الفيزياء والبنية اللاشعوريَّة في الفكر العلمي
د. جاسم العلوي
ورقة مشاركة في “منتدى اليوم العالمي للفلسفة”، الذي أقامته جامعة السلطان قابوس ومجلة “شرق غرب” الثقافية، بالنادي الثقافي مساء 29 نوفمبر 2017م
ملخص
في هذه الورقة، حاولنا أن نُثبت أن العقلانية العلمية تفتقدُ لقاعدة اليقين والأمان المعرفي.. فبينما يتميَّز الاتجاه العقلاني الأوروبي والإسلامي بقاعدة اليقين والإمان التي هي بنية عميقة في العقل البشري، فإن العقلانية العلمية والاتجاهات العلمية الملتزمة بروحها، حاولت -عبر تفسير معطيات تجريبية في النظرية الكمية- نسف هذه البنية العميقة في العقل البشري. لكنَّنا أثبتنا أن العقلانية العلمية تُعاني من انفصام وازدواجية على المستوى النظري والتطبيق، وأن تناقضات العقل العلمي، وصيرورة التطور العلمي، قد أثبتت هذه البنية العميقة، والتي أوضحنا أنها تعبِّر عن نفسها في الحالة اللاشعورية لدى هذا العقل، عندما يتم نسيان المتغيِّرات في داخله، لتظهر تلك الطبقة العميقة والراسخة في العقل البشري بصورة قهرية.
شكَّل الكجيتو الديكارتي -مع مجموعة الأفكار الفطرية- أساسَ اليقين في المعرفة البشرية لدى الاتجاه العقلاني في أوروبا، وهو كذلك مصدر الأمان المعرفي؛ إذ يمكن بالعودة إليها أن نبدأ بممارسة النشاط المعرفي في كل فضاءات المعرفة؛ إذ مهما ضعفت ثقتنا في البناء العلوي للمعرفة، ثمة أساس ومرجعية راسخة وقوية تشكل قاعدة الأمان، وتؤمن لنا الانطلاق من جديد. ويقابل الاتجاه العقلاني الأوروبي على الضفة الأخرى، الاتجاه الفلسفي الإسلامي الذي يؤمن بقاعدة اليقين والإمان للمعرفة البشرية، وإنْ كان في سياق مُختلف. تحتفظُ الفلسفة الاسلامية للمعرفة البشرية ببنية عميقة راسخة، يتم اكتشافها أولا بالشهود الباطني، ومن ثم يتحول هذا الكشف الشهودي الباطني إلى مجموعة من المفاهيم، يشكلها العقل بعد اتصاله بالحس.. وتتمثل قاعدة اليقين والأمان المعرفي لدى الاتجاه الفلسفي الإسلامي بمجموعة البديهيات الأولية كمبدأ العلية، ومبدأ عدم التناقض، وهي بديهيات يُسلِّم المرء بصدقها فور إدراكها. ونحن هنا نحاول أن نعي ما إذا كان بالإمكان أن تتمتع العقلانية العلمية في أساس بنيتها التجريبية بقاعدة الأمان واليقين، الذي يُؤمن لها الانطلاق عندما يُخالط المعرفة البشرية الشكُّ وعدم الثقة. وتقوم العقلانية العلمية -على المستوى الإبيستمولوجي- على عدم الاعتراف بالأحكام العقلية القبلية البحتة، وعلى المستوى الانطولوجي بعدم الاعتراف بالوجود غير المادي. وما دام الواقع المادي هو المرجعية الأساس للعقلانية العلمية في المعرفة، فهل من تجربة أو عدد من التجارب تشكل بمجموعها قاعدة اليقين والأمان على غرار الكجيتو الديكارتي، والأفكار الفطرية المودعة في صَمِيم التكوين الإنساني، كما يعتقد بذلك أصحاب الاتجاه العقلاني الأوروبي؟ وهل التجربة في ذاتها قادرة على أن تزود البشرية بقاعدة الأمان واليقين؟
ونحن في هذه الورقة، سنُثبت أن التجربة في ذاتها، واستقلالا عن العقل وأحكامه القبلية، ستُحيلنا إلى الفراغ، وليس فيها ما يُزوِّدنا بالأمان واليقين المعرفي، الذي يُمكن دائمًا -بالعودة إليه- مُعَاودة النشاط المعرفي. كما أننا سنكشف عن انفصامٍ واضحٍ تُعَاني منه العقلانية العلمية ما بين موقفها النظري وموقفها العملي، وهو ما يُؤكد مَدْعَانا في هذه الورقة بوجود بنية لا شعورية في الفكر العلمي.
سنعمدُ إلى ممارسة تاريخية-فلسفية، نستبينُ من خلالها فقدان هذه البنية العميقة الصلبة للمعارف البشرية، والتي أسميناها قاعدةَ اليقين والأمان، عندما نلتزم بالمرتكزات التي تقوم عليها العقلانية العلمية. ومقصودنا من هذه الممارسة أن نجعل من السياق التاريخي لتطور العلوم مُقدِّمات لبيان المشكلة فلسفيًّا؛ والمتمثلة بالأزمة المعرفية على ضوء الالتزام الصارم بهذه العقلانية، التي تؤمن بمركزية التجربة في النظام المعرفي.
وبالعودة للتاريخ، والتأمُّل في المسار التاريخي لتطوُّر العلوم، وبالتحديد سنقف عند بعض المحطات التي شكَّلت مُنعطافات حادة في تطور العلوم، وصنعت اتجاهات إبيستمولوجية جديدة ورؤى فلسفية للوجود، فإننا سنكتشف أن أفكارا كانت راسخة وسائدة لفترات طويلة من التاريخ، لكنها تلاشت وانتهت بعد أن تجاوزت الإنسانية العقبة السيكولوجية التي عادةً ما تتشكل بسبب العادات الفكرية الضارة التي تحول دون فحص الأفكار ومراجعتها. وسنكتشف أن العلاقة بين العقل والتجربة أخذت تتموضَع من حيث الأهمية بشكل مُختلف في مثل هذه المحطات المهمة من تطوُّر العلوم.
