علاقة النفس بالبدن في فكر ديكارت والملا صدرا
مُحمد بن رضا اللواتي
ورقة مشاركة في “منتدى اليوم العالمي للفلسفة”، الذي أقامته جامعة السلطان قابوس ومجلة “شرق غرب” الثقافية، بالنادي الثقافي مساء 29 نوفمبر 2017م
لماذا هذا البحث؟
الغرض الأساس من هذه الورقة هو تقديم فكرة جلية عن التطوُّر الحاصل في موضوع علاقة النفس بالبدن في الفكر الفلسفي، عندما تمَّ للملا صدرا -صاحب مدرسة الحكمة المتعالية- اكتشاف الحركة الجوهرية في صميم العالم. وتروم هذه الورقة -بهذا الغرض- منح مزيدٍ من المعلومات عن تطور المسائل الفلسفية في الحقبة المتأخرة من الفلسفة الإسلامية؛ وذلك “لأن معلوماتنا عن التطور الحاصل ما بعد القرن الثالث عشر في مسائل الفلسفة الاسلامية تُعد محدودة جدا” وفقا لبعض الباحثين١. ومن المتوقع أن تكون من محاسن هذا الاطلاع شحذ هِمم الفكر نحو مزيد من نقد التصورات في هذا المجال؛ لأجل سبر غور هذه العلاقة حتى التحقق من الأمر كما هو في ذاته.
وليست هنالك طريقة أفضل من “الانطلاق من الأشياء كما هي في ذاتها”، وعلى حد تعبير “هوسرل”: “كل مشاهدة أصيلة هي مصدر صحيح لمعرفة”٢. وجاء اختيار الفيلسوف الفرنسي الكبير رينه ديكارت لعرض تصوراته حول علاقة النفس بالبدن؛ كونه يُمثل حُقبة متطورة من التفكير ذاته في هذا الحقل، على ما سنقوم بالتدليل عليه خلال السطور التالية.
أهمية هذا البحث
كان الاهتمام باكتشاف علاقة النفس بالبدن، بعد التحقق من وجودها، على مرِّ العصور الأسطورية، وورثت الفلسفة هذا الاهتمام حتى جعله كبار الفلاسفة من أهم مسؤوليات التحقيق الفلسفي وللميتافيزيقا.
الديانة “الأورفية” التي ظهرت في القرن الثاني عشر قبل الميلاد، كانت تقول بأن النفس تنتقل بالموت إلى عدد من الأجسام، وتستمرُّ على هذا المنوال إلى أن تكفِّر عن آثامها٣.. وقبلها، كانت “الهرمسية” تعتقد بأن الجسد ليس غير “قيد” أو “سجن” للنفس، التي تتحرر عبر الموت٤. وعندما نتخطَّى العصر الأسطوري إلى ما قبل الفلسفة، وفي أثينا تحديدا، نجد أن “انبادوقليس” جعل كل عنصر من عناصر الأرض بمثابة “نفس”٥، والفيثاغورسيون على هذا المنوال كذلك، جعلوا الأبدان ملابسَ للنفس تنتقل من واحدة تلو الأخرى، حتى تجد طريقها نحو الطهارة والتحرُّر والخلود٦.
ولنقف قليلاً مع سقراط، الذي يُرجع طبيعة النفس إلى “الإله”؛ بوجود يجعلها قائمة بذاتها، وهي من جنس مُغاير تمامًا للبدن، تقوم بتدبيره والعناية به. وعليه، فالنفس هي الإنسان بذاته٧. ثمَّ نقف مع تلميذه الفذ أفلاطون لنرى ذات الفكرة تعود مجددًا، ولكن بشكل جمالي أكثر؛ فهو يقرر أنَّ النفس كان سُكْنَاها عالمًا قدسيًّا رفيعًا في جوار الإله، كانت تتنعم فيه بسعادة، لكنها هبطت إلى الأرض نتيجة ارتكابها إثمًا ما؛ فكان العقاب الذي تستحقه هو الحكم عليها بالدخول في جسد من عالم فانٍ، وتظل تنتقل من جسد إلى آخر حتى تتخلص من معاصيها، فتعود إلى عالم الحقيقة والنور والسرور، أو كما يسميه أفلاطون: “عالم المثل”، وشرط العودة والطهارة والخلاص هو “المعرفة”، وليس أية معرفة، بل “الفلسفة” تحديدا، المعرفة التي تتكفل باكتشاف الحقيقة. وإذا أردنا التركيز فحسب على علاقة النفس الخالدة بالبدن الفاني عند أفلاطون، فهذه العلاقة هي: “النفس عِلة الحياة في البدن، وهي مُشاركة في مثال الحياة، فهي لا تموت، فهي إذن أزلية وأبدية”٨.
