الاستنساخ الفكري والمَظهري
صفية الشرجيَّة
جميلٌ أن يعيش الفرد منا على طبيعته، والأجمل عدم التكلُّف لإرضاء الآخرين.. لقد خَلَق الله -عزَّ وجل- بني البشر مُختلفين، ولكلٍّ صفات يتَّسم بها؛ الظاهر من هذه الصفات يتجلى في الشكل والملامح وكذلك الشخصية.
إنَّ هذا الاختلاف هو سرُّ التميز والإبداع؛ فلماذا نطمسه بتقليد الآخرين، والتخلي عن ذواتنا في سبيل إرضاء الآخرين؟! علينا أنْ نتخلَّص من عُقدة التقليد الأعمى، والتمعُّن في ذواتنا؛ فكلما ظَهرنا على سجيتنا كُنا أجمل، فتلك هي طبيعتنا التي خُلقنا عليها، فلماذا نتقمَّص شخصيات الآخرين، مُتجاهلين شخصياتنا؟!
أنا هُنا لا أقول أنْ لا يتخذ الفرد مِنَّا قدوةً حسنةً له يحتذي بها، بل على العكس: من الرائع أن يجد المرء قدوة حسنة يأخذ منها ما يفيده، ويترك ما لا يتناسب معه.. لكل منا إيجابيات وسلبيات؛ لذلك إنْ قرَّر الفرد أن يقتدي بشخصٍ ما، فعليه أن يقوم بعملية تطوير لتلك الشخصية التي قرَّر أن يحذو حذوها؛ من خلال أخذ المفيد منها وتطويره للأفضل، وترك سلبياتها أو تحسينها.
لقد خَلَق الله -عزَّ وجل- لكل منا عقلاً؛ ليتفكر به، وأنه لمن المُحزن أن نرى شبابنا وبناتنا يتطبعون بطباع لا تمُت لمجتمعهم بصلة، تحت مُسمَّى التطور. ومن المؤلم جدًّا أن تراه يندفع سريعاً لتطبيق كل ما يراه من الآخرين بلا وعي، ولا فهم لما يفعل، وفي حال سألته: لِمَ يُمارس هذه التصرفات أو يُظْهِر نفسه بهذا المظهر؟ سيكون رده فارغاً، وبلا منطق، وفي أغلب الأحوال سيقول: “الجميع يفعل ذلك”!
وإنْ حاولت محاورته في موضوع ما، ستجده فارغاً، وبلا ثقافة، وكل ما يهمه أن يُطبِّق ما يراه من الآخرين؛ سواء المحيطين به، أو مِنْ مَنْ يتابعهم على وسائل التواصل الاجتماعي! وهذا ما لم أجد له مُصطلحاً علميًّا سوى “الاستنساخ الفكري والمظهري”، لم نَعُد نرى التمايز، بل كل ما نراه هو موضة يُقْبِل عليها الجميع في كل موسم، ثم يتركونها، مُقبلين على غيرها؛ سواء كانت في القول، أو الفعل، أو المظهر.
كثيراً ما أدخل إلى وسائل التواصل الاجتماعي لأرى أنَّ مصطلح الاستنساخ الفكري والمظهري سائدٌ في كل ما أراه.. لماذا لا يظهر كل فرد مكنوناته وذاته، بدلاً من الانسياق خلف التقليد، وإظهار ما ليس فيه؟! لماذا لا يؤمن كل فرد منا بما لديه فيُغذيه بالاهتمام والتطوير؛ ليرقى بمجتمعه عاليًا؟! لكل مِنَّا صنعة يبرع فيها؛ إذن لماذا لا ينشغل بها، تاركاً ما لا يُبدع فيه لأنه لا محال سيخفق فيه وبتكرار؟!
