الهُوية بين التفاعل الحضاري والاندماج
إيمان شمس الدين
الهُوية هي المُعرِّف عن فرد أو مجتمع أو دولة، تدلُّنا على الثقافة والأيديولوجيا السائدة وطابع العادات والتقاليد؛ فترسم معالم المشهد الإنساني، وطريقة تفاعله مع ذاته ومحيطه؛ فتكون بمثابة المفتاح الذي من خلاله نقرأ داتا الفرد والمجتمع، وتتضح آليات التواصل والاتصال بين مختلف الشعوب والمجتمعات والأقطار.
التفاعل الحضاري:
للهُوية معالم ثابتة تعبِّر عن شخصية اعتبارية لحاملها، وتؤثر في محيطها، ولكنْ لها في الوقت ذاته جانب متأثر تأثرا خاضعا لظروف العصر -أي الزمان والمكان- حيث جانبها المتغيِّر الذي يتطور من خلال التغافل الحضاري مع الثقافات الأخرى، وما أعنيه بالتفاعل الحضاري هنا هو تداخل إيجابي يؤثر ويتأثر، ويطوِّر وينهض من خلال استفادته من تجارب الهُويات الأخرى الإيجابية النهضوية، دون أن تتغير ملامحه الثابتة التي تمثل بصمته الخاصة.
الغرب بين الإحلال والتفاعل:
جاء المشروع الإسلامي بفهم حضاري للتفاعل يهدف منه إلى أمرين؛ الأول: تفعيل القيم الثابتة في فضاءات المعرفة لكل ما هو خارج الجسد الإسلامي؛ حيث القيم الثابتة جزء من الفطرة الإنسانية وتفعيلها كسلوك؛ حيث التفاعل يعمل على إزالة الحُجب عن النفس لتمرير تلك القيم التي تمهد الطريق لتحقيق العدالة بين كل البشر. وهو ما يتطلب لوازم؛ أهمها: امتلاك هذه الحضارة مقومات التأثير من مكنة واكتفاء ذاتي وتكافؤ علمي وتحقيق منجز حضاري فاعل في حياة الإنسان يُسهِّل عملية السريان المعرفي بين الإسلام وغيره من الحضارات.
والأمر الثاني: المواكبة والمعاصرة، التي لا تتحقق إلا من خلال الاطلاع على تجارب الحضارات الأخرى، والاستفادة من إبداعاتها العلمية، ونهضتها القيمية في الجانب المشترك الإنساني، مع الأخذ بعين الاعتبار الاختلافات المنهجية والمنطلقات القاعدية لكل حضارة؛ أي هو تواصل واتصال ومشاركة واكتساب خبرات تفعل المسكوت عنه في اللاوعي الإنساني، وتطور من نظرة المجتمعات للحياة، وتزيل الأغلال غير السليمة التي توارثتها المجتمعات عن الآباء دون وجود مسوغ عقلي وشرعي لها.
أهمية التفاعل:
تكمُن أهمية التفاعل في أمور عديدة؛ أهمها:
- توسيع المدارك المعرفية، وتنضيجها بالاطلاع على تجارب الآخرين البشرية.
- تفعيل مفهوم التعدد الإيجابي، وثقافة الخروج من الصندوق، وإرساء مفهوم تعددي يوسع مساحات الاشتراك المعرفي؛ وبالتالي يفعل عمليا مفهوم التعايش والتسامح الحضاري على أساس التكافؤ الإثني، وليس الإحلال والإلغاء.
- ينضج القدرات العقلية في فهم الدين بما يحفظ خاتميته ودون المساس بخلوده، ويعمل على تذليل العقبات أمام العقول من خارج الجسد الإسلامي لفهم هذا الدين الخاتم، ومحاولة ترصيف رؤيتهم الكونية بمفاهيمه عن التوحيد والعبودية.
- يبسط نفوذ الله قبال نفوذ القداسات السياسية والدينية؛ حيث تفعيل مفهوم العبودية والحرية الحقيقية يزيل كل الحجب العقلية في لا وعي الشعوب التي اشتغل عليها المستبد؛ أيًّا كان لاستعباد الجمهور وتمكين سلطته عليه. وهو ما يستدعي تفاعلًا مقتدرًا ومدركًا للآخر، ويمتلك المكنة في اختراق لا وعيه بوسائل يفهمها هو، ويمكنها الوصول إلى عقله وقلبه.
