الديمقراطيَّة في حياتنا العُمانيَّة
د. صالح المسكري
مَارَسَ العُمانيون الديمقراطية وعرفوا المشاركة السياسية مُنذ زَمِن بعيد، وكان السَّلاطين والأئمة السابقون من قَبْلِهم لا يقطعُوْن أمراً فبل التشاور مع المستشارين ومجالس أهل الحل والعقد، وأخذ رأيهم ونصيحتهم. ومعروف أنَّ الشورى هي من أسباب دخول أهل عُمان الإسلام، وإيمانهم، ونصرتهم لرسالة خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم، فقد اهتمَّ العُمانيون بإقامة مجالس البَرزة والسَّبلة كنظام سياسي واجتماعي في حياتهم، وهي مجالس مفتوحة يعقِدُها المسؤولون والوجهاء مع أهل الخبرة والرأي، حتى أصبحتْ الشُّورى ثقافة راسخة في عادات العُمانيين وتقاليدهم، وأوَّل ما يُبادر العُماني أخاه إذا لقاه هو سؤاله عن العلوم والأخبار؛ رغبة في معرفة الجديد، والمشاركة بالرأي في إدارة الشؤون العامة.. ولا يزالون.
وفي العصر الحديث، أوْلَى جلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم -حفظه الله ورعاه- أولى اهتماماً عالياً بالموروث الثقافي العُماني بمختلف أبعاده. وفي مجال المشاركة السياسية تحديداً، أتاحَ جلالته الفرصةَ مُبكِّرا للمواطنين لإدارة بلادهم منذ السنوات الأولى للنهضة؛ حيث بَدَأً بإنشاء مجلس لغرفة تجارة وصناعة عُمان عام 1973م، ثم مجلس للزراعة والأسماك والصناعة عام 1979م، ضمَّ 12 عضوا من الحكومة والقطاع الخاص، وكان من اختصاصاته: دراسة الأنظمة والأحكام والقوانين والقرارات السارية ومشاريع القرارات المستقبلية الخاصة بالنشاط الاقتصادي، والنظر في تظلمات المشتغلين في تلك القطاعات الثلاثة.
وقد مهَّد ذلك بطريقة أو بأخرى للمشاركة السياسية المباشرة والحياة البرلمانية في عُمان؛ حيث أنشئ في العام 1981م المجلسُ الاستشاريُّ للدولة، تبعه مجلس الشورى عام 1991م، والنظام الأساسي للدولة عام 1996م، الذي أَعْلَن لأول مرة عن قيام هيئة برلمانية بنظام المجلسين؛ هما: مجلس الدولة ومجلس الشورى، تحت مُسمَّى مجلس عُمان، وجاء صدور النظام الأساسي “أي الدستور” تتويجاً لمسيرة رُبع قرن من العمل والبناء، والمكاسب الوطنية المهمة، التي أصْبَح معها المواطن مُهيَّأ للتفاعل مع النظام الجديد ومع دولة المؤسسات. وفي العام 2011م، صَدَر المرسوم السلطاني رقم 99/2011 بتوسيع اختصاصات مجلس عُمان: التشريعية، والرقابية، والمالية، ومَنَح المرسوم أعضاءَ المجلسيْن مزيداً من الثقة، وفتح لهم مساحة واسعة للمشاركة في إدارة شؤون البلاد، خاصة وأنَّ السلطنة دخلتْ في علاقات وارتباطات ومصالح كثيرة حول العالم، وأصبحت عضوًا في الكثير من المنظمات والاتفاقيات الدولية، وفي مجالات متنوعة؛ منها: مجال الاتصالات، والبيئة والتلوث، ومكافحة الإرهاب، والنقل الجوي وقانون البحار، ونزع السلاح، ومكافحة المخدرات، ومجالات أخرى تتعلق بالتربية والثقافة والعلوم وحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي؛ الأمر الذي يستوجب معه أن يُواكب أعضاء مجلس عُمان تلك التطوُّرات، وأنْ يتحمَّلوا مسؤولياتهم الوطنية، ويتعاملوا مع الحراك السياسي العالمي المتوتِّر بوَعْي وحكمة واتزان.
