العرفان والفنّ والجمال
د. سمر علي زليخة
كاتبة وباحثة
ما الذي حاجَ إلى دراسة العرفان بهذا الكمّ والكيف؟ أو ما الذي دلَّ على وجوده؟ بكلِّ تأكيد لم يظهر في الحياة الثقافية اعتباطاً فكرياً، إذاً ثمة ناتجٌ فكريٌّ فنيٌّ عنه، دلَّ عليه، وقاد إلى دراسته بتلك الطريقة.
تحاول هذه الدراسة رصد التجليات الفنية للعرفانية، انطلاقاً من الشعر الصوفي الذي هو الناتج الادبي الإسلامي الأخير للمعرفة، وعودةً إلى البدايات الفنية الأولى التي تعبّر عن المعرفة الدينية بصورةٍ فنية، ومن ثم محاولة استنباط القيمة الفنية الناجزة في الشكل الفني؛ الشعري وسواه.
في دراسةٍ سابقة بعنوان (العرفان)، عرضت الدراسة مفهوم العرفان المتصل اتصالاً مباشراً بالعقائد، وآلية ظهوره في الثقافة العربية والإسلامية، غير أنّ جملة المقولات السابقة تلك في تحديد المصطلح لا تقدم وصفاً نهائياً له، ولا تضع تعريفاً جامعاً مانعاً للعرفان والعرفانية، وسوى أنَّ العرفان طريقةٌ خاصَّة في معرفة الإله، كانتِ السُّبل الفنيَّة للتَّعبير عن النَّوع الخاصِّ من المعرفة الإلهيِّة متنوِّعة. ففي الصُّوفية الإسلاميَّة كان فريق من الصوفيّة يبحث عن المعرفة في إطار الشَّرع والعلوم الشَّرعيَّة، وفريق يقول إنَّه يبحث عن الحقيقة ولا يتقيّد بالشَّريعة في البحث عنها، ولا يتَّخذ من العلم مطيَّةً للوصول إليها. والاتّجاه إلى الصُّوفيَّة، التي لا تتقيَّد بالشَّريعة أو بالعلم، أملاه عجز العقل و(الشّريعة الدّينيّة) عن الجواب عن كثير من الأسئلة العميقة عند الإنسان أملاه كذلك عجز العلم، فالإنسان يشعر أنّ ثمَّة مشكلاتٍ تؤرِّقه، حتّى عندما تحلُّ جميع المشكلات العقليَّة، والشَّرعيّة الدِّينيّة، والعلميّة، أو عندما تحلّ جميع المشكلات بواسطة العقل والشّرع والعلم، هذا الّذي لم يحلّ (لا يحلّ)، هذا الّذي لم يعرف (لا يعرف)، هذا الّذي لم يُقلْ (لا يقال)، هو ما يولّد الاتّجاه نحو الصّوفيّة، إذاً؛ فإنّ حاجة الإنسان للإجابة عن كثير من الأسئلة الوجوديّة الكبرى، حاجَتْ إلى الصّوفيّة الّتي هي في أصلها، ترتبط بما هو خفيّ وغيبيّ1 ، على هذا المعنى نشأ مفهوم التّوحد ويشمل الشّعر الصّوفيّ الفلسفيّ، الّذي حمل في داخله بذور الرّفض، وحاول أن يتخطَّى المطلقات السّائدة بدمج الإلهيِّ في الإنسانيِّ، أو محاولة أنسنة الأوّل وتأليه الثّاني، في مقابل من أقرّ بالانفصال الكلّي للإلهيّ عن الإنسانيّ2 ، فالشِّعر العرفانيِّ مزيج من الفنّ والفلسفة والدّين، لذلك « لجأت الصّوفيّة بوصفها تجربةً في البحث عن المطلق إلى الشِّعر، في رفضٍ للتَّعبير الدِّينيِّ الشَّرعي الَّذي يرفض الشِّعر، ويضع حدَّاً فاصلاً نقيضاً بينه وبين الدِّين، وعبَّرت بالشِّعر عن أعمق ما لديها، ولم يكن الشّعر من قبل يستعمل في مقاربة المطلق، ولقد رأت الصّوفيّة في الكتابة الشّعريّة الوسيلة الأولى للإفصاح عن أسرارها، ورأت في اللّغة الشّعريّة وسيلةً أولى للمعرفة، فالصّوفيّة ليست مجرّد حركة دينيّة»3 ؛ إنّها حركة فنيّة أدبيّة لها نتاجها الأدبيّ، وخاصّةً الشّعري، « هكذا علينا أوّلاً، في الكلام على الصّوفية، أن نهمل القول السّائد عنها، وأن نهمل بخاصّة التّأويلات المذهبيّة حولها وعنها »4 ؛ فالتصوُّف هنا، مزيجٌ من المذهبِ والفنِّ، وبمعنى آخر؛ هو التّجربة العرفانيّة في الرّؤية الفنيّة بالنّسبة إلى الدّين، وأكثر ما يعني الفنَّ هنا الأدب من شعر ونثرٍ، على ذلك قيل إنّه ليس للتّصوّف مفهوم واضحٌ وتعريفٌ ثابتٌ، فإذا عُرِّف التّصوّف بالعرفان لم يكن المقصود منه ذلك التّصوّف الّذي أكثره زهد، بل التّصوّف الّذي فيه الكثير من الفنّ. ولا يوجد من بين أنواع الفنّ مثل الشّعر في قدرته على امتلاك عناصر الجمال، فهناك في الشّعر جمال الكلمة، وجمال اللّحن، وجمال الموسيقى، وجمال الصّورة، والشّاعر صائغ يصوغ الجمال من الأصوات والكلمات، وممّن أشار إلى ارتباط الدّين بالفنّ هيغل عندما قال: إنّ الدّين استطاع أن يعبّر عن نفسه أصدق تعبير في الشّامل، أي في الشعر5 .