على المرء أن يسعى لإبراز ذاته بما هو مُتأصلٌ فيه، فإنْ كان يهوَى الرسم ويُبدع فيه إذن هو رسَّام، وإن كان يُجيد التصوير واستخدام أدواته إذن هو مصوِّر، ويستطيع استثمار موهبته على مختلف الأصعدة، كما أنه إنْ كان يُجيد الطبخ ومُتذوقًا جيدًا للطعام، إذن هو طبَّاخ ماهر، وله أن يسعى لإظهار ما يملك؛ لأنه سلَّمه للتميز والنجاح دون الشعور بالخجل.
علينَا أنْ لا نَرْضَى باستقبال الكلمات الهدَّامة مِنْ مَنْ يحيطون بنا، بل أن نرقَى بأنفسنا عالياً، واثقين بما وَهَبَنا الله من نِعم، وأن لا نطبق تجارب الآخرين على حياتنا بحذافيرها، فلكل زمنٍ ظروفه ومعطياته، فما كان ينجح في السابق قد يفشل في الحاضر. كما أنَّ علينا أنْ نحقق أقصى درجات التصالح مع الذات؛ من خلال قبُول أنفسنا كما نحن، وأنْ لا نوبِّخ ذواتنا لأنَّ عيباً مُعيناً فينا، بل على العكس، علينا أن نكون بالقوة الكافية لقلب الطالح صالحا، وتغيير الموازين لصالحنا؛ فلا وُجُود للمستحيلات مادامتْ الإرادة موجودة، وهذا ليس كلامَ أمثال، أو عبارات مُنمَّقة، بل هي الحقيقة.
علينا أنْ نبحث عن أنفسنا وسط زحمة الأحداث المتسارعة، قبل أن نضيع؛ فلا نجد أنفسنا إلا متأخراً.. الإيمان بالذات والقُدرة على تحقيق التميز هما مُفتاح النجاح؛ لذا علينا التعمُّق في جوهرنا الموجود في أعماقنا، وفهمه جيداً، عندها فقط سنجد ألفَ سبيلٍ للكشف عن هُويتنا التي تتناسب معنا؛ لأننا أجمل على طبيعتنا وفطرتنا الجميلة التي خَلَقَنا الله عليها.
كما أنَّ للآباء دورًا عظيمًا في إبراز أفضل ما يملك أبناؤهم؛ من خلال تشجيعهم على ممارسة وتطوير مواهبهم الصغيرة، وأن يُشجِّعوهم على تنميتها حتى تكبُر تلك المواهب، وتتجلَّى بوضوح في المستقبل. على الآباء عدم توبيخ أبنائهم إن وجدوا منهم صنعةً يحبونها، ويمنعوهم عن ممارستها؛ لأنهم يرون أن الأفضل لهم هو ممارسة صنعة أخرى؛ فبذلك سيقتلون التميز والإبداع، ممارسين بذلك ظاهرة الاستنساخ الفكري والمظهري على أبنائهم؛ فالبعض يَطْمَح لأن يكبر ابنه ليصبح طبيبًا ناجحاً كما هي الحال مع ابن فلان، في حين الابن قد يكون له صنعة أخرى يُبدع فيها، فهل يرضي والديه ويتقمص دور الطبيب الذي لا يناسبه، بينما في داخله مصور مبدع قادر على صنع الفرق في المستقبل، والتميز والإبداع في مجاله؟!
على الآباء صقل مواهب الأبناء، وتقويم أخلاقهم دائماً، بعيداً عن التعنيف الذي يَطْمِس شخصية الطفل من نعومة أظافره، فيكبُر بلا هُوية، صاغراً أمام أوامر الآخرين ونواهيم. إنَّ دور الآباء لا يقتصر على ذلك فقط، بل عليهم أن ينمُّوا روح اتخاذ القرار منذ الصغر في أبنائهم، حتى يكبروا وهم يملكون الجُرأة الكافية لاتخاذ القرارات الصائبة في حياتهم، بعيداً عن الاستنساخ الفكري والمظهري السائد في وقتنا الحالي.
4,731 total views, 2 views today
Hits: 301