الفلسفة والتفكير النقدي
أحمد يوسف
ورقة مشاركة في “منتدى اليوم العالمي للفلسفة”، الذي أقامته جامعة السلطان قابوس ومجلة “شرق غرب” الثقافية، بالنادي الثقافي مساء 29 نوفمبر 2017م
”إنَّ العقول التي تتشرَّب الروحَ النقدية أكثر من غَيْرها قُادرة على الإبداع”.. لافيل
توطئة
لم تعُد مشاريع الفلسفة، بوصفها معرفة عقلية قائمة على بناء الأنساق الفكرية الكبرى، كما كانت في سالف العهود، ثمَّ ما لبثت أنْ انشغلت بتأمُّل تاريخها، ولم تعُد لها موضوعات كبرى بعينها، فأصبحت مُنشغلة بنقد خِطَابها، خاصة وأنَّ الخطاب الفلسفي عاش إخفاقات متتالية، واستكشف الهُوة السحيقة بينه وبين الواقع، كما أنَّ نجاحات العلم وتقدمه أحرجت وضعه، فلم تتحقَّق أحلامُ الفلاسفة في بناء المدن الفاضلة التي لا يُوجد فيها الشعراء الذين يتَّبعهم الغاوون، ويهيمون في كلِّ واد، ويعيثون في الأرض فسادًا، ولا يُوجد فيها المغالطون من مُعلِّمي الخطابة مثل السفسطائيين؛ ولكن لم يستسلم الفلاسفة، ووصف ماكس فيبر العلمَ بأنه مجرد مهنة، وهذه المهنة لا قدرة لها على تقديم معنى للعالم.
يبدو أنَّ الفلسفة لم تعُد طبًّا للأصحاء -كما زعم إخوان الصفا- ولم يمنع التنوير زهق أرواح الملايين من البشر في حربين كونيتين لم تُبقِ، ولم تذر. لهذا؛ لم يجد الخطاب الفلسفي المعاصر غضاضة أو ضيرًا في التخلي عن أحلامه الأولى، فانكفأ على مدارسة خطابه، والعناية بالروح النقدية وإبداع المفاهيم، وتأمل المعيش اليومي من منطلق أن الموضوعات مطروحة في الطرقات، وأن التفلسُف حقٌّ مشروع يمارسه كل إنسان عاقل ما دام نصيبه من الدهشة قائمًا، ومن الحيرة وافرًا. كل ذلك كان شاهدًا على القوة المركوزة التي تدفعه لطرح الأسئلة، والتدبُّر في كل ما يستجد في زمانه.
ومن هذه الرؤية، يتبدَّى أن الفلسفة نسقٌ نقدي عام من المتصورات التي يبدعها الإنسان، ويكاد يكون لها حضور لافت في المعارف والعلوم جميعها؛ فكانت منذ فجر تاريخها متطلعة إلى البحث في المبادئ الأولى وعِلل الظواهر، مُعتنية -أشدَّ ما يكون الاعتناء- بالميتافيزيقا والجدل؛ ولكن بتطوُّر العلوم أضحتْ منصرفة إلى فلسفة العلوم ومناهجها. ولمَّا أعياها الطريق للوصول إلى منزلة العلم القائم على الحسِّ والمادة، انفصلت العلوم الإنسانية عنها أملًا في إحراز الكفايات العقلية؛ من أجل الإسهام في حلِّ مشكلات الإنسان خارج خيالات لعبة الكهف الأفلاطوني؛ بَيْد أن التفكير النقدي قدر كل ممارسة فلسفية.
وعلى الرَّغم من ذلك، فإنَّ هذه العلوم وجدت نفسها أمام مشكلات وإشكالات لا يُمكن دائما إعمال فيها المناهج التي تُطبَّق في العلوم الطبيعية والموصوفة بالدقيقة، ولم تفلح في بناء متصورات منهجية دقيقة وموحدة. لهذا؛ وَجَدْتَ هذه العلوم الموسومة بالإنسانية نفسها مشدودة للفلسفة مرة أخرى، بحُكم أنها تلتقي معها في مسائل العناية بالإنسان ومشكلاته أكثر من عنايتها بالكون وأسئلته، إلا في الحدود التي تنتهي إليها بعض نتائج العلوم الطبيعية (البيولوجيا والفيزياء والفلك…). وهي في النهاية تشترك في الوظيفة الغائية، التي تبحث عما يحقق السعادة في حياة الإنسان، والشفاء الحقيقي – بتعبير أبيقور.
إن علاقة الفلسفة -كونها صناعة إنسانية- بالتفكير النقدي، ضاربة في القدم، مُتجددة بتجدد الحاجة إليها؛ ذلك أننا ننظر إلى التفكير بوصفه حسابًا ذهنيا، وسيرورة سيميائية تدفع الإنسان إلى فقه حقائق الأشياء في حدود ما تسمح به طاقته العقلية، وأن أهمية التفكير النقدي في الخطاب الفلسفي، والحاجة إليه في حياتنا المعاصرة، “إصابة الحق”، و”العمل به”، و”الانتصار له”، و”الدفاع عنه”، و”العيش في سلام”.. وترتكز مقاربتنا لهذا الموضوع على المحاور الآتية:
- أهمية التفكير النقدي وأهدافه في الفكر المعاصر.
- مبادئ التفكير النقدي وأسسها السيميائية.
- خصائص التفكير النقدي.
- المنطق السيميائي والمسألة اللغوية.
- التفكير النقدي في التراث العربي الإسلامي (الغزالي وابن رشد وابن خلدون).
- إيمانويل كانط والفلسفة النقدية.
- السلب والنقد (الهيجيلية).
- مدرسة فرانكفورت والنظرية النقدية.
ومن الأهمية بمكان التنبيه إلى أن الاحتفاء بيوم للفلسفة من قبل منظمة اليونسكو رمزي بالأساس؛ فالتفلسف نشاطٌ إنسانيٌّ مُتشبع بروح السؤال، فلا يرتبط بفلسفة بعينها، ولا يُحد بزمان ولا بمكان، ولا يختص بأمة دون أخرى، والحاجة إليه محفوظة عبر الأمصار والأعصار. ولقد علَّمنا القرآن الكريم على لسان سيدنا إبراهيم -عليه السلام- أن السؤال والنظر والتدبر والتفكر والتعقل طريقُ الحق المُوْصِل إلى الإيمان بالخالق، طريقه وغايته حُصول الطمأنينة في النفوس والعقول بعد الأسئلة الحارقة: “وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَب أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن ليَطْمَئِن قَلْبِي” (البقرة:260). وقد لاحظ فرانسيس بيكون أن القليل من الفلسفة يؤدي للإلحاد، وأن الكثير من الفلسفة يؤدي إلى الإيمان.
أهمية التفكير النقدي وأهدافه في الفكر المعاصر:
ما الحاجة للتفكير النقدي؟ إنَّه سؤال يبدو لفرط بداهته مشروعًا، وقد يتبادر إلى الأذهان لأول وهلة، ومرد هذا السؤال راجع إلى أن الفلسفة وتاريخها قائمان على قاعدة النقد؛ ولهذا يصبح السؤال غريبا؛ لأن ذلك يعد من باب تحصيل الحاصل. ولعل وجه الغرابة متأتٍّ -أيضًا- من هذا الاعتقاد السائد بأنَّ كل تفكير يمتلك بالضرورة خصِّيصة نقدية؛ بَيْد أننا نحسب أن مثل هذا الاعتقاد على وجاهته لا تحوطه السلامة من كل جانب.
ومن هنا، كان الدافع للحديث عن هذا الموضوع نابعًا من إحساس لا تتملكه “فوبيا المؤامرة”، بأنَّ ثمة خطرًا يتهدَّد منظومة التفكير النقدي في عصرنا هذا على وجه التحديد، من قبل كل الأيديولوجيات الشمولية، ومجتمعات الاستهلاك، وسياسات الشركات متعددة الجنسيات، ومقاصد الأسواق الكبرى في استغلالها لفضيلتي الحرية والتحرُّر؛ وليس أدلَّ على ذلك مما يعاينه الإنسان من هجوم مُنظَّم على فضيلة النقد في حياتنا العامة، وفي مؤسساتنا التعليمية والثقافية والسياسية، حتى صار بمثابة الفريضة الغائبة في حياتنا العملية. فكل غياب لهذه الفريضة انتصارٌ من جهة للأيديولوجيات المفرطة في عدائها للإنسان وللفضيلة وللتقدم، والتي ليس فيها مكان للموضوعية، وانتصار من جهة أخرى لثقافة الاستهلاك.
سَبق ماركيوز أنْ لاحظ هذا الهجوم الذي يُشن بطريقة منهجية على التفكير النقدي المستقل؛ وردَّه إلى جنوح قوى الهيمنة التي تسعى سعيا دؤوبًا للسيطرة الشمولية على مفاصل الحياة كلها. إن الفلسفة بلا نقد جسمٌ بلا روح؛ لأنها ليست من المعارف المعيارية التي تُسلم بالقواعد، وتقبل أنْ تتكلس في قوالبها، وترتهن إلى مسلماتها. إنها قوة دفع للإنسان الذي يفكر، ويمتلك الإرادة على تجاوز واقعه. كل ذلك يشكل مصدرَ ثراء للفكر الذي يتعقل الظواهر، ويحاجج، ويبرهن، ويحكم، ويستقرئ، ويستنبط. لقد انتقد التفكير الفلسفي فكرة الاستلاب لدى هيجل وفيورباخ وماركس، وانتصر لحرية الإنسان ضد الإكراهات الدينية، والسياسية، والاجتماعية، والاقتصادية.
