الحدث الحسينيُّ.. وإمكانات التحقُّق التاريخي
د. جاسم العلوي
محددات الفعل التاريخي
التاريخُ نهرٌ جارٍ، يتدفَّق بعُنفوان، يَسُوق البشرية إلى مُنعطفات حادَّة، يجرعها كل ألوان العذابات، وإن استقام جرى بهم الهويدة وأذاقهم من لحظات السعادة والهناء، لكنه نادرا ما يفعل؛ لأن الإنسان ظلوم كفار.
يَتَميَّز الإنسان بأن له حضُوْرين: حضورٌ في الطبيعة؛ وهو فيها خاضعٌ ومقهورٌ لقوانينها، ولا يختلفُ في هذا الحضور عن حضور الحيوان. وحضورٌ آخر ينفرد به عن غيره؛ وهو: حضورٌ في التاريخ. وحده الإنسان يحضر في التاريخ، يصنع التاريخ كما أن التاريخ يصنعه. إنه حضور مقصور على الإنسان لما له من قدرة على التفكير والكلام، وتغيير حياته، وتسخير قوانين الطبيعة من أجل رفاهيته. كما أنه في بُعده الروحي يملك إرادة يُدير بها تناقضاته وصراعاته الداخلية، وينفتح بها على مسارات مختلفة لحياته. فإرادته الحرة تبني وتهدم، تخاصم وتسالم، تبسط يدها وتقبضها. إنه حضور يمكِّن الإنسان من صنع الحدث الذي يحول الزمان الكوزمولوجي-الطبيعي إلى زمان إنساني يحضر الماضي في الراهن بقوة، ويؤثر الراهن في المستقبل. ومن هنا، يكون للتاريخ حركة مُمتدة مُتصلة، يتصل فيها ماضي الإنسان بحاضره ويشكل مستقبله. لا حركة للتاريخ في حياة الحيوان؛ فماضيه وحاضره ومستقبله سيَّان. يعيش الحيوان في الزمان الكوزمولوجي (الطبيعي) فقط، وليس له زمانه الخاص.
وَإِذَا كَانَ للتاريخ حركة مُتصلة في الزمان الإنساني -الذي يلتحم فيه الماضي بالحاضر والمستقبل- فلابد أن يكون هناك فعل من نوع معين، يُمكن أن نسميه “الفعل التاريخي”، يُسهم في حركة التاريخ، فليست كل أفعال الإنسان تصنع للتاريخ حركته. فالإنسان يأكل، وينام، ويمرض، ويموت، ويتزاوج، لكن هذه أفعال بيولوجية-فيسيولوجية وليست أفعالًا تاريخية. إنَّ الفعل الإنساني الذي يدخل في الحقل التاريخي، ويصنع حدثا تاريخيا، لابد أن يتميز عن غيره من الأفعال أو الأحداث. فما هي مُحدِّدات الحدث التاريخي الذي يرتبط فيه الماضي بالحاضر والمستقبل في وحدة عضوية؟ ويُمكن لنا من أجل تقريب الصورة أن نصف حدثا تاريخيا مُمتدا ومُتصلا في الزمان، بالاستعانة بالفيزياء. فالحدثُ التاريخيُّ يُمكن تشبيهه بالموجة؛ لأنه يصنع تموُّجا أو اضطرابا في التاريخ، وهذا التموُّج يبدأ من مركز الاضطراب، ويتحرك مؤثرا في الأحداث من حوله، ويستمر تأثيره في المستقبل. وبعض هذه التموُّجات ضخمة جدًّا؛ بحيث تتفلت من أي سياق محرك للتاريخ، لكنها عبر مفاعيلها الروحية تحاول أن توجه حركة التاريخ لنهايته الحتمية.