معايير التفاعل الحضاري:
- يحتاج التفاعل مكنة وقدرة واكتفاءً ذاتيًّا يكون إمَّا مُتكافئ مع الآخر، أو يسبقه بدرجة، وهذا من مقوِّمات التحصين الذاتي للثوابت ومقومات الوجود؛ فيكون التفاعل من موقع التأثير والتأثر الإيجابي. هذا لا يعني عدم توافر المكنة كما هي حالنا أن ننغلق على ذاتنا، ولكن تصبح مساحة التفاعل أضيق حفاظا على الهُوية لعامة الناس، فيكون التفاعل مقتصرًا على طبقة النخب، والتي تسعى بتفاعلها هذا لتحصين الداخل، وإيجاد إجابات للتساؤلات المطروحة نتيجة تسرُّب ثقافة الآخر للجسد، دون وجود ضوابط ولا حصانة ولا مكنة؛ فتكون النخبة بمثابة الفلتر الذي يُحاول تثبيت الثوابت وغربلة الشوائب وممارسة عمل تحصيني قادر لا أقل على درء الشبهات وحماية الهُوية، دون أن يطمح للتأثير إلا في نظاق النخبة عند الآخر؛ فتتغيَّر الأولويات هنا نتيجة عدم توافر المعايير من أولوية التأثير الواسع إلى أولوية التحصين مع التأثير المحدود، والسعي الدؤوب لتوفير معايير التفاعل الحضاري.
- لا يُمكن أن يتم التفاعل الحضاري مع توفر معاييره، إلا إذا كانت بنية الأمة قوية وهويتها محصنة بشكل علمي برهاني، بل لديها فلتر للشبهات وقادرة على مواجهة كل محاولات الإقصاء، وتمتلك العزة والكرامة، وهما قيمتان تحافظان على الهُوية من خلال تحقيق حالة الاعتزاز بها، وهذا لا يحدث إلا من خلال تأسيس المجال الإدراكي للأمة، وتحصينها بالعلم والمنهج البرهاني الذي يحاور ويمتلك وعيا وجوديا ومنفتحا على الآخر ومدركا له ولمبانيه. فالعلم معيار أساسي في عملية التفاعل الحضاري، وأعني هنا معرفة الذات معرفة عميقة، ومعرفة الآخر أيضا معرفة عميقة وامتلاك أدوات منهجية علمية رصينة في مشروع التفاعل الحضاري.
الغرب ونزعة الهيمنة:
تاريخيًّا، نشأتْ أوروبا على أساس نزعات الهيمنة والتوسع، وكانت الحروب والإغارات الوسيلة الأنجع في بسط النفوذ وفرض النموذج الثقافي والسياسي، ومع التقادُم وبعد عَصر التنوير بالذات وتضاؤل هيمنة الكنيسة، وما حققته أوروبا من اكتشافات علمية هائلة مكَّنتها فيما بعد من الهيمنة على الطبيعة، لم يغير ذلك من نزعتها للتوسع والهيمنة باحثة عن الثروات الجغرافية والمعدنية، وعلى رأسها ثروة الطاقة؛ فقامت باستعمار كثير من دول منطقتنا، وخلال الاستعمار العسكري مارست استعمارًا ثقافيًّا، حاولت من خلاله السطو على المجال الإدراكي للشعوب المحتلة؛ حيث ركَّز المستعمر على المجال التعليمي؛ ففتح مدارس تابعة له وهو من يضع مناهجها، وكان من خلال التربية والتعليم يفرض قيمه ونظرته الوجودية ورؤاه المعرفية وبنيته القيمية، دون أن يعمل أيَّ اعتبار لاختلاف الثقافات والهُوية، بل كان من موقع القوة والنفوذ لا يريد فقط أن يهيمن على الأرض والثروات، بل حتى على عقول البشر ليمحو كل اتصال لهم بهويتهم الخاصة، ويرسم لهم معالم هُوية جديدة مرتبطة به هو حتى يتحول وجوده في ذهنية الشعوب المحتلة من مستعمر إلى وجود ضروري تحتاجه الشعوب لتحقيق طموحاتها في العلم، بعد أن كانت ترزح تحت وطأة الاستبداد العثماني لترى فيه الخلاص، كما كان يطمح المستعمر لأن يطرح نفسه لتلك الشعوب على أنه خلاصها من الاستبداد.