بهذه الإجراءات البنائية خُطوة خطوة، اعتنتْ القيادة السياسية بموروث الشورى وجدَّدته، وجعلتْ من ثقافة الشورى العريقة ثقافة لكل المجتمع، تقُود الفكرَ الوطنيَّ والتوجُّهات الشعبية والرسمية إلى مُشاركة سياسية ومُمارسة ديمقراطية فاعلة، وأنْ يكون قوله تعالى: “وأمرهم شورى بينهم” التي يتخذها مجلس الشورى شعاراً وأيقونة له، هي الموجِّه للعلاقة بين السلطة التشريعية -ممثلة في مجلس عُمان- والسلطة التنفيذية، وأنْ تكون هذه العلاقة نموذجاً للتنسيق والتعاون بين سُلطات الدولة.
إلا أنَّه وللأسف، هُناك أشخاص رأوا غير ذلك، وعملوا على زعزعة وإرباك هذه العلاقة.. البعضُ منهم من “أهل البيت!!” أي ينتمون للسلطتيْن الكبيرتين الشورى والحكومة -لجهل وسوء تقدير- والبعضُ الآخر من خارجه؛ أي من شخصيات وأفراد من المجتمع يظنون بالطرفين ظنَّ السوء، ويجادلون في كلِّ شيء بغير علم ولا هدًى ولا كتاب مُنير، وهم بذلك يَحْسَبون أنَّهم يُحسنون صُنعا، هؤلاء الأشخاص ينشطون من خلال ما يَرَونه حقًّا للمجتمع في مُمارسة الرقابة الشعبية على أداء السلطات العامة وعلى اختصاصاتها وعلاقاتها ببعض، وأيضاً حقًّا له في الرقابة على دستورية القوانين، خاصة في ظلِّ الإصرار الرَّسمي على عَدَم تطبيق أيِّ نوعٍ من الرِّقابة السابقة أو اللاحقة على الدستورية حتى اليوم، رغم مُرور ما يقارب العشرين عاماً على صدور قانون السلطة القضائية الذي حدَّد آلية تطبيق الرقابة على الدستورية بوضوح في المادتين العاشرة والحادية عشرة من القانون؛ فقام هؤلاء الأشخاص بإطلاق أعيرة النقد في كل اتجاه، وبأساليب يغلُب عليها الارتجال وعدم الدِّقة والموضوعية والإسناد العلمي، ومن دون أنْ يَطْرَحوا بدائل أو حلولًا قابلة للتطبيق؛ مما ساعد على خلط الأوراق، وإرباك الهيئة البرلمانية والحكومة والمجتمع على حدٍّ سواء.
وإذا أرَدْنَا الحقيقةَ، فإنَّنا نقول بأنَّ هُناك عواملَ واضحة ساعدتْ على تكريس صورة البرلمان الضعيف في نظر الجمهور، وأفرزتْ ما نَرَاه من تراجُع ملحوظ في العملية الانتخابية في فترات سابقة، وهو للأسف تراجعٌ في الثقة، ولا بد للجهات المعنية أنْ تتحلًى بالواقعية والشفافية عند مُعالجتها للموضوع مستقبلا؛ لأنَّ هذه الصورة أخذتْ في التشكُّل والوضوح، والفكر السلبي عن عطاءات الشورى أخذ هو الآخر يتجذَّر وينتشر ويؤثر على المصالح الوطنية العليا، وعلى مصداقية بناء “دولة مؤسسات” تحرص عليها القيادة السياسية في البلاد.
ومن هذه العوامل -على سبيل الذكر لا الحصر- العلاقة بين المجلس والحكومة، والتي تحتاج إلى تقييم شامل وشفاف، يتجاوز فكرة أنَّ الحكومة هي المظلَّة الكبرى أو الشقيقة الكبرى للسلطات، بل هي الأم التي أنجبت باقي السلطات كما يحلوا للحكوميين تصويرها، والوصية على الأرض والشعب والمصالح العليا، هذه العلاقة لا بد من مُراجعتها، ووضع قانون -أو بروتوكول عمل- ينطلق من قواعد النظام الأساسي للدولة، ويهدف لتقريب وجهات النظر، وبناء جسور التعاون، وبناء الثقة بين مجلسيْ عُمان والوزراء لتحقيق المصلحة العامة.
