الإرهاب في علاقته بالأرثوذكسيات الدينية المتحجِّرة – قراءة في فلسفة يورجين هابرماس
سعود الزدجالي
ورقة مشاركة في “منتدى اليوم العالمي للفلسفة”، الذي أقامته جامعة السلطان قابوس ومجلة “شرق غرب” الثقافية، بالنادي الثقافي مساء 29 نوفمبر 2017م
مقدمة:
تهدفُ هذه الدراسة إلى قراءة الأفكار التي طرحها يورجين هابرماس في نصوصه المكثَّفة والقصيرة في الفصل الرابع “الإيمان والمعرفة”، من كتابه “مستقبل الطبيعة الإنسانية نحو نسالة ليبرالية”، والصادر بترجمة جورج كتورة، عن المكتبة الشرقية ببيروت في العام 2006، ويوظِّف الباحث المنهج التحليلي لتلك الأفكار، وربطها بالتراث الإسلامي وواقعه العربي، في ظل وجود قطبين متنافرين؛ هما: الهُويات الدينية، والرغبة في بناء الدولة المدنية القائمة على رابطة المواطنة.
ولعلَّ أهم المصطلحات التي يفسر بها هابرماس ظاهرة الإرهاب -التي يعدها “صدمة مشؤومة بطبيعتها المكبوتة”- مصطلح “الأصولية”، و”الاختلال الزمني بين الثقافة والمجتمع”، و”الجذور الدينية”، و”الأرثوذكسيات المتحجِّرة”، و”العلمنة” و”ما بعد العلمنة”. وفي ضوء هذه المفاهيم في نصوص هابرماس، بالغة التكثيف، يحاول الباحث ربطها بالواقع العربي، وجذوره التراثية وعلاقته بالإرهاب في المستويات التفسيرية التي تتَّضح أثناء الدراسة، ويودُّ الباحث التنبيه إلى أن ما يرد من أمثلة في الوقائع التراثية، ونزعاتها الأحادية، لا يعني خلوَّ النزعات الدينية الأخرى من تلك الأحادية أو التحجُّر؛ فالباحث لا يزال مُؤمنا بما طرحه نصر حامد أبو زيد بأنَّ الفروق بين التيارات الدينية تكمُن في الدرجة وليس النوع.
استشكالات الورقة:
ترتبط استشكالات الدراسة الحالية بما قد طرحته سابقا في دراسة نُشرت في مجلة “شرق غرب” تحت عنوان: “الوعي بما هو مفقود: انعطافات في فلسفة يورجين هابرماس ١” حول جدلية العلمنة والدين، وارتباطاتها بـ”علمنة الأخلاق وظهور مجال الضمير”؛ إذ تشكل الانعطافات الأخيرة في فلسفة هابرماس جدلا؛ بحيث توصف الانزلاقات الأخيرة في فلسفته بأنها متسرعة في “توصيف اللحظة الراهنة للفكر المعاصر بلحظة ما بعد العلمنة، وإلى اعتبار أن أطروحة العلمنة في انحسار كبير الآن، وتعاني صعوبات ومآزق في مجالات عدة” ٢.
وتنبُع هذه الاستشكالات المرتبطة بظاهرة الإرهاب الدولي بما ناقشه هابرماس حول “جذور الأرثوذكسيات الدينية المتحجِّرة”، وعلاقتها بدوافع الإرهاب في “الذات الإنسانية”، وما يرتبط بها من مستويات التفكير الديني، بدءا من الحالة السكونية والكامنة في ذات التدين وعلاقتها بالآخر المختلف، وحق الحياة والمصير. ولقد ناقش هابرماس الظاهرة نقاشا سريعا في الفصل الرابع “الإيمان والمعرفة” من كتابه “مستقبل الطبيعة الإنسانية نحو نسالة ليبرالية” ٣، وكانت أهم جوانب القضية في الآتي:
أهمية التأملات الفلسفية في الصراع بين قوى الإيمان والعلم، أو بعبارة أخرى: بين ممثلي العلم المنظم، وممثلي الكنائس ودور الإفتاء في العالم العربي والإسلامي؛ فهذه التأملات تجعلنا نغوص في “الأزمنة” التي يجد فيها الإنسان اغترابه الموغِل أو المُوْحِش في الذات، ولعلَّ ذلك -حسبما أعتقد- يجعلنا نستعيد حديث هوسرل في “أزمة العلوم الأوروبية”، أو “توثين السلعة”، ومن ثم توثين العلاقات الإنسانية عند كارل ماركس: “فكلما اشتدَّ حط الرأسمالية للقيمة الحقة للإنسان، ازداد تضخيمها لقيم الأشياء”٤، والقضية ذاتها فيما يتعلق بأزمة العلوم عند هوسرل؛ إذ إنها فقدت دلالتها بالنسبة للحياة٥؛ مما ولَّد حالة من الفراغ والحنين إلى “الماضوية”، والارتكاس إلى التراث بوصفه أصلا تتفرع عنه كل ممارسات الراهن، الذي يمثل “المجتمع المادي” في حضارته الآخذة في العولمة، وتحوله وفق أحادية الفكر الديني إلى “الشيطان الأكبر” -بتعبير هابرماس- أو “جاهلية القرن العشرين” عند الإسلاميين.