وتتمثَّل أهمية التفكير النقدي في حياتنا المعاصرة في مُساعدتنا على فهم المسائل التي تحيرنا، وحل المشكلات التي تعترض تقدُّمنا، ودفع عقولنا للابتكار، وخيالنا لمزيد من الخلق والإبداع، ومقاومة كلِّ أشكال الاغتراب والاستلاب، والاعتقاد بلا انتقاد، والتحيز إلى قيم الحرية والتسامح والسلم. وهذا ما لا يَجْعل الإنسان مِلكًا لغيره، ولا يكُون مسلوبَ الإرادة. وقد خاضَ فلاسفة التنوير الذين دعوا الإنسان للتحلي بالشجاعة في استعمال عقله، وشن بعض الرومانسيين الألمان -مثل: جوته، وشيللر- حملةً على الصفات المنافية لروح الإنسانية. الأمر الذي جعل الإرادة والوعي يتطلعان إلى التحرُّر من سطوة العالم الموضوعي من وجهة نظر هيجل، التي ترفض أن تبدأ الفلسفة بالأنا المطلقة. إنَّ فكرة الاستلاب ليست بوقف على عصر دون آخر؛ وإنما نكاد نلحظها في تاريخ تطور المجتمعات. وأمام الضغوط التي يمارسها المجتمع بآلياته الروحية والمادية، يكون التفكير النقدي سلاحَ الإنسان ضد كل أشكال الاستلاب والاغتراب الشعورية والمادية، تحت شعار “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟”، المتقدِّم على المقولة الهجيلية “يولد الإنسان ليكون حرًّا”.
إنَّ التفكير النقدي -كما أسلفنا القول- ملازمٌ أشد ما يكون اللزوم بتاريخ الحاضر (histoire du présent)؛ فهو ليس بوقف على فلسفة دون أخرى، ولا على زمن دون آخر. وعليه، فإنَّه من المفترض -بل من الواجب- أن يُلازم التفكير النقدي كل نشاط فلسفي، وكل بحث علمي، وكل المؤسسات التربوية والأكاديمية والبحثية. ولا غرو أن يكون قدر هذا النوع من التفكير إلا أصيلًا، لا يعرف الاجترار والتكرار، ولا يخضع لإرادة التسليم، ولا يهادن من أجل الوصول إلى الحق.
المتسلحون بالتفكير النقدي شجعان بالأصالة، أحرار بالإرادة، مبدعون بالعزيمة، فلاسفة بالفطرة، مشدودون إلى الكينونة والحقيقة، إنسانيون بالجوهر، بل هم مُسرفون في الإنسانية – بتعبير نيتشه. ولا ريب أن يعلمنا هؤلاء الاحتفاء بالتفكير النقدي، وتمجيد الحق الذي به نعرف الرجال، ونقوم الأحكام، ونستقرئ الظواهر، ونفحص الفروض، ونستنبط النتائج، ثم نعمم القواعد، فنجني الفوائد. ومن يتدبر حال الخطاب الفلسفي، يلفيه يتراوح بين الأنطولوجيا والإبستيمولوجيا، علمًا بأن الفلسفة الحديثة كثيرًا ما تستغل نتائج العلم لغايات تدعم بها خطابها؛ وهذا ما كان يرفضه غاستون باشلار، ولكن هوسرل دعا إلى أن تكون الفلسفة علمًا دقيقًا، وأحيانا تفوق دقة العلوم، واتفق مع كانط من أجل بناء فلسفة ترنسندنتالية. وفي هذا السياق، تلوح لنا السيميائيات الكانطية التي أسَّست لنفسها مقعدَ صدقٍ في ترسيخ مبادئ التفكير النقدي بين المنطق المتعالي والنزعة التجريبية.
مبادئ التفكير النقدي وأسسها السيميائية
ينهضُ التفكير النقدي -بوصفه ممارسة فلسفية- على مبادئ ثلاثة:
1- المبدأ المعرفي: وقوامه التأمل والكفاية العقلية، التي تعد الذاكرة والفهم والتحليل والشك دعامتها. وهناك مفهوم الإبستمولوجيا الذي ابتدعه ج.ف فيريير سنة 1854، ويعني -من جملة ما يعنيه- نقد أسس المعرفة ومناهجها وفرضياتها ونتائجها، والغرض من ذلك الوقوف على منطق العلوم وأبنيته وموضوعيته. ولكي تتقدَّم المعارف والعلوم لا بد من وجود الأساس النقدي الذي يزيل المعوقات التي تحول دون تطور هذه المعارف. وهذا يؤدي لما يُعرف بالقطيعة الإبستمولوجية كحال اللسانيات مع التفكير اللغوي القديم؛ بَيْد أن الإبستمولوجيا عادة ما تختص بعلم واحد؛ وعليه نراها ملازمة من وجوه لتاريخ العلوم، وما ينبغي -حسب باشلار- أن تتدخل في شؤون العلوم، بل إن النظر إلى العلوم على أنها نسق تراكمي محفوف بالمزالق.
لازمت المعارفَ أسسٌ منهجية كبرى، يُمكن إجمالها فيما يأتي:
- الشك المنهجي (أبو حامد الغزالي وروني ديكارت).
- القابلية للتحقُّق (verification) والتأييد (فيتجنشتاين وموريس شليك وكارناب).
- القابلية للدحض (falsification) والفحص الاستدلالي (كارل بوبر).
- دعوى عدم إمكان المقارنة (بول فايرابند).
هناك فلسفات -مثل الوضعانية والمادية- حملت لواء “لا وجود لمعرفة خارج نطاق العلوم الدقيقة” (العقل والصدق والتاريخ لهيلاري بنتام، ص:239). وقد جرَّدت الوضعانية المنطقية قضايا الميتافيزيقا من كلِّ معنى، وتذكر تحذير نيوتن للفيزياء “أيتها الفيزياء، إياك والميتافيزيقا”، ورأى هيجل في هذا التحذير استخفافًا بالتفكير؛ لأنَّ الميتافيزيقا شكلٌ من أشكال الاصطفاف وراء قضايا الإنسان غير المادية.
2- المبدأ الجدلي يُقر بواقع مناقض لآرائنا، ومفاهيمنا، ورؤيتنا للعالم. هذا الواقع يرفده خطاب فلسفي نسقي وحجاجي.
إنَّ الفكرَ الجدليَّ تمظهُر للقوة الذهنية التي تسعى لبسط نفوذها العقلي مقابل تفكير مغاير، ويتألف الاستدلال الجدلي من مركَّب قائم على مقدمات ظنية في مقابل الاستدلال البرهاني الذي نهض -في نظر أرسطو- على مبادئ كُلية يقينية، بخلاف الاستدلال الذي يقوم على المغالطات، كما هي حال السفسطائيين.والنهج السفسطائي -بصورته السلبية- ماثلٌ في خطابة السياسيين الذي يمارسون بإتقان مهارة الكذب عن طريق اللغة.
3- مبدأ الحرية: يعدُّ الضامن لفضاء النقد الفلسفي؛ إذ تكون فيه الحرية وكرامة الإنسان مكفولة، ومحفوظة، ومحترمة. وقد دلَّنا تاريخُ الفلسفة على أن سقراط دفع ضريبة هذه الحرية، فتجرع السمَّ، ولم يُهادن أو يتراجع، فأدين سنة 399 ق.م، علما بأن هيجل يربط التصور كونه الفكرة الشاملة بالحرية، وليس بالضرورة.
خصائص التفكير النقدي:
يُمكن إجمال خصائص التفكير النقدي في أربع:
أ- الحُكم (الإثبات أو النفي):
إن التفكير النقدي يعني في الأصل الحُكم، والتقويم. وكان كانط يستعمله على طريقة التقابل بين النقد والمذهب النقدي. ولقد ارتكز تراث فلسفة الحكم على قاعدة الحدسين: العقلي، والروحي. والناظر في الفلسفة التقليدية يلفي أنها فلسفة مفاهيم وخطاب عقلي، أكثر منها فلسفة حكم. وإذا وقفنا على فلسفات جون لوك وهيوم، لوجدنها معنية بتحديد كفايات الذهن البشري، ومحاولة تفسير سيرورات الإحساس والتأمل، ضمن متصورات رد الأفكار المركبة إلى أصلها البسيط. وهذا التفسير قوامه المقاربة السيكولوجية. إن الأحكام موضوعها المنطق في نظر ستيوارت مل؛ لأن المنطق ليست وظيفته الملاحظة والاختراع والاكتشاف؛ وإنما الحكم؛ أي: أن المنطق لا يخترع، ولكن يراقب سيرورة الاختراع، وسلامة إعمال الفكر، فهو قائم على البرهان، بينما يستند الإبداع إلى ملكة الحدوس.
وفي مقابل ذلك، آمنت الفلسفة النقدية لدى كانط بيقين الرياضيات والفيزياء؛ خصوصًا بعدما أيقظه ديفيد هيوم من سباته الدوغمائي؛ لأنَّ هيوم أنكر ذلك الاعتقاد السائد من أن العقل الإنساني نسخة مُصغَّرة من “العقل الإلهي”، ورأت أنه من الصعوبة بمكان أن تنطبق على نشاط الذهن البشري آليات المقاربة السيكولوجية؛ بيد أن كانط لا يحمِّل الحواس أي خطأ؛ لأن أحكامها صائبة على الدوام، وإنما الذهن هو الذي يتحمَّل مسؤولية الخطأ؛ وعليه فإن العمليات الذهنية وأفعالها إنما هي أحكام في نظر كانط. وما الذهن لديه إلا القدرة على الحكم؛ لهذا يغدو التفكير النقدي في نهاية المطاف هو الحكم.
هُناك أحكامٌ عقلية ومنطقية، وأحكام قائمة على الحس المشترك، مثلما هي حال الحكم الجمالي، الذي يراه كانط (1724-1804) موضوعيًّا. فالأحكام تحلل الأفكار، وتبحث في العلاقات القائمة بينها؛ ولهذا يصنفها لانيو (Lagneau) في باب المعرفة بالفعل. أما الأحكام الإشكالية لدى كانط، فهي التي يكون فيها الإثبات والنفي ممكنًا، ولا يمكننا أن نجزم بقضية ما إذا عزلناها عن القضايا الأخرى، وعكس هذه الأحكام هي الأحكام الإخبارية والأحكام الضرورية.
