الإمام الغزالي وفلاسفة الإسلام
محمد حسين بن موسى اللـواتي
(1)
المدخل:
نُحاول في هذا المقال أنْ نُلقي الضَّوءَ على الأسس التي أعتمدها الامام أبي حامد الغزالي في محاكماته للفكر الفلسفي الاسلامي وقراءة تلك الأسس لأجل التحقق من مدى واقعية الأحكام التي نتجت عن أسسه تلك تجاه الفلسفة والفكر الفلسفي الاسلامي بشكل عام.
طرح القضية:
((ثم رد “أرسطاطاليس” على “أفلاطون” و”سقراط” على من كان قبله من الإلهين، ردًّا لم يقصر فيه حتى تبرَّأ عن جميعهم، إلا أنه استقى من رذائل كفرهم وبدعتهم، بقايا لم يوفق للنزوع عنها. فوجب تكفيرهم وتكفير شيعتهم من المتفلسفة الإسلاميين “كابن سينا” و”الفارابي” وأمثالهما)) (1).. بهذه العبارة عبَّر الإمام الغزالي عن اعتقاده في الفلسفة والفلاسفة.
ثم أضاف قائلا “على أنَّه لم يقم بنقل علم “أرسطاطاليس” أحد من المتفلسفة الإسلاميين كقيام هذين الرجلين، وما نقله غيرهما ليس بخلو عن تخبيط وتخليط. بتشوش فيه القلب المطالع، حتى يفهم، وما لا يفهم، كيف يرد عليه أو يقبل؟ ومجموع ما صح عندنا من فلسفة “أرسطاطاليس” بحسب نقل هذين الرجلين، ينحصر في ثلاثة أقسام:
1- قسم يجب التكفير به.
2- وقسم يجب التبديع فيه.
3- قسم لا يجب إنكاره أصلا. فلنفصله)) (2).
ثم بدأ بتفصيل هذه الأقسام، فقال: “اعلم أنَّ عُلومهم بالنسبة إلى الغرض الذي تطلبه ستة أقسام: رياضية، ومنطقية، وطبيعية، وطب، إلهية، وسياسية، وخلفية”، ثم بدأ شرح كل قسم منها.
وما يهمُّنا منها هنا هو قسم الإلهيات؛ حيث قال فيه: ((وأما الإلهيات، ففيها أكثر أغاليطهم؛ فما قدروا على الوفاء بالبراهين على ما شرطوا في المنطق؛ لذلك كثًر الاختلاف بينهم فيها. ولقد يقرب مذهب “أرسطاطاليس” فيها من مذاهب الإسلاميين، على ما نقله “الفارابي” و “ابن سينا”. ولكن مجموع ما غلطا فيه يرجع إلى عشرين أصلا، يجب تكفيرهم في ثلاثة منها، وتبديعهم في سبعة عشر. ولإبطال مذهبهم في هذه المسائل العشرين، صنفنا كتاب “التهافت”. أما المسائل الثلاث، فقد خالفوا فيها كافة المسلمين؛ وذلك في قولهم:
أ- أن الأجساد لا تحشر، وإنما المثاب والمعاقب هي الأرواح المجرَّدة، والمثوبات والعقوبات روحانية لا جسمانية. ولقد صدقوا في إثبات الروحانية، فإنها كائنة أيضا، ولكن كذبوا في إنكار الجسمانية، وكفروا بالشريعة فيما نطقوا بها.
ب- ومن ذلك قولهم: إنَّ الله تعالى يعلم الكليات دون الجزئيات. وهذا أيضا كفر صريح، بل الحق أنه “لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات والأرض”.
ج- ومن ذلك قولهم بقدم العالم وأزليته. فلم يذهب أحد من المسلمين إلى شيء من هذه المسائل)) (3).