وفي هذه المرحلة من الاستعمار العسكري، لم تُفلح محاولاته تلك، بل تحوَّل من مخلص إلى مستعمر، ترى فيه الشعوب وحشًا يريد أن يفتك بها؛ فكان القرار هو المقاومة التي تعني مزيدا من التمسك بالهُوية، ورفضا لكل ما له صلة بهذا المستعمر، وهذا لا يعني عدم تأثر كثيرين بهُوية هذا المستعمر وببنيته الفكرية والفلسفية، لكن كان الجو الغالب هو الرفض والتحصين ومزيد من التمسك بالهُوية.
وهنا، تشكَّلت لدينا تيارات في كيفية التعامل مع المستعمر للأرض:
أ- تيار وجد فيه الخلاص، وانجذب لكل محمولاته العلمية والثقافية، ليصبح جزءًا منه، ولم يتوان هذا التيار حتى من التعاون عسكريًّا معه ضد أرضه وشعبه؛ كون مكنة المستعمر العسكرية والعلمية استطاعت السطو على المجال الإدراكي لكثير من النخب الذين بهرتهم الإنجازات العلمية والحضارة الغربية ببعدها المادي الذي قدَّم خدمات للإنسان، وسهل عليه حياته كما يظهر للوهلة الأولى.
ب- تيار رفض رفضًا كبيرا وحاسما كلَّ ما له علاقة بهذا المستعمر، حتى لو كان على مستوى العلم والثقافة بما هو نافع، ويُمكن أن يقدم تجربة بشرية تدفع باتجاه مزيد من توسعة المدارك؛ وذلك لأن المستعمر هيمنته العسكرية ومطامعه التوسعية ونزوعه نحو إقصاء الآخر استخدمَ العلم ليس لأجل خدمة الآخر، بل كوسيلة للهيمنة عليه وإقصاء ثقافته وهويته؛ لتحل محلها الهُوية الاستعمارية وثقافتها.
ج- تيار امتلكَ نوعًا من المرونة، واستطاع الاستفادة من المنجز العلمي، ولم يسمح مع ذلك من تغيير الهُوية، ولا الإحلال الثقافي، بل كان مُحصَّنا ضد أي نوع من الإحلال، لكنه استفاد من منجزات الغرب الحضارية والعلمية.. وهم في ذلك الوقت قلة، لكنهم نُخبة.
وبعد الانسحاب العسكري -نتيجة ضربات المقاومة، وتقسيم المنطقة، ووضع أنظمة مستبدة وموالية للمستعمرين- بدأت عملية غزو وحرب من نوع آخر، تهيِّئ أرضية وقابليات الشعوب لتصبح سوقا استهلاكية لسلع الغرب.
وظهرتْ ازدواجية الغرب في رفع شعارات حقوق الإنسان وفي ذات الوقت دعمه لأنظمة استبدادية قمعية، وكانت شعارات الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان كورقة ضغط في يده، يستخدمها ضد الأنظمة لتمرير مشاريعه، خاصة تلك المتعلقة بتمكين الشركات الكبرى في الغرب من السيطرة على الأسواق الداخلية.
وفي تقرير حول ممارسات صندوق التقد الدولي يوضح وحشية الممارسات التي يقوم بها هذا البنك، تحت شعار “الإنماء وسد العجز”؛ حيث يُوضح التقرير أنَّ الصندوق يعيد خلق العالم على صورته، ويوضح كيف يبشر بـ”دين” أوحد للتقدم. ويذكر التقرير أنه” عندما تم إنشاء البنك الدولي وصندوق النقد الدولي في سنة 1945، مباشرة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية؛ كان الهدف المعلن من هذه المؤسسات المالية العالمية هو العمل على “تعزيز الاستقرار المالي والتعاون في المجال النقدي على مستوى العالم”، لكن وبعد تتبُّع آثار تدخلات هذه المؤسسات في البلدان النامية خصوصًا، يتَّضح وجه آخر لتعاملات مشبوهة غير تلك المعلنة؛ فمن خلال استخدام الشروط نفسها والحلول الماليَّة نفسها في التعامل مع مختلف الدول التي تطلب القروض من هذه المؤسسات، تدفع بأجندة تخدم مصالح الشركات الكبرى وأصحاب الأموال من جهة، إضافة للدول التي تملك نفوذًا كبيرًا داخل هذه المؤسسات بطبيعة الحال.
وتروِّج هذه المؤسّسات المالية العالمية لسياساتها على أنها المنفذ الوحيد للدول التي تعاني عجزًا ماليا، وبتقديمها للقروض المالية المشروطة بتنفيذ هذه الدول المعنية سياساتها الليبرالية؛ فإنها تُحكم قبضتها على الاقتصاديات الناشئة وترهن مستقبلها، وتجعل أسواقها في أيدي الشركات العالمية الكبرى بعد فتحها ورفع أيدي الدولة عن التنظيم ومتابعة السوق؛ مما يُدخلها في منافسة غير متكافئة.