وفي مقابل بناء الأحكام والبرهنة عليها، هناك “تعليق الأحكام”، ويرى دعاتها أنها ضرب من السيرورات المعرفية التي تعد سمياء العقل الرشيدية. وقد أبان إدموند هوسرل عن المنهج الترانسندنتالي الذي تمتاز به الذات وهي تضطلع بــ”الرد الفينومينولوجي”، ثم يقوم التفكير الترانسندنتالي بتعليق الأحكام عن عالم الأعيان (العالم التجريبي)؛ لأن أساس المعرفة في فلسفته يتقصد الوصول إلى الأنا الترانسندنتالي. وقد سبق كانط أن جعل المعرفة الترانسندنتالية طريقا للعناية بالأشياء أكثر من العناية بالتصورات القبلية للأشياء. ولهذا امتاز التحليل الفينومينولوجي بوصف المعاني على أساس التجرُّد من كل أحكام الوجود (الإيبوخا).
إنَّ ممارسة النقد ليستْ مُختزلة في الوصول إلى أحكام (والتعبير عنها)، بل كانت المدرسة الشكية ترى أن من الحكمة عدم إصدار الأحكام بالإيجاب أو بالسلب، بالقبول أو بالرفض. ومن الأفضل الخلود إلى الصَّمت؛ لأن اليقين مستحيل. أما التحليل الفينومينولوجي، فيدعو لتعليق أحكامنا (époché) لكي يتسنَّى رد الذات النفسية إلى الذات الترانسندنتالية؛ حيث تحصل الخبرة الباطنية، وتسمح بالبحث في شروط التجربة نفسها. ويعلِّل هوسرل بأن من فوائد تعليق الحكم الحفاظ على مجال الحياة الشعورية الخالصة، الذي يتسم بالانفتاح والحرية من وجهة الفكر؛ كما أنه يحافظ على العالم كونه موضوعه القَصْدي.
ب- التجريد (Abstraction):
التجريد.. مُوْصِل إلى جوهر الأشياء، واستخلاص المفاهيم، بإسقاط الصفات العرضية؛ إذ يقوم بما لا يتحقق في الواقع، فيفصل بين الأشياء، وينزع عنها بعض صفاتها، ويفصل بعضها عن بعض، وهو أمرٌ لا يتحقق في الواقع. يُصبح الفكر مجردًا عندما يتحرَّر من العيني، وهو فعلٌ ذاتي حسب كانط، لا تقوم به الذات المفكرة؛ وإنما هو مُتضمَّن في التصور ذاته، أو أن الذات من منظور هيجل تجرِّد نفسها من ميولاتها العينية. ومثال ذلك: الكائنات الرياضية، فهي كائنات مجردة يبدعها الرياضي، ويقدم لها تعريفًا من وضعه، ويبني لها تصورًا حسب كانط. ويتجلى الخلاف بين الفلسفة وعلماء الرياضيات، في أنَّ الرياضيات تبدأ بالتعريفات، بينما الفلاسفة يدعون التعريفات إلى النهاية، بخلاف إسبينوزا، الذي ساير عمل الهندسة التي كان مولعًا بمنهجها.
فكلٌّ من الحس والخيال والعقل، يضطلع -كل حسب درجته- بفصل الصورة عن المادة، وإن كان الحقل وحده من يُجرِّد الصورة عن المادة من كل وجه، ويعزلها عن كل وضع، وأين وكم وكيف، أشار إلى ذلك الحكيم ابن سينا. وهو الطريق المؤدِّي للكليات عن طريق العلامات اللفظية الدالة على المجردات. وإن رُمنا التعبير السيميائي، لقلنا إنها تمثل رتبة الممثل من العلامات، وفق مصطلحية بورس؛ فاللون والرائحة أكثر تجريدا من الما صدق، كرائحة الوردة الحمراء، أو كعطر القنينة الصفراء.
ويقومَ التفكيرُ الفلسفي على دراسة المفاهيم التي تُعتبر عامة، ومُجردة، وليست مادية واقعية؛ مثل: متصورات الوجود والكليات والسببية والبينة… ويمكن القول بأن مفاهيم المنطق والرياضيات تتسم بالتجريد الجوهري؛ لذا كانت الأحكام الفلسفية أحكامًا وجوبية، وليست وجودية، فهو يختلف عن التفكير العلمي الذي يدرس الظواهر الطبيعية المادية. وفي هذا السياق، عرف أرسطو التفكير الفلسفي بأنه “علم الكليات”. إنَّ التجريد ينصرف إلى صور التفكير لا إلى مادته، مثل العلوم النظرية في مقابل العلوم التجريبية. ولكي يكون التجريد مثمرًا، عليه أن يستكشف الصفات المشتركة بين الأشياء، يستبدلها بمفاهيم تحلُّ محلها، وتساعد على القيام بحسابات ذهنية، ويسمح في الآن نفسه بتعميمها.. لقد كان التجريد من سمات عصر التنوير.
إذا كان العلم مسلكًا لتحويل الظواهر إلى مُتصورات؛ فإنَّ ذلك يعني أنَّ الذهن يقوم بعمليات حسابية عقلية؛ من أجل إدراك المعاني المشتركة المجرَّدة أو تأليفها. ولكن وقع خلاف بين الاسميين والواقعيين في النظر للكليات؛ فالواقعيون يقرون بوجودها في الواقع؛ بينما لا يرى الاسميون أيَّ وجود لها إلا في العقل.
ج- الاستقراء (Induction):
بما أنَّ الكون على درجة من الكمال في الخلق والإبداع، فثمَّة قوانين ثابتة وعامة تحكمه، وأنَّ مجرى الطبيعة لا يتغيَّر، ويسير على منوال واحد. وعليه، فالاستقراء يضطلع بتتبع الحالات الفردية في الظواهر المدركة، فهو ينتقل من التجربة إلى الفروض، ثم يستخلص قواعدها وقوانينها، كما أنه يكون ملازمًا للتصوُّر -حسب غاستون باشلار- مثل: تتبع الصيغ اللغوية للوقوف على أن الأفعال في العربية لا تقبل حركات الجر.
إذا كان الاستقراء -حسب رسل- لا حيلة لنا من استخدام الاستقراء في الجانب التطبيقي للعلم؛ فإن الاستقراء لا يكاد يخلو من صعوبة؛ لأنه يحتاج إعمالَ البصيرة في الحدوس والخيالات والمماثلات، عكس الاستنباط الذي ينهض على العقل، ولا تُعد هذه نقيصة للاستقراء؛ لكونها دفعت المعارف والعلوم إلى إحداث إبدالات كبرى في تاريخها من قبل العقول البشرية.
إنَّ الجديد في التصوُّر السيميائي للاستقراء: أن بورس يعتقد -شأنه شأن كارل بوبر- أنه لا يأتي بجديد؛ فهو يكتفي بالتحقُّق من صحة الافتراضات، بخلاف ما كان عليه الاعتقاد في تاريخ المنطق من وضع الفروض وصوغ القوانين، كما سبق له أن رأى فيه عملية التعميم من أمثلة عديدة، لا من مثال واحد بخلاف المعتاد، فهو يعبر عن حكم قيمة إلى كونه عملية تعميم؛ لهذا لا يمكن حصر الملاحظة في الرؤية المباشرة للظواهر؛ وإنما تتعدَّى إلى وصفها وتصنيفها بُغية إدراك أوجه التباين بينها.
وتتقصَّد هذه الآلية المنطقية الحكمَ على الكليات التي تجد لها وجودًا في أغلب جزئياتها. وبناء على ذلك، فإنَّ الاستقراء يؤدي بنا للوضوح والثبات، ولا يقودنا بالضرورة إلى اليقينيات والعلوم التي تتسم بالمؤقت كما يرى غوبلو (Goblot)؛ بخلاف هيمنس (Heymans) الذي يعتقد أن الاستقراء بإمكانه أن يسلمنا إلى اليقينيات إذا كان منهجيًّا. وعلى الرغم من ذلك، فإن الاستقراء -بوصفه آلية منهجية منطقية- قد أسهم في تقدم المعارف والعلوم؛ كونه يعد جوهرَ التراكم العلمي الذي ظل رسل متمسكًا به؛ أي بتصور بورس الذي صار الاستقراء الكمي لديه لاحقًا استقراء كيفيا، كفيلا بأن يوصلنا لشاطئ الحقيقة. ولا توجد حقيقة ما لم يقبلها العقل على نحو ما أشار إلى ذلك هبرماس؛ لأنها المزية الأولى في الأنساق الفكرية.
وهناك نوعان من الاستقراء:
- الاستقراء التام: يحصل هذا النوع من الاستقراء لما يُوجِد الحكم في جزئيات الكلي وجودًا كاملًا.
- الاستقراء الناقص: ويُطْلِق عليه ابن سينا “الاستقراء المشهور”، وهو بخلاف الاستقراء التام.
د- التعميم:
التعميم.. وقوفٌ على الصفات المشابهة في الظواهر، ثم تعميمها وفق قانونيْ السببية والحتمية؛ لهذا فإن التجريد يسبق بالضرورة التعميم.