إذن مجموع ثلاثة مسائل جعلت الفكر الفلسفي الاسلامي مدانا من قبل الامام الغزالي، والأسطر التالية ستحقق في مدى صلة هذه المسائل بهذه الفلسفة وأؤلئك الفلاسفة.
أولا: حشر الأرواح دون الأبدان
من المؤسف له أن نقول بأننا لم نجد موثقا يعول عليه بوجبه تم إلصاق هذه التهمة بالرئيس ابن سينا. ولنسمعه يقول: ((والحري أن نحقق هاهنا الأنفس الإنسانية إذا فارقت أبدانها، وأنها إلى أي حالة تصير؛ فنقول: يجب أن تعلم أن المعاد منه مقبول من الشرع، ولا سبيل إلى إثباته إلا من طريق الشريعة وتصديق خبر النبوة، وهو الذي للبدن عند البعث، وخيرات البدن وشروره معلومة لا تحتاج إلى تعلم، وقد بسطت الشريعة الحقة التي أتانا بها نبينا محمد -ص- حال السعادة والشقاوة التي بحسب البدن. ومنه ما هو مُدرك بالعقل والقياس البرهاني، وقد صدقته النبوة، وهما: السعادة والشقاوة الثابتتان بالمقاييس، اللتان للأنفس، وإن كانت الأوهام منا تقصر عن تصورها الآن، لما نوضح من العلل. والحكماء الإلهيون رغبتهم في إصابة هذه السعادة أعظم من رغبتهم في إصابة السعادة البدنية، بل كأنهم لا يلتفتون إلى تلك، وإن أعطوها، فلا يستعظمونها في جنب هذه الساعدة التي هي مقاربة الحق الأول، على ما نصفه عن قريب)) (4).
إذن الفقرة المارة توضح تماما عقيدة ابن سينا في هذه القضية. لقد أوضحت الفقرة المارة لنا اعتقاد الشيخ الرئيس في المعاد بجانبيه “الجسماني والروحاني”، بالتفصيلات الواردة للجسماني منه عبر طريق الشريعة، تاركا إثباته عقلا وبرهانا؛ لاعتقاده عدم إمكانية ذلك.
لا شك أن القارئ قد توضحت أمامه الصورة تماما، وهي أن ما ظنه الغزالي عقيدة لابن سينا والتي بموجبها جعله مدانا ومتهما، لم يقلها هذا الأخير بتاتا.
ثانيا: مسألة العلم الجزئي للباري تعالى
ينبغي أولا أن نسمع ما يعتقده إبن سينا في هذه المسألة من خلال ما كتبه هو وبينه. إنه يقول: ((واجب الوجود إنما يعقل كل شيء على نحو كلي، ومع ذلك فلا يعزب عنه شيء شخصي؛ فلا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات والأرض؛ فالأول يعلم الأسباب ومطابقاتها؛ فيعلم ضرورة ما تتأدَّى إليه وما بينهما من الأزمنة، وما لها من عودات؛ لأنه لا يُمكن أن يعلم تلك ولا يعلم هذا؛ فيكون مُدركا للأمور الجزئية من حيث هي كلية؛ أعني من حيث لها صفات وإن تخصصت بها شخصيًّا. فبالإضافة إلى زمان مُتشخص أو حال مُتشخصة لو أخذت تلك الحال بصفاتها كانت أيضا منزلتها، لكنها لكونها مُستندة إلى مبادئ، كل واحد منها نوعه في شخصه؛ فيستند إلى أمور شخصية)) (5).