لقد تلاشتْ -على سبيل المثال- فكرة العلاقة التي تربط بين كتل الأجسام وسقوطها باتجاه الأرض في القرن السادس عشر الميلادي، بعد أن اختبر جاليلو هذه الفكرة، وأثبت تجريبيا خطأها. لقد حققت التجربة هنا نجاحا باهرا بعد إماطة اللثام عن زَيف ذلك الاعتقاد الذي ساد الوعي الإنساني ما يقرب من الألفين عام. هكذا تعززت مكانة التجربة ودورها في تطور العلم. لابد هنا أن نستدرك أن المنهج التجريبي في العلوم لم يبدأ مع جاليلو، لكن جاليلو صَنع لحظة فارقة في التاريخ الأوروبي بالخصوص، لقد أدرك أهمية الرياضيات وتطبيقها على ظواهر الطبيعة؛ فالطبيعة -كما يعتقد- مكتوبة بلغة الرياضيات، لكنَّ الرياضيات -بوصفها فاعلية ذهنية، ونشاطا تجريديا مع اللحظة الجاليلية- هي تابعة للتجريب وتتحرك في أفقه. وبذلك؛ مهد جاليلو لظهور اتجاه إبيستمولوجيا في المعرفة، يضع التجربة في مركز النظام المعرفي. واصلت التجربة تحقيق النجاحات في القرون التي تلت العصر الجاليلي إلى ما قبل القرن العشرين، جاعلة من النشاط العقلي تابعا لها؛ فالعمليات التجريبية تترجم لعمليات ذهنية، عمليات تشكل مجموعة مترابطة من القواعد المنسجمة والمستقاة من التجربة. وهكذا لعب النشاط العملي للإنسان في كافة المجالات في هذه الحقبة من تاريخ المعرفة دوره في تكوين المنظومات الفكرية، والتي مرجعيتها تجارب الإنسان في الطبيعة، وتجاربه في الساحة الاجتماعية والاقتصادية للإنسان.
بعد جاليلو بمائة عام تقريبا، جاءتْ نظرية نيوتن في الجاذبية، وكذلك نظرياته في حساب التفاضل والتكامل لتُحدث ثورةً علمية، ثورة تحمل كل دلالات المعنى لهذه الكلمة، ثورة أحدثت قطيعة مع الماضي. ولكي نعي ثورية الأفكار التي جاء بها نيوتن، سأستعين في هذا الصدد بأفكار توماس كون، الواردة في كتابه “بنية الثورات العلمية” حول الكيفية التي تنمو بها العلوم دون الالتزام الكامل بآرائه. يرى كون أن العلم يتطور عبر عدد من المراحل: المرحلة ما قبل العلمية وليس مُهمًّا تناولها، ومرحلة العلم السوي أو القياسي normal Science، وهذا يتطلب نموذجا فكريا (مترجم بنية الثورات العلمية يسميه نموذجا إرشاديا). وفي رأي كون، فإن النموذج الفكري -أو الإرشادي، بحسب – يُشكِّل الوحدة الأساسية المشتركة التي يتبناها العلماء في فترة زمنية ما، ومنه نتمكن من دراسة تطور العلوم (1،ص:41). وبحسب كون، فإن العلم يتطوَّر على أساس ثوري يتزلزل معه جُملة من المعتقدات. فمثلا: يحدث أن يواجه العلم السوي (القياسي) شذوذا يتم في البداية إغفاله، على أمل أن يتمكن العلماء من حله وفق النموذج الإرشادي المعتمد، لكن يستمر الشذوذ بحيث لا يجدي معه أي جهد ويتعذَّر على العلماء إغفال الشذوذ إلى فترة أطول، حينئذ يهتدي العلماء إلى هدم التقليد في الممارسة العلمية، أي التحول بنموذج إرشادي جديد يفضي للمارسة علمية جديدة (1، ص:34). ويعتبر كون إحلال نموذج إرشادي محل آخر هو ضرورة تفرضها الممارسة العلمية؛ إذ لا يمكن أن يرفض العلماء نموذجا إرشاديا دون إحلال البديل. ويقول في هذا الصدد: “فإن قرار رفض نموذج إرشادي يكون دائما -وفي آن واحد- قرارًا بقبول نموذج إرشادي آخر، وإن الحكم الذي يفضي إلى هذا القرار إنما ينطوي على مقارنة النموذجين الإرشاديين بالطبيعة، ومقارنتهما بعضهما البعض” (1، ص:116). فما الذي يحويه النموذج الفكري أو الإرشادي من معتقدات تُشكل تقليدا في الممارسة العلمية؟ دعُونا نسجِّل أن كلام كون حول النموذج الإرشادي -كما يسميه- غير واضح، وغير محدد؛ لأنه يضم معتقدات ذات أبعاد تاريخية وتربوية.
وهنا ومن أجل تحديد مرتكزات النموذج الفكري، سنحيل القارئ إلى ورقة بعنوان “ميكانيكا الكم والتحول في النموذج”، كتَبَتها فيلسوفة العلم من جامعة الإنيويز الأمريكية Valia Allori، وفيها تسجِّل نفس الملاحظة التي أوردناها حول صعوبة فهم محدد ومنضبط للنموذج الإرشادي عند كون، فتقول: ”In addition, since his( Khun) definition of Paradigm is complex and not well understood, I am going to consider that a paradigm consists of the following: 1- a world-view: a claim about what exists in the world. 2- a set of methodologies with which a scientist can account for the behavior of macroscopic objects and their properties in connection with the world-view. 3- a set of concepts to define 1 and carry out 2” (2, p:3).
تحدد الفيلسوفة ثلاثة مرتكزات للنموذج الفكري:
1- رؤية علمية للعالم من حيث مكوناته الأساسية.
2- مجموعة من المنهجيات التي على ضَوئها يستطيع العالم أن يفسر سلوك الأجسام الميكروسكوبية (الكبيرة) من خلال الرؤية العلمية للعالم.
3- مجموعة من المفاهيم التي تشرح الرؤية العالمية وتستخدم في المنهجيات.
كما أنها في الورقة تحدِّد المعنى المقصود من التحول في النموذج فتقول: ”paradigm shift thesis moving from one physical theory to the next our paradigm radically changes” (2,p4).
التحول في النموذج يقتضي تغيُّرا جذريا في النموذج المتحوَّل عنه، عندما ننتقل من نظرية إلى أخرى. وتعود (Allori) لتشرح ما تقصده من كلمة التغيُّر الجذري، فتقول هو أن يحدث تغير كبير في الرؤية العالمية، أو المنهجيات المعتمدة، أو مجموعة المفاهيم، أو خليط من التغيرات التي تطرأ على هذه المرتكزات.