لَكِن، وَكَيْ نتمكن معرفة المحدِّدات التاريخية للحدث الموصوف بالتاريخي، علينا أن نتعرَّف على التأثيرات التي يتركها حدث تاريخي ما في إسباغ ديناميكية خاصة للتاريخ. فمِن تعقُّب الأثر الذي يخلفه الحدث في التاريخ، نتمكَّن من وعي مُحدداته التاريخية؛ فهل للأحداث التاريخية نتائج محددة، أم لها تأثيرات عشوائية وليس هناك ثمة قوانين خاصة تنتظم في سياقها التاريخي على غرار القوانين الطبيعة؛ بحيث نعرف من خلالها نهايات محددة لهذه التي عبَّرنا عنها بالتموُّجات التاريخية. وإذا كان الجواب يعتمد على فَهْم السؤال، فدعونا نستوضح السؤال من خلال هذه المقارنات بين الطبيعة والتاريخ؛ فالإنسان يحضر في الاثنين معا. الإنسان محكومٌ ومقهورٌ بقوانين الطبيعة؛ فهل حضوره في التاريخ تحكمه قوانين ترسم مصيره؟ بمعنى إذا كان التاريخ تصنعه أفعال الإنسان بمحدداتها التاريخية، فهل لأفعاله عواقب حتمية؟ وهل هذه العواقب هي نتاج منطق خاص يحكم الفعل التاريخي. وكما أنَّ الإنسان يتعرف على قوانين الطبيعة ويسخرها من أجل العمران وبناء الحضارة، فهل معرفة الإنسان بقوانين التاريخ تمكِّنه من معرفة مصيره في المستقبل؟ وهل هذه القوانين التاريخية تتناقض مع حرية الإنسان واختياره؟ وما الفارق بين القوانين التي تحكم الإنسان في الطبيعة وتلك التي تحكمه في التاريخ؟
الإجَابَة عَنْ هَذِه التساؤلات تحدِّد وعينا بالتاريخ وعَلاقتنا به. فإذا كان التاريخ مجموعة من الأحداث المتناثرة والعشوائية، وتمارس تأثيراتها في الدائرة القريبة منها، ولا يكون لها سلطة على المستقبل؛ فمستقبل الإنسان تُشكِّله إرادته في الظرف الخاص-الراهن دون الحاجة لفهم التاريخ أو العودة للماضي. فهذا يجعل التاريخ محصورا في الماضي فقط، والمعرفة به لا تعطي ثمرة الحاضر ولا تصنع ثمرة في المستقبل. أما إذا كان التاريخ له وِحْدَة عضوية وتيار متصل يسير في مسارات محددة، فكلُّ خيار لنا يوجه هذا التيار في مسار محدد نحو مآلات محددة ومحتومة، فإن وعينا بالتاريخ له أهميته البالغة في توجيه مسارات الحركة في التاريخ نحو الوجهة التي نريد لها أن تكون مصيرنا المحتوم. بهذا؛ يكون المستقبل يحدده الماضي وخيارات الحاضر، ويُشبه تماما المعادلات التحددية التي تمكن الفيزيائي -مثلا- من معرفة موقع جسم أو سرعته بناءً على معرفته بحالته الراهنة. يتحول التاريخ في وعينا إلى تاريخ علمي له قوانين تنظم مسيرة الاجتماع البشري، وأنه لا يمكن بحال الانفكاك عن قهرية هذه القوانين؛ مما يجعل وعينا بالحدث التاريخي ضرورة لأنه يشكل مصيرنا. عندها، يكون فهمنا للماضي ليس من باب الترف، بل ضرورة لمعرفة أين يتحرك بنا التاريخ، وأين سيضعنا في المستقبل، وكيف نعمل على توجيه حركته في مسار مختلف. هنا يغدو التاريخ مصنعاً ضخماً يُصنع فيه مُستقبلنا عبر مسارات تحركت في الماضي، وإنْ لم نفهم كيف يعمل، وكيف نؤثر فيه -بحيث يأخذنا في المسار الذي نريد- فإنه سيجرفنا نحو نهاية شكَّلتها إرادات الفاعلين في الماضي.
مُحدِّدات الفعل التاريخي
لَم يهتدِ الإنسانُ إلى قوانين خاصة في التاريخ، تتحكَّم في الاجتماع الإنساني وتقرَّر على ضوئها مصيره ومآلاته، إلا مع القرآن الكريم. القرآن هو الكتاب الأول الذي فتح العقل الإنساني في آيات كثيرة صريحة واضحة عن وجود قوانين يُطلق عليها القرآن “سُنن” تحكم اجتماعه السياسي والاقتصادي والثقافي. بعد نزول القرآن بثمانية قرون، عمل ابن خلدون على فهم التاريخ فهما علميا، يضع التاريخ في مصاف العلوم الطبيعية، له دوراته التاريخية تماما كدورة الماء في الطبيعة (1: ص332-333). فما هي الرؤية القرآنية لسُنن التاريخ؟ لنكتشف، ولو بصورة موجزة، من آيات القرآن المتواترة في سوره المختلفة هذه السُّنن التي يصفها القران بأنها لا تتبدَّل ولا تتحَّول. فسُنن التاريخ -قوانينه- مضطردة ثابتة، تمتلك موضوعية، ومتى ما تحققت الشروط الموضوعية للحدث التاريخي فإنها تفضي دائما إلى نتائج محددة. فكما أن قوانين الطبيعة تمتلك ثباتا واضطرادًا -حيث تتحقق الظاهرة في الطبيعة كلما استوفت شروطها الموضوعية- فكذلك تكون سُنن التاريخ.