يقر ابن سينا كما مر، بتعلق علمه تعالى بالجزئيات كما يُقر بعلمه بالكليات، ولكن تعلق علمه تعالى بالجزئيات يكون تحت مظلة الكليات، ويُدركها من حيث هي مستلزمات للعلم الكلي. وما أدَّى به للوصول إلى هذا المخرج -العقلي- للمعرفة الجزئية للباري تعالى، فسببه تلك المحاذير العقلية المترتبة في حقه تعالى إن قال بغير هذا -وهي مذكورة في مختلف كتبه- ونحن نذكر هنا مثاليْن على ذلك -دون الحصر- هما كالآتي:
أ- إنَّ العلم المتعلق بالجزئيات صورة لا بد أن تكون مأخوذة من “ماهيات”، والماهيات أمور محسوسة ومتخيلة؛ فهي تُدرك بآلة الحس وبآلة متجزئة؛ فهي عندئذ لم تعد من صور معقولة مجردة له تعالى، بل تعدُّ من الصور المحسوسة والمتخيلة ((… ثم الفاسدات -ويقصد بها الجزئيات والمتغيرات- إن عقلت بالماهية المجردة وبما يتبعها مما لا يشخص، لم تعقل بما هي فاسدة، وإن عقلت بما هي مقارنة لمادة وعوارض مادة ووقت وتشخص، لم تكن معقولة، بل محسوسة أو متخيلة. ونحن قد بينا في كتب أخرى أن كل صورة لمحسوس وكل صورة خيالية، فإنما ندركها من حيث هي محسوسة ونتخيلها بآلة متجزئة، وكما أنَّ إثبات كثير من الأفاعيل للواجب الوجود نقص له، كذلك إثبات كثير من التعقلات -ويقصد بها الجزئية)) (6).
المحصلة هي أن الشيخ الرئيس يُثبت العلم بالجزئيات للباري تعالى، ولكنه يجعله قائما بالعلم الكلي -تجنبا من الوقوع في تلك المحضورات- وما حداه إلى هذه النتيجة هو أنه يرى أن “العلم بالمتغير” لا يمكن حصوله إلا عبر طريق الصور العقلية. وهذا جار عنده حتى في حقِّ الباري تعالى؛ فبإثباته لهذا النوع من “العلم الحصولي” – -الصور العقلية- للعالم بغيره، ينفي بذلك عن العالم “العلم الحضوري” بغيره مطلقا.
على أن النقدَ الحقيقيَّ الذي قد يُوجَّه للشيخ الرئيس في هذه المسألة يُمكن تلخيصه في هاتين النقطتين: أنه لا يثبت له تعالى “علما حضوريا” بمخلوقاته، هذا أولا. وثانيا: أنه تعالى لا يعلمها في مرتبة عين ذاته، بل يعلمها عبر طريق مخلوقاته أي “بالعلم الفعلي” -أيا ما كانت فهي لا تضر في إثبات هذا النقد.
وكلتا هاتين النقطتين قد حلت بطريقة بديعة في مدرسة “الحكمة المتعالية” تحت مسألة معنونة فيها “بالعلم الإجمالي في عين الكشف التفصيلي”، والتي نتيجتها -وباختصار شديد- هي (أن الأشياء -الجزئيات- في مرتبة ذاته تعالى انكشاف تفصيلي بها، وهذا الانكشاف التفصيلي لا ينافي بساطة ذاته تعالى) (10).
وتفصيل النقد هو :
أنَّ علمه تعالى ليس “علما حصوليا” لكي يُدركه عن طريق صور عقلية، بل علمه تعالى “علم حضوري” ومعلوماته تعالى حاضرة عنده بذواتها دون توسط صور عقلية ووسائط أخرى.
وهذا شبيه بعلم النفس (بذاتها وبقواها وبأفعالها الإدراكية وبآلاتها -أدواتها-) فإنها تدرك كل ذلك بالمشاهدة الحضورية الوجودانية، وليست صورية (7).
ب- إنَّ العلم يتبع المعلوم؛ فإذا تغيَّر المعلوم تغيَّر العلم، وإذا تغيَّر العلم فقد تغيَّر العالم لا محالة. وهذا ما لا يجوزه الشيخ الرئيس ابن سينا “ولا يجوز أن يكون عاقلا لهذه التغيرات من حيث هي متغيرات؛ فيكون تارة يعقل منها أنها موجودة غير معدومة، وتارة يعقل منها أنها معدومة غير موجودة، ولكل واحد من الأمرين صورة عقلية على حدة، ولا واحدة من الصورتين تبقى مع ثانية، فيكون واجب الوجود متغير الذات” (8).