أن ردة الفعل للصراع بين العلمنة والدين، والتي بلغت حالة من التوتر لتصل إلى “الحدث اللامعقول” أو المفارق، كانت غارقة في التناقض “العلماني”؛ بحيث تحولت أشد المجتمعات علمنة -بفعل الاعتداء اللامعقول- إلى إثارة العاطفة الدينية الكامنة، وهذه الحالة تفضي لاستعادة التمييز بين علمنة الدولة، وعلمنة المجتمع أو الفرد عند كارل ماركس؛ فهو “يرفض أن يكون التخلي عن الدين شرط التحرر السياسي، ولا يعتبر أن إلغاء الدور السياسي للدين هو إلغاء للدين ذاته، ويشير إلى أن وجود الدين المفعم بالحياة والقوة لا يتعارض مع قيام الدولة الكاملة أي الدولة المدنية”٦، وهو إطار يؤكده عالم الأديان ميرتشيا إلياده؛ فـ”المقدس” هو عنصر من عناصر بنية الوعي، وليس مرحلة من مراحل تاريخ الوعي٧؛ بحيث أن استيعاب هذه الأفكار بشأن علمنة الدولة في العالم العربي يُعيد ترتيب الأفكار؛ لفهم أعمق عِوَض التناقض أو التذامر على عداوة العلمانية باتهامها أنها ضد الدين – كما يحلو للتيارات الدينية أن تُعلنه في مناسبة أو غير مناسبة.
أن اعتبار العلمنة أو الحداثة في علاقتهما بالدين نوعٌ من “اختلال زمني بين الثقافة والمجتمع”، أدى -وفق رؤية هابرماس- إلى “اهتزاز الأصول” أو الهويات الدينية؛ لذلك فإن بناء موقف عقلاني تجاه الحداثة مع تسارع التقنيات، هو أمر في غاية الإشكال والإعضال. وفي هذا السياق بالذات، يُمكن استثمار مصطلح “تغريب الهُويات” عند كورنيليوس كاستورياديس، ويعني به “أي فكر يحاول أن يشرح الإبداع الفردي والاجتماعي من خلال شيء خارج الفرد والمجتمع، الذي ينتمي إليه هذا الإبداع”٨؛ وذلك يجعلنا أو يفترض علينا استعادة التوازن بشأن عُنف الهُويات الذاتية؛ بحيث تتجاوز أزمتها من داخل “البنية الإنسانية” وحضارتها؛ بمعنى أن على هذه الحضارة أن تستعيد انفتاحها القديم على الحضارات، بوصفه جزءا من مكوناتها.
وانطلاقاً من الأفكار الضمنية السابقة التي طرحها هابرماس، وما توصَّلتُ إليه من تحليلات؛ يمكن تحديد مستويات الإرهاب، من حيث أنه “ظاهرة إنسانية” تتعالق بالوجود الفعلي، الذي يتمثل في “البُعد الهُوياني” العنيف؛ فالهوية في عُمقها بقدر ما تريد إثبات ذاتها؛ تريد نفي الآخر، كما أنَّ البُعد الهُوياني مشروع في ذاته، وفق “أحادية الدين” الأرثوذكسية، و”أحادية الفعل الصحيح” كأرثوبراكسية، تنطلق من الثالث المرفوع؛ فالذات الدينية الأحادية لا تتشكل إلا بتبرير نفي الآخر أو انزياحه.
مدخل:
تأخُذ ظاهرة الإرهاب حيزًا كبيرًا من النقاشات في المجتمع الدولي؛ مما يدل على خطورة الظاهرة، وأهمية النظر في جذوره، وغاياته، ووسائله، كما أن النظر في جانب واحد قد يؤدي إلى قصور النتائج وسوء فهم للظاهرة التي تجاوزت المجتمعات المحلية إلى “الإرهاب الدولي”٩، والذي تطور في وسائله وإن اتفقت غاياته كما يبدو. ولعلَّ المجتمعات العربية التي عاشت تجربة الإرهاب مثل مصر، والجزائر، والسعودية، ولبنان، والعراق هي الأكثر إدراكا لخطورة الظاهرة.
إنَّ “تبني الموقف الرافض والمعادي للإرهاب من قبل المواطن، أو القيادة السياسية في العالم العربي، لم يأتِ بالضرورة من أجل التناغم والتوافق مع المتطلبات الأمريكية أو الغربية أو حتى الدولية؛ بل جاء عبر تجربة ومعاناة حقيقية، بعضها سبق بسنوات طويلة التجربتين الأمريكية والأوروبية، عاشتها هذه المجتمعات العربية التي حصدت فيها النشاطات الإرهابية حياة الآلاف من الضحايا الأبرياء، وكلفت اقتصاد هذه الدول مليارات من العملات الصعبة”١٠.
يُعرف الإرهاب “Terrorism” بأنه طريقة مُستخدمة من طبيعتها إثارة الرُّعب والفزع، بقصد الوصول للهدف النهائي١١؛ لذلك فإنَّ عزل الظاهرة عن أساليب التفكير في العقول الإسلامية الماضوية يعدُّ في حد ذاته إشكالا وإخفاءً للمشكلة؛ لأن العنف في التفكير، وفي الممارسة الحياتية اليومية على صعيد التدين، له وجذوره التراثية التي قد يُغذي ظاهرة الإرهاب، ويمدها بشخصيات متجددة، ووسائل مختلفة فاعلة ومثيرة للعاطفة الدينية؛ بسبب وجود “الضمير الديني”، فما بقيت الفكرة اليوتوبية في تلك العقول المتمثلة في أدلوجة الدولة الإسلامية المرتقبة التي يفترض أن ينتجها صراع أبدي حول “الأرثوذكسية الإسلامية” المنتجة من النص الديني وتأويلاته.