هـ- قانون السببية:
إنَّ مبدأ السببية الذي ينطلق من فكرة أنَّ لكل سبب مُسبِّبًا، يعدُّ هذا أساس كل معرفة -كما بلورته الفلسفة الأرسطية في رد السببية إلى “مادية، وصورية، وفاعلية، وغائية”. وقد عرَّفه رسل بأن “بموجبه نستنبط واقعة أو أكثر في لحظة جديدة أو أكثر من عدد كافٍ من الوقائع عند عدد كافٍ من اللحظات”. وكان لديفيد هيوم قصب السبق في تسديد سهام النقد لقانون السببية الذي تأثر به كانط، وجعله يرى أن لا وجود لهذا القانون في الواقع الحسي، وإنما مكانه في العقل النظري. والمعلوم أن الأسباب تسبق النتائج زمنيا ومنطقيا. ويعتقدُ هيجل أنَّ السبب مُتضايف مع النتيجة، فهما متلازمان منطقيا ومتفاعلان، وكل ما يوجد في النتيجة متحد بالقوة في النتيجة؛ لهذا ترتبط سلامة النتائج بسلامة المقدمات في التعبير المنطقي. واللافت في تطور مفهوم السببية ما سجله هيوم من أنها مجرد انتظام مُعيَّن لتسلسل ما، وليست مرتبطة بمفهوم “الضرورة”؛ الأمر الذي فتح الطريق ليتبوأ المنهج التجريبي منزلته في الفلسفة الحديثة.
وبناءً عليه، فإنَّ القوانين في نظر هيجل تبدو في “الظاهر” أكثر مما تبدو في السببية. والغالب أن النتائج تنطمس فيها الأسباب؛ ولهذا كثيرًا ما يركز تفكيرنا على الوجود بالفعل، ويغفل عما تسبب في حدوث هذه النتيجة أو تلك. وما هو جدير بالانتباه أن ثمة اختلافًا في مسألة اشتراك العلة والمعلول في المحتوى ذاته؛ لأن الأمر على درجة غير قليلة من الالتباس.
و- قانون الحتمية:
كلُّ الظواهر ذات الصفات المشابهة تجري على نسق واحد إذا تعرضت لحدث ما. وبدون وجود هذا القانون، لا يمكن للعلم أن ينجز ما أنجزه، وما سينجزه، وأنه بوجود الحتمية فإنَّ مجال العلم لا محدود؛ وكثيرًا ما يلتبس علينا الأمر عندما يتبادر إلى أذهاننا مفهوم الحتمية، يعني لنا ذلك أنها نقيض للحرية. وللعلم، فإن رسل نفى الوحدة بين السببية والحتمية؛ بينما نفى هازنبرج مبدأ الحتمية، وقال بمبدأ اللا تعيين، الذي تنتصر إليه النسبية ونظرية الكم في الفيزياء.
ز- الاستنباط (Déduction):
يبدأ الاستنباط من الكُليَّات إلى الجزئيات؛ بينما ينطلق الاستقراء من الجزئيات إلى الكليات. ولم تكن سيميائيات ش.س بورس نسخة مُطابقة للمنطق؛ كونه علمًا معياريًّا، بل عالجته على أنه نظرية في المنهج، واعتنت بمعيار الصحة، ثم انصرفت إلى تصنيف الاستدلالات. وقادها ذلك إلى ابتداع مفهوم جديد عُرف بـ”الاستدلال الافتراضي”. وعلى الرغم من أهمية الاستدلالات المنطقية الصارمة؛ فإن الفتوحات العلمية قادتها الحدوس والخيالات الخلاقة وتأملات البصيرة؛ ولكن الظواهر لا تدل على شيء ما لم تهتد بالاستدلالات والتفكير النقدي الذي يجعل أذهاننا يقظة على الدوام.
المنطق السيميائي والمسألة اللغوية:
وعطفًا على ما سبق، فإن المنطق السيميائي الذي رسم معالمه بورس بالارتكاز على دونيس سكوت، والفلسفة النقدية لكانط، ينطلق من عالم الأعيان (التجربة)، إلى عالم الأذهان (العقل)، ثم يعود للواقع لكي يتأكد من صحة الفروض، وصلة عالم الأعيان بعالم الأذهان، وهذه الطريقة هي التي يسلكها المنهج الافتراضي الاستنباطي في استكشاف القوانين، عن طريق الحوادث والظواهر التي تبحث في الأسباب؛ لكن بورس يبحث في عِلل الكون والطبيعة. إنه بحث في النتائج أكثر منه بحث في الأسباب؛ ولكن يبدو أن عالم الألفاظ غائب في هذه المسلك المنطقي. فإلى أي مدى لمسألة اللغة حظوة في النظرية السيميائية وارتباطها بالتفكير النقدي؟
لا يُخطئ نظر المتأمل الحصيف في تاريخ التفكير اللغوي المسائل الكبرى التي شكلت قوام المنطق السيميائي في بناء أنساق العلامات. وقبل الوقوف على الجوانب النقدية التي طرحها هذا المنطق، نلاحظ أن مسألة اللغة شغلت حيزًا كبيرًا من عناية التفكير السيميائي ذي الصبغة النقدية، وقد دعا فيتجنشتاين الفلسفة إلى خوض معركة لا هوادة فيها، ضد افتتان عقولنا بسحر الكلمات. وهذا اعتراف صريح بأن اللغة تمارس التضليل على العقول، وعلى النقد الفلسفي أن يفضح سحر العلامات وأكاذيبها وأوهامها؛ لأن المذهب الإسمي الحديث يتصور العلوم على أنها لغات صيغت صوغًا محكمًا، ويدعون إلى فحص أسمائها لا موضوعاتها؛ أي النظر في جهاز مفاهيمها ومصطلحاتها.
وتتمثَّل وظيفة النقد السيميائي للغة في فحص علاقتها بالذات والواقع.. وعليه تطرح الأسئلة الآتية:
- أيقتصر دور اللغة على أن تقول لنا ما هو موجود؟
- إلى أي مدى ينحصر دورها في أن تكون وسيطًا بيننا وبين عالم الأعيان؟
- ما وظيفتها؟ أهي تواصلية أم تفاعلية؟ أهي وصفية أم إنجازية؟
- وبناءً عليه، أي لغة نتوخى؟ أنختار لغة الماضي والمقدس والمتون؛ لأنها تمثل الأصل، والكمال والذكورة، في مقابل لغة الحاضر واللهجات والعاميات والدخيل والسوقي والهزلي؟
إنَّ هذه الأسئلة ستنبه وعينا النقدي إلى خطورة التاريخ الذي نتلقاه، والذي نشيده بأنفسنا. إن نقد النسق السيميائي للغة نقد للسرديات الكبرى والصغرى على السواء؛ لكونها تشكل وعينا، وتثير بأنساقها عواطفنا الإنسانية أكثر مما تصف لنا الأشياء؛ ولهذا يبدو دورها التفاعلي أخطر وأعظم من دورها التواصلي، وبناء عليه فكل تفكير نسقي ينتهي إلى التأمل الفلسفي، شأنه شأن نهاية العلم التي تؤول إلى ضرب من التفكير الفلسفي.
كان السفسطائيون سبَّاقين إلى لفت انتباهنا إلى خطورة المسألة اللغوية، وألاعيبها، انطلاقا من تعليمهم فنَّ الخطابة والفضيلة والمعرفة، وانتهوا إلى الاعتقاد بأن المعرفة الإنسانية نسبية. فهم لم يعملوا آلتهم النقدية في تحليل اللغة تحليلًا فلسفيًّا، على خلاف ما نذرت مدرسة سقراط نفسها لذلك؛ إذ فحصت اللغة وماهيتها، ومدى مطابقتها للأشياء، وتبعا لذلك علاقتها بالحقيقة وفصل الخطاب. إنَّ فن الخطابة كُتِبتْ له الحياة -حسب شيشيرون- في ظل النظام الدستوري، الذي كان سائدًا في أثينا، بوجود مجالس للتشريع ومحاكم للمحلفين.
لم تعُد اللغة من منظور مدرسة سقراط -إذا جازت هذه التسمية- محصورة في وصف العالم، وتقريب الأشياء إلينا، بل التفكر في ماهيتها بغية بناء الأحكام ونقدها على أسس منطقية واستدلالات سيميائية. ولهذا دفع التفكير السيميائي المنطق إلى إثارة المسألة اللغوية كما ألمحنا إلى ذلك سلفا، ونقد العلاقة بين مادة اللغة ومحتواها، وترتب على ذلك التساؤل عن علاقتها بالفكر، وصلتها بمفهوم الاعتباطية القائم على مبدأ المواضعة الذي تحركه المتصورات الوجودية التي تسلم بالصيرورات الكلية.
كلُّ ذلك يجعلنا لا نقتنع اقتناعًا سهلًا بأنَّ اللغة تقتصر على أن تقول لنا فقط ما هو موجود في الواقع، على الرغم من أنه لا حلية إلا التسليم بالرأي الذي يرى أن اللغة وسيط بيننا وبين عالم الأعيان؛ لكنها تتجاوز هذه الوظيفة لتُسهم في بناء علاقتنا الاجتماعية، والتعبير عن عواطفنا الإنسانية. فبها ننجز الأشياء، ونتعاون على التواصل والحوار وتجسير العلاقات بين ذواتنا والآخرين. فإذا كان الإنسان وفق المقولة السفسطائية مقياسًا لكل شيء، فإنَّ هذه المقولة جعلت خصوم السفسطائيّين يرون في الخطبة والخطاب على السواء أداة تدميريّة لجلال الحقيقة، وإغراقها في الأباطيل والمغالطات التي تلقي بها في هوَّة الهباء. وليس أدلَّ على ذلك من اعتقاد بروتاغوراس أن الصدق والحقيقة مفهومان وهميَّان.
لا يُمكن الحديث عن الدلالات الواقعيَّة من المنظور الأفلاطوني، إلا إذا كانت هناك كائنات موجودة بالفعل؛ وبناءً على ذلك فإنَّ اللغة تنهض على مبدأ محاكاة الأشياء الواقعية. ويصبُّ هذا المتصور السيميائي لأنساق العلامات لدى أفلاطون في مجرى صور الموجودات الحقيقية. وهكذا فإن النظرة السيميائية الأفلاطونية تسلِّم بأن المدلولات سابقة على العلامات.