يفرِّق القرآن بَيْن وجود الإنسان كفرد وبَيْن وجوده في المجموع، جاعلا -القرآن- من المجموع البشري كائنا كبيرا له حياة وله موت وله حسابه الخاص. المجتمع كائن حي ينصهر الفرد فيه بالمجموع؛ فيحاسب المجتمع على قراراته الجمعية وعلى سلوكه الجمعي. هكذا يُعبِّر القرآن عن هذا الكائن الاجتماعي العملاق بأن له أجلا “لكلِّ أمةٍ أَجَل…” (يونس:49)، وحساب “وَتَرَى كلَّ أمَّةٍ جَاثِيَة كلُّ أمةٍ تُدْعَى إلى كِتَابِها اليَوْم تُجْزَوْن مَا كُنْتُم تَعْمَلُوْن” (الجاثية:25). ويعبِّر القرآن تعبيرا صريحا عن وجود هذه السُّنن التي تحكم منطق التاريخ، وأن على الإنسان أن يتتبَّع أحداث الماضين لاكتشافها؛ لكي يتجنب مصير الماضين ويوجِّه بوصلة التاريخ نحو مستقبل أفضل “قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبِلكُم سُنَن فَسِيْرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْف كَانَ عَاقِبَة المُكذِّبيْن” (آل عمران:137). وقد أعطانا القرآن بعضاً من هذه السُّنن؛ فيُخبرنا الله -عزَّ وجلَّ- في كتابه بأن الانتصار له شروطه الموضوعية “وَلَقَد كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبلك فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوْذُوا حتَّى أَتَاهُم نَصْرُنَا وَلَا مُبدِّل لِكَلِمَاتِ الله وَلَقَد جَاءَكَ مِنْ نَبَأ المُرْسَلِيْن” (الأنعام:7)، ويرسم القرآن مستقبل الإنسان كفرد، وفي المجموع بناءً على خياراته، ليحمله مسؤولية مصيره؛ فليس القضاء والقدر إلا أنْ يأخذ الإنسانُ والكائنُ الاجتماعيُّ قرارَ مستقبله عندما يَحْسِم خياراته الداخلية: “إنَّ اللهَ لَا يُغيِّر مَا بِقَوْمٍ حتَّى يُغيِّرُوا مَا بأنفُسِهِم” (فاطر:43). مصير الأمة بيدها، عليها أن تختار، وعندما تختار فإنَّ سُنن الله في التاريخ تتحرَّك بها نحو مصيرها المحتوم والمقدَّر، والذي لا يمكن تحويله أو تغييره. هذه السُّنن تجري على كافة المجتمعات دون استثناء، ولا يستثنى منها حتى الأنبياء والصالحون، يَضْرِب الله لنا مِثالا يُخْبِرنا فيه عن النتيجة المحتومة لأمة من الأمم عندما تُمَارِس فِعْلًا ما “ذَلِك بأنَّ اللهَ لَمْ يَكُن مُغيِّرا نعمةً أنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حتَّى يُغيِّروا مَا بأنفُسِهِم” (الأنفال:35) (1: ص321-330).
القرآنُ الكريم يُخبرنا عن سُنَن في التاريخ، لكنها سُنَنَ تحكم نوعًا خاصًّا من الأحداث؛ إِذ ْليس كل حَدَث في التاريخ يصحُّ أن نصفه بأنه حدثٌ تاريخيٌّ. وعند التأمل في آيات الله، فإنَّ بإمكاننا أن نهتدي إلى تلك المحدِّدات التاريخية، لما يمكن أن نسميه “الفعل التاريخي” أو “الحدث التاريخي”. أولا: ينبغي أن نُدرك أنَّ ما نصفه بالأفعال التاريخية هي تلك التي تخضع لسُنن التاريخ كما بيَّنا نحوًا منها في الآيات السابقة، وهذه سُنن ثابتة ومُضطردة. فالأفعال التاريخية المتشابهة تنتهي دائما إلى نفس المآلات. القرآن يُخبرنا عن دائرة تُحيط بنوعية خاصة من الأفعال، تنشط فيها سُنن التاريخ، وهي تلك الأفعالُ التي تتحدَّد بثلاثة أبعاد. البُعد الأول والثاني هما ظهور نوع من العلاقة بين الفعل والغاية. فكلُّ فعل تاريخي يمتاز بنمط من العلاقة التي تربط بين الفعل الإنساني وغايته، أو بالتعبير الفلسفي بين النشاط الإنساني وعِلته الغائية. ولكنَّ هذين البعدين لا يكفيان لتمييز الفعل التاريخي عن غيره. فالإنسان الفرد يرتبط دائما فعله بهدف ويرتبط نشاطه بغاية. لابد من إضافة بُعد ثالث يعطي تميزا خاصا ومحددا للفعل التاريخي، إنه ذلك الفعل الذي يتعدى الفاعل الفرد ليطال الكيان الاجتماعي للأمة. إنه الفعل الذي يُحدث تموُّجا في النسيج الاجتماعي-التاريخي للأمة ليصنع زمانها الخاص. كل أمة من الأمم لها زمانها الإنساني الخاص الممتد، يتصل فيها الماضي بالحاضر والمستقبل، في وحدة عضوية واحدة. فحاضر الأمة قد شكله ماضيها، ومستقبلها تشكله خيارات الأمة في حاضرها. إذن؛ هذه السُّنن كما بيَّن القرآن الكريم في بعض من هذه الآيات التي استعرضناها تأخذ مجراها فقط في أفعال تاريخية لها غاية، وتتخذ من الساحة الاجتماعية أرضية لها.