إذا ما طبَّقنا ما يقوله كون من الطبيعة الثورية للتطور العلمي والمصحوبة بالانتقال إلى نموذج إرشادي جديد، وما قالته Allori حول مُحدِّدات النموذج الفكري والتغير الجذري عندما يتم التحول عنه على الحدث النيوتني، فإننا سنُدرك أن اللحظة النيوتنية حدث ثوري، لماذا؟ يَنْظُر كون إلى أنه ما قبل نيوتن ليس ثمة نمط مميز، ومقصود كون من ذلك أن المرحلة التي تسبق نيوتن لم يتشكل فيها نموذجا واحد يحظى بقبول العلماء، ويمثل منهجية في العمل العلمي (1، ص:42). كما أن مرتكزات النموذج الفكري بالمعنى الذي يجعله إطارا جامعا للنشاط العلمي لم تكن حاضرة. لكن بعد نيوتن وما حققته نظريته في الجاذبية، ومجمل أعماله في الميكانيكا الكلاسيكية، ونظرياته في حساب التفاضل والتكامل، أرست نموذجا فكريا سنتبين خصائصه بعد قليل، وهو أول نموذج فكري في تاريخ العلوم، ذو مرتكزات محددة، جمع حوله العلماء وأرسى تقليدا ممنهجا في ممارسة النشاط العلمي. لذلك؛ يمكننا أن نقول بأن نظرية نيوتن في الجاذبية وبقية أعماله، هي حدث ثوري في المعارف العلمية؛ لأنه تشكل على أثرها نموذج فكري/إرشادي قَبِله العلماء، ومارسوا من خلاله نشاطهم العلمي.
بالفعل.. لقد أرست أعمال نيوتن في الميكانيكا الكلاسيكية النموذج الميكانيكي/الكلاسيكي للعالم. فهذا النموذج يمتلك رؤية، قوامها أن العالم يتكون من جسيمات صغيرة جدًّا تشبه النقاط، وتتحرك في أبعاد مكانية ثلاثة حسب معادلات نيوتن في الحركة، والحلول التي تقدمها النظرية لهذه المعادلات تحدد مسارات حركة هذه الجسيمات؛ وبالتالي فإن هذه الحلول تمكننا من تحديد مستقبل الحركة والكيفية التي يتطور بها هذا الجسيم في المستقبل إذا أحطنا بجميع ظروفه في لحظة ما. فهذا النموذج يمتاز بأنه تحديدي بالكامل، وإذا نظرنا إلى هذه الميزة الرئيسية في هذا النموذج، سنجد أنها قائمة على الإيمان بالسببية وقوانينها؛ حيث يتم تشبيه الحركة في الكون كآلة ميكانيكية تعمل وفق قوانين ثابتة، تتصف بالاضطراد والحتمية. فكل سبب خاص يفضي إلى ذات النتيجة، كما أنه يمكن دائما التنبؤ بالنتيجة في المستقبل متى ما علمنا بالسبب الخاص. لقد تعدى هذا التصور الآلي للكون حدودَ الفيزياء، ليشمل الظواهر الاجتماعية والاقتصادية والنفسية…إلخ. ما يحدث في الكون من ظواهر طبيعية وغير طبيعية تتعلق بنشاط الإنسان هي نتيجة أسباب محددة. ويرتكز هذا النموذج على منهجية تعتمد على التركيبية (compositionality) والاختزالية (reductionism)، والتركيبية تعني أن كل جسم ميكرسكوبي مكوَّن من جسيمات صغيرة جدا، وإذا استطعنا أن نتعرف من خلال النظرية على الكيفية التي تتطور بها هذه الجسيمات، فإنَّ كل خصائص الجسم الميكرسكوبي يمكن معرفتها.
إن معرفتنا بخصائص الجسم الميكروسكوبي المبني على معرفتنا بالكيفية التي تتطور بها الجسيمات الصغيرة المكونة له، يسمى بـ”الاختزالية”. فبالإضافة لمفهوم السببية -وهو أساسي في هذا النموذج- فإنه أيضا يملك جُملة من المفاهيم حول الزمان والمكان والكتلة والطاقة والعلاقة بين الذات والواقع…إلخ.
في هذا النموذج الميكانيكي/الكلاسيكي للعالم، يُشكل العالم نظاما مغلقا مترابطا كترابط الأجزاء في آلة دقيقة. وبهذا، يُمكن التعرف على مستقبله من خلال معرفتنا بحاضره، وعندما نُصاب بالعجز عن معرفة مستقبل منظومة ما، فذلك لأننا لم نستطع أن نحيط بكل التفاصيل الدقيقة والشروط البدائية التي تسمح لنا بالاحاطة بالأسباب. يُمكن أن ندرك أنه في هذا النموذج الفكري تحتل السببية مكانا متميزا؛ فكل حدث إنما يحدث لتوافر أسبابه الخاصة، ولا مجال للعشوائية في هذا النموذج. استمرت نظرية نيوتن في الجاذبية إلى ما يقارب الثلاثمائة عام، ولم يشك أحد في صحتها، وقد رافقها -كما قلنا- البرادايم (النموذج) الميكانيكي للعالم، الذي يمكن من خلاله تفسير كل شيء تقريبا.
لكن مع بداية القرن العشرين، حدثت ثورة علمية جديدة في رأينا، ورافق هذه الثورة تحول في مفاهيم أساسية، لكن هذا التحول لم يَطَال عَصَب النموذج الميكانيكي ومفاهيمه الرئيسية، وأعني بذلك السببية وقوانينها، فما زال التصور الميكانيكي للعالم قائما، لكنه طال مفاهيم تتعلق بالزمان والمكان والجاذبية، والمادة والطاقة. هذه الثورة صنعتها النظرية النسبية الخاصة والعامة للفيزيائي ألبرت آينشتاين، وفي هذه النظرية ينظر للزمان والمكان على أنهما نسبيان، والجاذبية هي انحناء يحدث في النسيج الزمكاني، والطاقة والمادة شكلان لجوهر واحد. لقد غيَّرت النظرية النسبية مفاهيمنا لقضايا كانت تعد من البديهيات في النموذج الميكانيكي. ومع ذلك، فإن النموذج الميكانيكي أو الكلاسيكي للعالم لم تحدث له إزاحة بالكامل، بل إن جملة من المفاهيم القديمة وعميقة الجذور في الوعي الإنساني قد تم اجتثاثها وإحلالها بمفاهيم نسبوية، وبهذا المعنى تكون النسبية قد أحدثت ثورة حقيقية في المفاهيم، وإن لم يتحول معها النموذج الفكري. فالرؤية للمكونات الأساسية للعالم، والمنهجية التركيبية والاختزالية، لم يتغيراح؛ لهذا يُمكننا القول باستمرارية النموذج الميكانيكي/الكلاسيكي للعالم. لقد أثبت آينشتاين محدودية نظرية نيوتن في التطبيق والمفهوم، وأنها ليست كونية في اتساعها كما كانت تبدو كذلك في بداياتها. سنتوقف متأمِّلين للمنهجية العلمية التي ولدت عنها هذه النظرية الكبيرة، وكيف أنها أعادت تموضع العقل والتجربة داخل النظام المعرفي العلمي.