إنَّ الإرهابَ ظاهرة مُعقدة ومُلتبسة مع الواقع، والتاريخ، والمصير، والهُوية، والعولمة، والحداثة، والتراث، والمعتقد.. ولعلَّ أبرز إشكالات هذه الظاهرة “أنها قابلة للإنتاج” بتبرير ديني؛ فالقتل يتحوَّل من جريمة ممقوتة مستكرهة، إلى أن يكون غاية ووسيلة، فهو عامل من عوامل الغبطة عند القتلة؛ ويمكن أن يتحمل مسؤوليته بكل فخر؛ فهي سادية مُوغلة في الطبائع الإنسانية المتناقضة، ويمكن النظر إلى الإرهاب قبل الخوض في الأفكار التي طرحها هابرماس؛ من خلال الأفكار المحيطة بالعنف الإنساني عند حنة أرندت١٢:
1- أن أدوات العنف قد تطورت تقنيًّا إلى درجة لم يعد من الممكن معها القول بأنَّ ثمة غاية سياسية تتناسب مع قدرتها التدميرية، أو تبرِّر استخدامها في الصراعات المسلحة، إلى درجة أننا لا نستطيع تحديد أو تمييز الرابح من الخاسر في عمليات العنف الدائرة؛ بمعنى أن “أدوات العنف” أكبر بدرجات كبيرة من غايات السياسة أو البشر.
2- أن جوهر العنف تسيِّره مقولة “الغاية والوسيلة”.. والغاية مُحاطة بخطر إن تجاوزتها الوسيلةُ المبرَّرة بالغاية التي لا يمكن الوصول إليها؛ فتتحول “الوسائل” إلى غايات في حد ذاتها، كما يبرر الفكر الديني العداوة بوصفها غاية تحت إطار “الولاية والبراءة”.
3- أن العنف -بوصفه فعلًا إنسانيًّا- متفلتٌ من رقابة الذات الفاعلة، فهذه الذاتُ غير قادرة على الإمساك بزمام الفعل المنفلِت؛ فإطلاق الإرهاب بوصفه غاية، أو وسيلة، أو مُلتبسة بكلتيهما يجعله كجُرم سماوي أطلق في الفضاء بسرعة هائلة؛ فلا سبيل إلى إيقافه إلا بتدمير ثنائي.
وعودٌ على تحديد ماهية الإرهاب، فإنه لا بد استحضار جانبين مهمين؛ أولهما: يتعلق بدافع الإرهاب والتمييز بين نوعين من العدوان مختلفين -كما يرى إيريك فروم- فالأول يشترك فيه الإنسان مع الحيوان، وهو دافع الهجوم أو الفرار عندما تتهدَّد مصالحه الحيوية، كما أنه دافع مبرمج وفقا للنشوء النوعي، وهو عدوان غير خبيث. أما النمط الآخر، فهو العدوان الخبيث المتَّسم بالقسوة والتدميرية “فالإنسان يختلف عن الحيوان بأنه قاتل؛ والإنسان هو الوحيد من فصيلة الرئيسات الذي يقتل ويعذب أعضاء نوعه دون أي سبب؛ سواء أكان بيولوجيا أم اقتصاديا، والذي يشعر بالرضا في فعله ذلك. وإن هذا العدوان الخبيث غير المتكيِّف بيولوجيا وغير المبرمَج وفقا للنشوء النوعي، هو الذي يشكل المشكلة الحقيقية، والخطر الحقيقي، على وجود الإنسان بوصفه نوعا”١٣.
أمَّا الجانب الآخر، فإنه يتمثل في ملاحظة أعتقد أنها جديرة بالاهتمام، ومُرتبطة بالدافع، وهو تحديد الإرهاب بوصفه محمولاً لموضوع أهم، سماته ممارسة العنف؛ بحيث أن هذا “الموضوع” وهو “العنف” أو “السلطة” التي تمارسها الدولة بناءً على العقد الاجتماعي، وتشريعات القانون، يمارسه الإرهاب انطلاقا من تمازج الأيديولوجية الدينية والأفكار اليوتوبية؛ لذلك فالإرهاب لفهمه فهما عميقا يعد انحرافا أو انزياحا عن مشروعية الممارسة؛ فالإرهاب ينازع الدولة “التسلط” في أهم سمة بوصف الدولة “كونا اعتباريا يعتمد القانون”، وتاليا يعد الإرهاب إفراغا للدال -وهو الدولة هنا- من مضمونه وروحه؛ لأن الخاصية المميزة لهذا الكيان المسمى “دولة” هي القوة؛ فهي “جهاز يحتكر العنف المشروع في إقليم معين”١٤، وحتى نميز السياسي من “الإرهابي”، فإن الأول يمارس جهدا مبذولا داخل الدولة، وفي إطار قانونها؛ بهدف المشاركة بالسلطة أو التأثير في توزيعها١٥. أما الإرهابي، فيمارس العنف خارج الإطار القانوني لينازع الدولة وفق منظوره الأيديولوجي العنيف؛ لأنه يعتقد جازما أن أسلوب الحياة الصحيح ما يفرضه هو على الآخرين.