وارتباط الدِّين بالفنِّ، ليس مقصوراً على التَّجربة العرفانيّة الإسلاميّة، بعدِّ الشّعر المعبّر الأصدق عن الانفعالات والمواجيد والحالات الرّوحية، إذ من الممكن تلمُّس البدايات الفنيَّة المرافقة للدِّين مع بدايات الإنسان، فبعد انفصاله عن الطَّبيعة، إذ أشبع حاجاته الأوليَّة راح يبحث عن إشباعٍ لحاجات روحيّة ظهرت في حينها، بوصفها ضرورةً مرحليّةً؛ فالإنسان البدائيّ حين يحمّل الحجر أو الشَّجر قوى غيبيّة تفوق قدراته، يعني إقراراً بوجودِ مقابلٍ قويٍّ هو صانع الأشياء من حوله، وبما أنّه ليس هو الصّانع، فهناك من صنع. هذا التّجسيد العينيّ للأفكار الغيبيّة يمكن أن يُعدَّ الطّور الأوّل في تحويل المعرفة إلى وجود حسّيٍّ فنيّ، ليس بمفهومه الفنّي الخالص، وإنّما بِعَدِّ التجسيد فكرة فنيّة، طوراً بدائيّاً في الفنّ، تم تهذيبه وإكمال نسجه في المراحل اللّاحقة للحياة الدّينيّة المترافقة بالفنّ في حضورها.
« إنّ فنّ الإنسان القديم يكشف التَّعجُّب الكبير إزاء معجزة الوجود العظيم، وهو ما لم يستطع إنسان العصر الحجريّ أن يحوّله إلى مفاهيم »6 ؛ فالصّنم بوصفه حضوراً دينيّاً، لا يمكن إغفال صوغه الفنِّيّ كمنحوتة تعبِّر عن معتقدات عابديه؛ فقد «كان الفنّ في المجتمعات البدائيّة القديمة يؤدّي وظيفة دينيّة مقدّسة، وقد ظلّ الفنّ في خدمة الطّقوس زمناً طويلاً، ولم يكن يوجد فنٌّ إلا وكان فنَّاً دينيّاً؛ فالفنّ إذاً ومنذ البداية نشأ في حضن الدّين »7 ، ويمكن أن نجد في الأساطير التاريخية القديمة حين تجعل من الآلهة أنصاف إنسٍ وأنصاف حيوان، من المزج بين قوىً إنسانيّة وغيرها، ما يمكن أن يُعدَّ طوراً آخر في التّشكيل الفنيّ الدّينيّ.
وبالعودة إلى البدايات المدوَّنة تاريخيّاً، مع الحضارة السّومريَّة « نكون جدّ قريبين من بداية التّاريخ»8 ، وفي الآثار التي بقيت من الحضارة السّومريّة « تحتوي بعض الألواح المحطّمة مراثي ذات قوّة لا بأس بها في أسلوب أدبيّ خليقٍ بالتّقدير، وهذه الألواح تبدأ خاصّة بالتّكرار اللّفظيّ الّذي تمتاز به أغاني الشرق الأدنى، فترى ألفاظاً بعينها تكرّر المعنى الّذي ذُكر في جملِ سابقة أو توضّحه، وفي هذه الآثار التي نجت من عوادي الأيّام نرى النّشأة الدّينيّة للأدب في الأغاني والمراثي التي يردّدها الكهنة، فلم تكن القصائد الأولى إذن أراجيز ولا أناشيد غزليّة، بل كانت صلواتٍ وأدعية دينيّة»9 ، بذلك تكون المؤلّفات التي تؤرّخ للحضارات تظهر ارتباط نشوء الحضارات بالعقائد، واتّصال هذه العقائد بالفنون اتّصالاً مباشراً، من حيث آليّة التّعبير عنها، فنحن نجد « ارتباطاً وثيقاً عند الشعوب بين الأعمال الفنية والدين، وقد كان الدين هو الأساس الذي ينظم حياة هذه الشعوب وحضارتها، واتخاذ الفن وسيلة للتعبير عن الحياة الدينية يعد اعترافاً بما للفن من قيمة كبرى عند هذه الشعوب »10 ، وعلى نحوٍ مستمرٍّ، تأخذ طرق التّعبير عن الأديان بالتّمظهر في شكلٍ فنيٍّ، ففي الحضارة المصريّة القديمة « أقدم ما بقي من الأدب المصريّ القديم هو نصوص الأهرام، وهي موضوعات دينيّة ورعة منقوشة على جدران خمسةٍ من أهرام الأسرتين الخامسة والسّادسة يرجع تاريخها إلى عام 2000 ق. م»11، إذ يبدو أنَّ الأدب المصريّ القديم، نشأ بوصفه موضوعاً دينيّاً في حليةٍ أدبيّة، وخُلِّد بطريقةٍ فنيّةٍ من حيث نقشه على جدران الأهرام، ولم يذكر في تاريخ تلك النصوص أن غير المعتقد قد تمّت صياغته بطريقة أدبيّة، حتّى العصر التّالي الّذي تغيّرت فيه التّعابير الأدبيّة، فوصفت بالدَّنسة، فقد «كانت معظم الآداب المصريّة الأولى آداباً دينيّة، وأقدم القصائد المصريّة ترانيم نصوص الأهرام، وصيغتها أيضاً