ومن الناحية التاريخية، فإن سقراط -الذي كانت تتوق روحه إلى الكمال الروحي- يُعَد مع مرديه من الأوائل الذين دشَّنوا مرحلة نقد اللغة، وتقويض خطاب المغالطات الذي كان يتبناه السفسطائيون، وشرعوا في بناء التعريفات بوصفها أبواب العلم وعتبات المنطق. وكان على عاتق هذا المنطق أن يبكت أوهام اللغة، ويفضح أكاذيبها، وألاعيبها البلاغية، وتحسيناتها البديعية.
تعدُّ محاورة كراتيلوس البداية الحقيقية للتفكير النقدي للغة من الوجهة السيميائية، وفضح تضليل الخطابة التي كانت تصنع “الأشباح في ميدان الخطاب”، ولهذا تخبرنا المرويات الخرافية بأن كراتيلوس فقدَ الثقة في اللغة، وتخلَّى عن سلطة الكلام، واستبدلها بالإيماءات في أثناء تواصله مع محاوريه. فكانت المناظرة بينه وبين هيرموجينز قائمة على “صحة العلامات وملاءمتها لما تسميه”، ولا يزال الأمر مطروحًا بخصوص ما إذا كان لغتنا مُناسبة لما تسميه؛ ولكن سقراط لا يرى أن فعل التسمية بإمكاننا تغييره بأفعالنا الفردية، أو نزواتنا الذاتية.
والحاصل أن سقراط يستخلص من هذه المناظرة أن لغتنا وظيفية، وما تتوخاه ماثل في بنائها، وهي نتاج مواضعة أفراد المجتمع البشري، وعناصرها متضايفة مع وظيفتها، وعكس ذلك ستكون عاجزة لا محالة عن أداء ما وُضعت له. وهذا ما كان يعتقده أفلاطون أيضًا في نقده للسفسطائيين وللساسة الذين كانوا يُعلِّمونهم مهارات الخطابة، وحتى ممَّن كانوا يزعمون أنهم أشياع الديمقراطية بأنَّ كل هؤلاء كانوا يستعملون اللغة استعمالًا لحاجة في نفوسهم، وليس توخِّيا للحقيقة، وطلبًا للصدق. إن مرافعة سقراط وأفلاطون تضع المسألة اللغوية في صلب الحقيقة، وتجرد كينونتها من الإرادة الفردية لتضعها في برزخ المثال.
لقد كان جورج غوسدورف يخشى أن ينشغل الإنسان عن الاستلاب الفكري، ويظل يركض وراء “أوهام الخطاب”؛ بينما أشار ماركيوز -في “الإنسان ذي البعد الواحد”- إلى أن الفكر الفلسفي المعاصر، خاصة الفلسفة التي تسود في إنجلترا والولايات المتحدة الأمريكية ترزح تحت طابع القبول، وتفتقر إلى صفة النقد. وأنها ترضخ لتتبع المجتمع وكلامه، دون أن تأخذ بُعدا نقديا منه، في حين كانت الفلسفة دائمًا تستنفر الوعي، وتنبِّهه من خطر اختصاره إلى وعي جامد، إذن هو يرفض “استقالة الفلسفة”، وتحولها إلى آلة لشرح وتوضيح اللغة.
لم تعُد اللغة وصفًا للعالم فحسب، بل صارت لها القدرة على بناء الحقائق والأفكار حسب نظرية وورف؛ فهي تمتلك تصوُّرًا شاملًا للحياة والعالم، وهي استعمالٌ وإنجازٌ من منظور التداوليات. فباللغة ننجز أشياء العالم عبر أفعال الكلام، وبها نحاجج؛ لأننا لا نتكلم لمجرد الكلام؛ وإنما نتخاطب بنيَّة التأثير في الآخر الذي يُفترض أنه يخالفنا الفكر والمعتقد ووجهة النظر؛ لأنه لا حجاج مع اتفاق.. والمحاججة ضَرْب من النقد عبر آليات اللغة التي يحصل بها الإقناع كما يحصل بها الإمتاع.
التفكير النقدي في التراث العربي الإسلامي بين “تهافت الفلسفة” و”تهافت التهافت”
إذا أمعنَّا النظر فيما سَلف من ذكر مبادئ التفكير النقدي، وأسسه المنطقية، وخصائصه، وأهميته، لألفينا له حضورًا في التفكير النقدي في التراث العربي الإسلامي، وسنقف عند محطات ثلاث، ونحن نعلم أن تاريخ التفكير العربي الإسلامي حافلٌ بالإضاءات النقدية في المعارف والعلوم والفنون، وقد اكتفينا بالغزالي وابن رشد وابن خلدون لبيان بعض سمات التفكير النقدي في خطابهم الفلسفي.
أبو حامد الغزالي (450 هـ – 505 هـ):
اجتهد أبو حامد الغزالي في طلب العلم بحقائق الأمور، وتبيَّن له أن العلم اليقيني لا يكون إلا واضحًا، ولا يُخالطه أدنى ريب أو وهم أو مغالطة. وهو القائل: “إن كل ما لا أعلمه على هذا الوجه، ولا أتيقنه هذا النوع من اليقين، فهو علم لا ثقة به، ولا أمان معه، فليس بعلم يقيني… فلعله لا ثقة إلا بالعقليات التي هي من الأوليات، كقولنا: العشرة أكثر من الثلاثة، والنفي والإثبات لا يجتمعان في الشيء الواحد، والشيء الواحد لا يكون حادثًا قديمًا، موجودًا معدومًا، واجبًا محالًا”. وهذا الرأي يندرجُ ضمن فلسفة المنهج الذي سلكه الغزالي، وعلى رأسه مبدأ الشك. وكان للمنطق حظ وافر في فلسفته؛ فعده القانون الذي نَفْحَص به سلامة الحدود، وتمييز القياسات عن غيرها، فاستحق صفة الميزان والمعيار التي به تعرف العلوم اليقينية من العلوم غير اليقينية، كما ذكر ذلك في “مقاصد الفلاسفة”.
يعدُّ الشك لدى أبي حامد الغزالي أعلى مراتب اليقين، وأن “الشكوك هي الموصلة إلى الحق؛ فمن لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يُبصر، ومن لم يُبصر بقي في العمى والضلالة” (“ميزان العمل”، ص:409). وأن “العلم اليقيني هو الذي يكشف فيه المعلوم انكشافا لا يبقى معه ريب ولا يقارنه إمكان الغلط والوهم”، و”كل علم لا أمان معه، فليس بعلم يقيني” (“المنقذ من الضلال”، ص:60). إذا كان هذا دَيْدن الغزالي قبل ”تهافت الفلسفة”؛ فإنه مارس الفلسفة حتى وهو يأتي عليها بمعول الهدم، ويثير الشكوك حولها لدى العامة، ويشكِّك في قدرة العقل على الإحاطة بأمور الإلهيات؛ فالغزالي وهو يطعن على الفلسفة؛ فإنه كان يمارس فعل التفلسف، ليُثبت أن الفلسفة قاصرة وعاجزة؛ فهو بذلك يتخذ موقفًا سلبيا من الفلسفة عن طريق التفلسف، فله كلُّ الحق في أن يخالف آراء الفلاسفة، بشرط ألا يدلس على آرائهم، وأن يقدم أفكارهم على غير ما هي عليه في مظانها. إن حملة الغزالي على الفلسفة تُذكِّرنا بالنقد الراديكالي الذي شنه بول فايرانبد على المنهج، كما تجلى في كتابه الشهير “ضد المنهج”.
أبو الوليد محمد بن رشد (520 هـ – 595 هـ):
يعد ابن رشد الحفيد أيقونة التفكير النقدي في تاريخ الفكر العربي الإسلامي، كان سليل أسرة أندلسية عُرفت بعنايتها بطلب العلم وتقلُّد مناصب الفتوى، ولا غرو أن يكون ابن رشد الحفيد فقيهًا وقاضيًا وطبيبًا وفلكيًّا وفيلسوفًا، وتمرَّس على المذهب المالكي والعقيدة الأشعرية في جامعة قرطبة التي حصل فيها طلب العلوم، فألف فيها كتابَ “الكليات في الطب”، ورد على كتاب “تهافت الفلاسفة” لأبي حامد الغزالي بكتاب “تهافت التهافت”، وكان يعتقد أن من اشتغل بطب التشريح ازداد إيمانًا بالله.
جمعتْ آثار القاضي أبي الواليد بن رشد بين التأليف؛ مثل: “الكليات”، و”التحصيل”، و”تهافت التهافت”، و”مناهج الأدلة”، و”فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال والتلخيص”؛ مثل: “الإلهيات” لنيقولاس، و”ما بعد الطبيعة”، و”الأخلاق والبرهان والسماع الطبيعي”، وكلها لأرسطوطاليس، و”الأسطقسات” و”المزاج” و”القوى الطبيعية” و”العلل” و”الأغراض”..وغيرها لجالينوس، والشرح مثل: “السماء والعالم والنفس” لأرسطوطاليس، وله مقالات في العقل واتصال العقل المفارق بالإنسان، والتعريف، والقياس، وفي الرد على أبي علي بن سينا، وله مسائل في الحكمة وحركة الفلك وفي الزمان.
يُمثل ابن رشد منارة من منارات التنوير العقلي في الفكر العربي القديم، وقد منح العقل منزلة جعلته يرى أن الحَسَن ما حَسَّنه العقل، والقبيح ما قبَّحَه العقل، وأن الحكمة لديه هي النظر في الأشياء بحسب ما تقتضيه طبيعة البرهان، كما أنه لم ير أن ثمة ما يجعل الحكمة عدوة للشريعة، بل هي صاحبتها، والأخت الرضيعة لها، وهما المصطحبتان بالطبع، المتحابتان بالجوهر.
