علاقة الفلسفة بَيْن واقعيَّة العلم ومثاليَّته .. الفلسفة وبناء النموذج
مُقدِّمة:
تلعب الفلسفة دورًا مهمًّا في حضارة الأمم وازدهارها؛ ولهذا فإنه يُمكن الزَّعم بأنَّ هناك علاقة طردية بين تطوُّر مُجتمع ما، وأمنه الاجتماعي، وسلامته، وانتشار قِيم التسامح والتعايش والتجاور من جهة، وبين انتشار الفكر الفلسفي وقبوله في ذلك المجتمع من جهة أخرى. والمتأمِّل في تاريخ الحضارات قديما وحديثا، يستطيع أن يرى -بوضوح- الإسهامات الإيجابية للفكر الفلسفي في تطوُّر المجتمعات في مجالات متعددة؛ سواء كانت سياسية، أو اقتصادية، أو ثقافية. وفى ضوء هذا الفهم، تسعى هذه الورقة البحثية لمناقشة الدَّور الذي تلعبه الفلسفة داخل الحضارة العربية. ولكي نكون أكثر تحديدًا، نسعى لمعرفة الدور الذي يمكن أن تلعبه الفلسفة في العلم وعلاقة الباحث العلمي بالفلسفة، وإذا كان ثمَّة دور للفلسفة في العلم، فماذا عساه أن يكون؟! هذه الأسئلة سنحاول أن نقدم إجابة عنها عبر الصفحات التالية.
الباحث العلمي والفلسفة:
كان لا بد من ضرورة مناقشة العلاقة بين الباحث العلمي والفلسفة؛ وذلك لأننا نزعم أن حركة التطور والتجديد في العلم لابد أن تستند إلى أسس فلسفية، ورؤية منطقية، ومهارات نقدية تستطيع الفلسفة أن تزود بها الباحث العلمي من أجل دفع حركة العلم. فإذا كانت الفلسفة تميز بين نوعين من الفكر: الفكر النسبي والفكر المطلق أو الدوجماطيقي، فالفكر النسبي يؤمن دائما بأن الحقيقة العلمية متغيرة، وأن مقولات العلم في صيرورة مستمرة؛ لهذا فالباحث ذو الفكر النسبي يؤمن بتعددية الآراء، ويسمح بالاختلاف، ويفتح مجالا واسعا للرؤية المتعددة للنص الواحد، أو القضية الواحدة. وعلى النقيض، فإن الباحث العلمي المؤمن بالفكر المطلق أو الدوجماطيقي -رغم إيمانه بأن العلم متغيِّر- إلا أن عقله يرى أن نظرية ما -على سبيل المثال x- صالحة، وأن مقولاتها النظرية ومبادئها جديرة دائما بالتوظيف، حتى لو كان السياق ذاته مختلفا. وهذا الفهم يفتح طريقا لواحدية النص، ورفض التعددية، ومحاربة الجديد من الأفكار. وهنا، يقع الباحث في مفارقة جديرة بتسليط الضوء عليها؛ وهي أن الإيمان بالنسبية والتغير يندرج تحته فكرٌ صارمٌ متشددٌ، يُقصي الفكر الآخر المخالف ولا يقبله.
إن تطبيق هذه الثنائية الفكرية في ثقافتنا العربية، وفى مؤسساتنا التعليمية العربية، وعلى الباحثين المشتغلين بالبحث العلمي في عالمنا العربي، نجد أنها تعكس التشدُّد الفكري والتعصُّب للرأي وواحدية الفكر. والمتأمل للإنتاج الفكري لطلاب الدراسات العليا في مؤسساتنا العربية، سيجدها انعكاسا لرؤية المشرف؛ فالطالب نادرًا ما تُتاح له حرية التعبير وتقديم الجديد إن كان مُخالفا للعقل الدوجماطيقي. وفي الحقيقة أن الانصياع لهذا الفكر الدوجماطيقي -المنتشر لدى أغلب الباحثين العرب- يعد نقيضا للإبداع والتجديد وحرية إعمال العقل، وهي من المبادئ العامة التي تنادى بها الفلسفة، كما أنها من الأسس التي تتوقَّف حركة تقدم العلم على الإيمان بها وممارساتها. وهنا نطرح التساؤل المهم؛ وهو: ما علاقة طبيعة تفكير الباحث العلمي بالتنوير؟
وللإجابة عن هذا السؤال، كان لابد من التطرق للفيلسوف الألماني إيمانويل كانط، الذي قدم إجابة ملهمة لمفهوم الإبداع، وعلاقته بالتفكير؛ وذلك في مقاله الذي كتبه في العام 1784، وتُرجم للإنجليزية: “إجابة عن سؤال: ماذا عسى أن يكون التنوير؟” (Beade.2014:87).