الصراع الديني وعلاقته بتغذية الإرهاب:
وإذا كان الصراع طبيعيًّا في السياج الديني داخل مفرداته، ومبرَّرا -ولو على المستوى النظري- ويمكن تسميته “الصراع بالقوة”، أو “الصراع الخطابي”؛ فإنه لا يحتاج إلى إعادة بناء؛ وإنما إعادة تحويل لهذه الذات القاصدة والمريدة لليوتوبيا الدينية، أو مقارعة “الشيطان الأكبر” عبر آليات “المعنكر” الديني١٦؛ فهو وفق منطق الجهات “صراع لازم”؛ لذلك يرى هابرماس أن الصراع بين مُمثلي العلم، وممثلي الكنائس، أو الصراع بين الحداثة والتقاليد الموروثة؛ دشن مرحلة جديدة”؛ فمن جهة نجد الخوف من الظلامية ومن الشكية تجاه العلم الذي ينغلق في تخلف المشاعر القديمة، ومن جهة أخرى: عداوة ضد الإيمان العلموي في التقدم الذي يقوم على فلسفة طبيعية، فجة، تفجر الأخلاق”١٧؛ لذلك يعد هابرماس أحداث الحادي عشر من سبتمبر “انفجار التوتر بين المجتمع العلماني” و”الدين”.
إنَّ الصراع الديني يتغذى من العصبيات المذهبية، وهي بدورها تتغذى من “الإرهاب الساكن”، ونقصد به الصراع في المدونات التراثية الكلامية والفقهية ومدونات الفرق والمقالات والتاريخ، ويتحول هذا الصراع من حالة سكونه، إلى حالة “الإرهاب الكامن”، الذي كُرس في “الذات المتدينة” عبر ثقافتها وتعليمها؛ بحيث أنَّ كل فرد مسلم يحمل في داخله “صوتا” أحاديا نائما يستطيع “رأسُ المذهب” أو التيار الطائفي إيقاظه في العالم العربي. وبذلك؛ فإنَّ هذه الحالة تتضمن ما يسميه فريدريك معتوق “الإدماج القسري”، وهو الشكل الذي “لا يتحارب فيه مكوِّن أساسي من مكونات البلاد مع المكون الآخر بلغة السلاح، بل يكتفي بالسيطرة عليه على قاعدة الغُلب الخلدوني، من منطق التفوق العددي؛ فيلجأ الطرف الأقوى في المعادلة إلى احتواء الطرف الأضعف قسريًّا؛ حيث يتحول هذا الأخير إلى مواطن من الدرجة الثالثة”١٨، فهذه الحالة التي توصف في بعض البلدان العربية بالتسامح، هو تسامح زائف؛ لأنها حالةٌ تمنع الاندماج السلمي والتي تحدث حينما تكون الأفكار الدينية والمذهبية قابلة للنقد والفحص؛ فالصراع والإرهاب المذهبي هو الذي يمنح الأفكار الأحادية حيواتها وقوتها.
نُلاحظ في مُجتمعاتنا العربية حينما تناقش قضية ترتبط بظاهرة دينية أو رمز ديني محدد؛ فإن النقاش يفرز ردات فعل عنيفة على مستوى الخطاب والتراشق، وتتحول إلى حالة الانتقام القادم من اللاوعي؛ لأنَّ “الانقسام العصباني عميق في البُنى المعرفية، إلى درجة أنه قادر على هضم أي فعل، أو ردة فعل، يحصلان على مستوى الحياة الاجتماعية-السياسية العامة”١٩؛ فالمجتمعات العربية والخليجية لم تغادر عصبياتها التأسيسية؛ بل إنها منعت القيم المدنية من التسلل إلى مفاهيمها العصبية لبناء مفهوم المواطنة؛ والحريات الحقيقية التي تعطي للإنسان قيمته، وتحميه من الاغتراب لم تجد طريقها إلى “الإنسان العربي”؛ ويمكن أن يعد حالة الاكتراث الشديد بالهواتف الذكية، وساحات التواصل الاجتماعي الافتراضية هروبا من الصخب الجمعي الصارم، الآخذ في النمو والسيطرة؛ لبناء فردانية هاربة مستغربة ومحاصرة وآخذة في الانغلاق؛ لإيجاد حياة صامتة تسمح بشيء من الحرية المفقودة في الدائرة الجمعية٢٠، وإن تَعْجَب فعجبٌ أن تكون هذه الممارسات النصية المنغلقة جزءا أصيلا من هويتها التي تسعى إلى حمايتها وتكريسها.