ومنها ما يتعلق بالتواصل بين الهيئة البرلمانية -التي أرخت زمام القيادة في المجتمع- وبين عامة الناس الذي لا يزالون ينظرون إلى عضو البرلمان على أنه “سوبرمان” ووليهم في الحياة الدنيا، الذي يُعلم ويوظِّف ويزوِّج، ومعه أختام الحكومة، وأنَّه صاحب الكرامات الذي بِيَده كلمة السر ويأمُر فيطاع، فإنْ لم يستطع فهو عُضو فاشل ومقصِّر، ولا يستحق التجديد مرة أخرى.
ومن الأسباب أيضا: وجود بعض الأعضاء التقليديين المنغلقين على عقلياتهم القديمة، وهم يكرسون وقتهم للمصالح الضيقة، ويظنُّون أنهم وكلاء أعمال المواطنين، يقضون فترتهم “أربعة أعوام” في العزائم وملاحقة الواجبات الاجتماعية، لا يسمعون عن مناسبة إلا وحضروها، ولا عن لقاء مع المحافظ أو الوالي إلا تصدَّروه؛ لأنَّ اللقب الجديد نقلهم من الصفوف الخلفية إلى الواجهة فجأة، وهم في المقابل “مريحين رؤوسهم” عن القراءة والبحث والاطلاع، ولا يعرفون عن المجلس إلا مواعيد الجلسات؛ لهذا تجد هؤلاء الأعضاء مُشتَّتين، يهتمون بتفاصيل صغيرة لا تمُت لاختصاصهم بصِلة.
ولا نَنْسَى بعضَ وسائل الإعلام التي أسهمت أيضاً في التشويش على عطاءات الشورى، وعلى بعض الأعضاء -وأقول “بعض”؛ لأنَّ هناك من هُم أصدقاء للإعلام- هذه الوسائل قدَّمت بعض الأعضاء وتناولتهم بطريقة سطحية لا تخلو أحيانًا من التعليق والسخرية؛ الأمر الذي شجَّع الفارغيْن في مواقع التواصل الاجتماعي على أن ينشروا تسجيلات صوتية ومرئية مُسيئة لمرشح الشورى، وللشخصية العُمانية عموماً.
هذه الأسباب وغيرها جعلتْ من هيئة البرلمان -ومجلس الشورى المنتَخَب بالتحديد- في صورة بَيْت الخبرة المتواضع المغلوب على أمره، ولا يأخُذ من شخصية وهيبة البرلمان إلا المبنى الفخم الذي يَطَاول الجبال في منطقة البستان من محافظة مسقط.. علماً بأنَّ نتائج أعمال أي برلمان لا يُمكن لها أن تنال حظاً من النجاح والقبول في المجتمع إذا لم تتوافر لها آلية واضحة للتطبيق، تماماً كالأحكام القضائية التي لا يُمكن لها أن تَحُوْز القوة والقبول والمصداقية إذا لم يدعمها قانون آخر يُسمَّى قانون تنفيذ الأحكام القضائية؛ فإذا أصْدَر مجلسُ الشورى توصية أو قدَّم رأياً أو مُقترحاً، ولم تلتفت إليه الجهات المعنية، فلا يُلام المجلس هنا ولا أعضاؤه، إنَّما تُلام الدولة لعدم اعتمادها رؤية وآلية واضحة لتنفيذ تلك الأعمال، وإذا طَلَب المجلس استجوابَ وزير يرى أنَّه مُقصِّر في عمله ورفضت الحكومة طلبه -لأسباب تتعلق بحفظ هيبة الحكومة ومكانة الوزير مثلاً- رغم التأثير على اختصاص أصيل للشورى -وهو الاختصاص الرقابي- ولا يملك “الشورى” حَوْلًا ولا قوة إزاء ذلك، فليس من العدالة أن نحاسب المجلس على واقع لا يملك الرأي فيه. أو أن يقترح “الشورى” قانوناً، وظلَّ بعدها في أدراج الحكومة شهوراً طويلة، أو صَدَرت قوانين دون أن يُصَادِق عليها “الشورى”، أو حتى يطلع عليها -كقانون انتخابات أعضاء مجلس الشورى- أو قدَّم دراسة لحالة اقتصادية أو ظاهرة اجتماعية وذهبتْ في طريق اللاعودة، فلا يُمكن أن يُلام المجلس وحده، ويوصف بالضعف والتقصير؛ لأنَّه أدَّى ما عليه في الحدود الممكنة، ولا يمك وسيلة أو آلية لتنفيذ أعماله في مُواجهة السلطة الأخرى التنفيذية ممثلة في الحكومة.
