الأوقاف في الإسلام ودورها الريادي في دعم المسيرة الحضارية
د. محمد عبد الله القدحات
لم يرد في القرآن الكريم ذكر للوقف بمعناه الاصطلاحي، إلا أن الفقهاء اعتبروه مشمولا بما جاء في الآيات التي تحث على الخير والإحسان، وترغب في الإنفاق في سبيل الله تعالى، ومن هذه الأدلة قوله تعالى: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم} آل عمران 92. وقوله تعالى: {وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين}. سبأ 39. ومن السنة النبوية ما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له} [صحيح مسلم، حديث رقم 4223] فالصدقة الجارية في هذا الحديث تشمل ما وقفه الإنسان على سبيل التقرب إلى الله تعالى.
أجمع الفقهاء – رغم اختلافهم في صيغ التعريف- على الإطار العام لمفهوم الوقف، وهو تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة. جاء في قول للرسول -صلى الله عليه وسلم- لعمر بن الخطاب – رضي الله عنه عندما جاء يستشيره بأرض أصابها بخيبر. “إن شئت حبست أصله، وسبلت ثمره”. فالأصل بالوقف منع التصرف في رقبة العين التي يمكن الانتفاع بها مع بقاء عينها، وجعل المنفعة لجهة من جهات الخير ابتداء أو انتهاء. فإذا كان من أول الأمر على جهة بر لا تنقطع، كمسجد أو مدرسة أو سبيل ماء، سمي وقفا خيرياً، وإذا كان جهة تحتمل الانقطاع كالذرية، سمي وقفا ذريا، أو أهليا.
اتسمت الحضارة الإسلامية بخصائص تتفق وطبيعة روح الإنسان وفطرته باعتباره مخلوقا متميزا في هذا الكون ، فالطابع الخيري لها يمثل ركنا وأساسا متينا لها ، ولا يمكن النظر إلى تاريخ الأمة الإسلامية بمعزل عن هذه السمة التي اتصف بها المجتمع المسلم أفرادا وجماعات، حكاما ومحكومين. ولقد فتح الإسلام منابع عديدة لنفع الآخرين ، فمنها ما هو واجب كالزكاة والكفارات والنذور. ومنها ما هو ذو طابع تطوعي مثل الصدقات التطوعية. والوقف يحقق مفهوم الصدقة الجارية التي يدوم عطاؤها، ويستمر أجرها.
إن الوقف يمثل ركيزة هامة في اقتصاديات الدولة الإسلامية، حمل عنها عبئا اقتصاديا كبيرا، قد لا تستطيع مواجهته لوحدها، وقد يسهم أصحاب المال والثراء فيه بما تجود به أنفسهم، ويوظفون هذه الأموال في بناء المدارس والأربطة والمساجد والطرق والمحطات والآبار، بل ويوقفون على هذه المنشآت الأوقاف الكثيرة لضمان استمراريتها وعطائها وصيانتها.
ويمثل الوقف جانباً تطوعياً في عمران المدن، عضّد مجهودات الدولة الإسلامية كظاهرة أصبحت تلعب دوراً أساسياً في العمران. والأوقاف بهذا المعنى تستلزم حركة عمرانية تشكل جانبا هاما في حركة العمران في مراكز الاستيطان، ومن أهمها المدن. وتطورت أهمية الأوقاف بتطور حياة المجتمع الإسلامي من عصر إلى آخر، فبعد أن كانت تمثل حالات خاصة في القرون الأولى، نجدها منذ القرن الخامس الهجر يتحول إلى سمت عامة، لعبت دوراً خطيراً في تشكيل حياة الكثير من المدن الإسلامية شرقاً وغرباً.
أسهمت الأوقاف في تشييد بنية الحضارة الإسلامية، حيث كان لهذا النظام أثره الواضح في إثراء كثير من جوانب هذه الحضارة وبنائها، فعن طريقه بنيت المساجد والمدارس ودور التعليم على اختلافها، وتم الصرف عليها بما يضمن استمرارها في أداء رسالتها على الوجه الأكمل.
كانت الحركة العلمية من جملة المجالات التي أسهم الوقف في تشييدها، فكان ذلك عاملا مهما في إتاحة المعرفة لكافة فئات المجتمع دون أدنى تمييز; فوقِفت في أنحاء مختلفة من العالم مدارس ومعاهد علمية في جميع أنواع العلوم، فقد قدمت مؤسسة الوقفي الرعاية الشاملة لطلبة العلم ومشايخهم من العلماء من طعام وشراب وسكن وملابس ورعاية صحية وأدوات تعلم من كتب وألواح وأوراق وأقلام وأحبار، فضلا عن المكتبات التي تقدم فرص الدراسة والبحث.
والمؤسسة الوقفية العلمية لم تقم على أكتاف المقتدرين ماليا من المسلمين فحسب، لكنها مؤسسة اشترك فيها طواعية كل أفراد الأمة كلا حسب استطاعته، ذلك أن طلب الثواب والأجر كان الدافع الرئيس للواقفين. ولهذا فقد أثمرت الجهود فنهضت الحركة العلمية من تحصيل وتأليف وتطوير أدى إلى تشعب المعرفة البشرية.
تكاثرت الأوقاف، وتنوعت تعبيرا عن إحساس الواقفين بمسؤولياتهم تجاه مجتمعهم، ومن نماذج ذلك ما ذكره ابن بطوطة عن أوقاف دمشق حينما دخلها قال: “والأوقاف بدمشق لا تحصر أنواعها، ومصارفها لكثرتها، فمنها أوقاف على العاجزين عن الحج، يعطى لمن يحج عن الرجل منهم كفايته، ومنها أوقاف لفكاك الأسرى، ومنها أوقاف لأبناء السبيل يعطون منها ما يأكلون، ويلبسون، ويتزودون لبلادهم، ومنها أوقاف على تعديل الطرق، ورصفها ; لأن أزقة دمشق لكل واحد منها رصيفان في جنبيه يمر عليها المترجلون، ويمر الركبان بين ذلك، ومنها أوقاف لغير ذلك من أفعال الخير”.
3,886 total views, 2 views today
Hits: 185