هي أقدم الصّيغ المعروفة لنا، وهي تكرار المعنى الواحد بعبارات مختلفة، وقد أخذها الشّعراء العبرانيّون عن المصريّين والبابليّين وخلّدوها في المزامير، وفي عصر الانتقال من الدّولة القديمة إلى الدّولة الوسطى تصطبغ الآداب تدريجيّاً بالصّبغة الدنيويّة الدّنسة»12 . والحقيقة أنّ الأدب القديم بمحتواه الدّينيّ وصف بالورع والروعة، في حين إن الفنّ ذا المحتوى غير الدينيّ، لم يتّخذ أوصافاً جماليّة، إن لم نقل لم يرد فيه ذكر، ففي بابل إن الآداب الباقية من عهد البابليين لتكثر فيها التّرانيم الّتي تفيض بالتّذلّل الحارّ الّذي يحاول السّامي فيه أن يسيطر على كبريائه ويخفيه عن الأنظار، وأكثر هذه التّرانيم في صورة (أناشيد توبة)، وهي تهيّئنا لتلك المشاعر العاطفية والصّور الرائعة التي نراها في مزامير داود، ولكنَّنا لا نجدُ في الشّعر غير الدّينيّ الذي يصف شؤون حياة الناس العاديّة إلا القليل الذي لا يستحقّ الذكر، ونرى في المراسم الدّينيّة ما يبشّر بنشأة المسرحيّات، وإن لم تصل إلى مسرحيّات بالفعل13 . وبالنظر إلى المسرح اليوناني القديم نجد النشوء الملحميِّ المرتكز على الميثولوجيا، فكان أداءً فنياً لطقسِ دينيّ ارتبط بالإله ديونيسوس، وسمّي هذا الطقس (ديثرامب)14 ، وهو جوهر الظاهرة المسرحيّة، إذ «يميل المؤرّخون إلى الاعتقاد بأن المسرح من أصلٍ دينيّ، بمعنى أنه ابتدأ من أصلِ دينيّ »15
من هنا يغدو القول بارتباط أنواع الفنون جميعها بالعقائد أمراً مثبتاً بدءاً من الدّيانات الوثنيّة وصولاً إلى الدّيانات السّماويّة؛ فأهل الكتاب لم يجيزوا من الفنون، على يدِ كهنتهم، سوى فنّي العمارة والموسيقى، وكانت الأغاني والمراسيم التي تقام في الهيكل هي التي تخفف من أكدار حياة الشّعب وشقائه، فكانت فرقة موسيقيّة معها مختلف الآلات تنضمّ إلى جوقة المغنين كي ترتِّل المزامير فتبدو صوتاً واحداً لتسبيح الرّبّ وحمده وتمجيد الهيكل16 .
والنّاظر في الكتاب المقدّس يجد ملامح الكتابة الأدبيّة، فالقصص الغرامية الواردة في التّوراة وسط من التّاريخ والشعر، وليس في المنثور من الكتابة ما هو أدنى إلى الكمال من قصة راعوث17 ، إذ تحوي هذه القصّة في الكتاب المقدّس عناصر الفن القصصيّ من الشخصيّة والراوي والسرد والحوار والحبكة، إذ يقدّم الإصحاح الأوّل قصّة رجلٍ خرج من بيت لحم ليتغرّبَ في بلاد موآب هو وامرأته وابناه وزوجتاهما، الرجل اسمه أليمالك، وتدعى امرأته نعمي. وحصل أن توفّي الرجل في موآب ثمّ توفّي الولدان، وبقيت الأمّ وزوجتا الولدين، الأولى تدعى عرفة والأخرى راعوث، وتحكي باقي الإصحاحات قصّة عودة الأمّ مع راعوث إلى بيت لحم الذي خرجوا منه، والمشقّات الّتي لقيتاها في بيت لحم، ثمّ كيف استطاعت الأمّ (نعمي) أن تزوّج راعوث لولّيٍ من بيت لحم يدعى بوعز، وأنجبت منه طفلاً أسمته عوبيد..18 ، ويبدأ الأدب الشّعري بنشيد موسى (سفر الخروج من الجنّة) الفصل الخامس عشر، ونشيد دبّورة (القضاة الفصل الخامس عشر)، ويبلغ ذروته في المزامير التي تحتلّ المكان الأول في شعر العالم الغنائي، وإن أجمل ما فيها أنها تصف لحظات من نشوة التقى والهيام الرّوحيّ، والإيمان القويّ المحرّك للعواطف19 ، ونجد التّوصيف الأدبيّ للغة الكتب المقدّسة، وطريقة بنائها، تنسحب على باقي العقائد، ومن تلك الكتب الأبستاق الذي لا يُعرف أصله اللّغوي على وجه الدّقة، والرّاجح أنّه مشتقٌ من (فيدا) وهو الأصل الآريّ الّذي اشتقّ منه أفيدا، ومعناه المعرفة؛ نجد في أحد أقسامه الباقية ما يسمّى (اليشت): أي التسبيحات الغنائيّة، وهي واحدٌ وعشرون نشيداً في الثناء على الملائكة تتخلّلها أقاصيص تاريخيّة ونبوءةٌ عن آخر العالم20 .
