الحريَّة
فايزة مُحمد
يعرِّف الراغب الأصفهاني كلمة “الحرية” في كتابه الشهير “المفردات”؛ بقوله: “حرَّرت القوم إذا أطلقتهم وأعتقتهم من أسر الحبس، والتحرُّر جعل الإنسان حرًّا، والحرُّ خلاف العبد”. وفي الفقه الإسلامي، فإنَّ من مكفِّرات الذنوب تحرير رقبة؛ كما جاء في قوله تعالى: “ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة” (1).
الحرية تعني: التحرُّر من القيود والأغلال التي تكبِّل عقل الإنسان، وتقف حاجزا بينه وبين الإبداع في المجالات المختلفة: الفكر، السياسة، الأدب والحقول المعرفية المختلفة. ويقول الفيلسوف الإنجليزي برتراند راسل (1872-1970): “يُمكن تعريف الحرية عموما بأنها غياب العوائق التي تحول دون تحقيق الرغائب” (2)؛ فالحرية تدفع الإنسان إلى التحرُّر من أشكال الخوف المختلفة التي تحاول السلطات المختلفة ممارستها عليه، وتشكل عائقا لديه للإبداع؛ سواء كان الخوف من: سلطة سياسية لا ترى الحق والصواب إلا في رؤيتها السياسية فقط، أو دينية أرثوذوكسية تعتقد أنها تمثل شريعة الله في الأرض، وأن ما تنطق به في الأرض يُمثل سلطة السماء، ولا توجد سلطة تنافسها أو تعلو عليها، أو اجتماعية تعتقد بأن الحرية تناقض العفة والشرف والأخلاق؛ لأنها تملك مفهومًا للحرية لا يتجاوز فضاء جَسَد المرأة فقط.
لقد شكَّل مفهوم “الحرية” جزءًا من البحوث المهمة والأساسية التي دار فيها الجدل والنقاش بين الفلاسفة وعلماء الدين والكلام؛ ابتداءً بفلاسفة السوفسطائية اليونان، والفلاسفة الكبار؛ أمثال: أفلاطون، وأرسطو، وسقراط، والمدرسة الفلسفية الأبيقورية…وغيرهم، مُرورا بالمذاهب الكلامية الإسلامية المختلفة: كالقدرية، والمعتزلة، والأشاعرة، وليس انتهاءً بفلاسفة العصر الحديث. وقد ذهب السوفسطائيون إلى أن الإنسان يصنع قدره بنفسه؛ من خلال حركته في الحياة دون اعتبار للقدر الذي يرون أنه خرافة، ولا أساس له من الصحة. ولم تكن الحرية التي نادى بها السوفسطائيون مُطلقة، بل مقيَّدة بالفطرة الإنسانية للشخص؛ لذلك رأى السوفسطائيون أن من يحيد عن حدود الحرية يستحق العقوبة التي يذهبون إلى أنها تربية له وإصلاحه.
وإذا تركنا هذه المدرسة الفلسفية العريقة التي اندثرت معالمها ومُحيت آثارها، ولم يتبقَ منها سوى شذرات هنا وهناك -إلا أن تأثيرها لا شك لا يزال موجودا إلى اليوم- وذهبنا إلى أرسطو، نجد أنه يُوافق السوفسطائيين في حرية الاختيار لدى الإنسان، إلا أنه دعا إلى حرية الرغبة والعقل التي لا تتعارض مع الأخلاق والقيم الإنسانية. واشترط أرسطو ضرورة وجود الفضيلة لدى الإنسان حتى يستطيع أن يمارس حريته دون الاصطدام بالرغبات النفسية التي تنافي الأخلاق والفضيلة. ولم يتوقف تعريف الحرية عند فلاسفة اليونان والمدارس الفكرية فيها فحسب، بل امتدَّ إلى فلاسفة المسلمين والمدارس الكلامية فيها، خاصة بين المعتزلة والأشاعرة والمرجئة، ولكنه لم يخرج عن إطاره اللاهوتي الذي انحصر في طبيعة العلاقة بين الله والإنسان، دون أن يتجاوز ذلك إلى العلاقة بين الشعب -أو الرعية؛ حسب الاصطلاح الإسلامي- والسلطة السياسية. وكان الفيلسوف الكبير الفارابي استثناءً في ذلك بين فلاسفة المسلمين؛ فقد بحث موضوع الحرية ضمن كتابه الشهير “آراء أهل المدينة الفاضلة”، ولكنه لم يخرج عن التفسير الأرسطوي لها سوى أنه ربطها بالعقل والإرادة والقدرة على الاختيار بين الخير والشر؛ بمعنى أنَّ الحرية عند الفارابي ليستْ مُطلقة، وإنما مقيَّدة بحدود العقل، وهي المسألة التي تمت مناقشتها باستفاضة في عهد التنوير الأوروبي؛ اعتبارا من القرن السابع عشر وما بعده.