ويُرد عليه بأننا ننظر لمسألة “علمه تعالى” بالنسبة “لمعلوماته” باعتباريْن اثنيْن:
– باعتبار كون معلوماته تعالى “عين علمه”؛ فهي من هذه الجهة لها ثبوت في عين ذاته تعالى.
– باعتبار كونها “عين فعله” تعالى، وهي من هذه الجهة لها ثبوت ووجود في الواقع الخارجي.
وكلا هذين الاعتباريْن عبارة عن حقيقة واحدة، وهي علمه تعالى بذاته وبمعلوماته في مرتبة “عين ذاته”؛ وذلك بالعلم الحضوري -وليس بصور حاصلة في ذاته تعالى- لكننا عندما ننظر لهذه المعلومات من جهة تعلقها بذاته تعالى، فإننا نصفها بأنها “عين ذاته تعالى”، وعندما ننظر إليها من جهة تعلقها بمتعلقها -تحقق ووجود المعلومات في العالم الخارجي- فإننا نصفها بأنها “عين فعله تعالى”.
وعليه ((فكما أن ذاته تعالى معلومة له بالعلم الحضوري؛ فإنَّ الأشياء -المعلومات- معلومة له تعالى بالعلم الحضوري أيضا. وإن لعلمه تعالى بالأشياء ثبوتان وتحققان -باعتبار التحليل العقلي الفلسفي-: علم حضوري بها قبل الإيجاد، وهو “عين الذات”. وعلم حضوري بها بعد الإيجاد، وهو “عين وجود الأشياء”)) (9).
وبعد، فإننا إذا ما أخذنا الكلام المار بعين الاعتبار، لأمكننا القول: إن القول “بتغيير العالم بتغيير المعلوم” قول غير صحيح؛ وذلك لسببيْن اثنيْن:
* لكون علمه تعالى بمعلوماته لا يكون بعد إيجادها وتحققها في الواقع الخارجي؛ بحيث كلما وجدت وحدثت حصل تغيير في ذاته تعالى، بل علمه تعالى بها هو عين إيجاده لها وتحقيقها في العالم الخارجي؛ وهو المسمى “بالعلم الفعلي” بمعلوماته. وعليه؛ فلا تغيير في ذاته تعالى. وبعبارة أخرى، علمه تعالى بها هو نفس إيجادها، وليس إدراكه تعالى لها.
* لكون العالِم -الباري تعالى- العالِم بها بعلم حضوري بعين ذاته، إن أراد إيجادها في الواقع الخارجي بعلمه الفعلي، فإنَّ إيجاده لها يكون طبقا لما هي عليها في مرتبة عين ذاته تعالى.
فإنَّ كان “العلم الذاتي” للباري تعالى -والذي هو عين ذاته- مُتعلقا بها من حيث هي حادثة ومتغيرة -لكون حقيقة ذاتها عبارة عن الحدوث والتغيير- فإنَّ وجودها وتحققها وثبوتها في الواقع الخارجي “بالعلم الفعلي” -والذي هو عين فعله- لا بد أن يكون تابعا لعلمه الذاتي، فإنْ تحققت وحدثت في مرتبة الفعلية؛ فهذا لا يعني تغييرًا في ذاته تعالى؛ وذلك لكون علمه تعالى بها في مرتبة الذات كان مُتعلقا بنفس حدوثها ووجودها وتغييرها، فإنْ حدثت فعلا -في المرتبة الفعلية- فإنها تكون موافقة لعلمه تعالى في مرحلة الذات.
وعليه؛ فالمعلومات المتغيرة لا تغير من علم العالم بها -الباري تعالى- لأنَّ العالم يعلمها من حيث هي متغيرة أصلا.