وَلَا شكَّ أن كربلاء حدثٌ تاريخيٌّ بامتياز.. وليست حدثا تاريخيًّا عاديا كغيرها من الأحداث التي تجري على الساحة التاريخية، بل هي حدثٌ تاريخيٌّ ضخم وعظيم في كل محدداته التاريخية؛ فسببه: شخص الحسين -عليه السلام- وغايته: الإصلاح، وساحته: أمة الإسلام. ولنا أن نتساءل عن السبب الذي يجعل من هذا الحدث فاعلا في حياة الأمة، وحيًّا في الضمير الإنساني، بعد أكثر من مضي ألف عام عليه؟ وإذا كان هذا الحدث بهذا التجدُّد المستمر، فإنه لابد أن تكون له دلالة ما، ذات طبيعة رمزية تُبقيه حيًّا كل هذه السنوات؛ لأنها تحيل دائما إلى معانٍ في الصراع الإنساني الأبدي لثنائية الخير والشر.
الحَدَث الحسيني والدلالة الرمزية
تَدْخُل الأخلاق في صَمِيم البنية المكوِّنة للإنسان؛ فأفعال الإنسان دائما تتحدَّد بمعنى أخلاقي، وهذا البُعد الأخلاقي يُضْفِي على الفعل الإنساني دلالة رمزية. فكما يصح أن نعرف الإنسان بأنه حيوان ناطق أو عاقل، فيصح أيضا أن نعرفه بأنه حيوان رامز (2:ص58). والرامزية تتأتى من أن طبيعة الفعل الإنساني لا تنفك عن هوية أخلاقية معينة؛ إذ هي دائما تشير إلى دلالات معينة في ثنائية الخير والشر. وإن مستوى الرامزية هنا يعتمد على الكيفية التي يستجيب بها الإنسان للتحديات التي تدفع به للنشاط والتحرك. فكل تحدٍّ يُواجه الإنسان هو في الوقت ذاته تحدٍّ أخلاقي؛ لأن الاستجابة يُمكن معايرتها بموازين الخير أو الشر. وعظمة الرامزية تأتي من عظمة الاستجابة للتحدي الأخلاقي.
والحَدَثُ الحسينيُّ هو بهذا الاعتبار حدث رامز بامتياز، له دلالالته الرمزية، لكنَّ دلالته تخطت السياق الثقافي والحضاري العربي والإسلامي، وتحولت إلى رمزية كونية؛ إذ يمتد تأثيرها إلى كل النطاقات الثقافية والحضارية في العالم. ليست كل الأحداث التاريخية التي تستوفي المحددات التاريخية، وتنطبق عليها سنن التاريخ، هي أحداث عميقة في مدلولها الرمزي؛ ففي التاريخ الإنساني حُروب وصراعات صنعت تموُّجات في النسيج التاريخي، لكنها تموُّجات تَضْعُف وتخبُو بالتدريج مع امتداد الزمان الطبيعي، لتحل في ذاكرة التاريخ، ويطويها النسيان، وتفقد دلالتها الرمزية في الزمان الإنساني، ولم يَعُد لها تأثير في حاضر الأمة أو مستقبلها. وبعض الأحداث تموُّجاتها كبيرة، أشبه بالزلزال، تسري تموُّجاتها في النسيج الاجتماعي التاريخي للأمة، ويستمر تأثيرها إلى أحقاب طويلة. ونحن بإزاء حدث -الحدث الحسيني- لا يزيده الزمان إلا حيوية وتجددا وعنفوانا، إنَّه حدث تجاوز التاريخ ليسكن الخلود، ويعمل على توجيه الحراك التاريخي الإنساني بما يمتلكه من مفاعيل روحية ورامزية عظيمة، نحو تحقيق الانتصار التاريخي الإنساني للخير والعدالة. وما كان له أن يكون كذلك، إلا أنه توافر على شروط وضعته في هذه المكانة من التاريخ. وسنحاول ما وسعنا أن نحلل هذه المكانة التاريخية للحدث الحسيني؛ لنفهم سرَّ هذا التجدد والحيوية، وسر هذه الروح الساكنة فوق التاريخ والمحرِّكة له.