يبدو أن أرسطو تحديدا، هو الأشد تحقيقا في قضية النفس، والممارس الحقيقي للفلسفة معها لأجل كشف حقيقتها؛ فقد أنزلها من البرج السماوي العاجي، ومن عالم الإله الذي كان أفلاطون قد وضعه فيها، إلى هذه الأرض، ومحى عنها كل أوصاف الخلود والأبدية والأزلية. فلقد انطلقَ مُحقِّقا في “المادة” و”الصورة”؛ فطبيعة العالم الذي تتألف منه سائر الأشياء “مادة”، إلا أنها تصلح لأن تكون أيَّ شيء، وما يحددها فيجعلها شيئا معينا هو “الصورة”؛ فالصورة مانحة المادة وجودا محددا وفعلية ما. إذن؛ الصورة عنده “كمال” المادة، والمادة غُموض بحت ما لم تتلبَّس بصورة ما، فتتحدد وتتحقق هويتها.
الجسد والبدن مادة الإنسان، والنفس صورته، ومن المحال فصل المادة عن الصورة؛ ففصل النفس عن البدن مُحال قطعا. وبناء على هذه العلاقة، لا توجد نفس بعد البدن؛ إذ يلحقها الفساد بفساد البدن٩.
يُثبت أرسطو للنبات نفسًا نامية، وللحيوان نفسًا حاسة، وللإنسان نفسًا عاقلة؛ فهي في هذا الكائن تحديدا تمتلك بشكل مُنفرد القدرة العقلية. وبناء عليه، يؤسس أرسطو نظريته في المعرفة. ولكن ما يهمنا في هذه الورقة هو “علاقة النفس بالبدن” التي تناولها في مؤلفه في النفس، والكتاب الحادي عشر من الميتافيزيقا، وكتاب “الأخلاق النيقوماخية”، وكتاب “السياسة”، وخلاصة ما انتهت إليه تحليلاته.. بناءً على المحققين؛ هي:
- أن أرسطو قد تردَّد بين رؤيتين؛ الأولى تقول بأن النفس تعيش وحدة تامة مع البدن، ولا يتصور وجودها بمعزل عن البدن، على غرار وحدة العلاقة بين المادة والصورة.. فهذان الجوهران (البدن والنفس) يُؤلفان الكائن الحي، فإن خرب البدن وفسد، زالت النفس وتلاشت. والرؤية الأخرى التي أودعها كتابه “السياسة”، ذهب فيه إلى أن النفس هي الفاعل، والبدن ليس إلا الأداة، يخضع دائما للنفس؛ فالأول (النفس) المحرك والبدن المتحرك؛ فحياة البدن من حياة النفس١٠.
- يرى حامد إبراهيم أن “الثنائية” بين النفس والجسد تعود مجددا مع تردُّد “أرسطو” في حسم وحدة النفس مع البدن، بإرجاع تأثير الأول في الثاني، وهكذا تتحقَّق المباينة مُجددا بين هذين الجوهرين على غرار جميع من سبقه١١. ورغم أن جماعة من المحققين يرون أن الفيلسوف الكبير قد ذهب آخر المطاف إلى أن النفس تبقى بعد موت البدن، ولا يلحقها قانون الكون والفساد١٢، إلا أنَّ المعضلة تظل قائمة، وهي تفسير علاقة اتصال جوهريين أجنبيَّيْ الطبيعة مع بعضهما في علاقة حميمة.
وعندما نقف عند أفلوطين، لا نجد كذلك إلا الطائر -النفس- الذي يعشق عشه البدن، بل أعشاشا عِدة.. وبحسب قوله: “إذا قتلت أمك في هذه الحياة الدنيا، أصبحت في الحياة التالية امرأة ليقتلك ابنك”١٣. وهكذا نتأكَّد -بما لا يمنح للشك فرصة- مدى الاهتمام الذي حَظيت به مسألة علاقة النفس بالبدن لدى العهد الأسطوري، وما بعده، حتى ذروة العقل الفلسفي.