نلاحظ في قضية ثنائية الغاية والوسيلة؛ أن اعتبار الوسائل غاية بحد ذاتها؛ يجعل “القتلة الذين صمَّموا على الانتحار” في الحادي عشر من سبتمبر فوق ما في فعلهم من تناقضات متحدة بالمعنى الهيغلي٢١؛ قد “حولوا أدوات النقل المدنية إلى قذائف مسكونة يصار لإطلاقها على قلاع الحضارة الغربية الرأسمالية”٢٢، فهم مدفوعون بـ”قناعات دينية” راسخة؛ تجسد “المجتمع الحديث” في صورة “الشيطان الأكبر”، أو صورة الشر الرمزي المحض القادم من مفردات التدين الملتبسة والمعقدة؛ لذلك -وانطلاقا من هاتين القضيتين- أضع تصوُّرا يجعل الإرهاب درجات وأشكالا ملتبسة، ولكنها واقعية، ويمكن لهذه المستويات أن تتعارض أحيانا، أو تتفق مع وجهة النظر الهابرماسية، وإن كان الاتفاق هو السائد فيها.
الإرهاب في الحالة السكونية .. وأقصد به حالة العنف في النصِّ التراثي الضخم المرتبط بالاختلاف والتميز والادعاء؛ أي الاختلاف في الاعتقاد، والتميز في السلوك والهيئة، والادعاء بالأحقية والصحة المطلقة، وما يطرحه هابرماس من كون “الأصولية” بمعزل عن لغتها الدينية هي “ظاهرة حديثة” لا يستقيم مع الواقع، بسبب وجود الإرهاب في التراث الفكري الديني ممارسة وتنظيرا. يرى هابرماس أنه “فيما يخص الإسلاميين الذين اقترفوا الاعتداءات، فإن أكثر ما يلفت الانتباه مباشرة هو لا عصرانية الدوافع والغايات، إنها الانعكاس لهذا الاختلال الزمني بين الثقافة والمجتمع، وهذا ما نستطيع معاينته في البلدان الأصل التي ينتمي إليها هؤلاء الإسلاميون منذ اللحظة الأولى، التي مس فيها التحديث المتسارع جذورهم”٢٣؛ وبما أن “المسلم” لا يضع التراث الديني بمضامينه العنيفة تحت النقد والمساءلة؛ فإن هذه المضامين قابلة للإنتاج؛ لأنها تتجاوز التاريخ وتتعالى عليه.
الإرهاب في حالة الكمون .. وهو ينتُج ويتشكَّل من خلال التكريس الديني داخل السياج الدوغمائي؛ إذ يتحين التراث ويتحول من سكونه إلى معتقد، فكل “مسلم” -بوصفه ظاهرة فردية ينتمي إلى الوعي الجمعي- يحمل في طيات نفسه إرهابا يريد أن يتشكل؛ وهذا الإرهاب هو الإرهاب بالقوة؛ بمعنى أن المسلم ما حمل في نفسه قيمة التميز المذهبية عن الآخر المسلم، أو المختلف عنه دينا؛ فإنه يحمل “الإرهاب الكامن” تمامًا مثل فيروس فتاك في فترة الحضانة؛ ولعلَّ أهم القضايا التي تحرك هذا الكمون؛ هي اهتزاز الأصول اهتزازا عنيفا؛ بسبب الحداثة والعلمنة؛ “فالأمر الحاسم هو تغيير العقلية التي يعبر عنها سياسيًّا من خلال الفصل بين الدين والدولة”٢٤، ويرى هابرماس أن ذلك لا يختص بدين دون آخر؛ “حيث اقتضى الأمر انقضاء عدة قرون، ليأخذ التاريخ موقفا عقلانيا تجاه الحداثة”٢٥؛ وهذا يجعلنا نتساءل: هل يلزم أن ننتظر تلك القرون حتى تنصرم لتتجه المجتمعات العربية إلى عقلانية الحداثة الأوروبية؟ وهل بالضرورة أن تتخذ المجتمعات النامية هذا المسار شطر العقلانية؟ لا يمكن للفلسفة أن تجيب عن هذه الأسئلة إجابات حاسمة؛ إلا إذا دخلت في مسارات لا تخلو من المغامرة؛ بحيث تغادر منطقة التساؤلات إلى منطقة الحسوم العلمية. وحتى يتبيَّن القارئ ما أقصده بالتحديد من التعميم السابق في حالة كمون الإرهاب في “الأنا المسلمة”؛ فإنه يتحتَّم أن أصور العلاقة بين المقدمات والنتائج، بتحديد الضامن في الاستدلال الحجاجي:
إنَّ الضامن الذي يُوفر النقلةَ بين الحجة والنتيجة، هو اعتقادُ المسلم بأنه وحده يمتلك النسخة الصحيحة للدين؛ وهذا يعني أن المسلم الذي يبتعد عن الوثوقية المطلقة لعقائده ويؤمن بضرورة وجود الاحتمالات والتعددية يتجاوز الدوغمائية المولدة للإرهاب في حالته الذهنية؛ لذا نلاحظ أن أبرز إشكالات ظاهرة الكُمون هو التبرير الديني له، ويمكن إخفاء العنف بأفاهيم دينية؛ مثل: أفهوم التقية؛ فتتحول الحياة إلى مجاملة فجة مع إضمار الإقصاء والتضليل للآخر؛ إذ لا يمتلك المختلف -وفق هذا الأفهوم، والاعتقاد السابق- أيَّ حق في الحياة والحرية في الاعتقاد؛ فمصيره مرسوم في ضمير هذا الاعتقاد.