أَوْلا: إن عظمة الحدث في التاريخ ترتبط بعظمة الشخصية التي يتمحور حولها الحدث. ومحور الحدث هو الحسين بن علي -عليهما السلام- الإمام المعصوم. وسنتحدَّث هنا عن العِصْمَة من مُطلق الدائرة الخاصة للمذهب الإمامي، والتي تستند إلى أدلتها من القرآن والروايات، التي تعتبرها –العصمة- جزءا من نظام التكوين، هي جزء لا يتجزأ من منظومة الكون وبنيته التي بها استقراره واستقامته. فكما يترتب على انعدام الشمس مثلا خراب الكون، فكذلك يترتب على فقد الإمام المعصوم خراب الكون. وسنحاول بإيجاز أن نوضِّح للقارئ هذا المعنى المهم في التفسير الإمامي للعصمة. إنَّ معنى أن يكون الإنسان قريبا من الله هو أن يتشبَّه بأخلاق وصفات الله. فكلما كان الإنسان أكثر قُربا من الله أصبح أكثر عِلْمًا وقدرة، وأكثر كمالا. وبالتالي؛ فإنَّ للقرب الإلهي اثرا تكوينيا؛ فالقريب من الله له أثره في التصرف بالموجودات، وكلما زاد الإنسان قربا أصبح له تأثير أوسع وأكبر، وهذا ما يصطلح عليه بـ”الولاية التكوينية”. وبالعكس: كلما كان الإنسان بعيدا عن الله تعالى، كان أثره في نظام التكوين أقل. نحن نجد الروايات عند جميع الفرق الإسلامية تتحدث عن هذا المعنى بوضوح؛ فمثلا في رواية قرب النوافل: ”لا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه؛ فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر، ويده التي يبطش بها”. وفي رواية قرب الفرائض: “إن العبد يكون يد الله وعين الله وسمع الله”؛ يعني يكون العبد مظهرا لمشيئة الله الفعلية. وهناك عدد من الروايات الواردة عن أهل البيت -عليهم السلام- ما تؤكد أن وجود الإمام المعصوم في النظام الكوني ضرورة لاستمراره وبقائه؛ فعن الإمام الباقر -عليه السلام- “لو أن الإمام رفع من الأرض ساعة لساخت بأهلها وماجت كما يموج البحر بأهله”، وعنه -عليه السلام- ورد أيضا: “لو بقيت الأرض يوما واحدا بلا إمام لساخت الأرض بأهلها، ولعذَّبهم الله بأشد عذابه، وذلك أن الله جعلنا حجة في أرضه، وأمانا في الأرض لأهل الأرض، لن يزالوا بأمان من أن تسيخ بهم الأرض ما دمنا بين أظهرهم؛ فإذا أراد الله أن يهلكهم ثم لا يمهلهم ولا ينظرهم، ذهب بنا من بينهم، ثم يفعل الله بهم ما يشاء”.
وَمِنْ هَذا المنظور، يكون الحسين بن علي -عليهما السلام- الإمام الممثِّل لله على الأرض؛ لأنه الأقرب إلى الله في زمان إمامته، وهو المظهر الحقيقي لأسماء لله وصفاته؛ وبالتالي فإنه يحتل مكانة مهمة في سُلَّم الوجود الكوني، وكل ما يدور حول شخصه من أحداث يكون لها رمزيتها الهائلة؛ لأن أفعالها مظهر لمشيئة لله، وتقع في أعلى درجات الكمال الأخلاقي.
ثَانِيا: الأحداث التاريخية ذات طبيعة رمزية -كما أشرنا- ورمزيتها تُعْطِي الحدث التاريخي بقاءً وحيوية، ولا يوجد تناقض بين رمزية الحدث وواقعيته. وهذه الدلالة الرمزية تفتح آفاق التأويل؛ لأن التأويل هو الجهد المبذول لتفكيك رمزية الحدث. كما أن الرمزية هي أفضل وسيلة لتمثل تجربة تاريخية، وتوحي بإمكانات مختلفة لعرض هذه التجربة في مسرودة تاريخية لها حبكتها تماما، فكما للسرد الروائي حبكته التي تربط سير الأحداث والشخصيات داخل الرواية. إنما يمتاز الحدث في الخطاب التاريخي السردي عن الروائي بأنه واقعي، وفي الآخر خيالي من إبداع الراوي. (3:ص26، 46،60-60-64)؛ فالتاريخ عبارة عن قصص تُحْكَى، لكن الأحداث فيها واقعية وليست من صُنع الخيال. والسردية التاريخية للحدث الحسيني تتميَّز بحبكتها المتفردة؛ حيث تطورت الأحداث في هذه الرواية الواقعية من بدايتها إلى نهايتها، مرورا بمفاصل تشكل عقدا فيها بصورة تفتح فضاء لا متناهيا من تمثل هذا الحدث في انساق لسانية وبصرية وفنية؛ لما له من طغيان هائل من الرمزية، لن نبالغ إذا شبهناه بـ”تسونامي” ضخم يكتسح التاريخ، ويمده بمفاعيل التغيير لصالح الخلاص الإنساني. دعونا إذن نتفهَّم الحدث من زاوية التحدي والاستجابة، وهي مفتاح الفهم التاريخي لدى المؤرخ الإنجليزي آرنولد توينبي، الذي من خلالها أسس لرؤية عالمية لأسباب نشوء الحضارات، وازدهارها، ومن ثمَّ تدهورها وسقوطها.