إن قانون نيوتن في الجاذبية هو قانون أمبريقي، لقد وضعه نيوتن كنتيجة مباشرة للتجربة، لكن مع النظرية النسبية بدا أن الفكر الرياضي -المرتكز على بنية إكسيومتيكية معينة- قادرٌ على أن يفهم الحركة في الطبيعة، ولم يعد المعطى الحسي-التجريبي بالأهمية البالغة، كما كانت الحال في القرون التي سبقت النظرية النسبية. ما يُميز النظرية النسبية هو قدرة الخيال البشري على أن يلعب دورا مهمًّا في بناء تصور خاص للعالم، وأن يضع لهذا التصور نسقه الرياضي المنطقي المحكوم بمجموعة من المبادئ والفروض الرياضية. ولو ظل العقل حبيس التجربة وليس ثمة وظيفه يقوم بها إلا الشرح والتفسير لما تُزوِّدنا به التجارب من معطيات، لما استطعنا أن نصل إلى النظرية النسبية. لقد أعطى هذا النسق الإكسيومتيكي للنظرية النسبية عددًا من النتائج في مرحلته التجريدية، قبل أن تلعب التجربة دورها في إثبات صدق تلك النتائج أو بطلانها.
لقد اثبتتْ النظرية النسبية -بشكل لافت- أنه لم يكن بإلامكان الإحالة دائما للتجربة من أجل أن تتطور المعرفة، كما أنه لا يمكن حبس العقل وقدرته في حدود التجربة، فبعد قرون من تلك الصلابة التي تمتعت بها التجربة -باعتبارها المعطى الحسي الأولي لممارسة عقلية من داخلها وملتزمة بحدودها- تجاوز الخيال والعقل البشري التفكير من داخل التجربة، وليتحرر مع النجاح الباهر للنظرية النسبية، وينطلق في آفاقه الرحبة، وليسهم في تطور العلوم، عن طريق توجيه التجربة وإخضاعها للنتائج المتحصلة من بنية رياضية اعتمدت تصورا محددا للطبيعة. كانت التجارب في القرون السابقة للقرن العشرين، توجه الفكر الرياضي من أجل استخلاص مجموعة من القوانين تصف من خلالها ظاهرة معينة، لكن مع النسبية استعاد العقل أهميته ومركزيته في النظام المعرفي، وأصبح هو المحفز للقيام بعمل تجريبي يتم إعداده بناءً على نتائج فرضها نسق رياضي متكامل، يستند إلى فروض ومبادئ عقلية صرفة.
لقد صَنع ألبرت آينشتاين هزَّة عنيفة أطاحت بمسلمات رئيسية تربَّعت لفترات طويلة في الوعي العلمي؛ باعتبارها حقائق لم يشك أحد في صحتها، والأهم من ذلك أنه لم يكن بمقدور التجربة أن تُثبت خطأ هذه المسلمات في الوعي العلمي. التجربة عاجزة بذاتها، وفي مرحلة أولية، من أن ترصد مثلا أن الفضاء عبارة عن نسيج زمكاني له تموجاته، وله قابلية التمدد والتقلص. هذا الكشف العظيم في تاريخ العلوم كان بفضل العقل الرياضي، وقدراته، وطريقته الاستنباطية في الاستدلال. لقد اعتبر آينشتاين العقل الرياضي بأنه المبدأ الخلاق في العلم. ولو لم يكن العقل مُتحررا في مرحلة سابقة على التجربة من أسرها، لما أمكن أن تنعم البشرية بهذا الكشف الكبير. مع النسبية، لم تعد التجربة مؤسِّسة للنظرية الفيزيائية، ونجاحها يعتمد على التطابق بين معطيات التجربة وبين قوانين رياضية صِيْغت من خلالها، بل إنَّ العقل يمكن أن يبدع مفاهيم فيزيائية بشكل حُر ومُستقل عن التجربة، وتأتي التجربة في مرحلة لاحقة. هذا ما يُؤكده آينشتاين في هذا النص: “إن المفاهيم الفيزيائية إبداعات حرة للفكر البشري، وليست كما يمكن أن يُعتقد، مُحددة فقط من طرف العالم الخارجي وحده…” (3، ص:460). وعند التأمل في المبادئ والفروض التي قامت عليها النسبية، لن نجد أنها تتجاوز المعقول وحدوده لتصنع إشكالا فلسفيا. لأنَّ الفلسفة هي فن السؤال عن كل أشكال التعالي عن المعقول وحدوده (4، ص:19).
لكن مع بداية القرن العشرين أيضا ثمَّة محطة فاصلة وخطيرة في تاريخ العلم، خلقت إشكالا فلسفيا عنيفا في الوسط العلمي؛ لأنها اتخذت شكلا من أشكال التعالي المتجاوز للمعقول. هذه المحطة كانت مع النظرية الكمية في الفيزياء، هذه النظرية التي لم ينقسم العلماء في تفسيرهم لنظرية ما، مثلما انقسموا حول هذه النظرية، ولا يزال هذا الانقسام والصراع في الوسط العلمي والفلسفي حيًّا، وبكل زخمه وعنفوانه منذ اللحظة التي اكتملت فيها هذه النظرية وإلى اليوم، ويتعدد هذا الانقسام بتعدُّد المدارس التي سلكت طريقا معينا في تفسير هذه النظرية.
ولتوضيح الطبيعة الفلسفية لهذه النظرية من حيث أنها شكل من أشكال التعالي المتجاوز لحدود عقولنا، وبالتالي تطرح مشاكل فلسفية (4، ص:20)، فإنَّ أحدَ كبار الفيزياء النظرية ريتشارد فيمان، يقول: “يمكنني بكل أمانة أن أقول لا أحد يفهم النظرية الكمية”. وسنعود لاحقا لهذا الاقتباس، عندما ندلل على وجود هذه البنية العميقة واللاشعورية في الفكر العلمي. أردنا من هذا الاقتباس أن ندلل على الهوية الفلسفية التي تلبست بها النظرية الكمية؛ باعتبار الأفكار الواردة فيها والملتزمة بروح العقلانية العلمية تتصادم وحدود المعقول، وتتعالى عليه؛ مما يؤهل هذه النظرية لإمكانات البحث الفلسفي القصوى.