ديكارت
”في كلِّ جوهر توجد صفة هي التي تكوِّن طبيعته وماهيته، وعليها تتوقف سائر صفاته. وأنا أجد في ذاتي مجموعة من الأفعال، كالشك، والفهم، والتصور، والإيجاب، والنفي، والإرادة…إلخ، وهي أمور لا يُمكن أن تُحد إلا بالفكر؛ ولهذا فإن جوهر النفس هو الفكر. ومن هنا، تتميز النفس تميُّزا تامًّا عن الجسم. ذلك أن الجسم، وصفته الأساسية الامتداد، لا يتضمن التفكير، وفي مقابل ذلك فإن النفس، وصفتها الأساسية التفكير، لا تتضمن الامتداد”١٤.
إذن؛ ديكارت يرى أنَّ ثمة جوهرين متميزين للغاية؛ الأول: صفته الرئيس وبالتالي شغله الأساس التفكير، وهو “النفس”، في حين أن الآخر صفته الرئيس وبالتالي شغله الأساس الامتداد فحسب، هو “البدن”. ولكنْ، هذان الجوهران المتمايزان، كيف فسَّر لنا اتحادهما؟
ينقل “بدوي” في موسوعته، أنَّ الأميرة “أليصابت” بعثت له تستوضحه هذا الاتحاد كيف يتم، على الرغم من التميز التام بين جوهر النفس وبين جوهر البدن، كيف للإرادة تحريك المادة؟ وكيف أن حركة الجسم تُحْدِث في النفس ألما؟ في التأمل السادس أظهر ديكارت تحيرًا تجاه هذه المسألة ولم يقدم إجابة عنها؛ إذ رغم أنه قرَّر أن الاتحاد بينهما ليس بنحو الاتحاد بين “الربان” وبين “سفينته”؛ إذ لا يتألم الربان إن أصيبت السفينة بعطب، إلا أنه يعجز عن تحرير المسألة على قاعدة الإجابة الشافية١٥.
فما الذي حدا -والحال هذه- إلى اختيار الفيلسوف الفرنسي الكبير لاستعراض تصوُّراته حول علاقة النفس بالبدن؟
ديكارت الذي أَظْهر اهتمامًا بالغًا في مسألة النفس، فكتب رسالة “فيما بعد الطبيعة” عام 1628م؛ تحدث فيها عن النفس العاقلة وخالقها، وعاد يحقق فيها مجددا في أولى تأملاته التي كتبها باللاتينية عام 1641م؛ سطر فيها برهانًا على وجود الله وخلود النفس، لقد تلقَّى المجتمع الأوروبي فلسفته باعتبارها “صرعة”١٦ العصر. فلقد تعلَّق به الجانسينيون، وتعاطف معه الأوراتوريون، وناصبه العداء اليسوعيون، وعدَّه اللاهوتيون والمشاؤون خطرًا على مواقعهم المكتسبة؛ فتمكنوا من إقناع السلطة الملكية والمحكمة العليا لأجل حظر فلسفته١٧.
تعدَّى الأمر ذلك الصخب إلى حيث تبنِّي عدة توجهات لفلسفته.. ففي هولندا، روَّج لها كتاب “أدلة الفلسفة الديكارتية”، وكتاب “مفتاح الفلسفة الطبيعية”، وكتاب “الموازاة بين الفلسفتين الأرسطو طاليسية والديكارتية”، وكتاب “الرد على اسبينوزا”. أما في إنجلترا، فروَّج لها كتاب “التعاليم الفلسفية”. وفي ألمانيا، ظهر كتاب “الرد الصريح حول الفلسفة الديكارتية”. وفي إيطاليا روج لها كتاب “الفلسفة الشاملة”١٨؛ مما يُؤكد سعة انتشارها في الوسط الأوروبي. من هنا، أتى اختيارنا لهذه الفلسفة تحديدا، والتي لم تجد حلًّا صريحًا يفسر اندماج جوهرين متمايزين في بوتقة واحدة؛ ليكون هذا الاختيار مؤشرًا ساطعًا على غُموض المسألة، وتعاليها عن الحل المرضي لدى أعتى وأشهر اتجاهات الفكر الفلسفي الأوروبي.