مُلاحظة: إنَّ التقرير المار لهذه المسألة في الأسطر الآنفة، هو تقرير معتمد بالدرجة الأولى على الرأي مدرسة الحكمة المتعالية، والذي يأتي بيانها في المسألة الثالثة إن شاء الله.
ثالثا: مسألة قدم العالم
ينبغي الاقرار أن الشيخ الرئيس قد قبل “بقدم العالم زمانيًّا”، وأورد عليه بعض الأدلة، نذكر هنا دليلين من تلك الأدلة:
((… 1- إذا كان هو عند حدوث المباينات عنه كما كان قبل حدوثها، ولم يعرض ألبتة شيء لم يكن، وكان الأمر على ما كان، ولم يوجد عنه شيء؛ فلا يجب أن يوجد عنه شيء، بل الحال والأمر على ما كان؛ فلا بد من تميُّز لوجوب الوجود وترجيح الوجود عنه بحادث لم يكن حين كان ترجيح العدم عنه والتعطيل عن الفعل؛ فليس هذا أمرا خارجا عنه، فإنا نتكلم في حدوث الخارج عن نفسه)). ((أنَّ الواجب الوجود بذاته واجب الوجود من جميع الجهات، وإلا فإنَّ كان من جهة واجب الوجود ومن جهة مُمكن الوجود؛ فكانت تلك الجهة تكون له ولا تكون له، ولا يخلو عن ذلك وكل واحد منهما بعلة يتعلق الأمر بها ضرورة، كانت ذاته متعلقة الوجود بعلتي أمريْن لا يخلو منهما؛ فلم يكن واجب الوجود بذاته مطلقا، بل مع العلتين؛ سواء كان أحدهما وجودا والآخر عدما، أو كان كلاهما وجوديْن. فقد تبين من هذه أنَّ واجب الوجود لا يتأخر عن وجوده منتظر، بل كل ما هو ممكن له فهو واجب له، فلا له إرادة منتظرة، ولا له طبيعة منتظرة، ولا علم منتظر، ولا صفة من الصفات التي تكون لذاته منتظرة)) (11).
((… 2- وإذا تقرَّر هذا، فإذا كان شيء لذاته سببا لوجود شيء آخر دائما، كان سببا له دائما ما دامت ذاته موجودة، فإن كان دائمَ الوجود كان معلوله دائمَ الوجود؛ فيكون مثل هذا من العلل أولى بالعلية؛ لأنَّه يمنع مطلق العدم الشيء؛ فهو الذي يعطي الوجود التام للشيء؛ فهذا هو المعنى الذي يُسمى إبداعا عند الحكماء، وهو تأسيس الشيء بعد ليس مطلقًا، فإنْ كان للمعلول في نفسه أن يكون ليس ويكون له من علته أن يكون ليس)) (12).
ولنقم بتوضيح التقرير الأول للقارئ العزيز:
“واجب الوجود واجب الوجود من جميع الجهات”؛ أي أنَّ ذاته تعالى واجبة الوجود من جميع الجهات، ولا جهة الإمكان فيها ألبتة، وبعبارة أخرى أن ذاته تعالى فعلية تامة ولا جهة القوة فيها إطلاقا، فما يجب عنها يجب وجوده، وما لا يجب عنها فهو غير واجد عنها إطلاقا -فهو معدوم فعلا- فإذا وجد عنه حادث ما بعد أن لم يكن؛ فهذا يعني ترجيح كفة وجوده عن عدمه، وهذا يلزم منه طرح تغيير في ذات واجب الوجود؛ مما أدَّى به إلى إحداث هذا الحادث. وعليه؛ فإن وجود حادث عن ذاته بعد أن لم يكن محال، وهو المطلوب.