فما الذي يجعل هذه النظرية تُثير الدهشة، وتستعصي على الفهم، وتتمتع بكل هذا الإشكال الفلسفي؟
لأنها نظرية ثورية بتمام المعنى الذي يقترحه كون؛ فلقد رافقها تحول في النموذج الفكري، وهو تحول مثالي إذا ما نظرنا إليه من خلال مرتكزات النموذج، كما وضعتها Allori في ورقتها، نموذج يضم مجموعة من المفاهيم الصادمة للعقل، خُلقت معها تيارات إبيستمولوجية ورؤى فلسفية للوجود، ظلت في صراع منذ اكتمالها وإلى يومنا هذا. ويمتلك رؤية مختلفة للعالم ومنظومة رياضية جديدة تختلف عن ميكانيكا نيوتن لفهم ديناميكا الحركة والتفاعلات في العالم الميكرسكوبي.
وفي هذا النموذج الكمي -أو الكمومي- للعالم، يتكون العالم في بناه الأساسية من أجسام كمومية، وليست فقط أجساما نقطية كما هي عليه الرؤية في النموذج الكلاسيكي.. لقد دلت بعض التجارب -مثل تجربة ثنائية الشق- على أن أجساما كالإلكترونات يمكن أن تحيد كما تفعل الموجات. وهنا تبرز إشكالية وجودية (ontological problem)؛ لأن الجسيمات والموجات ليسا مُتوافقين؛ فالجسيمات من حيث التعريف تملك مواقع محددة في الفضاء (objects localized)، بينما الموجات لها خاصية الانتشار (delocalized objects)، وبينما يمكن للموجات أن تتداخل بحيث يمكن لطاقة هذه الموجات عند التداخل أن تزداد، أو تقل فإن ذلك ممتنع على الجسيمات. لكن هذه التجربة التي يمكن أن تلخص كل غرابة الأفكار في هذه النظرية ترينا أن الجسيمات تتصرف كالموجات. لقد دلت التجارب أيضا على أن الموجات تتصرف كالجسيمات، كما في تجربة التأثير الكهروضوئي. نحن إذن بإزاء واقعية مختلفة عن النموذج السابق، واقعية كمومية -نسبة للنظرية الكم- يُسمِّيها نيلز بور -وهو أحد مؤسسي النظرية- بـ”ثنائية الموجة/الجسيم”. فالإلكترونات ليست أجساما بالمعنى الكلاسيكي، بل أجسام ثنائية؛ ففي بعض التجارب يظهر منها السلوك الجسيمي، وفي تجارب أخرى يظهر منها السلوك الموجي. وتزداد المشكلة الأنطولوجية تعقيدا عندما تكشف التجارب عن دور الوعي الإنساني في خلق واقعية محددة للعالم الكمي. فقبل المراقبة الواعية -بحسب التفسير الذي تتبناه مدرسة كوبنهاجن، وهي إحدى اكبر المدارس في تفسير النظرية الكمية، والمتمسكة بروح العقلانية العلمية- ليس للعالم الكمي واقعية محددة على الإطلاق، واقعية مبهمة تقبل التناقض الممتنع في المنطق الصوري وفي التصور العقلاني للوجود. فالعالم الكمي قبل القياس يمكن أن يتخذ واقعيات متناقضة في نفس الوقت. ولتوضيح هذا المعنى لنستخدم قطة شرودينجر. لو تصورنا قطة في صندوق مغلق، وفي هذا الصندوق توجد مادة مشعة، فقبل لحظة فتح الصندوق، يمكن -بحسب تفسير مدرسة كوبنهاجن- أن تكون القطة ميتة وغير ميتة في نفس الوقت، فقبل لحظة القياس كل الحالات مفتوحة وممكنة، ولا يوجد ما يمنع من وجود حالات من التناقض الممتنع عقلا. لقد صوَّب هذا التفسير سهامه نحو بديهية تعتبر ضرورة لكل ممارسة معرفية. وعندما نفتح الصندوق، فإن الموجة تنهار، وعلى أثر انهيارها يمكن تحديد واقعية واحدة للقطة.
ووتبرز في هذه النظرية مُشكلة أخرى لم تكن موجودة في النموذج الكلاسيكي للعالم؛ وتتمثل في: معضلة القياس.. فأدوات القياس تؤثر في واقعية هذا العالم الميكروسكوبي، وتحد من معرفتنا به، وقد عبرت النظرية عن هذا العجز رياضيا من خلال مبدأ الارتياب أو اللاتحديد، للفيزيائي هايزنبرج. وينص هذا المبدأ على أننا لا نستطيع أن نعرف على نحو الدقة المطلقة في ذات الوقت سرعة الجسيم وموقعه. فإذا حددنا بدقة عالية سرعة الجسيم، فإننا لن نتمكن من تحديد موقعه بدقة، والعكس صحيح. واتجهت مدرسة كوبنهاجن في تفسير هذا المعنى الرياضي لمبدأ الارتياب بأن الجسيمات ليس لها متغيرات ديناميكية محددة كالسرعة والموقع، وإنما تمتلك أحد هذه المتغيرات عند لحظة القياس.
وعلى ضوء هذا المبدأ، لم يعد بإمكاننا أن نتعرف على مسار هذه الجسيمات الكمية من خلال ميكانيكا نيوتن؛ لأن مشروطية معرفة مستقبل هذه الجسيمات هي المعرفة التامة بكامل حالتها في لحظة ما، وهذا ممتنع علينا في الواقع الكمي. لذلك؛ طورت النظرية ميكانيكا موجية، هذه الميكانيكا لا تعطينا قياسات دقيقة لخواص هذه الجسيمات المقاسة، بل توزيعات محتملة.. فمثلا هذه النظرية لا تعطينا الموقع الدقيق للجسيم، إنما تعطيك قيمة احتمالية كبيرة لوجوده في منطقة من الفراغ، دون أن تلغي وجوده في بقية الأماكن. هذه النظرية مؤسسة على منطق احتمالي إحصائي، لكن تكمن المشكلة فلسفيا في التفسير الذي تقدمه مدرسة كوبنهاجن لهذا المنطق الاحتمالي في النظرية. تقول لنا مدرسة كوبنهاجن: إن الاحتمالات في هذه النظرية هي ليست قائمة على عدم معرفتنا التامة بهذا العالم الكمي، بل لأن الاحتمالات هي جزء لا يتجزأ من طبيعة هذا العالم. ليس في هذا العالم سببية خاصة تعطي نتيجة خاصة، فلا يوجد معنى لهذه السببية في هذا العالم الكمي، هذا العالم مُتلبس بهوية احتمالية وإحصائية، ولا علاقة لهذه الهوية بمدى معرفتنا به من قريب أو بعيد. وهنا تقدم لنا مدرسة كوبنهاجن تفسيرا يضرب بديهية رئيسية في الفكر الإنساني، وتقول لنا إن جميع الأحداث التي تقع في هذا العالم لا تقوم على السببية، وإنما على الاحتمالات. فإذا كانت السببية في النموذج الكلاسيكي مفهوما مركزيا، فإن الاحتمالات هي المفهوم المركزي في هذا النموذج الكمي.