وتنقسم الحرية إلى أشكال مختلفة؛ فهناك: الحرية الفلسفية، والحرية الدينية، والحرية الاجتماعية…وغيرها. وكلُّ هذه الأشكال تجمعها كلمة واحدة؛ هي: “الحرية”. الحرية الفلسفية تضمن للإنسان حرية التفلسف، وإعمال العقل في الحقول الفلسفية والمعرفية المختلفة، والحفر في المناطق العميقة لها؛ من أجل إثراء المجتمع بالجديد في عالم الفكر والمعرفة. أما الحرية الدينية، فتضمن حقَّ الفرد في ممارسة شعائره الدينية بكل حرية، وأما الحرية الاجتماعية فتضمن حق الفرد في التمتع بحقوقه الاجتماعية المختلفة دون أن تفرض عليه الدولة حقوقاً معيَّنة؛ سواء باسم الدين أو الأخلاق، وهكذا الأمر بالنسبة للحقوق الأخرى.
ودفاعا عن الحرية بأشكالها -السياسية والاقتصادية والفكرية- عرفت أوروبا في القرن السابع عشر نظرية لم يعرفها العالم من قبل، بعد أن بدأتْ أصنام التفكير الأوروبي تتساقط معرفيًّا بفضل مطارق فكر التنوير، ودشَّنت عهدا جديدا لأنماط التفكير في هذه القارة العجوز.. تلك النظرية تتضمَّن حقَّ الفرد في التمتع بالحرية وممارستها؛ سواء: في علاقته مع الدولة أو الآخرين، وهو ما يُعرف بـ”العقد الاجتماعي “. وكان أبرز مفكري تلك النظرية: الفيلسوف الإنجليزي جون لوك (1632-1704)، صاحب كتاب “رسالتان في الحكم”، والفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو (1712-1778)، الذي ألف كتابا بهذا العنوان، ومونتسكيو (1689-1755)، الذي اشتهر بكتابه “روح القوانين”…وآخرون. ولكن الشعوب الأوروبية لم تنعم بالحرية السياسية بعد أن خرجتْ من وهاد ظلمات القرون الوسطى الاستبدادية إلا بعد سنوات طويلة، وبعد أن قدمت آلاف الضحايا في سبيل الحصول على هذا المبدأ الإنساني السامي بأشكاله المختلفة وتجلياته المتنوعة؛ سواء: من حيث حرية التعبير عن الرأي، أو حرية الانتخاب، أو الحرية الفكرية. ولم تهتف هذه الشعوب بنشيد الحرية الخالد وتتنسم عبير عطره الفواح إلا بعد أن وصلت إلى مرحلة من الوعي الثقافي والعدالة الاجتماعية؛ بحيث باتت تدرك -بالفعل- معنى كلمة “الحرية”، وكيف نؤمن بحريتنا دون أن نعتدي على حريات الآخرين؛ حدث ذلك بعد أن شهدتْ تلك القارة ثورات مختلفة؛ أبرزها: الثورة الفرنسية (1789)، التي أعقبت سنوات طويلة من مسلسل الحكم الدموي، وبعد أن دفع الفرنسيون آلاف الضحايا كانت إفرازا طبيعيا للتناقضات الاجتماعية والسياسية والفكرية التي برزتْ بعد نجاح الثورة بين الفرقاء المختلفين؛ مما يدل بشكل واضح على أن طريق الحرية ليس مفروشا بالورود، ولا تقدَّم للجماهير على طبق من ذهب أو فضة، ولا تصدر بمرسوم سياسي، وإنما بعد طريق طويل من الوعي بالذات والتحرر من الانغلاقات اللاهوتية والسياسية التي تقف حجر عثرة أمام التقدم إلى الحداثة والديمقراطية والحرية. وقد واجهتْ الحرية الفكرية -مثلا- صعوبات