يُجيب كانط بأن التنوير هو “تحرر من الوصايا التي تكبدت الذات”، وقد عبر عن ذلك بجملته التي صارت لاحقا شعارا للتنوير: “كن جريئا في استخدام عقلك”. في الحقيقة لم يستخدم كانط -في هذا السياق- مصطلح أو مفهوم Reasonبمعنى العقل، لكنه استخدم مصطلح الفهم understanding، الذي تُرجم بمعنى أو كمرادف لمفهوم العقل. والمقصود إذا ما أراد المرء أن يكون تنويريا، فعليه أن يتصف بالشجاعة اللازمة لاستخدام مهارات ملكة الفهم التي تنطوي على مهارات كالتطبيق والتحليل والتأليف والتقويم…وغيرها من المهارات العليا التي تهتم بها الفلسفة. إن هذه المهارات التي تندرج تحت مفهوم كانط عن العقل، هي ما يسمح للفرد تشكيل معرفة، ومن ثم تفتح الطريق نحو التعددية، وهو ما تطرحه الفلسفة على وجه التحديد. والسؤال الآن: كيف يمكن للفلسفة أن تسهم في حركة إنتاج العلم في عالمنا العربي؟ وقبل أن أجيب عن هذا السؤال، نعود للدور الذي لعبته الفلسفة في حضارتنا العربية والإسلامية، وكيف انتهى بها الدور في الحركة العلمية منذ القرن الحادي عشر وحتى عصرنا الحالي (حسن&السعدي. 13:2017).
عندما نخضع الحضارة العربية الإسلامية للتحليل النقدي، فيمكننا أن نميز بين مرحلتين: مرحلة ازدهار الحضارة حتى القرن العاشر الميلادي، ومرحلة انحدارها وهي المرحلة التالية للقرن العاشر. ومن وجهة النظر التحليلية، تأتي الفلسفة كأحد أهم المعايير التي تميز بين المرحلتين. فعندما يتم قبول الفلسفة في المجتمع، تعد من أقوى العوامل التي تدفع الحضارة للتقدم، بما تصبغه على الحضارة ذاتها من قيم تعددية وتسامح وتعايش، بينما العكس عندما يتم نبذ الفلسفة اجتماعيًّا تسود قيم التعصب والاضطهاد واللاتسامح…وغيرها من القيم السلبية. ولعل ظهور الغزالي، وصراعه مع ابن رشد، واعتلاء الساحة الفكرية علماء دين كابن تيمية وابن القيم…وغيرهما، أسهم في انحسار الفلسفة ومكانتها بتجديد الفكر وتحريك الجمود الفكري الذي ظل مسيطرًا على عقول المشتغلين بالبحث العلمي. ومن أبرز النقاط المهمة التي كشف عنها التحليل النقدي: أن العقل الإسلامي استخدم الفلسفة كأداة للتفكير المنطقي السليم. إن العقل الإسلامي لم يُقدم جديدا في نظرية المعرفة، ولكن استخدم نظريات أفلاطون وآرسطو في محاولة التوفيق بين الدين والفلسفة. ومن ثمَّ، فإنَّ العقل الإسلامي لم تتوافر لديه القدرة على التنظير وطرح الأفكار النظرية، ووضعها في سياق متكامل (Russell.1945:Ch.X) بدليل أن علماء المسلمين أول من استخدموا التجريب في البحث العلمي، لكنهم لم تتوافر لديهم القدرة على صياغة هذه الإجراءات العملية في شكل قواعد المنهج العلمي، كما قدمها بيكون في عصر النهضة (حسن&السعدي.13:2017).