شَكَّل يزيد تحديا خطيرا للأمة والإسلام، وتكمن خطورته في استغلال السلطة من أجل إفراغ الأمة من مضمونها الديني، وإعادة تشكيل الوعي الديني والثقافي على أساس أخلاق الطاعة والعبودية؛ فيُصبح الناس عبيدا للحاكم المستبد، وليسوا عبيدا لله. يعني أن هذه الأمة مُهدَّدة بالموت من الداخل من خلال تعطيل وتغييب الفاعلية الدينية كما أسس لها رسول الله -صلى الله عليه وآله- فهو في الخطورة يماثل السرطان الذي يقضي على الإنسان من الداخل ويتركه فريسة سهلة للموت. إذن؛ نحو إزاء تحدٍّ يهدد الأمة في وجودها -الثقافي والحضاري- ويعرِّضها للموت من الداخل. كان واجبا على الأمة أن تتحرك في مواجهة هذا التحدي، وأن يولِّد هذا التحدي الكبير فيها روح الاستجابة السريعة للحفاظ على المنجز الحضاري والثقافي للأمة. لكنها لم تستجب، واتخذت موقف الصمت والتسليم.. ومن موقف الصمت والخذلان، أخذت سُنن الله الحاكمة في التاريخ مجراها، وأورثت الأمة حُرُوبا وانقسامات وضياعا وتشتتا. ولنا كذلك أن نحيل السر في أزماتنا الراهنة إلى صمت الأمة في ذلك الحين واستسلامها لخنجر يزيد انغراسًا؛ حيث رسخ فيها أن الحاكم هو قدر الله لهذه الأمة، وأن عليها أن تقبل بما أراده الله لها. كان لابد للإمام الحسين -الذي يعرف مكمن الخطورة في تولي أمر الأمة راع مثل يزيد- أن يستجيب، وإن لاذت الأمة إلى الصمت؛ لأن الصمت يعني موت الأمة والقضاء على الرسالة. ولكن الاستجابة لابد أن تكون بطريقة خاصة؛ بحيث تبقي رسالة الإسلام حية في ضمير الأمة، وإن تسلط عليها الطغاة. وتطور الأحداث في هذه المأساة يشي بفرادة الاستجابة الحسينية، وقدرتها على إدارة الحدث برمته من أجل أن تبقى رسالة جده -صلى الله عليه وآله- حية في الضمير والوعي الجمعي للأمة. لذلك؛ كان الحدث يسكن القلوب وليس التاريخ، فكانت مصدرا للأمة، يمدها بالحياة والعزة كلما غالبها غالب أو قهرها قاهر. وعند استعراض تفاصيل الحدث الحسيني والتأمل فيه، سندرك الفرادة على كافة المستويات كاشفة عن أفق ممتد لا نهائي من الدلالات؛ فهناك فرادة على مستوى شخصيات الحدث، وفرادة على المستوى التراجيدي، وفرادة على المستوى الاخلاقي.. فرادة تُلهم الإنسان أن يعود إلى كربلاء ليرتشف من نبعها الصافي ما يضفي لحياته معنى يقف وراء أسوار المادة وقيود الظالمين، إنها تحيلنا إلى معانٍ لا تتوقف.
الحَدثُ الحسينيُّ خالدٌ في الشعور الإنساني، ما بقي إنسان على الأرض ينشد الحق والعدل، وهو خالد أيضا في الشعور الديني؛ قال رسول لله -صلى الله عليه وآله- “إن لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبدا”. وما دام الحدث الحسيني بهذه الأهمية في الوعي الإنساني الحقوقي، فهل ستكون لهذا الحدث إمكانات الانتصار والتحقق؟ هل لمفاعيله الروحية أن تقود سفينة البشرية وترسيها على الشاطئ الذي فيه خلاص البشرية من الظلم والظالمين؟ هل من حتمية تاريخية لانتصار الحق وزوال الظلم من وجه الأرض؟
الحَدث الحسينيُّ وحتميَّة التجلِّي والانتصار
انقسمَ الفلاسفة حول الحتمية التاريخية؛ أي أن يكون للتاريخ الإنساني مسارٌ يؤدِّي إلى نتيجة معينة. وفي مقابل الحتمية التاريخية، توجد حتمية التغير وعدم الثبات والتدفق المستمر؛ بحيث يستحيل علينا أن نقول شيئا محددا عن المصير النهائي للتاريخ. حتمية التغيُّر هي رؤية كونية لشأن الإنساني في فلسفة هيرقليطس؛ حيث يغدو المصير الإنساني غير قابل للتحديد. لا شك إذن أن هذه الرؤية تصيب الإنسانية بقلق بالغ حول مستقبلها؛ فما كان من أفلاطون الذي آمن بعالم المثل الثابت، أن يضع مصيرا مشابها للإنسانية في عالمها المادي؛ تتخلص فيه من الفساد والانحلال الذي طال كافة شئون الحياة؛ وذلك عن طريق التعقل الكامل لعلل الفساد، والعمل على وضع برنامج عقلي يُزِيل آثار الفساد، ويحقق للإنسانية حُلمها في العدالة والسعادة؛ فكانت مدينته المثالية. ينظر الفيلسوف الإلماني الكبير هيجل -الذي تعد فلسفته الأكثر تأثيرا في القرن التاسع عشر- إلى مسيرة التاريخ على أنها مسيرة تطوُّر العقل. وأنَّ التاريخ الإنساني هو عبارة عن جدلية ديالكتيكية بين المادة والعقل، وسينتصر العقل في التاريخ، ويحكم سيطرته على العالم. اعتقد ماركس بمسار حتمي للتاريخ ينتهي بزوال الطبقة الرأسمالية، وتحقق الشيوعية في العالم كهدف نهائي لحركة التاريخ.