إلى هنا، انتهينا إلى أن المسألة ظلَّت على حالها لم تتقدَّم قيد أُنملة؛ فحتى وإن اعتنقنا اتحاد النفس مع البدن في وحدة واحدة؛ بحيث لا يكون لها وجود بعد البدن أو قبله، وفقا لقراءات مُعينة لأرسطو.. يبقى السؤال كما هو؛ وهو: جوهران مختلفان ومتمايزان؛ أحدهما حادث وفانٍ يقبع في مكان ويحيط به الزمان، والآخر أزلي أبدي -وعلى أقل التقديرات- باق بعد البدن أو فان معها يُؤثر في الأول، وهو سبب كل نشاط وحيوية وإبداع يظهر في البدن، تُرى كيف أمكنهما أن يُسافرا جنبا إلى جنب في قطار الزمان على نحو من الوحدة والأُلفة العجيبة هذه التي يشهدها جميعنا؟
الفلاسفة المسلمون
يستند القائلون بقِدَم وجود النفس، إلى حُجَج عِدَّة؛ أهمها:
- إنْ كانت النفس حادثة فسوف تكون مادية، وإذا غدت مادية، في حين أن الأدلة على تجرُّدها متينة للغاية، والمجرد لا يمكنه أن يحدث فيكون مادة لأنه مجرد، والمادي ليس من نسخ المجرد حتى يقبل المجرد أن ينقلب إليه.
- إنْ فرضنا أنَّ النفس حادثة، وبالتالي مادية؛ فلا سبيل لها إلى عالم البقاء بعد بقاء البدن. فالفناء والدثور سيكونان من لوازمها الأكيدة.. وهو مُخالف أيضا لقاعدة: “كل أزلي أبدي”؛ إذ من المحال أن يكون “كل حادث أزليًّا”!
الفلاسفة المسلمون ذهبوا لتبني موقف المانع من وجود النفس قبل البدن، وهناك من نسب للحكيم الفارابي تردُّدا تجاه ذلك١٩. يقول الشيخ الرئيس في ذلك: “النفس تحدث كلما يحدث البدن الصالح لاستعمالها إياه”٢٠. وردوا على حجج القائلين بقدم النفس بالقول بأن النفس حدثت “مع الأبدان، وليس في الأبدان”. وعليه، لا يمنع أمر من أن تكون مجردة لأنها ليست بمادية ولم تحدث في الأبدان.. غاية الأمر أنها حدثت معها، فهي ليست من نوعها. وإذا لم تكن مادية فلا يمنع أمر خلودها وبقائها بعد دثور البدن.
ولكن ما تفسير العلاقة بينهما؟
العلاقة بَيْن جوهر مجرد، يحدث مع البدن، ويبقى بعدها، بالبدن، الجوهر المادي الذي لا يبقى خارج الزمان بتاتا؟ إلى حد نهاية عصر الشيخ الرئيس، لم تكن الفلسفة الاسلامية تمتلك إجابة عن هذا التساؤل.
صدر المتألهين
يَرَى جمع من الباحثين أنَّ الحكمة المتعالية التي أرسى قواعدها صدر المتألهين، تعدُّ “دورة جديدة، واستشرافا لأفق إبداعي بعد مرور ألف سنة من تراكم التقاليد الفكرية في البيئة الإسلامية. وفي زمن الوهن الفكري والجمود النسبي٢١، و”ثورة تجديدية، صُححت، وابتُكرت، وقُلبت الكثير من المفاهيم”٢٢، و”وثبة معرفية كبرى لفلسفة وجودية حلت بها أحجية الوجود حلًّا لم يتمكن من كان قبله أن يحلها، بمن فيهم ”هيدغر” في روائعه الزمانية، و”سارتر”، اللذان لم يقدما شيئا جديدا في مضمار الوجود، بخلاف الشيرازي٢٣.