وفي هذا السياق، يُمكن لنا أن نقترح -إن جاز لنا ذلك- إنشاء مَعْهَد برلماني مُتخصِّص، يتولَّى تدريب الشباب على الممارسة الديمقراطية، ويُسهم في تسهيل مهمة أعضاء مجلس عُمان، ودعمهم بالدراسات والمعلومات والنشرات، ويعمل دراسة قياس واستطلاع رأي للمعمول والمأمول من أعمال المجلس، ويُتابع العوامل الإيجابية والسلبية التي تُؤثِّر على عطاء المجلس؛ أسوة بالمعاهد القطاعية المتخصِّصة الأخرى كالمعهد الدبلوماسي في وزارة الخارجية، ومعهد تدريب الكفاءات في الديوان، ومعهد الإدارة العامة، خاصة إذا ما علمنا أنَّه لا توجد في مجلس عُمان مراكز بحثية مُتخصِّصة، ولا حتى قواعد بيانات ومعلومات يُمكن الاعتماد عليها.
ونقترحُ أيضاً النظر في تعيين عدد من النساء في مجلس الشورى لفترات مُحدَّدة، مع احتفاظهن بحقهن في الانتخاب، إلى أنْ تُصْبِح عُضوية المرأة في المجلس بالانتخاب الكامل مُستقبلاً، وهو إجراء معمول به في كثير من برلمانات العالم، وطبِّق في عُمان عند تأسيس الشورى؛ حيث بُدأ بالتعيين الكامل، ثم التعيين الجزئي، ثم الانتخاب الكامل، ولم تعيَّن بعد ذلك أية امرأة في مجلس الشورى، ولا يغني وجود المرأة العُمانية في مجلس الدولة بنسبة معينة تشبه “الكوتا” عن وجودها في مجلس الشورى بنفس الطريقة؛ لأنَّه الأهم. وللمرأة دَوْر رئيس في الحياة العامة، وإسهامٌ مُؤثر في الجوانب المتصلة بشؤون المرأة والطفل والأسرة قد لا تكون مُتاحة للرجل، ولا يمكن تبرير عدم التعيين في المجلس المنتخب بأنَّ النظام الأساسي للدولة لا يسمح بذلك؛ فهناك موضوعات أخرى غير دستورية تؤخذ بالقرار السياسي، وأصبحتْ نافذة في حياتنا لا يستطيع أن يُنكرها أحد، وأصبحت متصلة بالمصالح العليا العامة.
كما أقترح إنشاء جهة تتبع مجلس عُمان تتولى متابعة تنفيذ أعمال وتوصيات ومقترحات المجلس، والتنسيق بين غرفتيه “الدولة والشورى” في كلِّ ما يتعلق بمتابعة تنفيذ أعمال المجلسين، وبرامج الاجتماعات، وعمل الدراسات، وتنظيم المؤتمرات، وبرمجة خطط التدريب، وأيضاً بينها وبين السلطتيْن الأخرييْن في البلاد: التنفيذية والقضائية، وبينها وبين برلمانات العالم.
5,554 total views, 2 views today
Hits: 457