قادتْ الرشدية التفكير الإنساني إلى التحلي بالأخلاق العلمية، والالتزام بها في فحص الحقائق وبناء الأحكام؛ وهذا يقتضي ممن يتصف بالأمانة العلمية أن يعترف بأخطائه، بصواب الآخرين إذا تبين له ذلك بالدليل والحجة، وهذا يقوده إلى الحوار الحضاري مع من يخالفه الرأي، ويسعى سعيا لاستيعاب خطابه وفهم آرائه، والإحاطة بخلفيتها المرجعية. إنَّ التفكير النقدي الرشدي يعتمد على المنطق البرهاني، وعلى القواعد العقلية في الحوار مع المخالفين والمعارضين والخصوم. والغرض الأسمى من هذا التفكير: الوصول إلى الحق الذي لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له؛ لهذا كله فإنه يعتقد أن الله لم يمنحنا عقولًا، ويمنحنا في الآن نفسه شرائع تخالف عقولنا. وخاض حربًا على الجهل لكونه أكبر عدو للإسلام، وهو المحرض على التكفير. ولا غرو أن يحتل احترام المرأة منزلة رفيعة في تفكيره التنويري العقلاني؛ إذ للمرأة -في نظره- كفاية لأن تمارس أعمال الحرب وأعمال السلم معًا، وأنها قادرة على دراسة الفلسفة.
ابن خلدون والنقد التاريخي:
إننا نبدو مجتمعات مُثقلة بالتاريخ؛ فذواتنا لا تأبى الحياة إلا في اللازمنية وفي الخرافة؛ وهذا ما يجعل حركتنا بطيئة في التقدم.. فما أحوجنا إلى النقد التاريخي الذي يُحرِّر ذواتنا المتضخمة بالأخطاء، والمتورمة بالأوهام، والمفتونة بسحر العلامات. ولا غرو أن تجد حضورها في الميتافيزيقا أكثر مما تطمئن إلى وجودها في رحاب التاريخ. والسبب في ذلك أن العقل لا سُلطة له على الميتافيزيقا؛ لأنها معرفة قبلية.
وعلى الرغم من أن السؤال عن “أصل العقل” قد يقذف بنا إلى ملكوت الميتافيزيقا؛ فإن التفكير النقدي امتدت آلته إلى العقل نفسه، كما قامت بذلك فلسفة كانط المتعالية. وهذه الآلة قوامها المنطق الذي جعله ابن خلدون علمًا يَعْصِم الأذهان عن الأخطاء عندما تقتنص المعاني المجهولة من الأمور المعلومة. إنه ميزان نميز به الصواب من الخطأ، والغاية من كل ذلك “تحقيق الحق في الكائنات نفيا وثبوتًا، بمنتهى فكره”.
درجنا على الاعتقاد بأن الحركة الزمنية قائمة على الاتصال لا الانفصال؛ وأن الأصل في الأشياء الوحدة لا التفكك؛ والملاحظ غياب الحس النقدي للتاريخ في تفكيرنا المتشبع بفائض الاحتفاء بكل ما مضى على ما يبدو ويتبدى، وبالأصل على الفرع، وبالمقدس على الدنيوي، وبالكمال على النقصان، وبالأعلى على الأدنى، وبالذكر على الأنثى، وبالمركز على المحيط، وبالمتن على الهامش وبالجد على الهزل. وبناءً عليه، يبدو للناظر أن تاريخنا تاريخ أصول، ومتون، وذكور، ومقدسات، وكمالات، ورسميات، ويقينيات، وعلويات، وجديات. وإذا أنت أمعنت النظر في تاريخ المهمَّشين والأفراد العاديين، لم تجد ما ينقع الغليل، إلا ما ظفرت به في الشعريات الشفهية من أساطير، وحكايات خرافية وشعبية، وأخبار، ونوادر، ومسامرات، وهزليات، ولا تظفر به إلا ما ندر فيما يُسمَّى بالتاريخ الرسمي (تاريخ الأمم، والخلفاء، والوزراء، والأعيان، والعلماء، والأبطال، والأشراف، وأصحاب المعالي والسعادة…).
لا نحسب كل ما ذكرناه أعلاه، يتصف به النقد التاريخي لدى ابن خلدون؛ بيد أن التاريخ في نظره لم يعد محصورًا في تقييد الأخبار “عن الأيام والدول والسوابق من القرون الأولى” فقط؛ وإن كان يعد هذا من متصورات التاريخ في ظاهره. ومما يُحسب لتفكير ابن خلدون النقدي أن نظره امتد إلى باطن التاريخ، ولم يكتف بظاهر الوقائع التاريخية؛ لأن التاريخ “في ظاهره لا يزيد على أخبار عن الأيام والدول والسوابق من القرون الأولى، وفي باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة، عريق وجدير بأن يعد من علومها وخليق”.
وليس مُستغربًا أن يقول توينبي عن ابن خلدون: “إنه لم يستلهم أحدا من السابقين، ولا يدانيه أحد من معاصريه، بل لم يثر قبس الإلهام لدى تابعيه، مع أنه في مقدمته للتاريخ العالمي قد تصور وصاغ فلسفة للتاريخ تعد بلا شك أعظم عمل من نوعه”. لكن نقد التاريخ لدى ابن خلدون كانت توجهه إيديولوجية نفعية الغرض، منها استخلاص العبر كما وسم بذلك عنوان مؤلفه. ولم يتجه إلى فهم طبيعة التاريخ وتفسير مناهجه. وهذا المسلك رأى فيه هيجل إساءة إلى الشخصية العظيمة.
ومن دُون الخوض في مرجعيات النقد التاريخي لدى ابن خلدون، وأصالة أطاريحه، ومن دون فحص أطره المعرفية والإبستيمولوجية، فإن النظر في السياق النظري الذي انطلق منه ابن خلدون لا يمكن فصله عن أساسه النصي؛ وهذا لا يعد عيبًا في ذاته؛ لأن تفكيره مرتبط بمحددات سوسيوثقافية لها علاقة برؤية أصولية فقهية أشعرية مشدودة إلى النص. صحيح أن ابن خلدون لم ينكر مرجعيته الدينية في نقده للتاريخ، ولكن هذا النقد ما ينبغي وضعه خارج أطر الإدراك، وخارج الإكراهات الأيديولوجية. وفي المقابل، لا يستقيم تسفيه المنجز الخلدوني وإخراج “فكرة العمران” من حيزها السوسيولوجي والأنثروبولوجي وحتى الفلسفي؛ لأنَّ خطابه لم يدع شيئا من ذلك حتى نعنت أنفسنا في دحض دعوى ليست محصنة معياريا في الأصل. فهذه ليست مشكلة الخطاب الخلدوني بقدر ما هي مشكلات المقاربات النقدية لهذا الخطاب التي دفعها الحماس لإنزاله في سياق غير سياقه، وإخراجه من زمنيته، وإضفاء سمة الحداثة عليه أو صفة التحديث، وتوظيفه خدمة لفكرة التقدُّم في عصر “اليقظة” العربية، ونحن نستعمل مفهوم “اليقظة” بدلًا من “النهضة”؛ لاعتقادنا بأن ليس كل من استيقظ قادرًا على النهوض. وهذا حال العالم العربي الذي فقد في نظرنا أن يكون وطنًا عربيًّا في العقود الأخيرة من القرن العشرين. إن كل قراءة هي في المنطلق تتجه للخطأ، أو كما قال ألتوسير لا توجد قراءة بريئة، بما في ذلك المقاربات التي سعت لتبخيس هذا المنجز، وبما في ذلك استبدالنا للنهضة باليقظة، والوطن بالعالم. وهذا من كرامات التفكير النقدي وبركاته.
إيمانويل كانط والفلسفة النقدية
وُسِمت فلسفة كانط بالنقدية، وكما سبق القول فإنَّ كانط استخدم عبارتي “النقد” و”المذهب النقدي” لتمتد إلى الملكات العقلية العملية (الأخلاقية)، وهي تعول على الذهن في بناء معارفنا على أسس من المقولات الخاصة، سيمياؤها الصدق، ومنطلقاتها الأسئلة التي سنوردها لاحقًا، وهذا النقد منصرف إلى كفايات العقل، وقدرته على تحصيل المعرفة خارج التجربة. وهذه الفلسفة لا تسلم بقدرة العقل على الإحاطة إلا بالمعرفة البعدية، ولا قبل له بإدراك ما يقع في الميتافيزيقا، وعالم المطلق. ويوضح كانط أن ما يقصده بالنقد لا صلة له بنقد الآثار والمؤلفات؛ ولكن “نقد قدرة العقل على المعرفة بصرف النظر عن التجربة”؛ لاسيما أن الواقع لا يتضمن شيئًا أكثر من الممكنات. ويصنف كانط درجات الاعتقاد على النحو الآتي:
- الظن الذي لا يغني من الحق شيئًا.. وهو على وعي بافتقاره للكفايات الذاتية والموضوعية.
- الإيمان.. وهو يتوافر على الكفايات الذاتية دون الكفايات الموضوعية.
- العلم.. وهو وحده الذي يحظى بالاعتقاد الكافي بين الذاتية والموضوعية.
طرح إيمانويل كانط ثلاثة أسئلة جسَّدت مشروع فلسفته النقدية؛ فتركزت أسئلته على طبيعة المعرفة البشرية، وحتميتها، وحدودها، وعلاقتها بالوجود. وسيكون التعالي (transcendantal) في فلسفته الشرط القبلي لتكون المعرفة ممكنة، وينكب التحليل المتعالي على مدارسة الصور الأولى للإدراك الذهني.. وهي كالآتي:
1. ماذا في إمكاني أن أعرف؟
2. ماذا ينبغي أن أعمل؟
3. ماذا يمكن أن آمل؟
ما شروط المعرفة وحدود العقل؟
وإذا سألنا كانط: أين نعثر على الفلسفة؟ لأجابنا بأننا نجدها حيثما تُعلم المعرفة في المدارس والجامعات، وليس في الكهوف. ومن الواجب أنْ ينال التفكير النقدي حظها الوافر بتدريس الفلسفة في المدارس والمعاهد والجامعات وفي جميع التخصصات، ومن دون تحنيط الدرس الفلسفي في مقررات تعليمية تُفقد المتعلم القدرة على التفلسف، والنقد، وسلامة بناء الأحكام، وإبداع المفاهيم.