ومن النقاط المهمة أيضا، والتي كشف عنها التحليل النقدي، هي ذلك التقاطع -النظرة التكاملية والشمولية للعلوم- بين الفلسفة وبين مجالات البحث المختلفة؛ فالطبيب والمهندس والفيزيائي والفلكي كانوا فلاسفة -كابن سينا والرازي وابن رشد وابن الهيثم…وغيرهم من العلماء الذين أسهموا في الكتابات الفلسفية- وهذا ما ميَّز مرحلة الازدهار الحضاري، بينما عندما انفصلت الفلسفة -فكرة الخطوط المنفصلة، أو الكيان العلمي القائم بذاته- وانحسر دورها ولم يعد من الباحثين -في المجالات البحثية المختلفة- مهتمٌّ بالفلسفة وقيمها التي تمنحها، تراجع الإنتاج الفكري، واتصف بالجمود والتقليد، وتراجع الدور الإبداعي للباحث. والسؤال الآن: ما هي الإسهامات التي يمكن أن تقدمها الفلسفة للباحثين في مجالات العلم، وكيف يكون للفلسفة دور في تجديد الفكر وتفعيل العقل التنظيري للباحثين؟ الإجابة عن هذه الأسئلة ستقودنا لمناقشة المحور التالي.
الفلسفة وبناء النموذج العلمي:
يقصد بالنموذج العلمي طريقة إعادة تمثيل الواقع، أو بناء معرفي، أو نظرية ما، بطريقة مبسطة؛ وذلك باستخدام الأشكال التوضيحية التي تعكس طبيعة التفاعلات البينية القائمة بين عناصر البناء. لهذا؛ نجد أن العلماء والمفكرين يلخصون التعقيدات النظرية التي يطرحونها في صورة نماذج تعكس طبيعة المفاهيم والمبادئ التي تقدمها نظرياتهم وديناميكية العلاقات بين مدخلات النظرية وعلاقتها بالمخرجات. والسؤال الآن: كيف يمكن للفلسفة أن تساعد الباحث العلمي نحو تفعيل العقل التنظيري، ومن ثم تقديم شيء ما جديد في مجال البحث العلمي؟ نعم، الفلسفة تستطيع مساعدة الباحث العلمي بما تملكه من أدوات خاصة -تجريد- وأسس للاستدلالات الصحيحة، وتأسيس نتائج منطقية سليمة لازمة عن المقدمات، واكتشاف مدى الاتساق والتناقضات بين المقدمات والنتائج، وتستطيع الفلسفة أيضا المساعدة بما تملكه من تصورات قائمة على الحدس -الذي يتجاوز التجربة- الوصول للجديد، أو الإبداع في مجال العلم. ولعل هذا ما جعل أهم الفيزيائيين النظريين في القرن العشرين، يؤكد على أهمية الخيال الذي جعله في منزلة أعلى من منزلة المعرفة؛ ذلك لأن المعرفة محدودة بشروط وإجراءات، بينما الخيال غير محدد، ومن ثم فهو غير مشروط. فقد يظن الكثير من الباحثين أن إنتاج المعرفة يتوقف على الالتزام بالواقع وموضوعاته، وعدم تجاوز ذلك -كما هي الحال عند التجريبيين- بينما يرى البعض الآخر أن إنتاج المعرفة لا يعتمد على التجربة وحدها، بل لا بد من الاعتماد على مصدر أعلى منها وهو الحدس -كما هي الحال عند أصحاب الفكر الاستدلالي الفرضي- ولهذا، فالفلسفة يُمكن أن تساعد الباحث العلمي في طرح تصور نظري، وتمثيله في صورة نموذج يبسط للباحثين طبيعة العمليات والتفاعلات التي تقوم بين المدخلات النظرية انتهاء بالمخرجات، أو القانون واختباره. إن تطبيق هذا القانون أو النموذج -بطريقة عملية- هو ما يثبت جدارته واستحقاقه. فالفلسفة تلعب دورا مهمًّا في البنية المعاصرة للعلم، ويمكن لها أن تقدم إسهاما حقيقيا للعلم عبر هذه الخطوات المتسلسلة، التي يستطيع فيها الباحث استخدم نموذج أو استعارة نموذج من نظام معرفي لإعادة اكتشاف أو إعادة تأويل موضوع أو ظاهرة في نظام معرفي مختلف.. وهذه الخطوات الثلاث كما يلي:
1- اللحظة السعيدة: وهى اللحظة التي يكتشف فيها الباحث التشابه بين نظامين معرفيين، أو اكتشاف إمكانية الاستفادة من نموذج ما في تفسير ظاهرة في مجال آخر مختلف.