وتوضيح التقرير الثاني هو: “عدم انفكاك المعلول عن علته التامة”؛ أي أن تخلف المعلول -ممكن الوجود- عن علته التامة -واجب الوجود- التي تؤمن له كافة جوانب وجوده وتحققه محال. وبعبارة أخرى، فإنَّ وجودَ وتحقق العلة التامة -التي تؤمن للمعلول كافة جوانب وشؤون وجوده- يستلزم منه تحقق وجود معلولها، وعدم انفكاكه عنها مطلقا وإلا لزم المحال. ويكون هذا الأمر لدرجة أنه عند عدم تحقق مثل ذلك المعلول، يعتبر ذلك مؤشرا واقعيا على عدم وجود وتحقق علته بحد ذاتها.
ولمزيد من البيان نقول: إنَّ تحقق صدور أو وجود معلول عن علة تامة، إما أن يكون ممكنا أو واجبا؛ فإن كان ممكنا لاحتاج في تحققه إلى سبب يرجحه للوجود دون العدم -لأن الممكن متساوي الطرفين بالنسبة للوجود والعدم- فإنْ كانت علة هذا الممكن تامة -كما نفترض- ولا يمكن تحقق مسألة الترجيح في ذات العلة التامة بالمنسبة لمعلولاتها -لأنها تامة الفعلية لا يتصور منها تغيير الحال كما أسلفنا- هذا من جهة. ومن جهة أخرى، فإنه يمكن التساؤل ثانية عن ذلك المرجح الذي أثر في ذات العلة التامة؛ فجعلها أن توجد معلولها بعد أن لم يوجد، فهل هو ممكن أم لا؟ فإن كان ممكنا لاحتاج إلى مرجح آخر ولتسلسل الأمر إلى ما لا نهاية. وعليه؛ فلا بد أن يكون صدور وتحقق المعلول عن علته التامة واجبا وليس ممكنا.
وبعد، فإنَّ لهذا التنظير الفلسفي من قبل فلاسفة المشاء ومنهم ابن سينا، في مسألة قدم فعل الباري تعالى -قدم العالم- له مبرره وقاعدته الفلسفية -بل هو تنظير لنظرية فلسفية.
تلك النظرية الفلسفية التي تبحث في “ملاك حاجة المعلول للعلة”؛ أي: ما هو ذلك الأمر الذي بسببه يحتاج المعلول –الموجود- لوجوده وتحققه إلى العلة؟ وما هو ذلك الأمر الذي يجعل من العلة -التامة- لا تحتاج إلى ذلك؟
يأتي تحقيق ذلك في الحلقة القادمة إن شاء الله.
——————
الهوامش
(*) لقد كتبتُ هذه المقالة قبل حوالي ست عشرة سنة منذ الآن، إلا أنها تنشر لأول مرة.
(1) و(2) و(3) كتاب “المنقذ من الضلال”، فصل (أصناف الفلاسفة وشمول وصمة الكفر كافتهم).
(4) النجاة، ابن سينا، الصفحة 327.
(5) النجاة، الصفحة 283-284.
(6) المبدأ والمعاد، ابن سينا، الصفحة 19.
(7) يراجع كتاب “أسس الفلسفية والمذهب الواقعي” للعلامة الطباطبائي، وحواشيه للشيخ المطهري، ج2.
(8) المبدأ والمعاد، ابن سينا، الصفحة 19.
(9) تفسير الميزان، محمد حسين الطابطبائي، ج 15، الصفحة 253.
(10) يراجع كتاب “أسس الفلسفة والمذهب الواقعي” للعلامة الطباطبائي، وحواشيه للشيخ المطهري، ج 5، الصفحة 179.
(11) المبدأ والمعاد، مطلب آخر نافع يذلك، وفي أن واجب الوجود بذاته واجب الوجود من جميع الجهات، الصفحة 6-41.
(12) إلهيات الشفاء، الصفحة 526، نقلا عن القواعد الكلية الفلسفية في الإسلام، ج1، الصفحة 175، غلام حسين إبراهم ديناني.
10,376 total views, 2 views today
Hits: 825