد اللواتي
مِن الصَّعب جدًّا أنْ نفرِّق بين تاريخ البشرية وتاريخ العلوم؛ ذلك لأننا عندما نتكلم عن تاريخ العلم، فإننا نقصدُ منه جميع المحاولات التي بَذلها العقلُ البشريُّ لفهم الإنسان والعالم المحيط به؛ لذا فتاريخ العلم إنما هو تاريخُ الإنسان وحضارته.. ومن هنا، سنجدُ أنفسنا عندما نبدأ الحديث عن تاريخ العلوم، فإن الحديث ينصبُّ على الحضارات التي كان لها السَّبق في تطوُّر الإنسان وتقدمه.
ومع تراكُم المعرفة البشرية، وتطوُّر العلوم، بدأ هذا التعريف الواسع يتحدَّد بشكلٍ أكثر دقة، وبمرور الوقت أخذتْ الممارسات العلمية تتحدَّد بصورة أكثر صرامة ودقة، حتى وصلت إلى ما هي عليه الحال في الوقت الراهن (1).
وعادةً يبدأ الحديث عن إسهامات الحضارة اليونانية عندما يبدأ الحديث عن تاريخ العلوم؛ وذلك للإسهامات الكبيرة لهذه الحضارة في تطوُّر العلوم الطبيعية. ولكن السؤال المهم الذي قد يطرحه البعض؛ هو: ماذا عن الحضارات التي سبقتْ الحضارة اليونانية؛ كالحضارة البابلية، والفرعونية، والهندية، والصينية؟ ألم يكن لها دَوْر يُذكر في تطوُّر العلوم؟ ولماذا يغضُّ الطرف عن إسهاماتها إن وُجِدت؟
هُناك توجُّه لدى عُلماء الغرب، وإصرار عند البعض، على أن اليونانيين هُم من لهم قَصَب السَّبق في مِضمار العلوم الطبيعية، ولم تكُن للحضارات التي سبقتهم أيَّة إسهامات بارزة. ومقابل هذه النظرة، هناك من يتَّهم هؤلاء الذين يعتبرون أنَّ الحضارة اليونانية هي نقطة الانطلاقة لدراسة تاريخ العلوم، بتحيزهم العرقي؛ لأن الحضارة اليونانية إنما هي حضارة غربية، وما سبقها من حضارات هي حضارات شرقية؛ لهذا يغض الطرف عن إسهاماتها، وكأنَّ العلوم الطبيعية نشأت في أحضان الحضارات الغربية، فهم من أخرجوا البشرية من ظُلمات الجهل إلى أنوار العلم، والآن عادت إلى أحضانهم (2).
إنَّنا نرى أنَّه من الصَّعب جدًّا أن ندَّعي أنَّ الحضارات التي سبقتْ الحضارة اليونانية، لم يكن لها نصيب يُذكر من الإسهامات العلمية، بل إن الآثار الموجودة تدلُّ على وُجود إسهامات علمية جليلة انتقلتْ من تلك الحضارات إلى الحضارة اليونانية التي استطاعتْ أن ترث إسهامات تلك الحضارات وتطورها.
إنَّ طبيعة العلوم تدفعنا لتبنِّي القول بأن الحضارة اليونانية ورثت تلك العلوم من الحضارات السابقة؛ حيث نُدرك جميعا أنَّ المعرفة إنما هي أمرٌ تراكميٌّ، ولا يُمكن أن تكون دفعيا، وأنَّ تكوُّن منظومة علمية متكاملة وبصورة مفاجئة أمرٌ لا يُمكن تعقله، أضف إلى ذلك أن المتتبع لتلك الحضارات التي سبقتْ الحضارة اليونانية، لا يشكُّ للحظة أن إسهاماتهم العلمية كانت كبيرة؛ فعملية تحنيط الموتى والأهرامات، وفنون العمارة لدى الصينيين والبابليين، تدلُّ دلالة قاطعة على وُجود معارف علمية كبيرة لدى تلك الحضارات، ولا يُمكن أن نفسر هذه الشواهد على أنَّ هذه الحضارات لم تهتدِ إلى المبادئ العامة لهذه العلوم، وإنما اكتفوا بالتطبيق العملي لهذه العلوم والمعارف.
إنَّ مُؤشرات التواصل بين هذه الحضارات تدلُّ، وبوضوح، على أنَّ الحضارة اليونانية استقت وتعلَّمت من تلك الحضارات، ثم أضافت إليها إضافات بارزة؛ إذ إنه من الملاحَظ أنَّ لبنات الحضارة الاولى نشأت في آسيا الصغرى (تركيا اليوم)، وهي أقرب أرض ناطقة باليونانية إلى الحضارات الشرقية (3).