ويبقى الفارق الفنِّي بين أداء الفنون في تعبيرها عن الدِّين، وبين الكتب المقدَّسة الموصوفة بالصَّبغة الأدبيَّة أو الفنيَّة، هو أنَّ تلك التَّعبيرات الفنيَّة هي توصيفٌ للفنون، في حين إنَّ التَّعبير الفنِّي في الكتب المقدَّسة لا يقاس إلى باقي أنواع الفنون؛ لأن جوهر الطَّبيعتين مختلف، فالكتب المقدَّسة تحاط بهالةٍ من القداسة أولاً، من ثمَّ تضاف إليها القيمة الفنيَّة، أمَّا الفنون والآداب الدِّينية، فتوصف بالفنيَّة أوَّلاً، وتأتي التَّعبيرات العقديَّة في المرتبة الثَّانية.
وقد عبّر المعتقدون بالدّيانات السّماويّة، عن الامتثال للرّسالات الإلهيّة بشكل فنيّ، فقد استخدمت المسيحيّة الصيغة الفنيّة في تعاليم الكهنة ورجال الدين، فيما يقدّمونه من معرفة إلهيّة، حين تم ربطها بالتراتيل بالإنشاد، وذاك طقسٌ مازال حاضراً بقوّة، وقد اعتمد الكهنة «السّجع الذي هو الطّور الأوّل من أطوار الشّعر العربيّ، توخاه الكهان مناجاةً للآلهة، تقييداً للحكمة وتعميةً للجواب، وفتنةً للسّامع. وكهان العرب ككهّان الإغريق هم الشّعراء الأوّلون، زعموا أنهم مهبط الإلهام، وأنجياء الآلهة، فكانوا يسترحمونها بالأناشيد، ويستلهمونها بالأدعية، ويخبرون الناس بأسرار الغيب في جمل مقفَّاةٍ موقَّعة أطلقوا عليها اسم السَّجع، تشبيهاً لها بسجع الحمامة لما فيها من تلك النّغمة الواحدة البسيطة، فلما ارتقى فيهم ذوق الغناء، وانتقل الشِّعر من المعابد إلى الصّحراء، ومن الدّعاء إلى الحداء اجتمع الوزن والقافية، فكان الرّجز… ومنه إلى الشّعر»21 .
من الواضح إذاً فيما سبق عرضه من تطورات الفنون في تعبيرها عن الدين، أنَّ الأشكال الفنية الأولى في التَّعبير عن المطلق لم تكن ذات قيمةٍ جماليَّة تحتسب للفنِّ، غير أنه في كلّ طور فني جديد يأخذ التعبير عن المطلق صيغةً أكثر مواءمةً لموضوعه؛ أي أكثر جمالاً، لأنّ انفصال الإنسان عن الطّبيعة كان بهدف زيادة وعيه المعرفيّ، لذلك جاءت الأشكال الفنيّة اللّاحقة لمرحلة الانفصال هذه أكثر فنيّة، وأكثر جمالاً، لذلك فإن ما يحدد ظهور المفاهيم ومنها الجماليّة، هو انفصال الإنسان عن الطّبيعة والمجتمع من خلال علاقته العميقة بهما بهدف تملّكهما وتغييرهما، لأن أشياء العالم الماديّة وحسيّتها، هي أساس الخصائص الجماليّة، أمّا الخصائص الجماليّة نفسها فهي قيم موضوعيّة اجتماعيّة شاملة للأحياء والظواهر الداخلة في مجال تملّك الإنسان الاجتماعيّ للواقع22 ، ويجب أن لا يتمَّ الخلط بين المعتقد المصوغ بطريقةٍ فنيَّةٍ والنظر في القيمة الجمالية التي يبرزها الفن في التعبير عنه، وبين الفنّ بما هو كذلك والخصائص الجمالية التي تستنبط من الفن مضافاً إليه الواقع والممارسة الاجتماعية، فالفنُّ في بدايته نشأ دينياً، ثم انزاح عن هذه الصيغة الدينية، وكان في كل طورٍ تاريخيٍّ يتَّخذ حلَّة جديدة، وليس من الضَّروري أن يكون عقديَّاً دوماً، فقد «كان كلف الإنسان بالجمال قديماً قدم الإنسانيَّة، وإنَّ التذاذه بنواحي الجمال فيما يحيط به من مظاهر الطَّبيعة، وفيما ينتجه من آثارٍ أمرٌ يشهد به تاريخ الإنسانيَّة، وتسجِّله آثارها منذ العصر الحجريِّ إلى عصور الحضارات القديمة المعروفة»23 ، وصولاً إلى العصور الوسطى والحديثة وما بعدها. إلّا أنَّ التَّعبير عن هذه الذَّائقة الجماليَّة اتَّخذ مستوياتٍ متدرجة، بدأت غائمةً وانتهت أكثر وضوحاً.
إنَّ إعطاء شكلٍ غير فنيٍّ، أو غير جميلٍ للفكرة، يعزى إلى المضمون؛ الَّذي هو في ذاته غير واضح، وإذ تكمن مهمَّة الفن في التَّوفيق بين الفكرة وتمثيلها الحسِّي؛ فإنَّ ذلك يتمُّ حين يكون المضمون المطلوب تمثيله صالحاً للتَّمثيل فنيّاً، ومن دون ذلك، فإنَّ هذا الرَّبط يبدو ركيكاً واهياً، فتارةً يراد إعطاء شكلٍ بعينه لمضمونٍ لا يصلح للتَّمثيل العينيِّ والخارجيِّ، وطوراً لا يمكن لهذا الموضوع أو ذاك أن يجد تمثيله المطابق إلَّا في شكلٍ يتعارض والشَّكل الَّذي يُراد إعطاؤه إيَّاه، ويمكن أن نلحظ ذلك في تجسيداتٍ للفكرة المجرَّدة، بهذا الفهم نحصل على مردةٍ وجبابرةٍ وتماثيل لها مئة ذراعٍ ومئة ثديٍ24 ، من هنا يمكن القول بأنَّ هذه التَّعيينات ليست جميلة، إن لم نقل قبيحة، ذلك أنَّ هذا التعبير الفنيَّ لا يسمح للذَّائقة أن تتناوله وتقيِّمه جماليَّاً.