جمَّة في أوروبا بعد عصر التنوير، خاصة من قبل الفئات التي امتهنتْ التعصب ديناً لها، ولكنها صمدتْ أمام جميع العواصف، وانتصرت قبل أن يؤمن الجميع بأن حرية الفكر هي الطريق إلى التخلص من استبداد الفكر الواحد، وتحرير الفكر من أغلال النصوص وإعادة فتحها وتفكيكها؛ من أجل إعادة بنائها من جديد. وأما الحرية الاقتصادية، فإنها وإن استطاعتْ تحرير السوق من سيطرة الدولة، وإنعاش حركة التجارة والاقتصاد، إلا أنها في المقابل أطلقت العنان للوحش الرأسمالي ليكشِّر عن أنيابه الحادة، ويكتسح الأسواق العالمية، والسيطرة عليها دون أن تأبه بمليارات من البشر يعيشون في العراء، ويعانون الحرمان من أبسط احتياجات الإنسان اليومية للعيش، بل ويكابد أغلبهم الجوع والعطش، دون أن تحرك الحرية الرأسمالية ساكنا من أجل هؤلاء، بل لا تألو في زيادة سحقهم إن حركوا ساكنا لتغيير الوضع؛ فالسوق -كما يقول الفيلسوف الفرنسي روجيه جاردوي في كتابه “حفارو القبور”- أصبح دينا جديدا له طقوسه التي لا تسمح الحرية الرأسمالية بانتهاكها والاقتراب من ساحة قدسيتها، أو الخروج على طقوسها.
ليست الحرية حقا مكتسبا يستطيع الكائن البشري الحصول عليه هبة من حكومة أو نظام سياسي، وإنما هي حقٌّ فطري يُولد مع الإنسان بعد خروجه إلى الحياة واستقبال العالم الجديد، كما جاء عن الخليفة العادل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لعامله في مصر: “متى استعبدتم الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟!”. ولا تستطيع أية جهة سلب هذا الحق منه إلا في إطاره الخارجي أو القانوني فقط، ولكنه في داخله يظل حرًّا، ويتنعم بحريته، ويترنم بنشيدها، ويتلو قصائدها؛ حتى وإن حسب آخرون أنه ليس كذلك؛ فالحرُّ حرٌّ، ويعيش حريته حتى وهو مقيَّد بالأصفاد ويعيش في غياهب السجون والمعتقلات. إنَّ الحرية ليست فقط شعارات أو هتافات تُرفع، وإنما فكر وممارسة أيضا: أن نحترم حريات الآخرين وحقهم في ممارسة النقد على منظومة المبادئ والقيم والأفكار التي نؤمن بها، والتي ربما يرى آخرون أن جزءا منها غير صحيح، أو لا تتفق مع قيم الحرية وفق المنظور الفكري الذي يؤمنون به.
إنَّ الحرية شجرة لا تنبت في بيئة مسمومة، وإنما في بيئة نظيفة تستطيع النمو من خلالها بشكل طبيعي؛ حتى تنتج ثماراً طيبة. أما إذا تم غرسها في بيئة غير نظيفة ومليئة بمختلف العاهات الاجتماعية والسياسية…وغيرها، فإنها لا تستطيع أن تنمو بشكل طبيعي وسليم، بل حتماً ستتأثر بالأجواء المريضة التي تحيط بها، وتنحرف عن الأجواء الصحيَّة؛ حتى تكوي الجميع بنارها، وتحرق الأخضر واليابس.
—————————-
المراجع:
1- القرآن الكريم، سورة النساء؛ الآية رقم: 92.
2- كتاب “الفلسفة ببساطة”، لبرندان ولسون؛ ص: 48.
8,540 total views, 2 views today
Hits: 363