وهذا دَيْدَن الحضارات؛ فالتواصل بين الحضارات المختلفة أمرٌ في غاية الأهمية، وهو الذي يؤدِّي لرُقي الأمم وتطورها. أما الانغلاق على النفس -سواء على مستوى الأفراد أو الجماعات- دون النظر والاطلاع عما يمتلكه الآخرون، هو بداية سقوط الأفراد والحضارات.
لذا؛ فإننا معنيون للاطلاع على الحضارة الغربية، ونيل العلوم والمعارف؛ لأن ذلك هو أول الأمور المهمة التي ستؤدي لنهضة علمية شاملة، لكنه من المهم أيضا أن نقوم بتوطين هذه المعارف والعلوم كما قامت بذلك الحضارة اليونانية في ذلك الزمن، إنَّ المتتبع للحضارة اليونانية يجد، وبوضوح، أن علماء هذه الحضارة وطَّنوا العلومَ في بيئتهم وأوطانهم وهذا لا يتأتَّى إلا بخطوتين أساسيتين:
- الأولى: استيعاب المعارف والعلوم المنتشرة في الحضارات الأخرى.
- الثانية: نقل تلك العلوم إلى المجتمعات المحلية، وإيجاد حواضن علمية فيها.. وهذا لا يتأتى إلا من خلال نشر العلوم باللغة الأم للمجتمعات المحلية، وهذا ما قام به علماء اليونان؛ فقد استوعبوا العلوم التي ورثوها من الحضارات السالفة، ثم أوجدوا حواضنَ علمية كبيرة في اليونان، ونشروا العلوم بلغتهم الأم.
وهنا.. لابُد من التوقُّف عند ما يحدث من تخبُّط كبير في عالمنا العربي؛ فما نقوم به حاليا من محاولة استقاء للعلوم من الحضارات المتفوقة علينا علميا، لن يخلق نهضةً علميةً في أوطاننا ما لم نقُم بتوطين هذه العلوم في بيئاتنا المحلية، ولن يتأتَّى لنا ذلك إلا من خلال نشر هذه العلوم والمعارف بلغتنا الأم وهي العربية؛ لأنَّ اللغة هي وعاء الحضارة، ولم ترق حضارة من الحضارات بلغة غيرها.
إننا عندما نقوم باستقاء العلوم، ونشر الأبحاث، والمساهمة العلمية بلغة غير العربية، فإننا في الواقع ننصهرُ في تلك الحضارات، ونُصبح جزءًا منها؛ لذا لا يحق لنا أن نفخر بنتاج علمي ما لم يكن نُشر بلغتنا الأم، فليس من الصحيح أنْ نعد العالِم الكبير أحمد زويل مثلا بأنه ابن الحضارة العربية، بل هو عالم من علماء الغرب، ينتمي إلى أصول عربية؛ وذلك لأن كل أبحاثه نُشرت بلغة أخرى غير العربية؛ فيحق للحضارة الغربية أن تفتخر به وتمجده، وليس لنا فضل فيما قام به.. إن العلماء ذوي الأصول العربية، والذين أسهموا مساهمةً فاعلةً في رُقي الحضارة الغربية، إنما هم أبناء للحضارة الغربية، تماما كما كانت الحال مع علماء الحضارة الإسلامية ذوي الأصول الأعجمية، والذين أبدعوا وأسهموا في رُقي وتطوُّر الحضارة الإسلامية؛ أمثال: سيبويه، والخوارزمي، وابن سينا…وغيرهم.
لذا؛ فمن هذا المنطلَق، علينا النظر بجدية إلى مناهجنا التربوية، وإيجاد سُبل مبتكرة لتعليم العلوم باللغة العربية، مع التركيز على تعلم اللغات الأخرى كالإنجليزية وإتقانها، وعلينا أن ننبِّه إلى أنَّ أكبر خطأ سيُرتكب بحق الأجيال الجديدة عندما نقوم بتغريبهم من خلال مناهج دراسية قائمة -وبشكل أساسي- على اللغة الإنجليزية، وإهمال ملحوظ للغة العربية الأم.
كما أنه من المهم جدًّا السعي لإيجاد مراكز علمية تشجِّع الباحثين على نشر أبحاثهم باللغة العربية، وتُعنى بترجمة العلوم المختلفة للعربية، وتوفيرها للمجتمعات العربية.
… إنَّ الترجمة كانت أهم الوسائل الناجعة في تاريخ الحضارات في نقل العلوم والمعارف، ويمكن للمرء أن يرى ذلك جليًّا من خلال حركات الترجمة التي حدثت في بداية النهضة الإسلامية، كما سنرى ذلك في مقالات قادمة بإذن الله تعالى.
—————————————————-
المصادر:
1- زكريا، فؤاد، “التفكير العلمي”، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت.
2- Wile J, Exploring Creation with General Science, 2nd Edition, 2008.
3- الخولي، يُمنى طريف، “فلسفة العلم في القرن العشرين”، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت.
7,888 total views, 5 views today
Hits: 1401