وفي الفنون اللاحقة ينهض التقويم الجمالي على مادّة تلك الفنون، فالفنُّ الكلاسيكي قدَّم تطابقاً بين بين الفكرة والتَّعبير، إنَّه مضمونٌ تلقَّى الشَّكل الموائم له، ويتمثَّل هذا الشَّكل بالوجه الإنسانيِّ؛ الَّذي يعدُّ تطوُّراً للمفهوم، بحسب هيغل، فالرُّوح المطلق قد تجسَّد في شكلِ ثالوثٍ، وهذا الثَّالوث يعبِّر عن التَّظاهر الحسِّيِّ للفكرة المجرّدة25 . إذاً فإنَّ التَّقييم الجماليِّ كما يقول به هيغل يقوم على أساسٍ من أنسنة المفهوم، غير أنَّ هذه الأنسنة، وإن كانت ارتقاءً للمفهوم المتجسِّد، إلّا أنَّ الفنيَّة والجماليَّة غير واضحة المعالم، لأنَّه يقصر الفكر الفنيّ والجماليّ على التَّجسيد المعرفيِّ للمفهوم، وبهذه النَّزعة المثاليَّة في التَّعبير عن الرُّوح المطلق، يختزل الفنيَّ والجماليَّ بما هو مثاليٌّ، لأنَّ الفنَّ، كما يراه، يتطوَّر بوصفه عالماً، ويكون المضمون الموضوع بالذَّات، متمثِّلاً بالجمال، وما المضمون الحقيقيُّ للجمال إلَّا الرُّوح، والرُّوح في حقيقته؛ أي الرُّوح المطلق، بما هو كذلك، هو الَّذي يشكِّل المركز26 .
وبالطريقة ذاتها يمكن مناقشة ما يذهب إليه هيغل من أنَّ تاريخ الفنون هو تاريخ التَّمثيلات الحسِّية للفكرة المطلقة27 ، فذلك يقصر الفنَّ على المحتوى المثاليِّ، ويختزل الفنيَّ بما هو دينيٌّ فقط. بمعنى أنَّ الأديان تصوغ فكرةً واقعيَّةً عن الرُّوح المطلق، لكي تجعلها عينيَّة، ومهمَّة الفنِّ تكمن في صياغة هذه المادَّة العينية صياغةً فنيَّة، وخارج هذه الصياغة العينية والفنية للرُّوح المطلق لا وجود للجمال. وهذه النَّزعة المثاليَّة للفنِّ تقارب الرُّؤية “الأفلاطونية” للفنِّ والجمال، غير أنَّ هيغل كان قد اعترف بالقيمة الجماليَّة للفنِّ إذا أجاد الأخير التَّعبير عنِ الرُّوح المطلق، أمَّا أفلاطون فيتسِّم جوهر نظريَّاته الجماليَّة بالصَّبغة المثاليَّة، ويعدُّ الأشياء المحسوسة متغيِّرة متحوِّلة. بالتَّالي فإنَّ هذه الأشياء تظهر على الوجود ثم تضمحلُّ وتموت، وتبعاً لذلك فهي لا تمثِّل حقيقة الوجود، إذ إنَّ الوجود الحقيقي متمثِّل فقط في الوجود الرُّوحي، وبالتَّحديد في المثل العليا، أو في عالم المثل الأزليَّة عالم الأفكار. والجمال ذاته لا يتغيَّر بل يظلُّ في مستوىً أعلى من المظاهر الَّتي يتجلَّى بها، وفي رأي أفلاطون هناك عالمٌ أعلى من العالم الطَّبيعي، عالم الجواهر الأزليَّة الأبديَّة، وهذه الكيانات اللامتغيرة يطلق عليها أفلاطون تعبير الصُّورة أو المثل، وهي الموضوعات الَّتي يعنى بها العقل عندما يستعمل الأفكار العامة والتَّعريفات والمبادئ، وإنَّ أشياء هذه الدُّنيا ليست إلَّا صوراً تقريبيَّةً ناقصةً عن الجواهر الَّتي منها تحصل الأشياء على صفاتها المميَّزة، والشَّيء الجميل بالنِّسبة إلى أفلاطون لا يوجد في عالمنا الأرضيّ، بل يوجد في عالم الأفكار، عالم المثل، العالم الأبديُّ اللامتغير. وقد طبَّق نظريَّته المثاليَّة على الفنّ، فيقول إنَّ الفنَّان ما هو إلَّا ناسخٌ لا يفهم المعنى الحقيقيَّ للوجود، لكنَّه يخلق إنتاجاً فنيَّاً، وبعبارةٍ أخرى فهو يحاكي العالم المحسوس، ولكنَّ الأخير ما هو إلَّا نسخة انعكاسٍ لانعكاسٍ، وظلٌّ لظلٍّ، ومن هنا يظهر أنَّ الفنَّان يبتعد أكثر وأكثر عن الحقيقة المطلقة، ويستنتج أفلاطون أنَّ الفنَّ المقلِّد يقف بعيداً عن الحقيقة فيصبح الفنُّ تقليداً للتَّقليد، أو محاكاةً لشيءٍ خلق على سبيل المحاكاة فإنَّه يفقد قيمته الحقيقيَّة28 .