ما إن تلجأ أي دولة لأخذ قرض من صندوق النقد الدولي، فإنَّ الصندوق يبدأ في تشغيل الأسطوانة نفسها، وتلاوة القائمة المتكررة من الشروط والطلبات: إصلاحات هيكلية في الاقتصاد تتضمن بيع الشركات المملوكة للدولة، وتقليص الموظفين في القطاع العمومي وتقليص رواتبهم، وفتح الأسواق للاستثمارات الأجنبية بلا شروط، وتشجيع الاستيراد وتقليص الدعم الحكومي للفئات الفقيرة، والتخلي عن حماية العمال والفلاحين وإضعاف النقابات.” ويذكر التقرير تجربة الصندوق مع مالاوي قائلا: “تحولت مالاوي إلى مجرد أراضٍ زراعية يتحكم فيها لوبي السجائر العالمي، ويحرص على مصالحه التجارية بشكل قانوني تمامًا، بفضل السوق المفتوحة التي فرضتها المؤسسات المالية العالمية. ومن أجل أن يُدخن الأوروبي أو الأمريكي السجائر بأرخص سعرٍ مُمكن، لا بأس أن يجوع الملايين في مالاوي وغيرها من البلدان النامية التي زارها مسؤول من صندوق النقد”.
حيث أشار تقرير للجارديان البريطانية إلى أن سياسات صندوق النقد الدولي قد “أدت بمالاوي إلى المجاعة”؛ فالدولة الإفريقية التي قررت-تحت ضغط الصندوق- خصخصة قطاع البذور وتحريره من يد الدولة التي كانت تنظم الأسعار، وتضمن اكتفاءً ذاتيا من البذور، وجدت نفسها في سنة 2002 أمام مجاعة هي الأسوأ منذ 1949، وقد بلغت خدمات ديون مالاوي في تلك السنوات 70 مليون دولار أمريكي، أو ما يمثل 20% من ميزانية الدولة، وهو ما يُمثل أكثر من ميزانية الصحة والتعليم والزراعة مُجتمعة، في بلد ما زالت أوضاعه الاقتصادية معلقة بيد دائنيه، وتقلبات الأحوال الجوية” . هذا النموذج الذي يفرض وجوده ثقافيًّا واقتصاديًّا، من خلال ضرب كل مقومات الاكتفاء الذاتي للدول المقترضة لتصبح أسيرة بشعبها لقرون لشره نُخبة اقتصادية تهيمن على كل مداخيل الدولة لإفقار أهلها، وتجرِّدهم من كل مقومات الحياة؛ وبذلك تحقق استعمارا خفيا تحت شعار الدعم والمساندة.
وبعد العولمة بالذات، ورفع شعار صدام الحضارات، والمتصل بماضي الغرب في شرهه للتوسع والهيمنة وإحلال قيمه وهويته، فقد برزت حرب ناعمة تستهدف الهُوية في عُمقها الوجودي، تاريخيًّا بضرب كل جذورها المتصلة بالماضي، وقيميًّا بضرب قيمها المعنوية والثابتة، وإحلالها بقيم مادية استهلاكية شرهة.
ونتيجة الاستبداد وإفقار الشعوب ماديا وعلميا وتحويل وجهة أغلب هذه الشعوب، من هدف طلب العلم والنهضة والكرامة والحرية والعدالة، إلى السعي الدؤوب اليومي الذي يلهث فيه الفرد لسد رمقه ورمق عائلته، أي بسعي حثيث وراء رغيف العيش، ورغم أنَّ هناك دولا غنية جدا بثرواتها المالية، إلا أنَّ معدلات الفقر والبطالة فيها مرتفعة بسبب فساد السلطة، وسيطرة نخبة طبقية على مقدرات الشعب، وشراء ذمم الغرب بشره شراء السلاح بحجة الأمن على حساب التنمية والاستثمار الحقيقي في الإنسان.