يُميِّز كانط بين نوعين من المثالية؛ الأول: يطلق عليه المثالية التجريبية، والتي تسلم بأن الزمان والمكان مُعطيان في ذاتهما، ومستقلان عن إحساسنا. والنوع الثاني يسميه المثالية الترنسندنتالية، وهي تنظر للظواهر على أنها تمثلات، وما يُحدَس لدى الإنسان في الزمان والمكان عبارة عن ظواهر لها وجود في ذاته خارج الفكر، وبخلاف المبادئ الكامنة هي الموجودة داخل التجربة الممكنة، وما يتجازوها يُسمى بالمبادئ المتعالية.
الميتافيزيقا خارج حدود العقل
إذا كان مصدر المعرفة لدى هيوم هو الإحساس والأفكار، فمصدرها لدى كانط: الحساسية والفهم.. وتكون الحساسية مسؤولة عن تنظيم الانطباعات الحسية المتفرقة التي تقدمها التجربة على شكل مُدركات حسية؛ أي أنها تُقدِّم لنا الموضوعات، بينما يحول الفهم تلك المدركات الحسية إلى معرفة؛ وذلك بواسطة مقولات قبلية تنصبُّ فيها معطيات التجربة الحسية، فتتحول إلى معرفة، وهنا نعني بالفهم أنها تقوم بتعقل تلك الموضوعات.
إنَّ آلة النقد العقل، والعقل كما تصوَّره كانط: “ملكة في المعرفة يتألف من صور ومبادئ قبلية سابقة على التجربة، يقوم بتنظيم معطيات التجربة، ويقوم بتحويلها إلى معرفة يقينية، وهذا ما جاء على لسانه بأن العقل منظومة من المبادئ القبلية، وهو قادر على إدراك الوحدة والكثرة مثلًا. وفي هذا السياق، يتسامح كانط مع المخيلة بوصفها قوة نشيطة تؤلف بين الأشياء المتنافرة إنْ هي اشتطت، وبلغ بها الاندفاع مبلغ الهذيان؛ بينما لا نراه مُتسامحًا مع الذهن بوصفه قوة نقدية؛ لأنَّ مهمته تكمُن في التفكير النقدي الذي بإمكانه أن يقف سدًّا منيعًا في وجه اندفاع الخيال الحر.
إنَّ المعرفة -في نظر كانط- عملية مُعقَّدة، صعبة، يُسهم فيها كل من العقل والحواس. فلا وجود للموضوعات خارج الإدراكات الحسية، وأن الحدوس الحسية بدون مفاهيم تظل عمياء، والمفاهيم بدون حدوس حسية تظل جوفا؛ وهكذا يبدو لنا أن العقل عند كانط يتجسَّد في شكل بناء مقولات، أو صور قبلية ستكون عديمة الفائدة لولا معطيات التجربة الحسية. ومن هنا، يمكن أن نقول بأن العقل وحده لا يستطيع أن ينتج معرفة أكيدة يقينية، دون الاعتماد على التجربة، فإن تجاوز العقل التجربة أصبح عقلا جداليا سجاليا، لا ينتج معرفة يقينية، ومن ثمَّ ينتج دعاوى متناقضة ليس ثمة سبيل إلى حلها، وإذا حورنا مقولة كانط لكان “النقد بلا نظرية أعمى”، ولكن النظرية بلا نقد مجرد ترف فكري.
وتتجلَّى نسقية التفكير النقدي والثلاثية الكانطية في:
- نقد العقل الخالص 1781 (العقل) ملكة المعرفة.
- نقد العقل العملي 1788 (الأخلاق): الواجب مبدأ أخلاقي كوني، وهو أساس السلوك/ ملكة الإرادة.
- نقد ملكة الحكم 1795 (الجمال): الذوق الكلي معيار كوني موحَّد للجمال/ملكة الشعور
وإذا كُنا نتقبل قول شوبنهاور بشيء من التجوز: إن الفلسفة الحقة بدأت مع أفلاطون، واختتمت مع كانط؛ فإن هيجل والهيجلية تعد أساس التفكير العقلاني الذي تجاوز ثنائية الفلسفتين التجريبية والعقلانية.
السلب والنقد (الهيجيلية)
يعتقد هيجل أنَّ اللغة الألمانية -التي تنتمي إلى العائلة الجرمانية- تمتلك قوة نظرية، ومرونة تركيبية تجعل اشتقاق المصطلحات أكثر تعقيدًا، وطالب الفلسفة بأن تكون نسقية، وأن تتكلم بلسان الألمانية التي تتوافر على ثراء في التعبير المنطقي؛ ولهذا تحتل المسألة اللغوية منزلة كبيرة في التفكير النقدي الألماني؛ إذ رفعوا من شأنها، ووسمها فيكو الإيطالي بالحيوية والبطولة، ولكن فلسفة هردر أضفت عليها روحًا شعبية.. إن القول بحيوية لغة دون لغات أخرى مسألة فيها نظر.
أثرى هيجل -بعد تراث فولف وكانط- الخطاب الفلسفي الذي أراد له أن يعيش عصره وزمنه الذي هز قوام الفكر، ولا يخفى على الناظر مظاهر النظرة العنصرية للشرق في كتابات هيجل وغيره. وكلما ذكر “الروح المطلق” استدعي هيجل إلى الأذهان؛ إذ الروح المطلق لحظة حاسمة من أجل نمو الفكر الذي لا يفصل المنطق عن الميتافيزيقا. إنه الوعي المطابق لموضوعه، ويكون مجردًا عن الضرورات الطبيعية أو المضامين المشخصة للذهن. ويتجلى “الروح المطلق” في الوحدة بين الفكر والواقع، وفي المثال الأعلى للجمال، والدين في مظهر الحقيقة التي توحي بها العاطفة والوجدان، والمعرفة العقلية الخالصة. وهو يميز بين الوجود من حيث أنه شعور بالحياة، والحياة التي تمثل الجانب العضوي؛ لهذا كان الوجود ذا طبيعة إنسانية؛ وعليه فإن الدين والفلسفة والفن هي موضوع واحد لدى هيجل؛ لكنها تختلف فقط في الشكل.
تقبَّل هيجل في البداية الفرضية الكانطية التي تقول إنَّ العالم يظهر لنا كما هو عليه؛ لأن العقل ينظمه بطريقة معينة، لكن بعد مدة يجد ضرورة في معارضة هذه الفكرة الكانطية بسبب نقطتين؛ بالنسبة لكانط هناك دائما تمايز بين الواقع كما يبدو لنا والواقع كما هو موجود في الحقيقة، الأشياء كما نراها والأشياء كما هي موجودة. ولكن الحقيقة لا تحظى بوجودها إلا في ظل المفاهيم، وقد آمن بأن كل واقع معقول، وكل معقول واقع، ولا ريب أن يتبنى هيجل التصوُّر الأرسطي الذي يعتقد أن الأفكار كامنة في الأشياء، وهي حاضرة في واقعنا، ولا تسكن في العوالم المثلى، وهناك أفكار خالصة لا يشترط وجودها موجودًا آخر مثل “الله”، وإن عدل هيجل فكرته لاحقًا، وسلم بأن العالم متتالية من الشروط المرفوعة؛ إذ الأفكار المنطقية شرط للطبيعة، بل شرط للروح. وعندما تتحد الفكرة بالمطلق تعد علامة دالة على المسار الأخير للمنطق.
غيَّر هيجل مجرى تاريخ الفلسفة، فلم يعد هذا التاريخ من ناحية النظرية يتقفَّى سلسلة الأحداث التاريخية؛ وإنما يتَّجه إليها بالنقد عن طريق محاولة فهم طبيعة الأحداث التاريخية، وتفسير مناهجها. وتأمل سير مراحل تاريخ الإنسانية وتطوره من الطور الميتافيزيقي (اللاهوتي) والطور البطولي، إلى الطور الإنساني، يعدُّ ضربًا من التطور العقلي للروح في الزمان. وعبر هذه الأطوار تدرج الإنسان من التفكير الحسي إلى التفكير المجرد، ومن مرحلة البطولة إلى أخلاق الضمير، ومن طور امتيازات الأسياد إلى طور المساواة والحقوق. لقد حظي مفهوم التاريخ في فلسفة هيجل بأهمية قصوى؛ لأن المجتمعات لا تعتني بتاريخ هي مجتمعات فاقدة لحس النقد لماضيها وتراثها، ومن دون هذا الحس النقدي لا تمتلك أسباب التقدم والتطور.
إنَّ فلسفة هيجل سالبة ونقدية في الوقت نفسه، وهي تسند مقولة الوجود للفيلسوف الإغريقي بارمينيدس؛ بما أنَّ الموجود لا يمكن أن يكون ليس بموجود؛ فإن الوجود يتنافى مع السلب والتعيين والصيرورة، وإن كان الوجود في الأدبيات الأفلاطونية مرتبطًا بعالم المثل، بخلاف هراقليطس الذي ينتصر إلى الصيرورة، ووجد فيها فلاسفة الألمان ضالتهم، إلى درجة أن رأى فيها “إيكهارت” ماهية الله، وما جعل نيتشه يرى بأن الفلاسفة الألمان هيجليون، وإن لم يوجد بينهم هيجل؛ كونهم ينتصرون للصيرورة والتطور أكثر من احتفائهم بالوجود. وأساس الصيرورة لدى هيجل التناقض والصراع، ويشبِّهها بالنار التي تأكل نفسها بنفسها حتى تأتي على الأشياء المادية، وتنتهي إلى الوجود المتعيَّن، وهو عبارة عن وجود ينصهر، أو يتحد، في السلب داخل هوية واحدة.