وفي قضية كمون الإرهاب؛ يحيل هابرماس الحالة الغربية إلى ظاهرة ما بعد 11 سبتمبر؛ فبعد هذه الحادثة بالذات دخلت “لغة الثأر” التي حملها الرئيس الأمريكي في ردة فعل على الحدث اللامعقول، “كما لو أن هذا العدوان الأعمى قد ضرب وترا دينيا في أكثر مواقع المجتمع العلماني حميمية؛ ففي كل أرجاء العالم امتلأت المعابد والجوامع والكنائس” ؛ بمعنى أننا دخلنا في “الحالة المرضية” للتدين، وانبعث الإرهاب الأوروبي الكامن الذي لا يُحتكر في العالم العربي. وهذا يعني أن “الأرثوذكسيات المتحجرة” بتعبير هابرماس لا تزال موجودة بقوة، وهي تُمثل -كما أسلفت- “الإرهاب الكامن”، كما أن كمون الإرهاب الأوروبي لا يتماثل مع كمون الإرهاب في الحالة العربية، لوجود الفارق في الدرجة والهدف.
ولكن على المستوى الإسلامي، فإن العصبيات المتمثلة في “الفكر الأحادي”، الذي أنتج ثنائيات مذهبية أو دينية؛ مثل: (السنة/الابتداع)، أو (الشيعة/الناصبة)، أو (المسلمون/أهل القبلة)، أو (أهل الحق والاستقامة/وأهل القبلة)، لا تزال تنتج على مستوى الفكر الديني وفي الأوساط الاجتماعي لتشكيل تعبئة مذهبية، تتمازج في المكونات من حالة الإرهاب في سكونه، وحالة الكمون؛ فينعدم الحوار والنقد/والنقاش؛ ليدخل المرء في معتركات العنف وإقصاء الآخر، ولو على المستوى الفكري، فإما العودة إلى اتباع الحق عبر “المناظرات” والمنافرات أو “السجن” أو “القتل”، وإن وجدت حالة السكون السطحي بين أصحاب المذاهب فإنه إما تقية، وإما بسبب السلم الاجتماعي ونزعات الدولة المدنية.
إنَّ التراث الإسلامي مُفعم بحالات تشويه الآخر المختلف في الفكر، وتضخيمه ليكون عدوا وهميا للحق الوحيد؛ مما يجعل الذات المذهبية تتلقى حالة العنف ضد الآخر وتكرسه في اللاوعي؛ ليتحول فعلا إلى عدوٍّ وهميٍّ، يُخشى منه على مذهبه وحقه الوحيد؛ فهو في حالة الاستنفار الدائمة ضد أي نقد لتراثه، أو ضد شخصيات تراثية تعد منزلة في متاهات الضلال، ولكن ما إن تتوغل في قراءة التراث، ونصوص التاريخ، حتى تكتشف أن الأمر لا يخلو من تضليل للمتلقي، وإدخالٍ للأتباع في “السياج الدوغمائي” المغلق -كما يسميه مُحمد أركون٢٧. ومن بين الشخصيات التي مورس عليها التضخيم والتهويل والإقصاء (مثلا): بشر المريسي (ت 218هـ)، يقول ابن الجوزي (ت 597هـ) في “المنتظم” عنه: كان شيخا فقيرا فقيها، دميم المنظر، وسخ الثياب، يشبه اليهود، سمع الفقه من أبي يوسف القاضي؛ إلا أنه اشتغل بالكلام، وجرد القول بخلق القرآن٢٨. إن قراءة هذا النص التاريخي بشأن شخصية دينية في التراث الإسلامي، يجعلنا نستوعب حالة الإقصاء والإرهاب الفكري بشأن الشخوص المختلفين، ولو برأي واحد مثل القول بخلق القرآن؛ بسبب الاندماج بين السلطة وتيار ديني محدد كالتيار السلفي آنذاك، حتى قال بعضهم: “بشر بن غياث زنديق، وهو كافر، حلال الدم، يُقتل”٢٩. ويروى عن الخليفة هارون الرشيد يقول: بلغني أن بشر المريسي يزعم أن القرآن مخلوق، لله علي إن أظفرني به لأقتلنه قتلة ما قتلها أحدا قط٣٠، ورغم وجود الصنعة في الخبر عن الرشيد، إلا أنه يعبر عن حالة الاستنفار والإقصاء الممتد على مر التاريخ الإسلامي؛ بناءً على الأرثوذكسية المتحجرة في المجتمعات الإسلامية المغذية للإرهاب الفكري الساكن والكامن.
ولا يتوقف الأمرُ في التراث الإسلامي عند مجرد “حالة السكون” الذي يمارس به الإرهاب في مستوى الخطابات؛ بل تحول فعلا إلى ممارسات إرهابية باسم “المعنكر”، وباسم حماية دين الله، والحفاظ على سنة نبيه صلى الله عليه وسلم؛ إذ نلاحظ مسكويه (ت 421هـ) في تجارب الأمم، ينقل إلينا حالة “الشغب الحنبلي” في بغداد على يد شيخها الغوغائي الحسن بن علي البربهاري (ت 329هـ)، شيخ الطائفة الحنبلية، حتى دفع أمير المؤمنين الخليفة الراضي بالله (سنة 323هـ) الخرشني، صاحب الشرطة، فنادى في جانبي بغداد في أصحاب أبي مُحمد البربهاري الحنبلية، ألا يجتمع منهم نفسان في موضع واحد، وحبس جماعة منهم واستتر البربهاري، وكان سبب ذلك كثرة تشرطهم على الناس وإيقاعهم الفتن المتصلة؛ ومعنى التشرط: الممارسة البوليسية الإرهابية كحرب العصابات على الناس؛ فتوعدهم الراضي في توقيعه قائلا: “فلعن الله ربًّا حملكم هذه المنكرات، ما أرداه شيطانا زينها لكم ما أغراه، وأمير المؤمنين يقسم بالله قسما جهد إليه يلزمه الوفاء به، لئن لم تنصرفوا عن مذموم مذهبكم ومعوج طريقتكم ليوسعنكم ضربا وتشريدا وقتلا وتبديدا، ويستعملن السيف في رقابكم والنار في محالكم ومنازلكم؛ فليبلغ الشاهد منكم الغائب”٣١.