صحيح أنَّ الفكرة بما هي كذلك، أو الرُّوح المطلق، بوصفه مثالاً أعلى، لا يأخذ اعترافه من الواقع، بل يفرضه، فيصوغ الواقع هذا المثال وفق أنموذجاتٍ فنيَّةٍ متدرِّجةٍ، غير أنَّ قصر الفنيَّة على الرُّوح المطلق، يلغي إمكانيَّة أن يكون في الحياة الاجتماعيَّة مثالاً أعلى أو أنموذجاً جماليّاً بصرف النَّظر عن الروح المطلق؛ الَّذي ما إن يتعرَّف في صيغةٍ عينيةٍ أو شكلٍ فنيٍّ، حتى ينزاح عن فنيَّته، وينهض بوصفه مفهوماتٍ وقيماً للحياة والتعامل، على أسسٍ اجتماعيَّةٍ وأخلاقيَّةٍ وإنسانيَّةٍ. وتأخذ الفنون وفق هذا المحصول الَّذي ينتجه الدِّين، ووفق الممارسة الاجتماعيَّة أيضاً، برسم أمثلتها العليا الفنيَّة والجماليَّة والأخلاقيَّة والإنسانيَّة بعامَّة.
فالأديان الَّتي ترافقت بالفنون في تمظهرها، لم تكن فقط تعبِّر عن الرُّوح المطلق، وإَّنما أعطتِ الحياة نظاماً ممنهجاً يبنى على التعاليم، وهذا النِّظام مهمته تكمن في إعلاء قيمة المثل الأعلى الجماليِّ؛ الَّذي هو أخلاقيٌّ وإنسانيٌّ بعامَّة.
إنَّ الأديان، في أطوارها الأولى، بتعيناتها وتمظهرها على أي نحوٍ من الأنحاء، هي بالضرورة تسعى إلى معرفة المطلق إن لم تكن تسعى إلى تجسيده فنياً، فتلك مهمة الفنان بوجه خاص، غير أنَّها جميعاً احتوت صيغةً فنيَّة أو أدبيَّة، وسعت إلى تكريس المثل الأعلى في الواقع.
صحيحٌ أنَّ الفنَّان ينتج أعمالاً فنيَّة غايتها إبراز المثل الأعلى الجمالي، غير أنَّ هناك تجلياتٍ فنيَّة لا تحتويه بالضَّرورة، وإذا كانت أعمال الفنِّ مهما تنوَّعت تسمياتها تبرز بشكلٍ متواصلٍ المحتوى المثاليَّ، تكون، بدرجة أو بأخرى، تكرر نفسها أو تستنسخ الأنموذج من سابقه، تضيف إليه أو تعدِّل، وعندها تكون قيمة الفنِّ، بما هو فنٌّ، في الحياة الإنسانيَّة من دون أهميَّةٍ، ويكون الواقع والممارسة الاجتماعيَّة أبعد ما يكون عن الانعكاس الفنيِّ في عمل الفنَّان، ومن غير الممكن إلغاء المادية من الموضوع الجمالي الذي هو بحسب شارل لالو التناسق الممتلك أو الملتمس أو المفقود، هو أساس الجمالي من منظور العقل والفعالية والحساسية29 ، فالموضوع الجمالي على هذا التعريف، ينطوي على سمات مادية أيضاً يمكن إدراكها أو التماسها بالعقل، فالموضوعات الفنية أيضاً لها خصائص أو مواد تقوم عليها وتتأسَّس منها، هي ليست بالضَّرورة عقديَّة، أو تسعى لمقاربة تصوُّر عن الرُّوح المطلق، فالموسيقى بوصفها فنَّاً، يقوم على الصَّوت، لا يمكن فيها القبض على المثل الجماليِّ الأعلى، لا من منظور المجرَّد ولا من منظور الحسِّي أيضاً، لأنَّها أكثر الفنون رمزيَّةً، « ويؤلف الصَّوت، بوصفه مادَّة داخليَّة مجرَّدة، الوسط الَّذي ينتشر فيه الإحساس اللامتعين، الذي لا يمتلك بعد القدرة على الوصول إلى تعيينٍ بذاته، والموسيقى وحدها تعبِّر عن تنبُّه الشُّعور أو انطفائه، وتؤلِّف مركز الفنِّ الذاتي، والانتقال من الحساسيَّة المجرَّدة إلى الرُّوحية المجرَّدة»30 ، بذلك فإن الروح المطلق ليس المادة الوحيدة التي ينطوي عليها الفن، إنه أكثر المواد أهمية أو مثالية أو تجريداً، غير أن هذا لا ينفي أن يكون للجمال وجودٌ ماديٌّ صرف.
أمَّا في الشِّعر الذي يعدُّ أكثر الفنون روحيَّة31 ، إذ يقوم على مواد متنوِّعة، منها الكلمة واللَّحن والإحساس والانفعال، غير أنَّ الكلمة بالذَّات، تعدُّ المادَّة الأولى الَّتي يستخدمها الفنَّان في التَّعبير عن الأفكار المجرَّدة والمعتقدات، وصياغة المثل، ونقل الانفعالات الرُّوحية بطريقةٍ فنيَّة.
إنَّ اللُّغة هي المادَّة الأكثر غنىً وتنوُّعاً من بين الموادِّ الفنيَّة الأخرى، من هنا كان التَّعبير اللُّغوي في الأديان السَّماويَّة، هو الأكثر قدرةً على صياغة الأنموذج الجماليِّ، المطلق منه، والواقعيِّ بمختلف أشكاله.