2- الربط سويا: وهي محاولة الربط بين عناصر النسق أو البناء -بطريقة ما مخالفة لطرق الربط بين تلك العناصر- وهو الذي يقود لعملية التجديد والقراءة الجديدة لنفس العناصر المكونة لنفس النسق.
3- التحقق: وهو اختبار صحة النموذج الناتج عن عملية الربط والبناء؛ وذلك بتطبيقه على إحدى المسائل التي تنتمي لهذا العلم أو غيره من العلوم الأخرى.. كما سنناقش ذلك لاحقا.
فالفلسفة ليست كما ادعى الفلاسفة اليونانيون مُتعة نظرية، بل للفلسفة أهمية تطبيقية مهمة في مجال البحث العلمي؛ وهي : البناء والتصميم النظري وهي عملية تحتاج لمنطق للبناء والكشف، وهو من صميم الفلسفة (هذا من جهة)، ثم إعادة النموذج -بعد الانتهاء من تصميمه وبنائه- إلى الواقع لاختبار صحة مقولاته ومبادئه، واختبار مدى فاعليته من جهة أخرى. ومن ثم، فإنَّ الفلسفة يمكن أن تسهم في هذا الإطار من خلال نوعين من النماذج، تستند إلى أساس أبستمولوجي مغاير، أقصد بهما النماذج الواقعية والنماذج المثالية.
أولا: الفلسفة والنماذج الواقعية:
في هذا المحور، سنحاول أن نوضح كيف يمكن للفلسفة أن تسهم في المساعدة في تقديم معرفة جديدة من جهة، والربط بين عدد من المجالات المعرفية فيما يطلق عليه الدراسات البينية من جهة أخرى. والفلسفة -كما سبق وأوضحنا- تمكِّن صاحبها من ممارسة فعل التجريد؛ بمعنى: معرفة المتشابهات أو العناصر المشتركة للوصول إلى فكرة كلية مجردة، تجمع هذه العناصر، ومن ثمَّ إمكانية الوصول لتعميمات ومبادئ شاملة. ولا شك أن القاعدة المعرفية التي تقوم عليها العلوم المختلفة متشابهة، وبناء على هذه المسلمة فإنه يمكن للباحث استعارة نموذج بنائي في أحد المجالات المعرفية؛ لتفسير ظاهرة أو أخرى في مجال معرفي آخر. ومن هنا، يمكن تقسيم هذا التشابه إلى ثلاثة أنواع:
- تشابه مباشر بين العناصر: وهنا يمكن الاعتماد على نموذج، اعتمادا على درجة التشابه بين العناصر في كلا المجالين المعرفيين.
- توازي على مستوى البناء: وهنا يكون الاعتماد على نموذج، اعتمادا على التشابه بين البناء أو النسق الذي يجمع كلا المجالين.
- الغرض من البحث: وهنا يكون الاعتماد على نموذج، اعتمادا على الغرض من البحث، وهو محاولة تفسير إحدى الظواهر بتفسيرها اعتمادًا على المبادئ والقواعد الحاكمة لظاهرة أخرى تنتمي إلى مجال معرفي مختلف.
فعلى سبيل المثال: هناك محاولات لتفسير مفهوم الدولة اعتمادًا على نموذج فيزيائي، كما أن هناك محاولات لتفسير النشاط الاقتصادي اعتمادًا على نموذج رياضي، وهناك محاولات لتفسير الحضارة الإنسانية اعتمادًا على نماذج فلسفية قدَّمها الفلاسفة للنشاط العقلي. وهكذا؛ فالاعتماد على نموذج الهدف منه تجديد الفكر وطرح أفكار ومقارنات وتطبيقات جديدة داخل نظام معرفي ما لإعادة تفسير إحدى ظواهره بطريقة جديدة، ومن ثمَّ إكسابها أبعادا تفسيرية جديدة.. فالفلسفة تساعد بشكل كبير على فهم واقع النظرية بما تتضمنه من أبعاد معرفية، وتسعى أولا لعملية تجريد بردِّ المتشابهات إلى أفكار مجردة، وإدراك التفاعلات بين عناصر النظرية، ثم تتبعها عملية بناء نموذج وربط مقولات ومفاهيم ومبادئ النموذج، عبر عملية محاكاة ومماثلة – كما يتضح من هذا الشكل. فأهمية الفلسفة في بناء النموذج لا تتوقف على عملية تجريد محض، لكنها عملية بنائية -وهي عملية فكرية جادة- تهدف لتطبيق ما أسفرت عنه عملية التأليف العقلي على المعطى، ومن ثم إعادة تفسيره؛ الأمر الذي يسمح بالتعددية الفكرية والقراءة المتعددة للمعطى. ولعل الشكل التالي يوضح طبيعة البناء والعمليات العقلية التي يتضمنها بناء النموذج التفسيري.