وسواءً أتفقنا معهم أو لا، فمن الإنصاف أن نعترف بأن اكتشاف “الحركة الجوهرية” -والذي عده فيلسوف معاصر “بأعظم منتوج عقلي”٢٤- قد رفد الفكر الفلسفي بحلولٍ لعدَّة أزمات فكرية، ظلت عالقة سنين دون أن تجد حلولا لها؛ من قبيل: معضلة علاقة “الحادث” “بالقديم”، و”المادي” “بالمجرد”، و”النفس” “بالبدن”.
الوجود وإعادة موقع الحركة فيه.. الخطوة الأولى
إنَّ أول عمل قام به “الملا صدرا”، وهو بصدد تقديم حل لعلاقة “النفس” “بالبدن”، أن نقل مبحث الحركة إلى مبحث الوجود، وعد البحث فيها بحثا في الوجود. فكما أن البحث في الألوهية ينبغي أن يمر من الوجود، وبالوجود وإلى الوجود، كذلك البحث في الحركة ينبغي أن يكون تدبرا خالصا في الوجود فحسب. وسبب هذه النقلة هو أنه أقام قاعدة “أصالة الوجود”، والتي انفرد بإثباتها، مُغيِّرا وجه الفلسفة الإسلامية التي كانت قد تبنت -منذ نشأتها- مبدأ أصالة الماهية. لقد أضحت قاعدة “أصالة الوجود ووحدته وتشككه” قوام مدرسة الحكمة المتعالية٢٥.
”تدخل الحركة في صميم الوجود وبنيته الداخلية، لا صفاته وأعراضه فحسب كما التزم أسلافه. وتقوم الحركة الجوهرية لدى فيلوسفنا على مبدأ “أصالة الوجود”، وأنه هو المتحقق في الخارج، وليست الماهية إلا انتزاعا عقليا منه، أو انعكاسا ذهنيا له، والمتحرك في الحركة الجوهرية هو الوجود الشخصي للشيء، وللشخص أثناء تحركه حدود ومراتب تزول مع بقاء الشخص نفسه، والمتبدل إنما هو خصوصيات تلك الحدود؛ فموضوع الحركة لا يزول بحصولها. وقد كان هذا أهم اعتراض وجَّهه المشاؤن والإشراقيون إلى وقوع الحركة في الجوهر، وإفضائه إلى انقلاب الماهيات. لذا؛ عنى الشيرازي بالرد عليه بالبرهان والقرآن وبأقوال أئمة العرفان.. أي أنه يستخدم في مواجهتهم كلَّ أدوات الحكمة المتعالية”٢٦.
لم يلغِ الشيرازي الكثرة، ليرتمي في المثالية المنكرة للواقع من حوله، كلا، وإنما أعاد تفسيرها بأطوار الوجود ومراتبه. الوجود واحد بالوحدة الحقيقية، ولكن له شؤون وأطوار ذاتية، فمن مراتبه الكمال الذي يكون فوق ما لا يتناهى بما لا يتناهى مدة وعدة وشدة، ومن مراتبه الانحدار الشديد إلى أبعد درجات النزول؛ حيث عالم الصيرورة والحركة. ومع هذا، تبقى حقيقة الوجود واحدة، وإن تعدَّدت أطوارها، على غرار حقيقة النور ووقوع الدرجات فيه.
عالم الطبيعة من الوجود، وله حركة اشتدادية ينتقل عبرها من حال إلى حال، مُحتفظا بهُويته وسط التحولات.. فالثنائية المتطرفة بين الوجود المادي والوجود المجرد عند أفلاطون، رغم ما جرى عليها من تخفيف عند أرسطو وأتباعه، إلا أنَّ ذلك لم يخرجها من الثنائية. الفلسفة بشكل عام -كما نرى ذلك جليًّا لدى “ديكارت”- والفلسفة الإسلامية بشكل خاص -كما هي الحال لدى الرئيس ابن سينا- ظلت ترزح تحت ثقل هذه الثنائية، إلى أنْ أمكن لفيلسوفنا أنْ يُبرهن على أصالة الوجود، ووقوع التشكك فيه؛ وبذلك فقد ألغى الفواصل بين أطوار الوجود نهائيا.. “إننا أمام فهم متصل للوجود لا ثغرات فيه”٢٧.
