البحث العلمي وأزمة اللغة العربيَّة
د. أحمد يوسف
أكاديميّ جزائريّ – جامعة السلطان قابوس
تُعَاني اللغةُ العربيَّة من مُشكلات عويصة لا تكاد تخفَى على عَاقل، وما ينبغِي التقليلُ من أهميتها إذا تعلَّق الأمرُ بعَلاقتها بالبحث العلميِّ في الرَّاهن والمستقبل. ومن أماراتها: تعثُّر تطوير تعلم العربية وتعليمها، والأداء المتواضع للمجامع العربية دُون التقليل من اجتهاداتها، وضعف الترجمة، و”تسييس” التعريب وإخفاقاته في بعض الدول العربية، والازدواجية اللغوية في التعليم وتعدد اللهجات، وفقر المعلومات بالعربية على الشبكة العنكبوتيَّة (الإنترنت)، وعدم وُضُوح الرؤية، وضبابية الأهداف الخاصة بالنهوض بالعربية لتواكب مُستجدات العصر، والتحدي اللغوي في عصرٍ لا يتوقف هُنيهة للالتفات إلى الوراء، خصوصا في ظلِّ الاعتقادِ الذي أصبحَ يترسَّخ في الأذهان بأنَّ القادمَ من الحروب التي ستُواجهها الإنسانية في المستقبل “حُروب لغوية”؛ وهذا ما سَبق أن طَرَحه هيتجنتون، في مؤلفه السجالي حول صِدَام الحضارات، الذي سيقوم -في نظره- على النَّزعات الثقافية.
ذَكَر تقريرُ التنميةِ الإنسانيَّة العربيَّة الأزمةَ التي تُعاني منها العربية؛ وهي “أزمة مركزية، لا تقلُّ خطورة وتعقيدًا عن الأزمات الأخرى التي تُواجِهها المجتمعات العربية، الواقفة على عتبة نقلة نوعية وحادة”. وهذه الأزمة تُلقِي بظلالها على مَسألة البحث العلمي؛ “لأن استمرارَ النشر باللغات الأجنبية يُكرِّس الانفصالَ بين حاجات المجتمع ونتائج البحوث العلمية”. ولا يُمكِن حَصْر المُشكِل في النشر بلغة أجنبية بعينها؛ مثل: الفرنسية، وحتى الإنجليزية، من قبل الباحثين في بلدان المغرب العربي؛ وإنَّما المُشكل يكاد يَكُون عامًّا، وذا صلة بالتخلُّف الذي تَعِيشه كثيرٌ من المجتمعات العربية، وتأتِي أزمةُ اللغة العربية بوَصْفِها مظهرًا من مظاهر التعبير عن المعوِّقات التي تُؤثر تأثيرًا مُباشرًا في مجرى البحث العلمي.
غالبًا ما تَكُون اللغة المعتمَدَة في التقويم والتقييم هي اللغة الإنجليزية، وأنَّ البحوث المنشورة باللغات الأم لا تكاد تُعْتَمد في معاملات التقويم؛ إذ إنَّ نسبة نشر البحوث باللغة العربية لا تَكاد تصل إلى 5% من مجموع النشر باللغات الأجنبية الأخرى؛ مثل: الإنجليزية، والفرنسية. وهذا يُشكِّل في حدِّ ذاته تحديًا حضاريًّا ما ينبغي الاستهانة به. فمَهمَا تقدَّمنا في البحث العلميِّ والتكنولوجيا المعاصرة، وبَقِيت اللغة العربية غير قادرة على أن تكون وعاءً للبحث العلمي؛ فهذا لا يُبشِّر بالمستقبل الذي تصبُو إليه الأمة؛ ولا يستجيبُ لتطلعاتها لأنْ تكون أمة مُميَّزة في عطائها، مُتمسِّكة بهُويتها: اللغوية، والثقافية، والحضارية، صاحبة ابتداع لا اتِّباع. فمن المفروض عندما يرتقِي المتكلِّم حضاريًّا أن ترتقِي معه لغته. ونحن نعتقد أنَّ الاهتمامَ بترقية اللغة الأم لتُصبح لغةَ علمٍ من مسؤولية الباحثين والقائمين على المشروع الحضاري الذي تتطلَّع إليه المجتمعات العربية والإسلامية. ولا بَأس بالتذكير هُنا بالعطاء العلمي والحضاري لهذه اللغة في العصور الغابرة، ليكون دافعًا للتخلُّص من عُقدة النقص؛ ولكن ما ينبغي أن يُصبح التغنِّي بالماضي التليد مُخدِّرًا.
بدأتْ العِنَاية تنصبُّ على هذا المُشكل؛ من خلال عَقد الندوات والمؤتمرات التي تُقِيمها الهيئات العلمية، ووزارات التعليم العالي، على النحو الذي نَلفِيه في اليوم الدراسي الذي نظَّمه معهد الدراسات والأبحاث للتعريب بالرباط، حول “اللغة العربية والبحث العلمي”، والدراسة التي قدَّمها تقريرُ التنمية الإنسانية العربية للعام 2003. ونحنُ نتفقُ مع عبد القادر الفاسي الفهري، وغيره من الغيورين على اللغة العربية، حول أنَّ “تملُّك المعرفة يتطلَّب إنتاجَ معرفة جديدة في مُختلف المجالات، مُبرزا أنَّ في العالم العربي رأسمال بشريًّا مُهمًّا قادرًا على حَفْز صَحوة معرفية، إلا أنَّه يخبُو نتيجة بيئة مُؤسسة غير مُواتية للبحث العلمي والتطوير التقاني والتربوي”. وبالفعل، فإنَّ التقنيات الحديثة والعلوم المعرفية، تجعلنا نتجاوَز الطرائق التقليدية في تعلُّم العربية وتعليمها؛ وذلك بالوقوف على هندسة اللغة وحَوْسَبتها مِمَّا يُيسِّر لنا الصُّعوبات في أن تحتل العربية منزلتها بين لغات العالم.