ويُمكن النظر في الممارسة الإرهابية الأحادية في التراث على مستوى الخطاب والممارسة، ما نجده من البربهاري في طبقات الحنابلة؛ إذ يعلن كفر المخالف لمجرد تحكيم العقل، والرأي والقياس؛ لأن الدين عنده أرثوذكسي متحجر؛ ويقول فيه: “واعلم أن الدين إنما هو التقليد، والتقليد لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن قال: لفظه بالقرآن مخلوق فهو جهمي، ومن سكت ولم يقل مخلوق ولا غير مخلوق فهو جهمي”٣٢، فالدين عند البربهاري هو “الدين العتيق”٣٣ الذي يلغي تاريخية الوقائع والتفسير؛ بحيث يكون صنائع السلف أصلا ومعيارا لسلوك الإنسان في الألفية الثالثة، ويمارس البربهاري عبر تلك المفاهيم التصنيف للناس كالرافضي، والجهمي، والخارجي، والمعتزلي، والقدري٣٤، ويرفض الحوار ويغلق بابه؛ لأن الحوار يدعو إلى التفكر والتأمل والتعقل، وكل ذلك مخالف لمفهوم الدين الذي ينحصر عنده في “التقليد”٣٥؛ فلا يتورع عن ممارسة العنف على غيره لمجرد نقد يوجهه إلى عالم من علماء الدين؛ فقد “اجتاز بعض المحبين للبربهاري ممن يحضر مجلسه من العوام وهو سكران على بدعي. فقال البدعي: هؤلاء الحنبلية. قال: فرجع إليه، وقال: الحنبلية على ثلاثة أصناف: صنف زهاد يصومون ويصلون، وصنف يكتبون ويتفقهون، وصنف يصفعون لكل مخالف مثلك وصفعه وأوجعه”٣٦، أليست مثل هذه النصوص في كل المذاهب الإسلامية كافية لتشكيل العقلية الأرثوذكسية المتحجرة الأحادية؟ أعتقد أن التيارات الدينية عبر التاريخ الإسلامي تتحول من “حالة الكمون” إلى حالة الفعل أو الممارسة؛ بسبب عوامل مختلفة.. لعل أهمها:
أولا: وجود تنظيرات دينية في المدونات الفقهية والكلامية، أو الوقائع التاريخية، تدفع المتلقِّي إلى جعلها أصلًا أو نصًّا، أو ركائز لا تقبل التبديل لسلوكه داخل المجتمع الحديث؛ فالأرثوذكسيات المتجرة -بتعبير هابرماس- تنشأ في العقول الراهنة بناء على الموجود في التراث؛ فهذا الموجود هو “الفاعلُ” التأثيرَ في اللاحق؛ ولا يمكن للعقل المسلم أن يتجاوز أزمة الأحادية هذه إلا بوضع كل التراث الديني موضع النقد والفحص، أو أن تتجاوزه باعتباره فعلا لمجتمعات خلت، ولا يمكن أن يكون مقياسا لحاضرنا، في ظل قيم المواطنة والتعددية.
ويمكن أن نلفت الانتباه إلى أن الممارسات التراثية دخلت في مستويات معرفية، وممارسات خطابية مختلفة، جعلتها قابلة لإعادة الإنتاج في حال تغييب العقل والنقد من التيارات الدينية؛ لذلك فإن التحول الذي طرأ على تاريخ الحنابلة من الطور البغدادي إلى الطور الشامي، دشن مرحلة جديدة للتيارات الحنبلية؛ فأفكار البربهاري وممارساته الغوغائية تختلف عن تنظيرات ابن تيمية الذكية في مواجهة المختلف، ولكنها تلتقي كلها في أن بناء الموقف العقدي والفكري لمن يسمون أنفسهم بأتباع “السلف الصالح”، يأتي تلبية لمتطلبات الاختلاف والتناظر مع الآخر، أكثر من تقديم رؤية فلسفية تحمل أي احتياج روحي تفرضه حاجة الواقع٣٧؛ فتقسيم ابن تيمية للتوحيد يصب في المسار ذاته الذي يميز “الحق” من “الباطل”٣٨، والسلفي من الخلفي، والموحد من المشرك، وهذا التقسيم ذاته يتم استغلاله لاحقا في قيام الدولة السعودية الأولى، بالتآزر مع العقلية الدينية التي تتشابه مع عقلية البربهاري. وبهذا؛ فإن ابن تيمية بتقسيماته وتنظيراته سيقدم “الأرثوذكسية المتحجرة” جاهزة، بوصفها قالبا دوغمائيا لممارسة الإقصاء ودحض الحريات.