لم يعُد مبحث الحركة -بناءً على هذه النظرية- من الطبيعيات. إذ نقله صدر الدين إلى الماورائيات، وعدها بحثا ميتافيزيقيا. وبذلك فقد أرجع نوع التأمل فيه من المستند إلى التجربة بمعونة الحس إلى المستند للتأمل العقلي فحسب، وسد كل الطرق إلى بلوغ حقيقة الحركة باستثناء طريق البحث الفلسفي.. “فالحركة عنده كسائر المعقولات الميتافيزيقية التي يحصل عليها الذهن عبر تحليل المدرك الحضوري”٢٨.
الحركة في صميم الطبيعة
أَرْجع صدر الدين الحركات الظاهرية، والتي تعصف بمتن العالم، إلى حركة في عُمق العالم وكيانه، وعد حركة الأعراض دون حركة الجوهر مستحيلة فلسفيًّا. وبذلك؛ أطاح فهما ظل الإرث الفلسفي يحمله ويحافظ عليه جيلا بعد جيل من أيام أرسطو. وبسريان الحركة في عُمق العالم، لن يعود العالم مكانا للثبات على الإطلاق، بل سيغدو مُجمعا هائلا لحركة لا نهاية لها ما دام العالم موجودا.
ساق الشيرازي براهينَ عِدَّة لأجل إثبات الحركة في الجوهر، إلا أننا نُفضِّل أن نستعرض هنا برهانين فحسب؛ أولهما يقودنا لصلب مسألة صلة المتغيِّر بالثابت، والآخر يقودنا للكشف عن حقيقة الزمان.
البرهان الأول هو:
أ- إن الأعراض الظاهرية على سطح الأجساد في تبدُّل وتغيُّر مستمرين.
ب- الأعراض مُتوقفة في وجودها على حامِل تعرض له، نسميه الجوهر.
ج- لا بُد أن تكون الطبيعة الحاملة لهذه الأعراض (الجوهر) مُتغيرة؛ بناءً على أنَّ عِلة المتغير متغيرة.
والنتيجة: عُمق العالم متغيِّر.
أما البرهان الآخر، فهو:
1- كل جسم فهو زماني.
2- الزمان أمرٌ تدريجيٌّ وسيال.
والنتيجة: لا بد أن تكون الجواهر الجسمانية وسيالة. وبثبوت زمانية الجواهر، ثبتتْ حركتها.. و الاطوار قربا وبعدا هو المطلوب٢٩.
حلَّت الحركة الجوهرية الغموض الذي يكتنف علاقة المادة بالمجرد، والجسم بالروح. ورسمت خارطة لسير المادي إلى عالم التجرد والروحانيات من خلال الحركة الجوهرية. فمنذ أن ألغى الشيرازي الفواصل بين مراتب الوجود باستثناء فواصل الشدة والضعف، ما عاد ثمَّة موجودين؛ أحدهما من الأعلى يُعرف بالروح، والآخر من الأسفل يُعرف بالبدن.. التقيا من غير ميعاد مسبق، ليعيشا غربة غريبة فيما بينهما، إلى أن يفترقا عند مِفرق الموت. كلا.. وإنما هنالك كائن واحد، ذو شخصية واحدة، يمضي في طريق التكامل من أسفل العوالم إلى أعلاها وجودا، كائن “جسماني الحدوث روحاني البقاء”٣٠.
ومعنى ذلك أنَّ الكائن المادي “يتحول إلى روح في سيره التكاملي، وليست الروح شيئا آخر يحل في البدن حال وجوده، ويغادره حال موته. تبدأ الحركة التكاملية الجوهرية للنفس من أدنى مراتبها المادية الجسمانية، حتى تبلغ أعلى مراتبها العقلية التامة؛ حيث يكون لها تعلُّق بالعقل المفارق؛ فالحركة الجوهرية ترى العالم صيرورة متواصلة، وترى النفس جوهرا متسعا باستمرار، وأن المعرفة هي شأن وجودي محض. وعليه؛ فالتراكم المعرفي الوجودي للنفس هو حصيلة التغيير الجوهري فيها؛ لأن هذه الإضافات المعرفية ليست إضافات عارضة، بل هي ذاتية بناءً على أصالة الوجود؛ فالمعرفة صيرورة الأنا وتطوُّر الوجود؛ فهي كالوجود، بل هي عَيْن الوجود.. إنَّ الهدف من الصيرورة الوجودية هذه هو بلوغ النفس لنشأتها العقلية التامة بعد تقلُّبها في الأطوار: قُربا، وبُعدا”٣١.