هذا التفسير الذي تقدمه لنا مدرسة كوبنهاجن، والملتزمة بروح العقلانية العلمية في صورتها الفلسفية الظاهراتية، يطرح إشكالات فلسفية عميقة على المستوى الإبيستمولوجي والأنطولوجي، ويفعل الحالة الفلسفية لتمارس فنَّ طرح السؤال لمثل هذه التفسيرات التي تطال بنية فكرية للعقل الإنساني، عبَّر عنها التيارُ العقلاني الأوروبي في صورة الكجيتو الديكارتي، والأفكار الفطرية التي أودعها الله في صميم البنية الفكرية للإنسان، وعبَّرت عنها الفلسفة الإسلامية في صورة بديهيات العقل، التي تعرف عليها الإنسان في مرحلة تسبق التعقل، هي مرحلة الشهود الباطني؛ حيث تكون النفس حاضرة لذاتها، ومطلعة على شؤونها. وبهذا التفسير، فإننا لن نكون في أمان معرفي؛ من حيث أننا لسنا قادرين على التنبؤ بالمفاجآت التي تقدمها لنا التجربة كلما تطوَّرت تقنيات الإنسان في سبر أغوار هذا الكون. هل يُمكن مثلا أن نقول بكل ثقة إن هذا التفسير هو خلاصة التجربة الإنسانية في ميدان العلوم، أو الشكل النهائي الأبيستمولوجي والفلسفي للعلم؟! بالطبع ليس باستطاعتنا بحسب منطق العقلانية العلمية أن نقول مثل هذا الكلام؛ لأننا لم نصل إلى نهاية العلم، ولا يزال أمام التجربة مشوار طويل جدا في الكشف عن معطيات جديدة قدمها لنا العقل النظري، كما سنبيِّن. وعندئد، يُمكن لنا القول إن التفسير الملتزم بالعقلانية العلمية لا يؤمن لنا قاعدة اليقين والأمان، وإنما يترك العقل البشري في حالة من التحفُّز الدائم للمفاجآت التي تقدمها لنا التجربة.
وقبل أن نقرر في نهاية هذه الورقة أن الفكر البشري مهما قدمت العقلانية العلمية من تفسير يهدم الأساس المتين الذي يقوم عليه العقل الإنساني، فإنَّ الواقع يقول لنا إن ثمة ممارسة علمية ضرورية تكشف عن عُمق هذا البنيان، ورسوخه في العقل، دعونا نتوقف عند النظرية الكمية، وندرس الآلية المتبعة في هذه النظرية، والتي تنمِّي معرفتنا بهذا العالم الكمي، وسنكتشفُ أن هذه الآلية هي تهميش لدور التجربة، وانتصار للعقل الرياضي.
فيلسوف العلم جاستون باشلار يشير إلى هذا التطور الدراماتيكي في العلاقة بين العلم والمعطى الحسي-التجريبي مع بداية القرن العشرين.. يُفرق باشلار بين علم الأمس والعلم الحديث؛ فالقرون التي سبقت القرن العشرين كان العلم والفلسفة التجريبية يتحدثان لغة واحدة، وكان الشعار فيها -كما يقول- “عودوا الأذهان الشابة على الارتباط بالمشخص والاهتمام بالحوداث، انظر كي تفهم”. سوف أقتبس من ورقة سابقة ذكرنا فيها الدور الثانوي للتجربة في تنامي معرفتنا بالعالم الكمي، وأنَّ الدور الأساس هو العقل الرياضي والبناء الإكسيومي الصوري.
”لقد ألغت الفيزياء الحديثة فردانية الجسيم؛ فلم يعُد الحديث عن الجسيم إلا ضِمن مجموعة، ونحن لا نستطيع التعرُّف عليه إلا من خلال علاقته بالمجموعة. كما أظهرت الفيزياء الحديثة تداخُلا بين العقل والكائن وبين الموجة والجسيم. هذه الظواهر الجديدة، والملتبسة، أفضت لتناقض كبير مع الفلسفة التجريبية؛ إذ لم يعد المعطَى الحسي في مثل هذه الظواهر هو القادر على إمدادنا بالمعلومات كما تزعم النزعة التجريبية؛ إذ أصبح المعطَى الحسي في الميكروفيزياء وسيلةً للتحليل الرياضي أكثر من كَوْنه موضوعًا للمعرفة التجريبية. وبما أنَّ الواقع غير قابل للتفرد، كما أن القياس الدقيق عملية معقدة جدًّا، فإن العالم سيعطي أهمية كبيرة لبنية العلاقات الرياضية التي تقوم بتوجيه التجارب العلمية. إذن، نحن أمام مُنعطف إبستمولوجي جديد، فرضته التطورات العلمية الحديثة في المجال الذري. ويتمثل هذا المنعطف في أن العقل العلمي يتطوَّر نحو التجريد الرياضي؛ فالتصور العلمي الجديد للواقع هو تصوُّر تحكمه البنيات الرياضية، وليس الكائنات الفيزيائية. يقول باشلار: “إنَّ الفكر الواقعي لا يستحدث من ذاته أزماته الخاصة، لم يحدث هذا قط. إن الاستثارة تأتيه من الخارج دوما، وبالضبط من ميدان المجرد، وبالضبط من ميدان المجرد، الميدان الذي فيه تنشأ ومنه تنطلق. إن منابع الفكر العلمي المعاصر تنتمي لميدان الرياضيات”.. ويرى باشلار أن هناك قطيعة بين المعرفة الحسية والمعرفة العلمية، وأن العقلانية التطبيقية أو الفلسفة المفتوحة التي تعطي تصورا للواقع العلمي، من خلال علاقة شديدة الخصوصية بين الفيزياء والرياضيات، يمكن أن تمد جسور القطيعة بينهما” (5).