وفى الحقيقية، الفلسفة تسهم بشكل واضح وفعَّال في عملية البناء والتفسير، ومن ثمَّ تقديم نواتج فكرية جديدة غير تقليدية. ففي المؤسسات الجامعية الغربية والباحثين الغربيين، تثمن دور الفلسفة بما تقدمه للباحث من مهارات تساعده في البحث والفهم والتحليل والتأليف والتطبيق، ثم التقييم، وهي سلسلة متصلة من العمليات العقلية التي تدفعه لتقديم تصورات نظرية مختلفة للموضوع الواحد، ومن ثمَّ فهي فعالية ونشاط مستمر من التنظير الذي يواجه الانغلاق الفكري والقراءة الواحدة.
إذا كانت الفلسفة يُمكنها أن تقدم هذه العمليات العقلية لبناء نموذج تفسيري؛ فالنتيجة المتوقعة أن تسهم الفلسفة كذلك في الأنساق المعرفية المتعددة؛ سواء كانت طبيعية أو إنسانية لتقديم تفسير كلي شامل يغطي جميع الجوانب المتعلقة بالظاهرة. لهذا؛ كان السؤال: هل يمكن للفلسفة أن يكون لها دور لتلعبه في الدراسات البينية؟ وفي الحقيقة الفلسفة تسهم إسهاما واضحا وفعَّالا في البنية المعرفية للدراسات البينية؛ ذلك لأن الدراسات البينية في حاجة لنموذج لإدراك العناصر المشتركة بين الأنساق المعرفية، وتجريدها، ومعرفة التفاعلات البينية بين تلك العناصر، ثم تأليفها -في إطار تصور جديد- بمفاهيم ومبادئ جديدة، ثم بناء النموذج العلمي الذي يمكنه أن يعيد تفسير الظواهر التي تنتمي إلى تلك الأنساق المختلفة؛ وبذلك يمكن للفلسفة ان تؤسس ما يعرف اصطلاحا بـ”وحدة المعرفة الإنسانية”. ولعلَّ المشتغلين بهذا النوع من الدراسات يؤكد على أهمية الفلسفة من حيث الدور الذي تلعبه في الفهم والتجريد والتحليل، ثم إعادة التأليف من اجل بناء نموذج تفسيري جديد يسعى للربط بين العديد من الأنساق التي تبدو مختلفة وغريبة عن بعضها البعض. وفى ضوء هذا الفهم، سعى الباحث لتقديم بعض الإسهامات الفكرية لتفعيل دور الفلسفة في عملية البناء الفكري، وتوظيفها في عملية الربط بين الأنساق المعرفية المختلفة. فعلى سبيل المثال: تم طرح تصور نظري ونموذج للربط بين الفلسفة وعلم السياسة. فقد كان الموجه النظري هو التساؤل: هل الثورة تسير بطريقة عشوائية، أم أنها تسير وفقا لآليات ووفقا لمجموعة من القوانين التي تحكم تطورها. وقد سعينا إلى بناء نموذج يفسر القوانين التي تسير عليها الثورة؛ من خلال أخذ نماذج لمجموعة من الثورات، مارسنا عليها العمليات العقلية من تجريد واستدلال وتحليل وتركيب؛ من أجل بناء نموذج يفسر لنا حركة تطور الثورة ذاتها. إذن الفلسفة تسهم بشكل واضح في تجاوز المعرفة التقليدية، وتسعى بفاعلية نحو طرح أفكار جديدة تسهم في دفع المعرفة، وتقديم فكر جديد. ولكن: هل كل معرفة مُمكنة تكمُن في الواقع؟ وهل المنهج التجريبي واتباع خطواته هما السبيل الوحيد لإمكان المعرفة؟ إنَّ الإجابة عن هذا السؤال تقودنا لمناقشة المحور الثالث.