ولأنَّ الغرب مُتقدِّم علميًّا وتكنولوجيًّا بما يخدم الإنسان في بُعده المعيشي الدنيوي، ومع تقديم نموذج للإسلام مُتخلفا، اقتنعتْ أغلب الشعوب، وتم تحت هيمنة الإعلام العالمي القوي الربط بين الإسلام والتخلف، والغرب والتمدُّن والحضارة، ومع تقصير كثير من الإصلاحيين والنهضويين عن تقديم نموذج سلوكي حضاري للإسلام تظهر آثاره في الدنيا على نهضة الإنسان، فإن ذلك أزال كلَّ العقبات أمام عولمة النموذج الغربي في كل أبعاده الحياتية والسلوكية والقيمية؛ حيث هيمنت المدرسة الوضعية الغربية على مجالنا الإدراكي، وبات كل شيء خاضعا في تقييمه للتجربة والحس، واضمحلَّ عالم الغيب والمعنى؛ بسبب عدم وجود نموذج عملي سلوكي يقدِّم الإسلام على أنه واقعًا دين حياة.
ورغم أن الدين هو للدنيا والآخرة، إلا أنَّ عوامل كثيرة أدت لتنحيته عن الدنيا، وتشويه صورته، وحرف دوره النهضوي لدور تعطيلي تخديري، بعيدًا عن كل دعوات النهضة والحياة.
ولكن: كيف واجهتْ منطقتنا المنكوبة بالاستبداد، والمكتوية بالتطرف، والمثقلة بحجم التآمر عليها، كيف تواجه العولمة والحرب الناعمة على هُويتنا، بل وجودنا؟
الزوال الاندماجي:
يقُوم على أساس الاندماج غير المدروس مع الثقافات الأخرى؛ بحيث تقوم القوى الناعمة على اختراق الهُوية الخاصة، وتفكِّك بناها الأساسية التي تقوِّم وجودها، ومن ثمَّ تعمد إلى تفكيك منهجي لكل مقومات الهُوية، وتعيد تشكيلها من خلال عملية الإحلال لثقافتها، ومع التقادم تذوب المجموعة المندمجة في هذه الثقافة، وتزول معالم هويتها تماما، وتنشأ أجيال على الهُوية الجديدة التي تشكلت نتيجة الإحلال الناعم. وهذا ما تقوم عليه فكرة الاستعمار، بل والعولمة التي هي استعمار خفي.
هذا ما أدركه اليهود، ودفعهم تحت عنوان “شعب الله المختار” إلى الانعزالية، وتشكيل جيتو خاص لهم، يضمن الحفاظ على هويتهم اليهودية، ويمنع أي عملية زوال اندماجي مع التقادم. لكنَّ الله رسم معالم الاندماج الصحيح حينما أسَّس له أسسًا تمنع الاندماج غير المدروس، لكنها تتفاعل مع الثقافات والمجتمعات الاخرى على أساس:
1- التعارف القائم على تبادل الخبرات والاحترام المتبادل للخصوصيات، والاستفادة من النافع لتطوير الهُوية وتطوير القراءة للحياة.
2- التقوى التي يراعي فيها كل طرف حدود الله بحق الطرف الآخر، وهذه المراعاة تحقق العدالة وتمنع الظلم.
3- التفاضل مشروط بالتقوى، والأفضلية هي من تصنيف الله، وليس من شأن البشر؛ حيث قال عز من قائل: يَا أَيهَا الناسُ إِنا خَلَقْنَاكُم من ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِن أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِن اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ” .
فتصبح الفكرة: التفاعل الاندماجي الذي يطور الهُوية، ويعزز وجودها، وينقلها بصيغ متطورة للأجيال، مُحافظا على ثوابتها، ومطورًا لمتغيراتها الخاضعة للزمان والمكان، ومعززًا لكرامتها بالتقوى التي تدفع المجتمعات للتفاعل ضمن دائرة العدل وعدم الظلم وحفظ الحقوق. إلا أن الواقع اليوم يميل ليس للتفاعل، وإنما للزوال الاندماجي، الذي يُحاصر هُويتنا من كل جهة، ونتيجةً لهذه المواجهة الناعمة ظهرت مدارس عديدة في التفاعل مع هذه الحرب الناعمة:
- التفاعل مع روح المدرسة الوضعية، وإخضاع الواقع كله للحس والتجربة، ورفض كل ما هو خارج هذا الإطار، وهؤلاء رفضوا كل مصادر المعرفة الإسلامية غير الخاضعة للحس والتجربة بما فيها القرآن والتراث الحديثي.