وفي الفنون كانتِ اللُّغة هي الأكثر قدرةً على احتواء الأنموذج الجمالي، فمثلاً نستطيعُ من خلال اللُّغة أن نتعرَّف مضمون شكلٍ فنيٍّ معماريٍّ ناجزٍ، والإحاطة به وتوصيفه، غير أنَّه من المتعذِّر صياغة قالبٍ لغويٍّ شعريٍّ أو نثريٍّ في شكلٍ فنيٍ آخر، لأنَّه ليس بالضَّرورة أن يكون مطابقاً أو قريباً، وإن سعى إلى المطابقة، فضلاً عن أنَّه من الممكن ألَّا يكون جميلاً.
لا شكَّ في أنَّ اللُّغة تمتلك سحر الممارسة، عند الفنان وعند القارئ على السَّواء، غير أنَّها عند الفنَّان تمتلك أبعاداً أخرى إذ يوظِّفها لغاياتٍ قد لا تكون ذات أهميَّةٍ في المتلقِّي، الَّذي لا ينشدُ إبداعاً من خلال استخدام اللُّغة، فالفنَّان يستطيع، من خلال اللُّغة، النَّفاذ إلى عمق الموضوعات والأشياء، وصياغتها بطريقةٍ جميلة، وإن كانت تلك الموضوعات غير جميلةٍ في ذاتها، وتلك هي خاصية الشِّعر، المجاز؛ فالشَّاعر لا يعي العالم وعياً واقعيَّاً خالصاً، وإلَّا كان عمله محض استنساخٍ لصور الواقع، إنَّه يعي الواقع وعياً مجازيَّاً خاصَّاً تفرضه ضرورة الفنِّ، فيقوم بتصوير هذه المجازيَّة بطريقةٍ فنية، من خلالِ الصُّورة الفنيَّة، الَّتي تعدُّ أداته، واللُّغة الثَّانية الَّتي يتحدَّث بها بعد اللُّغة الطَّبيعيَّة؛ «فالشِّعر خلقٌ»32 ، هذا الخلق الفنيُّ بواسطة اللُّغة هو ما يميِّز الشَّاعر عن غيره، وليس معنى ذلك أنَّ التقييم الجمالي للشِّعر يقوم على اللُّغة وحدها، إنَّما هناك مفهومات جماليَّة متنوعة، يُعبَّر عنها باللُّغة الجميلة، لكنَّها ليست لغويةً فقط.
في الشِّعر العربيِّ تنوَّعت المثل الجماليَّة الَّتي جسَّدها هذا الشِّعر، وجميعها تنهض من طبيعة الحياة الَّتي كان الشَّاعر يحياها في الجاهليَّة. صحيحٌ أنَّ عرب ما قبل الإسلام كانت تدين بالمسيحية أو اليهودية33 ، غير أنَّ استنباط المثال الأعلى الدينيِّ من خلال هذا الشِّعر ليس متبلوراً، وإنَّما كانت المثل الجمالية تتحدَّد من خلال الممارسة الاجتماعيَّة، فتعدُّ البطولة مثالاً أعلى لأنَّ الفروسيَّة قيمةٌ نبيلةٌ؛ أي جميلة من منظور الممارسة الاجتماعيَّة، والكرم أيضاً يعد مثلاً أعلى وإغاثة الملهوف، وصون العرض، والدفاع عن الشرف، هذا في الشِّعر الجاهلي بوجهٍ عام، وفي أنواعٍ محدَّدة منه كالغزل مثلاً يتقدَّم أنموذجان للمثل الأعلى الجماليِّ هما الرَّجل ذو العلاقات النِّسائيَّة المتعددة، والمرأة بوصفها جسداً ينطوي على سمات محدَّدة، أمَّا الغزل العذريُّ فقدَّم المرأة، بوصفها معشوقاً، يكابد العاشق في وصله المشقَّات، ويجسِّد العاشق مفهوم المعذَّب الَّذي لا يستطيع الوصول إلى غايته. إلى أن جاء الإسلام فحدَّ من بعض المظاهر، وفنون القول وممارساته، وأبقى على بعضها، وأصبحت الأنموذجات الجماليَّة فنيَّاً تصاغُ وفق المحتوى العقديِّ الاجتماعيِّ الَّذي فرضه الدِّين الجديد.
وبالعودة إلى اللُّغة فقد كانت اللُّغة سيف العربيِّ الَّذي يباهي الآخرين بحسنِ استخدامه، ويفاخِر بقدرته في استخدام اللُّغة، وبراعة الصَّوغ الشعري في الموضوعاتِ جميعها، إلى أن نزل القرآن، فالقرآن هو الإبداع الفنيُّ الأوَّلُ والأخير، الَّذي يختزل البلاغة والفصاحة والوضوح والغموض، وجميع المقولات الفنيَّة والنقديَّة الَّتي تحتسب للشِّعر والنَّثر والخطابةِ والرَّسائل وسواها.