أعطت النجاحات التي حققتها البُنى الرياضية لفهم الواقع الكمي، وفي الفيزياء الحديثة بشكل عام، من خلال مجموعة من المبادئ التي يُشكلها العقل وحده، بعد أن يصطدم العلم بعقبات معرفية، أو بعد أن تفشل نظرية في استيعاب معطيات جديدة، تعزيزا لدور العقل الرياضي، وطرائق الاستدلال الاستنباطي على حساب التجربة، وطرائق الاستدلال الاستقرائي.
في هذه البُنى الرياضية، يعمد العقل إلى تشكيل مبادئ أولية، يحكمها منطق خاص، وهي بذلك تكون الأساس الذي تقوم عليه البُنى الرياضية التي تعطِي عددًا من النتائج، ثم يأتي بعد ذلك المحدِّد التجريبي ليثبت صحة أو خطأ هذه النتائج. الفيزياء الحديثة تعتمد على هذا النمط من البناء الرياضي، الإكسيومي، الذي يبدأ بمجموعة من فروض ومبادئ لم يُعْرف ما إذا كانت صحيحة أم خاطئة، وعلى ضوئها يتم بناء نسق رياضي محكم، ومنه يستخلص عدد من النتائج التي يتم التأكد منها عمليا في مرحلة لاحقة. يقول العالم الفيزيائي بول ديفيدس: “معظم الرياضيات الناجحة، والقابلة للتطبيق، اشتغل عليها رياضيون بصورة تجريدية قبل فترة من مرحلة تطبيقها في الواقع” (6، ص:62). في البناء الإكسيومي: المرحلة التجريدية تسبق المرحلة التطبيقية، ولا توجد علاقة بينهما قبل مرحلة التطبيق.. فنظرية التناظر الأعلى مثلًا (supersymmetry) في الفيزياء، تمَّ تأسيسها على مجموعة من المبادئ التي أُختيرت بعناية من أجل تجاوز العجز في النموذج القياسي لفيزياء الجسيمات.
لقد تقدَّمت الفيزياء الرياضية كثيرًا، وقدمت تصوُّرا عن الكون، تحتاج التجربة ربما لعشرات السنوات حتى تتمكن من اختبار هذه النتائج المذهلة حقا.. لقد قدم لنا التحليل الرياضي نظرية الأوتار التي تنظر إلى أن البُنى الأساسية للكون هي أعمق بكثير جدا من الجسيمات النقطية، بل أوتار تهتز بطرق مختلفة لتعطينا كلَّ ما في الكون من مادة. وتقدِّم لنا النظرية أبعادا إضافية غير مرئية، والكثير من النظريات التي هي نتاج نشاط رياضي تجريدي محض، ونحن بانتظار أن تتقدم التجربة لتواكب هذا التفوق الرياضي النظري.
وقبل أن نَخْتم هذه النقطة لإثبات دعوانا في هذه الورقة، والتي أوضحنا فيها أنَّ الممارسة العلمية في الفيزياء الحديثة أعطت أهمية للعقل الرياضي، وبنيته الإكسيومية على حساب التجربة، إلا أنَّ ريتشارد موريس -في كتابه “حافة العلم”- يُؤكد على هذا الدور، فيقول: “ولعله من الأمور المحتمة أن تصبح الفيزياء في يومنا علمًا أقل اتصافا بالتجريبية…” (7، ص:226)، ويضيف بأنه وبسبب التقدم في الفيزياء الحديثة، ونظرياتها عن الكون، لم تعد هناك حدود واضحة بين الفيزياء والميتافيزيقا”، لقد أمكن في وقت ما أن يُطلق رذرفورد على الفلسفة أنها “كلام فارغ”. وإنَّني لأتساءل عما كان سيظنه بشأن الموقف الحالي في الفيزياء، لو أنه كان حيًّا؟! ها نحن الآن، وقد أصبحت الحدود ما بين الفيزياء والميتافيزيقا غير واضحة، والأسئلة التي كانت تعد في عصر آخر أسئلة ميتافيزيقية، تدخل الآن في المناقشات عن أصل الكون، وأصبح الفيزيائيون يتحدثون عن المبادئ الإنسانية التي يبدو أحيانا أنها فلسفية أكثر منها علمية!!
يُعرف مُحمَّد عابد الجابري -في كتابه “بنية العقل العربي”- النظام المعرفي داخل ثقافة ما، على أنه “جملة من المفاهيم والمبادئ والإجراءات، تعطي للمعرفة في فترة تاريخية بنيتها اللاشعورية” (8،ص:37). فالبناء المعرفي -كما يستطرد الجابري- يتضمن ثوابت ومتغيرات، والثوابت هي البنية العميقة الصلبة في النظام المعرفي, والمتغيرات هي البنية الفوقية المؤسَّسة على هذه الثوابت، التي وهي بنيته التحتية. وهذا البناء التحتاني هو البنية اللاشعورية التي لا يستطيع الفكر داخل نظام معرفي أن ينعتق من فضائها، ويمارس تفكيره من خارجها. ومن وَحي تعريف الجابري للنظام المعرفي داخل ثقافة ما، نتساءل عمَّا إذا كان يُوجد في العقلانية العلمية مثل هذه البنية اللاشعورية، وهي التي تدَّعي أن التجربة هي مصدرها المؤسِّس لمعرفتها العلمية والفلسفية للعالم؟ ولقد أثبتنا فيما سبق أن العقلانية العلمية تنفي أية إمكانية لوجود بنية عميقة صلبة تُؤسس عليها المعرفة البشرية؛ لأنه لا يمكن لأحد -كما قلنا- أن يتنبى بمسار المعرفة البشرية والمفاجآت التي تكشف عنها التجربة في المستقبل. هذا هو المعنى الذي يُمكن أن نحصل عليه بعد التأمل في كَون العقلانية العلمية ترتكز على التجربة كحجر أساس في البناء العلمي/الفلسفي للعالم.
إنَّ التفسيرات التي رافقتْ التطورات العلمية، خصوصا في ميدان الفيزياء، تشي بأنه لا يوجد ثوابت يُمكن أن يؤسَّس عليها البناء الفوقي للمعرفة البشرية. إذا كانت التجربة ومفاجآتها هي ما يُمكن أن نعول عليه، فإنَّ البشرية ستجد نفسها بدون ثوابت تؤمِن لها، كلما تعثرت، صمام الأمان والقاعدة التي تتمكن من وضع قدميها عليها بكل ثبات من أجل معاودة الانطلاق.