ثانيا: الفلسفة والنماذج المثالية:
في الحقيقة، الإيمان بالواقع وموضوعاته القابلة للملاحظة والقياس، وأن المعرفة تكمن فقط في حدود الواقع ولا تتجاوز الأساس المعرفي الذي شيد عليه التجريبيون فلسفتهم؛ وذلك بهدف غلق الطريق أمام العقل للوقوع في براثن الأفكار الميتافيزيقية. هذا ما فعله الفكر التجريبي الإنجليزي منذ روجر بيكون وفرنسيس بيكون وحتى يومنا هذا؛ اعتقادا منهم بأن العقلانية العلمية لا تتأسس إلا في حدود التجربة، وفي نطاق موضوعات الواقع. ولكن في الحقيقة ظهرت دعوات تطالب بالخروج عن المنهج التجريبي فيما عرف لاحقا بـ”ضد المنهج”، الذي نادى به الفيلسوف النمساوي فيرابند في كتابه الشهير “ضد المنهج”. فالعقلانية العلمية لا تنحصر فقط على اتباع قواعد منهجية صارمة، ولكن تكمن أيضا في اللاعقلي أو تجاوز حدود المنهج، وهذا ما أكده في مقاله بعنوان” طغيان العلم”. حيث قامت حجته الأساسية على الزعم بأنه من الخطأ اختزال العلم في بعض قواعد منهجية يتبعها الباحث؛ فالتعدد والتنوع هما الأساس الذي تستند إليه العقلانية العلمية. وأن تنوع الآراء شرط ضروري للموضوعية؛ لهذا زعم بأن المنهج الذي يدفع للتنوع والتعدد هو منهج صحيح يساير الطبيعة الإنسانية (Feyerabend.1993.27). فإذا كانت العقلانية العلمية يُمكن تأسيسها بناءً على التعددية والتنوع -بناءً على هذا التصور الذي طرحه فيرابند- فإننا نؤمن بأن النماذج المثالية يمكن أن تسهم في تجديد المعرفة العلمية بطريقة تسمح بالتعددية الفكرية والنظرية بين الباحثين داخل المجال الواحد. فالنموذج المثالي هو شكل من أشكال الأبستمولوجية الذي يستهدف المعنى أو البناء، وليس الموضوع. ولهذا؛ أطلق عليه مسمَّيات عديدة؛ منها: النموذج الخيالي، والنموذج اللاواقعي، والنموذج بلا غرض، والنموذج اللا تمثيلي، والنموذج البديل.
وهو بهذا المعنى يختلف عن النموذج الواقعي الذي يُبنى من أجل تفسير موضوع معرفي محدد، ولأنه يمثل الموضوع ذاته. فإذا كانت النماذج المثالية تعرَّف على هذا النحو، فقد استطاع الباحث تأسيس اتجاه جديدا للبحث أطلقنا عليه المثالية البنائية، وهو اتجاه استغرق بناء نموذجه ثلاثة عشر عاما (Hassan.2013:133)، وهي نظرية معرفية يمكنها -كما يؤمن الباحث- أن تقدم تفسيرا للظواهر العلمية والإنسانية بصورة تتصف بالشمولية والكلية، ومن ثم فهي محاولة معرفية متعمقة للتحليل. فهي رؤية تتجاوز الواقعية؛ لأنها ترى أن المعرفة أكبر من أن يشملها موضوعات العالم الخارجي، وأن هناك نوعا آخر من المعرفة يتجاوز التجربة -يقبع في دائرة الحدس- كما أنها تختلف عن النماذج المثالية من حيث أنها نماذج لا غرض منها، أو غير تمثيلية؛ وذلك لأنها تسعى لتطبيق النموذج البنائي مرة أخرى؛ إما مباشرة في الواقع، أو عليها الانتظار حتى يتحقق موضوعها واقعيا في المستقبل. فالموضوع في هذه اللحظة لن يكون سابقا في الوجود على النموذج، كما في النماذج المثالية، ولكن الموضوع ذاته سيكون ناتجا وخلقا مباشرا لتفعيل النموذج ذاته. فهذا النوع من النماذج المثالية البنائية التي عليها أن تنتظر فترة حتى يتمكن النموذج من أن يفعل بطريقة وواقعية كنموذج السيارة الطائرة. فنموذج السيارة الطائرة ليس من الموضوعات المباشرة للتجربة, أو للواقع، ولكن تم بناء نموذجها بطريقة تتجاوز الواقع ذاته، وكان على النموذج الانتظار حتى يتم تفعليه واقعيا كما نرى الآن (حسن.150:2014). هذا النوع من النماذج يجدد المعرفة، بل يخلقها، وهذا ما نريده من الباحثين.