يَرْفُض كارل بوبر في كتابه “المجتمع المفتوح وأعداؤه” ما يصطلح عليه بالمداخلة اليوتوبية، أو الهندسة اليوتيوبية.. ومقصوده من المداخلة اليوتيوبية في حقل النشاط السياسي أن يكون لدينا هدف سياسي نهائي يتم من خلاله تحديد برنامج عملي للوصول إليه. قد تبدو -كما يقول بوبر- هذه المداخلة جذَّابة ومُقنعة، خصوصا لهؤلاء الذين تجذبهم الأفكار المسبقة، والتي تختزل تجارب البشرية في اتجاه نهائي. يرى بوبر أن المجتمع المغلق هو الذي يحدد بداية ونهاية للتاريخ، وينظر إلى هذا التحديد النهائي للتاريخ وفق برنامج سياسي عملي يتم من خلاله توجيه المسار السياسي نحو هدف نهائي وكبير؛ من أجل تحقيق دولة مثالية، على أنها محاولة يوتيوبية، وستؤدي إلى ديكتاتورية (4:ص259-263). ويضع بوبر عددا من القضايا بمثابة ركائز في نقد الحتمية التاريخية؛ فهو يقرر أن مسيرة التاريخ تتأثر بنمو المعرفة البشرية. وبما أننا لا نستطيع التنبؤ بالطريقة التي تنمو بها أفكارنا، فإنه كذلك لا يمكننا التنبؤ بمستقبل المسيرة التاريخية؛ وبالتالي فإنه لا يمكن أن تكون هناك نظرية علمية في تفسير التاريخ على أساس التنبؤ (5:ص190).
إنَّ رَفْض كارل بوبر لرؤية كونية لمسار التاريخ بناءً على عدم قدرتنا على الإحاطة التامة بمستقل تطور الفكر البشري -الذي هو عامل مؤثر في مسيرة التاريخ- لهو كلامٌ دقيقٌ يَصْدُر عن فيلسوف ذي منهجية نقدية عالية ويتمتع باستقلالية غير متأثرة بالأفكار السائدة وهو جدير بالاحترام. ولكن دعونا نضيف عنصرا مهما ومؤثرا في مسيرة التاريخ، يدعم مناقشة بوبر الرافضة للحتميات التاريخية؛ وهو: العنصر الأخلاقي. الأخلاق هي الجانب المعنوي في حياة الإنسان، وكل عمل تاريخي -كما أسلفنا- له بُعده الأخلاقي. فلو افترضنا أننا استطعنا أن نحيط علما بتطور المعرفة البشرية، فإن ذلك لا يكفي للتنبؤ بمستقبل المسيرة التاريخية؛ لأننا لا نستطيع أن نتنبأ كذلك بالموقف العملي والفلسفي الأخلاقي العام لمن يباشر الفعل السياسي؛ وبالتالي فإن هذا يجعل من التفسير العلمي للتاريخ مُعقَّدا جدًّا؛ فمثلا بعد أن سادت العقلانية المجتمعات الأوروبية، ظهرت النازية ذات التوجه العنصري، وأشعلت فتيل الحرب في أوروبا، وقضت على منجزات التنوير، وقضت على الأمل في أن تكون العقلانية العلمية الفلسفية المستقلة عن الدين مصدرا لسعادة البشرية.
وَالحَقِيْقة: لو كان الموقف العقدي المعتزلي صحيحًا في مسألة استقلال العبد في أفعاله عن الله؛ حيث تعتقد المعتزلة -أو قسم منهم- أن أفعال العباد قد فوَّضها الله إليهم، لكانت رؤية كارل بوبر على درجة عالية من الصحة. لكنَّ النصوص الصريحة في القرآن والروايات الصَّادرة عن أهل البيت -عليهم السلام- لا تدع لنا مجالا للحياد في مسألة حتمية معينة للتاريخ الإنساني.