فالله هو المبدع الأوَّل، الرُّوح المطلق، الفكرة المجرَّدة، بما هو كذلك، أبدع هذا الأنموذج الفنيَّ اللُّغويَّ الخارق للعادة، وقدّم فيه وصفاً لذاته، وأخبر عن أقاصيص الأوَّلين جميعاً، ونظَّم الحياة والشَّرائع والطُّقوس والعبادات، وقدَّم مُثُلاً عليا في القيم جميعها، والَّتي يمكن أن تبنى عليها الحياة، لذلك فإنَّ القرآن؛ هذا الإبداع الفنيُّ الكامل، الَّذي لم يأخذ من غيره ولم يحاكِ مثالاً، هو قول الخالق المبدع، وإذا وضعنا قول هيغل بأنَّ العمل الفنيَّ يجب أن يكون مطابقاً للفكرة المجرَّدة أو الرُّوح المطلق لكي يكون جميلاً، يكون القرآن بوصفه فنَّاً لغويَّاً، هو العمل الوحيد الَّذي قدَّم المطابقة بصورتها النِّهائية والمثلى، ذلك أنَّ الأنواع الفنيَّة الأخرى هي من صناعة الفنَّانين، لذلك تظلُّ ناقصةً، في حين إنَّ النَّصَّ القرآنيَّ، هو الوحيد الَّذي بقي كاملاً ومعجزاً في مطابقته، ومعجزاً على مرِّ السِّنين، هذا من وجهة نظر المثال. ومن وجهة نظر الفنِّ فقد صاغ النَّصُّ القرآني الأمثلة الفنيَّة الجماليَّة من خلال اللُّغة والصُّورة الفنيَّة، وبراعةِ الأداء وحسن السَّبك والصِّياغة وسواها، ومن وجهة نظرٍ واقعيَّة أو ماديَّة فقد رفع من قيمة مثلٍ اجتماعيَّة ٍكانت سائدةً، وأضاف إليها مثلاً أخرى تقوم على جوهر الدِّين الإسلاميِّ، كالصلاة والصِّيام، والزكاة، والحجِّ، وكفالة اليتيم، وكفِّ الأذى، ويضاف إليها عناصر المحرَّمات الدِّينيَّة الأخلاقيَّة، وأصبحتِ القيم الجماليَّة الاجتماعيَّة تقوَّم بوصفها جميلةً أو منبوذةً، من منظور القيمة الأخلاقية للأفعال.
المصادر الرئيسية
1. ينظر، أدونيس الصوفية والسوريالية، دار الساقي، بيروت، ط1، 1992، ص10.
2. ينظر، د. وفيق سليطين: الشعر الصوفي بين مفهومي الانفصال والتوحد، دار الرأي للنشر والتوزيع، دمشق، ط1، 2007، ص66.
3. أدونيس: الصوفية والسوريالية، ص35.
4. المرجع السابق، ص10.
5. ينظر، هيغل: مدخل إلى علم الجمال (فكرة الجمال)، ترجمة: جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت، ط3، 1980، ص93.
6. مجاهد عبد المنعم مجاهد، تاريخ علم الجمال في العالم، دار ابن زيدون، بيروت، ط1، 1989، ص13.
7. جان بارتليمي: بحث في الجمال، تر: د. أنور عبد العزيز، دار نهضة مصر، القاهرة، 1970، ص573.
8. وِل وايريل ديورانت: قصة الحضارة(الشرق الأدنى)، ترجمة: محمد بدران، الجزء الثاني من المجلّد الأوّل، دار الجيل، بيروت، د.ت، ص42.
9. المرجع السابق، ص36.
10. د. محمد علي أبو ريان، فلسفة الفن ونشأة الفنون الجميلة، ص8.
11. ول وايريل ديورانت: قصة الحضارة، ص110.
12. المرجع السابق، ص113.
13. ينظر، ول وايريل ديورانت: قصة الحضارة، ص224-238.
14. ينظر، أرسطو: فن الشعر، ص23.
15. الموقف الأدبي، مجلّة أدبية شهرية يصدرها اتحاد الكتاب العرب، دمشق، العدد68، حزيران، 1978، مبحث بعنوان: جوهر الظاهرة المسرحية، رشيد مسعود، 62.
16. ينظر، ول وايريل ديورانت: قصة الحضارة، ص272-273.
17. ينظر: المرجع السابق، ص372.
18. ينظر الكتاب المقدّس، العهد القديم والعهد الجديد، سفر راعوث، الإصحاحات الأربعة، ص383-387.
19. ينظر: وِل وايريل ديورانت، قصة الحضارة، ص372.
20. ينظر، وِل وايريل ديورانت، قصة الحضارة، ص427.
21. أحمد حسن الزيات: تاريخ الأدب العربي، منشورات دار الحكمة، بيروت، د.ت، ص12.
22. ينظر، د. فؤاد المرعي: الوعي الجمالي عند العرب قبل الإسلام، دار الأبجدية، دمشق، ط1، 1989، ص12-14.
23. ينظر، د. محمد علي أبو ريان: فلسفة الجمال ونشأة الفنون الجميلة، دار المعرفة الجامعية، مصر، ط8، 1993، ص7.
24. ينظر، هيغل: مدخل إلى علم الجمال، ص125-126.
25. ينظر، المرجع السابق، ص138-140.
26. ينظر، هيغل: مدخل إلى علم الجمال، ص145.
27. ينظر: المرجع السابق، ص131-136.
28. ينظر، م. أوفسيانيكوف، ز. سمير نوفا: موجز تاريخ النظريات الجمالية، تعريب: باسم السقا، دار الفارابي، بيروت، 1979، ط2، ص20-22.
29. ينظر، شارل لالو: مبادئ علم الجمال، ترجمة: خليل شطا، دار دمشق، ص66.
30. هيغل: مدخل إلى علم الجمال، ص154.
31. ينظر: المرجع السابق، ص 22.
32. أدونيس: زمن الشعر، دار العودة، بيروت، ط3، 1980، ص11.
33. ينظر، عباس محمود العقاد: الله، دار نهضة مصر، القاهرة، ط1، 1994، ص16.
5,221 total views, 2 views today
Hits: 501