- الرفض المطلق لكل ما هو غربي، والانكفاء على الذات، والتمسك بالماضي بكلِّ مُثقلاته، وأحيانا العيش به. * محاولة المواءمة التلفيقية الترقيعية بين الإسلام والغرب دون الالتفات للاختلاف الجذري في البنية الفلسفية والمعرفية بينهما، ومحاولة ترقيع اصطلاحي لكثير من المعارف الغربية مع متشابهاتها الظاهرية في الإسلام؛ مما أنتج جنينًا مشوهًا غير قادر فعليًّا على التطبيق؛ نتيجة المغالطات والتناقضات الكثيرة أثناء تطبيق هذا النموذج الترقيعي التلفيقي.
- تيار استطاع الاستفادة من الأدوات المعرفية المتطورة وتجربة الغرب الغنية في المجال المعرفي والمنهجي، مع الأخذ بالحسبان الاختلاف البنيوي بين المدرستين الإسلامية والغربية، إلا أنه تفاعَل تفاعلًا حضاريًّا نديًّا محافظاً على ثوابته، ومستلهما مناهجها وأدوات جديدة في إعادة قراءة تراثه واستكشاف كنوزه المخبوءة خلف النمطية والتقليدية والانغلاق على الذات وخلف البيئة والقبليات الحاكمة. فمارس محاولة الخروج من الصندوق، وانتفع بالأدوات والمناهج المعرفية المتطورة، وتفاعلَ بضوابط نهضوية وليست اندماجية مُشوهة للهُوية ولا ماحية لها، بل ناهضة بها وفق متغيرات الزمان والمكان. مفرِّقا بين السياسة الغربية ومقاصدها التوسعية الغربية، وبين المعارف والتجربة البشرية المعرفية دون إغفال خلفيات تلك الثقافة وطموحها.
إذن؛ نحن لا نُنكر أننا أمام مرحلة تاريخية حسَّاسة تُعرِّض المشروع الإسلامي برُمته للخطر في ذهنية الأجيال الحالية والقادمة، التي باتتْ بحاجة مُلحَّة إلى أن يقدِّم الإسلام نموذجا حضاريا للدنيا، يحل لها كل إشكاليات الراهن، ويقدم حلولا واقعية تلمسها في أبعادها العلمية والعمرانية والذاتية.. لم تعد التنظيرات حول أن الإسلام هو الحل، ولا أنه دين حياة -مع استحضار أدلة نظرية على ذلك- مُجديا نافعا ومقنعا، مع انفصال هذه النظريات عن الواقع الحياتي والسلوكي، هذه الفجوة بين النظرية والواقع كفيلة بنسف النظرية مع صحتها من أذهان الأجيال القادمة، ونسف كل منظومة القيم والمبادئ والمعايير والثوابت معها، تتبلور قيم ومعارف ومعايير مختلفة تماما، ويتحقق الإحلال الثقافي التام، وتتبدل الهُوية إلى هُوية مختلفة تماما عن تلك التي أرادها الإسلام، وصنعتها أيدي رجال التاريخ من الأنبياء وتضحياتهم العظيمة لأجل ذلك؛ فهم سعوا لتقديم نموذج ديني حياتي قادر على حل الإشكاليات التي تواجه الإنسان، لكن تحول الدين بعد ذلك -على أيدي المستبدين- إلى وسيلة للقمع والتخدير، وسلب الإنسان إنسانيته، وتعويضه عن ذلك بأخرى، لا يُمكن أن تكون كما صنعها الفراعنة؛ كَوْن الدين لصناعة دنيا عامرة بذكر الله، لتعبر بالإنسان إلى آخرة يكون فيها مخلدا في النعيم، إلا أنَّ المستبدين الذي استعبدوا الناس باعوا لهم آخرة من صنعهم هم، وعطلوا دنياهم يتحول الدين إلى أغلال العبودية بعد أن جاء ليحرِّر تلك الأغلال ويصنع إنسانا متألها.
التحدي الكبير اليوم هو النموذج العملي للإسلام، الذي يقدم برنامجا عمليًّا سلوكيًّا للحياة، ينهض بالإنسان، ويحقق طموحه في الدنيا في العُمران والعلم والنهضة. وليس فقط مجرد نظرية بأدلة علمية غير خاضعة للتطبيق.
وأمام هذا التحدي، نقف عند مُفترق طرق؛ أحدها إلى الآن مُهيمن ومُستمر في دك الهُوية، وإحلالها بهويت أخرى خاصة تصبُّ في صالح استعباده للعالم وفق شرهه الرأسمالي، والثاني يترنَّح بين المواجهة والاستلام.
4,064 total views, 2 views today
Hits: 176