العقل العلمي، وإن ادعى أنه لا يُؤمن بأية معرفة خارجة عن التجربة وينفي وجود مبادئ أولية ضرورية فوق التجربة، إلا أنه يطبق هذه المبادئ على الواقع العلمي بصورة لا شعورية، توحي بوجود بنية صلبة عميقة في الفكر الإنساني، وإن يتم تجاهلها في الحالة الشعورية.. هناك انفصامٌ، أو ازدواجية تمارسها العقلانية العلمية بين ما تؤمن به وما تمارسه في الواقع، كما سنُثبت ذلك بعد قليل. لكن دعونا نعود إلى الجابري، لنقتبس منه نصًّا مُهمًّا، نفسر بواسطته حالة الانفصام الذي تعاني منه العقلانية العلمية.. يتحدث الجابري عن الثوابت والمتغيرات في الثقافة العربية، فيقول: “عندما نتحدث عن بنية، فإننا نعني أساسا وجود ثوابت ومتغيرات الثقافة العربية التي صنعته. هل يعني هذا أننا نوحد بين “العقل” و” الثقافة “، التي ينتمي إليها، على أساس أنهما مظهران لـ”بنية” واحدة؟
ليكُن ذلك، شريطة أنْ نأخذ بهذا التعريف المشهور للثقافة، والذي يقول: “الثقافة هي ما يبقى عندما يتم نسيان كل شيء”، وهكذا فإذا قلنا “العقل العربي” هو ما خلفته وتخلفه الثقافة العربية في الإنسان العربي، بعد أن ينسى ما تعلمه في هذه الثقافة، لم نبتعد عن الصواب. إن ما يبقى هو “الثابت”، وما يُنسى هو “المتغير”… إن ما يبقى هو ثوابت الثقافة العربية، هو العقل ذاته” (8، ص:38).
هذا النص يُفسِّر لنا حالة الانفصام والازدواجية التي تمزِّق العقلانية العلمية. فعندما يغيب الوعي لدى العقلانية العلمية التي نسفت كل ثوابت الفكر البشري -التي هي بنيته العميقة الصلبة، والمتمثلة في أحكام العقل القبلية البديهية والفطرية، كما يقررها الاتجاه العقلاني- فإنَّ عقلها اللاوعي يؤكد مثل وجود هذه الثوابت. فعند نسيان ما يُقرره هذا العقل من متغيرات، تظهر البنية العميقة الثابتة بشكل قهري، وهنا سر تناقضه مع ذاته. وعلى عكس ما كانت تحاول الفلسفة التجريبية أن تنفي مثل هذه البنية السابقة للتجربة، فلقد أوصلتنا تناقضات العقل العلمي في الممارسة إلى إثباتها. إنَّ تناقضات العقل العلمي ما بين النظرية والتطبيق بَرْهن على وجود مثل هذه المعارف القبلية للعقل. بقي أن نُثبت أن هذا العقل العلمي عندما ينسى مُتغيراته، فإنه في الواقع يمارس مثل هذه الأحكام العقلية القبلية، متجاهلا سهامه التي وجَّهها لها بَعد تبني كبار علماء الفيزياء تفسيرَ مدرسة كوبنهاجن للنظرية الكمية.
هُنَاك عَلاقة ضرورة بين الفيزياء والفلسفة العقلانية، ولولا هذه العلاقة لما كان هناك فيزياء. يكشف ريتشارد موريس -في كتابه “حافة العلم.. العبور إلى الميتافيزيقا”- عن هذه العلاقة، فيذكر أن علماء الفيزياء يقومون بفروض فلسفية، ولا توجد أية وسيلة للبرهنة عليها. فهم يفترضون أن قوانين الفيزياء التي نعمل بها في فضائنا القريب، يجب أن تكون هي نفسها ذات القوانين في المجرات البعيدة. كما أنهم يفترضون أيضا أن قوانين الفيزياء التي يجري العمل بها اليوم، هي ذاتها التي حدَّدت سلوكَ الجسيمات الأولية في بداية نشأة الكون منذ ملايين السنين. هناك فرض فلسفي يقوم به علماء الفيزياء؛ يتمثل في ثبات قوانين الفيزياء في الأماكن البعيدة جدا، والأزمنه السحيقة جدا، وهو فرض لا يمكن البرهنه عليه. وهم لا يملكون جوابا عن احتمالية أن تكون قوانين الفيزياء قد تغيَّرت عبر الزمان!! لا يُمكن للنظريات العلمية أن تتحقق لو لم يفترض العلماء أن قوانين الفيزياء التي نُدركها هي نفسها التي يجري العمل بها في أماكن أخرى وأزمنة اخرى. في الحقيقة ما يقوم به علماء الفيزياء هو تطبيقٌ عملي لقوانين العلية، هذا الإيمان بأن قوانين الفيزياء صالحة للعمل في كل زمان ومكان هو تصديقٌ بالعلية وقوانينها. وعندما نعود لمقولة ريتشارد فيمان التي أوردناها: “يمكنني أن أقول بكل أمانة إنه لا أحد يفهم النظرية الكمية”، فإنها تدلُّ على أن العقل البشري يمتلك بنية عقلية ثابتة، لا يمكن أن تزلزلها التجربة أو التفسيرات التي تحاول الإطاحة بهذه البنية. إذ لا ينفك الإنسان عن أن يفكر إلا من خلال هذه البنية الثابتة، وأن التفكير بدونها يأخذنا إلى اللامعقول.
إذن؛ ثمَّة بنية لا شعورية راسخة في الفكر البشري، يستحيل الانفكاك عنها، وهي تلعب دورها الأساسي في المعرفة، وهي بنية تكشف عن نفسها بجلاء عندما يتم نسيان كل شيء.
—————————————————-
المراجع:
1- “بنية الثورات العلمية”، توماس كون، ترجمة شوق جلال، عالم المعرفة، 1992م.
2- Quantum Mechanics and Paradigm, Valia Allori, Topoi, Oct. 2015, Volume 34, Issue2, pp313-323.
3- “مدخل إلى فلسفة العلوم”، الدكتور مُحمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الرابعة، بيروت، 1988م.
4- “الكجتطو المجروح”، فتحي المسكيني، منشورات ضفاف، الطبعة الأولى، 2013م.
5- “الفيزياء والفلسفة: القطيعة والاتصال”، جاسم العلوي، مجلة “شرق وغرب”، العدد 15، نوفمبر 2017.
6- God’s Undertaker: Has Science Burried God?, John C. Lennox, Lion Hudson,2009.
7- “حافة العلم.. عبور الحد من الفيزيقا إلى الميتافيزيقا”، ريتشارد موريس، ترجمة د.مصطفى إبراهيم فهمي، الطبعة الأولى، 1994م.
8- “تكوين العقل العربي”، الدكتور مُحمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة العاشرة، 20
5,569 total views, 2 views today
Hits: 360