ومِنَ الموضوعات البَارزة التي نُوقِشت في ذلك اليوم الدراسي: الطرائق التي يُتَوصل بها إلى التَّوازنات اللغوية المعقولة، والتداخل بين النسق اللغوي والبحث العلمي، ووضعية اللغة العربية في التعليم العالي، وهذا يدلُّ على الرَّبط الواعي بين البحث العلمي واللغة التي يُكتب بها؛ إذ من الوَاجب على أمَّة تريد أن تُسهِم في البناء الحضاري، ويَكُون لها حضُور في هذا العالم الذي يتحرَّك حركةً مُتسارعة ومُذهلة، عليها أن تبحثَ عن مَوَاطِن الضَّعف والخلل التي تُعِيق منظومةَ البحث والتطوير في العالم العربي، وتجعَلها لا تُوَاكب ما يَعتمِل في أتون الثورة الرقمية، دون أنْ تُهمِل اللسان الذي تتحدَّث به، ويُشكِّل شارة لهُويتها.
يدعُو الباحثون الواعُون بالمعضلة الحضارية إلى ضَرورة حِمَاية اللغة العربية بوَصْفِها وطنًا للمعرفة، وأنَّ الحماية تنطلقُ من تشخيصِ مَوَاطن الضَّعف، ووضع الحُلُول الناجِعَة لكي تستردُّ العربية مكانتها في مُجتمَعات المعرفة، ومن البديهي لكي تَكُون العربية وعاءً لإنتاج المعرفة، فلا بُد أن يضَّطلع أهلُها بالمراجعة الجريئة لواقع اللغة العربية، والقيام بالبحوث العلمية الرصينة، ويتحلَّى الباحثون بدرجةٍ كبيرةٍ من الوعي في إدراجِ اللغة العربية فيما ينتجونه من بُحُوث علمية، والبحث عن الآليات التي تجعَل هذه البحوث منشورةً ومعلومةً لدى أهل الاختصاص، ومن المسؤوليَّة الحضارية الإسهامُ في طرح المقترحات العملية لكي تُصبِح العربية حاملةً للمعرفة، ومرتبطةً بالتنمية الشاملة.
ففي أدبيَّات التقرير الذي أعدَّه برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، بالتعاون مع الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي، تحت عنوان “نحو إقامة مجتمع المعرفة” عام 2003، حول التنمية الإنسانية العربية، إشارةٌ إلى الأهمية الكبرى للغة العربية، ودورها الجوهري في مجتمع المعرفة والتنمية: المعرفية والاقتصادية، وتقانة المعلومات. إنَّ مَنظومة اللغة من المداخل المهمَّة التي تضفِي الحيوية في أرجاء منظومة المعرفة جميعها.
وأشارَ التقرير إلى الأبعاد: الرُّوحية، والثقافية، والاجتماعية، والحضارية، والمعرفية للغة العربية، ووَقَف على الأزمة التي تعيشها اللغة العربية وهي تقفُ على عَتَبات مجتمعِ المعرفة. إنَّها تعيشُ تحديات: معرفية، وثقافية، وحضارية. لقد كانتْ لغة التقرير مُتشائمة وهي تنظرُ إلى الأزمة الحقيقية التي تُعَاني منها العربية -تنظيرًا، وتعليمًا، ونحوًا، ومعجمًا، واستخدامًا، وتوثيقًا، وإبداعًا، ونقدًا- وكذَا صُعُوبة مُعَالجة اللغة آليًّا بواسطة الحاسوب.
هُنَاك إمكانات مُتَاحة للغة العربية للخروج من أزمتها الراهنة؛ ومنها أنَّ مُجتمع المعرفة صار يتقبَّل واقعَ التعدُّد اللغوي من منظور حقوق الإنسان، والدفاع عن حقوق الأقليات المتعلقة بمعتقداتها وثقافاتها ولغاتها. وهذا يتطلَّب حُسن التدبير في تسويق البحث العلمي باللغة العربية من قبل باحثين أكْفاء يُتقنون لغات مُتعدِّدة، ويُنشِؤون دوريات علمية ذات معايير دولية. ولا بُد من الاستفادة من اللسانيات المعاصرة، والتقنيات الحديثة التي تُؤمِن بتكافؤ اللغات في فضيلة التواصل.
إنَّ للغة وظيفة تواصلية تَرْقَى برُقي متكلميها، كما يَنبغِي الإفادة من التطوُّر التكنولوجي لـ”هندسة اللغة”، والتحكُّم في أنساقها المعقَّدة وتطويرها، والدخول في شَرَاكة علميَّة جادَّة بين علماء اللغة العربية وعلماء الحاسوب والبرمجيات؛ بُغية تطوير آليَّات التحكم الآلي باللغة العربية، ثمَّ السَّعي إلى إنتاج المعرفة والنشر بها لفرضها بوصْفِها لغةَ علم، ومعرفة، وفكر، وثقافة. ولتحقِيق هذه المَرَامي لا بُد من تجاوز القُصُور الناتج عن الجُهُود الفردية، والانتقال المدروس إلى البحث عن طريق البحثِ الجماعيِّ الذي يُشرك الباحثين في العناية بالمسألة اللغوية، وتحفيزهم على تطوير أدائهم اللغوي بالعربية، وحثِّهم على الزيادة في ترجمة مَصَادر المعرفة والمراجع العلمية إلى اللغة العربية، والتفكير العِلمي الجاد في تذليل الصُّعوبات المتعلقة بالمصطلحات العلمية.
4,393 total views, 2 views today
Hits: 569