أما النوع الآخر، والذي تنطوي عليه المثالية البنائية، هو خلق معانٍ جديدة لم تكن موجودة في الموضوع الواقعي أو المعطى ذاته، وإعادة تفسير الموضوع اعتمادا على المعاني الجديد المكتشفة. فالمثالية البنائية تهدف لإقامة نموذج يفهم الموضوع المعطى في ضوء معانٍ مثالية مفارقة للموضوع ذاته، وليست من خصائصه. وهنا، يكمُن الفارق بين النماذج التي يصممها الباحث المنتمي للواقعية البنائية، وبين النماذج التي يصممها الباحث المنتمي للمثالية البنائية، في قدرة الأخيرة على اكتشاف خصائص كلية تتجاوز حدود المعطى المحسوس. وهنا، قدم الباحث دراسته “الأسس المنطقية لعلم النفس”، وهي تطبيق للنموذج المثالي البنائي في فهم وتحليل علم النفس؛ باعتباره أحد العلوم الاجتماعية (Hassan. 2013:87-93).
الخاتمة:
لقد أوضحنا -عبر هذا المقال- أهمية الفلسفة في مجال الأبستمولوجيا المعاصرة، كما أوضحنا كيف يمكن للفلسفة أن تلعب دورا مهمًّا وفعَّالا في الدراسات البينية، وكيف يمكن للفلسفة أن تسهم -بما تمنحه من مهارات- في دفع المعرفة للأمام، وتجديد حركة الفكر بما تقدمه من مهارات تسمح للباحث وتقوده للقراءات المختلفة للنص، كما أنها تسمح بتقديم تفسيرات متعددة للموضوع المعطى؛ وذلك من خلال استخدام النموذج العلمي؛ سواء بنوعيه الواقعي أو المثالي. العقل الغربي لا يزال قادرا على تجديد المعرفة وخلقها؛ نظرا للمكانة التي تحتلها الفلسفة في الجامعات والمؤسسات التعليمية الغربية. لهذا؛ نجد ان مفاهيم التعددية والنسبية من الممارسات الفكرية والسلوكية لدى الباحثين العلميين. بينما في عالمنا، فإن الواحدية والدوجماطيقية من الممارسات التي تعكس طبيعة الفكر السائد لدى الباحثين العرب. ويظل السؤال: هل باستطاعتنا تغيير اتجاهاتنا نحو الفلسفة؟ وهل باستطاعتنا قبول وممارسة التعددية في الفكر والعمل. هذا هو التحدي الذي يواجهنا في وقتنا الحالي.
—————————————————-
المراجع:
- حسن. مُحمد سيد& السعدي. “عالية (2017).. جدلية العلاقة بين العلم والفلسفة والحضارة، نحو بناء نموذج معرفي إسلامي، جامعة الشارقة. الإمارات.
- حسن. مُحمد سيد (2014) المثالية البنائية: رؤية أبستمولوجية جديدة وتطبيقاتها فى العلوم الإنسانية, مجلة جامعة القاهرة، مصر.
- Beade,I,P(2014) On Kant’s Conception of Enlightenment, Journal of Las Torres de Lucca, vol(4).PP85-113,Spain.
- Feyerabend,P(1993) Against Method, publishing by Verso, London.
- Hassan. M.S(2013) Logical Foundation of Psychology, Lambert Publishing, Germany.
- Russell, B(1945) Philosophy of Western Philosophy, Simon and Schuster,INC, Rockefeller Center, New York, Book 2 Part 2, Ch x.
4,895 total views, 5 views today
Hits: 420