ننقل هذه النتائج المذهلة بلسان “مطهري” أحد كبار أساتذة الحكمة المتعالية، يقول: “الروح نفسها نتاج لقانون الحركة، وهذا القانون مبدأ لتكون المادة نفسها، والمادة قادرة على أن تربي في حجرها موجودا يُضاهي ما وراء الطبيعة، ولا يوجد في الحقيقة حائلٌ يحول بين المادة وما وراء الطبيعة، ولا مانع أن تتحول المادة بعد اجتيازها لمراحل الرُّقي والتكامُل إلى موجود غير مادي”٣٢.
”هكذا يتجاوز الشيرازي ثنائية الخالق والمخلوق، وهذا مُهمٌّ جدًّا؛ من أجل انبعاث كائن أرضي إلى عالم مُتعال؛ وذلك لأنَّ الشيرازي يرى حسب نظريته في وحدة الوجود أنَّ شكلا من التشكيك يجمع بين الوجود والموجود؛ بمعنى أنَّ الوجود يتمثل في أشكال مُتعددة الظهور؛ فهو مع الجوهر جوهري، ومع العرض عرضي. وفي هذا الأطار، تأخذ الروح العاقلة بُعدا ماديًّا مع المادة، وعقلانيا مع العقل.. هذا التصور يدخل في إطار نظرية الشيرازي للوجود والحركة الجوهرية. وتحظى الحركة الجوهرية إذن بمكانة مركزية في فلسفة الشيرازي، إلى جانب نظرية الوجود. تهدف الحركة الجوهرية أولا إلى غاية مُتعالية: إنها تربط العالم الأرضي بالعالم السماوي، إنها تقود المادة للعقل، وتقود المتعدد للوحدة، وتجعل من الظهور حقيقة واقعية، وتنقل بالنقص إلى الكمال. وهي بكل هذا تربطُ بين الطبيعة المتوترة وبين الحياة الأبدية في مسار تجديد متواصل. إنها وسيلة جعلها الله في الطبيعة لكي تقوم بإخراج خلق جديد. لكن الحركة الجوهرية والخلق المتواصل ليس لهما مفهوم أخروي فقط بالمعنى الضيق، إنهما أكثر من ذلك.. ففي فلسفة الشيرازي يُشكلان علاقة صلة الكائن غير الكامل والمتغير وبين الكائن المطلق. الكائن الناقص والرهين بالعدم يستطيع فقط عن طريق تجديد متواصل وتنمية ذاتية أن يأمل في حياة أبدية. الحركة الجوهرية هي إذن السبب في التقلب الإنساني. وأيضا السبب في تصميم ذاتيته عبر أطوار الوجود التي عبرها، والسبب كذلك، في الانقلاب الكلي والرجوع إلى الله في ثوب الإنسان الجديد.. إنها بهذا الشكل رمزٌ للتغيير”٣٣.
وبذلك، وَقفنا على فلسفة لا تَعْتَقد باندماج جوهريْن، بل ثمَّة جَوْهر واحد فحسب، بالحركة ينال بُعدا ميتافيزيقيا ينقله من الوسط المادي المحبوس في سجن الزمان والمكبل بأغلال الزمان، إلى أفقٍ أعلى، يكتسبُ به رونقَ التجرُّد.
—————————————————-
المراجع:
- بور، رضا حاجت: ماهية الكمال وفكرة الحركة الجوهرية عند الشيرازي: ضمن: نظرات في فلسفة ابن سينا وملا صدرا الشيرازي ص230. راجعه: مقداد عرفة منسية. سلسلة العلوم الاسلامية، المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون: تونس 1983.
- سايفرت، يوسف: البرهان الفينومينولوجي الواقعي على وجود الله. ترجمة وتقديم: حميد لشهب. ص26.
- بشور، وديع: ديانات الأسرار: دار المرساة. دمشق. ص157.
- المصدر السابق ص116
- الأهواني، أحمد فؤاد: فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط. دار إحياء الكتب العربية. ص176
- ديانات الأسرار ص177 مصدر سابق.