يَنْبَغِي أن نُدرك أن مسيرة الإنسان في التاريخ تحيطها العناية الإلهية؛ فلم يخلق الإنسان ليضيع في متاهات الحياة، دون أن يعي الرسالة التي من أجلها خُلق، وإلا لأصبح الخلق عبثا وبدون حكمة. ومن هنا، ندرك خطأ المعتزلة في مُعتقدهم المتمثل باستقلال الخلق عن الخالق؛ لأن الله لطيف بعباده، ومن مقتضى هذا اللطف يحيطهم بعنايته، ويوجِّههم باتجاه الهدف الذي من أجله قامت السموات والأرض، وإلا للزم من ذلك نقض الغرض. وإذا ما استعنا بالفلسفة لوصف الغاية النهائية لحركة التاريخ، فإنه يمكن القول بأنَّ التاريخ يملك استعدادا إمكانيًّا للتفتح عن ثمرة نهائية تقطفها الإنسانية بعد مسيرة العذابات والظلمات في مزالق التاريخ الوعرة، والتي قذفت بالإنسانية في متاهات التشتت والضياع، تماما كما تملك البذرة إمكانا استعداديا لتصبح ثمرة بعد مسار طبيعي خاص، ووفق شروط موضوعية خاصة. ومن مظاهر العناية الإلهية بهذا العالم:
أولا أن هذا الكون خُلِق على النظام الأحسن “الذي أحسن كل شيء خلقه”، وإلا لتنافى ذلك مع كمال لله، وعِلم لله، وحِكمة لله.
ثانيا: أنه لا توجد استقلالية تامة للقوانين الطبيعية والتاريخية؛ لأنَّ العلاقة بين الأثر والمؤثر، أو السبب والمسبِّب، وإن كانت ضرورية، هي علاقة جعلية من الله تعالى، وليست ناشئة من نفسها واقتضاء ذاتها (6:ص25-29). النظام العلي في الكون هو نظام جعلي؛ فترتب السبب على المسبب ليس ترتيبا ذاتيا، وإنما بجعل من الله. وهذا ما يجعلنا لا نحيد في مسألة حتمية معينة لحركة التاريخ، يتجلى فيها الحق، وينبلج كالصباح عندما يشرق بنور الشمس.
وَبتتبُّع النصوص القرآنية، نجد أن هناك حتمية ينتصر فيها الحق على الباطل؛ نطلق عليها حتمية الانتصار.. ففي القرآن الكريم عدد من الآيات التي تعطي وعدا من الله للمؤمنين بالانتصار النهائي والاستخلاف. والوعد الإلهي قضاء مبرم وليس فيه تغيير، يقول الله -عزَّ وجل- في كتابه العزيز واصفا وعده بالتحقق: “وَعْدًا عَلَيْنَا إنَّا كُنَّا فَاعِلِيْن” (الأنبياء:103)، وقوله -عزَّ من قائل- “إنَّه كَانَ وَعْدَه مَأتِيًّا” (مريم:60).. لنستعرض بعضا من هذه الآيات التي تشير إلى حتمية الانتصار، يقول الله تعالى: “لقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون” (الصافات:170-172)، ويقول أيضا: “وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون” (النور:54).
وَهُنَاك غَاية أخرى لحركة التاريخ يستعرضها القرآن في جُملة من آياته؛ نُطلق عليها حتمية التجلي؛ حيث تتجلى صفات الله لمخلوقاته فيدركون عظمته، وكمال قدرته وعلمه. يقول الله عز وجل: “الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما” (الطلاق: 11)، ويقول أيضا: “سنريهم آيتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد” (فصلت:52).
وَلَا شكَّ أنَّ الحدثَ الحسينيَّ بما يمتلكه من مفاعيل روحية هائلة، ويختزن إمكانات التحقق عبر توجيه بوصلة الحركة التاريخية نحو حتمية الانتصار والتجلي. وكما أشرنا، فإنَّ مسيرة التاريخ ترعاها العناية الإلهية، ولا يمكن أن نلتزم برؤية تفسيرية للتاريخ تستبعد الدور الإلهي في الانتصار للحق وتجلي صفات لله لخلقه؛ إذ إن الهدفَ الحقيقيَّ من الخلق أن يتعرف الخلق عليه. الحتمية التاريخية بدون أن تتضمن العنصر الرباني ستؤدي إلى شمولية تحطم الإنسان، كما برهنت على ذلك تجربة الإنسان في التاريخ. أما إذا أضفنا البُعد الرباني، فإنَّ ذلك يمنح الإنسان الثقة والأمل بانتصار الحق وتجليه.
—————————————————-
المراجع:
1-المجتمع و التاريخ ، المفكر الاسلامي الكبير الشهيد مرتضى المطهري، دار المرتضى بيروت، 1988.
2- علامات فارقة في الفلسفة و اللغة و الادب، أحمد يوسف، منشورات ضفاف، الطبعة الاولى2013 .
3- السرد التاريخي عند بول ريكور، جنات بلخن، منشورات ضفاف ، الطبعة الاولى 2014.
4- المجتمع المفتوح و اعداؤه ، كارل بوبر ، ترجمة السيد نفادي، التنوير للطباعة و النشر ، الطبعة الاولى 2014.
5- الفلسفة السياسية ، د علي عبود المحمداوي ، منشورات ضفاف ، الطبعة الاولى 2015.
6- الولاية التكوينية حقيقتها و مظاهرها ، السيد كمال الحيدري ، بقلم الشيخ علي حمود العبادي ، دار القارىء ، الطبعة الاولى 2010.
4,577 total views, 5 views today
Hits: 253