أسهم هيجل -بدعوة من شلنج- في إصدار أعداد من المجلة النقدية ما بين عامي 1802 و1803، واستهلَّها بالحديث عن ماهية “النقد الفلسفي”؛ بمعنى: كيف ينقد الفيلسوف فلسفة أخرى؟ ولكن هذا النقد لا يقتصر على إبراز العيوب والأخطاء كما ينصرف الاعتقاد العام لذلك؛ وإنما تتجلى وظيفة النقد الفلسفي في إبداع فلسفي جديد. وقد أسدت إليه المجلة النقدية للفلسفة -التي تقفت بعد وفاة شلنج- خدمات جليلة ساعدته على استيعاب إشكالات الفلسفة المعاصرة. ولا غرو أن يثور هيجل على دعوة الفيلسوف هردر إلى جعل الفلسفة شعبية؛ وذلك نتيجة نقده لفلسفة كانط. إنه كان ينطلق من تصور أرستقراطي لفعل التفلسف فهي ليست للعامة؛ وإنما هي لصفوة العقول.
إن مفهوم السلب قوَّة محركة في الجدل، والسلب فلسفيًّا يُقابل الإيجاب، لكن الإيجاب قد يدل على ما هو عقلي.. إن المفهوم الهيجيلي للسلب لا يمرق من التصورات المنطقية ومحمولاتها، ومرد مفهوم السلب في التفكير الفلسفي الألماني إلى فكرة “التناهي” (l’infini)، فكل متناهٍ سلبي، وكل سلب تعيين لما ينفيه. وإذا امتد السلب إلى السلب كان إثباتًا، وأن الإثبات هذا يكون مغايرًا للإيجاب السلبي، وما يعني هيجل من هذا المفهوم كونه خصيصة للفكرة الشاملة، وليس آلية للأحكام المنطقية، وهو لا يفصل بين أفكار السلب إنْ في التصورات، وإنْ في الطبيعة.
يعني الجدل أفلاطونيا المنهج الفلسفي السليم، علمًا بأن مُؤرِّخي الفلسفة يرجعون الجدل لزينون الإيلي، ومثاله الشهير حول الحركة. وفي مقابل الجدل السفسطائي، الذي ذمَّه تاريخ الفلسفة، هناك الجدل السقراطي القائمة على إستراتيجية تقويض حجج الخصم عبر إظهار التناقضات في تعريفات المحَاوَر. وخلافًا للجدل -بصورتيْه الإيجابية والسلبية- فإنه لدى هيجل يعدُّ ممارسة نقدية ذاتية عفوية، أو هو تطور ذاتي لصورة من صور الوعي؛ بيد أن كانط نقد الجدل ووسمه بمنطق الوهم تحقيرًا لها. ويتدرج الجدل الهيجلي عبر المراحل الآتية:
- مرحلة الفهم، وتمثل طور التجريد.
- مرحلة العقل الجدلي أو السلبي.
- مرحلة العقل النظري أو الإيجابي.
بما أنَّ الفلسفة في نظر هيجل تعني “الدراسة الفكرية للأشياء”؛ فهي تفكير نسقي كلي يتطلع لمعرفة ما يتطلع إليه الدين؛ ولكن عن طريق المقاربة العقلية التصورية لا عن طريق المقاربة الإيمانية، وإنْ كانت الفلسفة تفكر في الموضوعات الدينية؛ بَيْد أن تفكيرها ينبني على الحرية. صحيح أنَّ هيجل وحَّد بين العقل والواقع، انطلاقًا من مبدأ الصيرورة لتنتظم في الفكرة الشاملة، وجعل التحرُّر يتحقق بفعل السلب؛ سواء لدى الإنسان والطبيعة؛ فإن الماركسية استثمرت فلسفة هيجل في الجدل والتاريخ والصراع والتناقض، ولكن جعلتْ من السَّلب والجدل طريقًا لرفض الواقع وتغييره، ونظرتْ إلى العلم من حيث كونه معرفة، تستند للحس والواقع، إلى الانخراط في حركة التاريخ وتطويره. وإذا كان العالم انعكاسًا للفكرة الشاملة عند هيجل، فإن الأفكار انعكاسٌ للعالم المادي عند ماركس، ولم تكن الماركسية وحدها التي استثمرت هيجل، وتجاوزته؛ وإنما عادت إليه مدرسة فرانكفورت لبناء نظريتها النقدية.
مدرسة فرانكفورت والنظرية النقدية
يعود ظهور النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت إلى العشرينيات من القرن العشرين، واستندت لجُملة من المفاهيم والقيم؛ مثل: العقل، والحرية، والعدالة، والتسامح، والاعتراف، مُستلهمة مشروع التنوير الذي يعني التقدُّم، وتحرير الإنسان من العبودية والخوف، وأخذت على عاتقها نقد الأنظمة الشمولية في السياسة والاقتصاد، بل إنَّ النقد الأهم وُجِّه إلى العقل الأداتي الذي سُخر للسيطرة أولا على الطبيعة، ثم انتقلت السيطرة إلى الإنسان نفسه، عن طريق التكنولوجيا الحديثة التي رسمت معالم جديدة للعقلانية الأداتية، ومهَّدت لمرحلة التشيؤ من قبل هيمنة قوى الإنتاج وسيطرة ثقافة الاستهلاك، فحوَّلت العقلانية الغربية التي انحدرت من بيكون وديكاررت واسبينوزا، وتألقت بفعل التنوير في القرنين السابع عشر والثامن عشر -مع جون لوك، وهوبز، ومونتسكيو، وجون جاك روسو، وفولتير، وديدرو- العقل إلى أسطورة بحسب هوركهايمر وأدورنو.
إذا كانتْ فلسفة التنوير قد خلصت الإنسان من الخرافات والأوهام والأساطير، وأشاعت ثقافة التسامح؛ فإنها فشلتْ في تجنيب الإنسانية نشوب حربيْن عالميتيْن لم تُبق ولم تذر، بل أنتجت أنظمة نازية وفاشية، أوقعت الحضارة الغربية في أزمة تاريخية، جعلت قيمها الإنسانية على المحك؛ وعليه فإن مدرسة فرانكفورت نقدت الممارسات الديمقراطية داخل المجتمع الرأسمالي، من خلال فضح الهيمنة اللا مباشرة لمؤسسات الدولة على مسار تطور الوعي الجماعي، والكشف عن الديناميات “العقلانية”؛ لردع كل محاولة جذرية تمتلك طاقة الرفض.
للأدب والفن مكانة مُتميزة في النظرية الاجتماعية لمدرسة فرانكفورت؛ باعتبارهما المجال الوحيد الذي يُمكن من خلاله مقاومة المجتمع الرأسمالي، لا سيما أنَّ هيجل كان يعتقد أن الفن يتوسط بين الروح والطبيعة. وبناء عليه، كانتْ له منزلة مرموقة في الفلسفة. وتحت تأثير الدعاية السياسية والإعلانات التجارية، صارت اللغة مجرد أداة طيِّعة في خدمة الأيديولوجيا التي تقود للهيمنة الاقتصادية، والجور الاجتماعي، وتسخير طاقة الإنسان وعقله لهذه الدعاية التي تراها المدرسة النقدية مُعادية للقيم الإنسانية ولمبادئ الحرية. تؤكِّد هذه النظرية الصبغة النقدية للعقل، وتجعل الإنسان صانعا لظروفه التاريخية على نحو لا يكاد يخلو من النقد المستمر. إنها ليست حركة فلسفية نقدية، لا تفصل خطابها عن سعيها لتحرير الإنسان من كل أشكال الخوف والقيود التي تكبله، وتدفعه إلى أن يعيش في عالم يستجيب لمتطلباته، ويتناغم مع حاجات عقله وجسمه، وهذا يتلاءم مع فكرة الأنوار الداعية لتحرير الإنسان من عجزه وقصوره، كما ذهب إلى ذلك كانط.
خاتمة:
لقد كان الفكر دائمًا في تطلُّع إلى ما يجب أن يكون، داحضًا ما هو كائن، وكان النقد جذوة التفكير التي لا تنطفئ، وقد تجسَّد هذا النقد في الإبداع الفني والأدبي عبر وسائل التواصل، كما يمكنه أن يواجه الأصوليات والتطرُّف بجميع أشكاله، مثلما صرَّح القاضي أبو الوليد بن رشد بأن أكبر عدو للإسلام جاهلٌ يكفر الناس؛ ولكن الفكر النقدي يمتد للفضاء العام من سلطة ومذاهب ومؤسسات، ويدافع عن فضيلة التسامح، ويحترم حرية الآخرين، ويتيح لهم التعبير عن أفكارهم وآرائهم وممارسة عقائدهم، دون إكراه أو اضطهاد، أو الخشية من الانتقام، في ظل احترام القوانين المتعارف عليها، والسماح بالعيش من أجل الحقيقة كما يقول إسبينوزا. وبالتفكير العقلي النقدي، نكتسب المعركة ضد اللامعقول؛ ولا غرو أن يدعونا باستور إلى عبادة الفكر النقدي.
إنَّ حضور التفكير النقدي في حياتنا حَصَانة للإنسان من الاستعباد بكل أشكاله، وانتصار للقيم الإنسانية، وفضيلة التقدم والمساواة والعيش في سلام، وضمان للعدالة العقلانية وشرط الحرية. ولا تتم العقلانية في نظر بوبر إلا إذا أحسنَّا الإصغاء إلى النقد، والإفادة من الخبرات السابقة، ومن المعاني السامية للعقل الانفتاح على النقد، وأن تكون لدينا القابلية لتقبل النقد، وممارسة النقد الذاتي.. فالنقد نقطة التقاء الفلسفة بالعلم.
15,324 total views, 2 views today
Hits: 4182