- قاسم، محمود: في النفس والعقل لفلاسفة الاغريق والاسلام. القاهرة. ص23.
- حرب، حسين: أفلاطون. لبنان: ص97.
- إبراهيم، حامد: نظرية النفس بين أرسطو وابن سينا. المجلد 19، مجلة جامعة دمشق. ص205.
- اأرسطوطاليس: كتاب النفس. ترجمة: أحمد فؤاد الأهواني، 1949، ص42. أيضا يُراجع: كتاب السياسة: أرسطوطاليس: ترجمة: أحمد لطفي، القاهرة، ص382.
- نظرية النفس بين أرسطو وابن سينا. مصدر سايق . ص210.
- أرسطو، مصطفى غالب: ص21
- الجبوري، عماد الدين: الله والوجود والانسان. ص211.
- بدوي، عبد الرحمن: موسوعة الفلسفة ج1ص497.
- موسوعة الفلسفة : بدوي. مصدر سابق ج1ص497.
- برهييه، اميل: تاريخ الفلسفة. ترجمة جورج طرابيشي. القرن السابع عشر ص136
- تاريخ الفلسفة ص136 مصدر سابق.
- تاريخ الفلسفة ص137 مصدر سابق.
- آل ياسين، جعفر: فيلسوفان رائدان. ص31.
- ابن سينا: الشفاء. ص210
- الشافعي، حسن مجمود عبداللطيف: نظرية الحركة الجوهرية عند الملا صدرا في سياق الفكر الاسلامي. ورقة ألقيت في مؤتمر الملا صدرا عام 2001 في جزيرة كيش الايرانية، ضمن “الملا صدرا والفلسفة العالمية” ص291 .
- أنظر مقدمة الدكتور صلاح الجابري على “أصالة الوجود عند الشيرازي من مركزية الفكر الماهوي الى مركزية الفكر الوجودي” للمؤلف كمال عبد الكريم الشلبي، ص8، دار صفحات للدراسات والنشر، ط1، دمشق، 2008.
- هاني، ادريس: مفهوم الوجود المتعالي تأسيس عريق لرؤية مبتكرة. ضمن: مساءلة الوجود على ضوء الواقعية الصدرائية، ص180، دار المعارف الحكمية، ط1 بيروت، 2015.
- المصباح، محمد تقي: تعليق على نهاية الحكمة للعلامة الطباطبائي.
- بعض الباحثين يقرأ هذا المبدأ بنحو ثلاثة مبادئ هي أصال الوجود، ووحدته، وتشككه. أنظر مثلا مراتب المعرفة وهرم الوجود عند الملا صدرا للكاتب كمال إسماعيل ص379.
- الشافعي، حسن محمود عبد اللطيف: نظرية الحركة الجوهرية عند ملا صدرا في سياق الفكر الاسلامي، ص295. ضمن: الملا صدرا والفلسفة العالمية المعاصرة.
- الشلبي، كمال عبد الكريم: أصالة الوجود عند الشيرازي من مركزية الفكر الماهوي الى مركزية الفكر الوجودي. ص161، دار صفحات للدراسات والنشر، ط1، دمشق، 2008.
- حلباوي، علي أسعد: أصالة الوجود عند صدر الدين الشيرازي ص156.
- الشيرازي، محمد بن إبراهيم: الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة ج7ص290.
- الشيرازي، محمد بن إبراهيم: الحكمة المتعالية في الاسفار العقلية الاربعة ج8ص334.
- لزيق، كمال اسماعيل: مراتب المعرفة وهرم الوجود عند ملا صدرا. دراسة مقارنة. ص389، مركز الحضارة لتنمية الفكر الاسلامي. بيروت، ط1، 2014
- مطهري، مرتضى: أصالة الروح، ترجمة: محسن علي. ص18
- بور، رضا حاجت: ماهية الكمال وفكرة الحركة الجوهرية عند الشيرازي. مقالة ضمن: نظرات في فلسفة ابن سينا وملا صدورا الشيرازي. راجعه وأعده للنشر: مقداد عرفة منسية. ص250. دار الحكمة، تونس، ط1 ، 2014.
8,681 total views, 14 views today
Hits: 1729