ثانيا: أن الاتحاد أو بناء علاقات من نوع خاص بين سلطة الدولة، والسلطة الدينية أو القوى الدينية الموغلة في التطرف والإقصاء على حساب طوائف دينية أخرى.. وبهذا؛ فإن الدولة تتجاهل حالة الحياد بوصفها دولة مدنية، أو سلطة تحمي الجميع، وتدخل في حالات التحيز المذهبي، لممارسة الإدماج القسري؛ بحيث تكون بعض القوى الدينية مركزية داخل الدولة، وأخرى هامشية تعيش في الأطراف؛ لأنها تمتلك تاريخ الدولة وتراثه وضمير المجتمع.
ثالثا: غياب القوة أو السلطة القادرة على ضبط المسار الديني؛ بسبب ضعف الدولة وظهور الأهواء، تماما كما حدث في عصر البربهاري؛ بسبب ما تعانيه الدولة العباسية من ضعف وسريانٍ للأهواء السياسية والمذهبية.
إنَّ العلاقة بين الإرهاب في حالته السكونية، وحالة الكمون، تستدعي إعادة الفهم لهذه العلاقة؛ كما تستدعي البحث عن الأسباب التي تعيد الحياة إلى “الأرثوذكسيات المتحجرة”، وبما أنها موجودة -حسب هابرماس- في الشرق والغرب، في اليهودية والمسيحية وعند المسلمين؛ فإن هابرماس يطرح إشكالات من بينها٣٩:
١- أن العلمانية الغربية لم تكتمل جدليا، وأن الغرب يواجهون حالة “ما بعد العلمنة” التي تلتقي بحالة “العلمنة”؛ بحيث إن الوعي الديني الكامن بدأ بالتسلل بعد الأحداث في الغرب إلى السطح، وكأنه أصبح عائقا أمام مشروع العلمانية في مستوى الجدل الفلسفي والممارسة.
٢- الدعوة إلى شكل عقلاني قادر على تقييم الحضارة وبمقياس عالمي؛ تجاوزا للشكل الهوبسي٤٠ الأمني المعولم، الذي يعطِي الأفضلية للشرطة، والخدمات السرية، والعسكر.
٣- تحاشي حرب الحضارات؛ لأن الحرب ضد الإرهاب ليست حربا، والإرهاب في حد ذاته “صدمة مشؤومة” بطبيعتها المكبوتة؛ لضرورة التحول إلى تطوير لغة مشتركة إزاء العولمة التي تفرض نفسها عبر الأسواق دون حدود.
ولكن في جانب تطوير لغة نقدية مشتركة في حيز الذات؛ فإن دراسة الصيرورات العقدية المعاصِرة، وعلاقتها بالتراث وتشكيلات العقلية المذهبية الدينية، تجعلنا نعيد الحفر في تشكل “الأثوذكسيات المتحجرة” وعواملها؛ بدلا من النظر في تحريكها -وفق نظر يورجين هابرماس- لأن تسكين العامل المحرك لا يعالج الجذور، بقدر ما يفرض حالة الانضباط المؤقتة، كما أن القراءة التراثية تستدعي عدم إغفال تجدد العلاقة بين السياسة والدين في كل التاريخ الإسلامي؛ فتلك العلاقة كان لها الدور الأكبر في منع المشروع الديمقراطي من الاكتمال في الدول العربية ما بعد الكولونيالية.
إنَّ ظهور المستويين “الوسيط، والأكبر” من الإرهاب، يُعد حالة طبيعية بناء على وجود العامل المغذي؛ فالمجتمعات العربية تضج بالعصبيات بمختلف أنواعها، وهذه العصبيات يراها فريدريك معتوق بأنها وإن تصدت للاستعمار في مرحلة سابقة، بشكل موحد سياسيا ودينيا، إلا أنها كانت تحمل في أحشائها بذور العصبيات المذهبية٤١؛ فـ”النعرة موجودة بشكل كامن على نحو دائم في وعي الأفراد، غير أن أمر تحريكها لا يعود إلى الأفراد، بل إلى رئاسة القبيلة أو العائلة السياسية، أو الطائفة، أو الحزب السياسي التقليدي الذي يدعو الجميع إلى التذمر؛ من خلال الالتفاف حول قضية مطلبية واحدة تخص العصبية والقيمين عليها، فتطفو على سطح المواقف دعوات مباشرة للاستماتة خدمةً للقضايا العصبانية المطروحة التي يدافع عنها الأفراد بالدفاع لمصلحة أربابها، لكن بدمهم هم”٤٢؛ لذلك تتوالد المستويات.
الإرهاب الوسيط .. وهو الإرهاب الفعلي الذي لا يُمكن أن يتشكل دون وجود الظاهرتين السابقتين: أي التبرير الديني التراثي للعنف، وتحوله إلى مُعتقد كامن وعنيف في “الذات المتدينة”؛ بمجرد أن يعتقد بأرثوذكسية مُتحجِّرة، وهذا يعني أن هذا الفعل العنيف نابع من هذه الذات ابتداء، ولكن ذلك لا يمنع دخوله في تشابك العلاقات المصلحوية القذرة بين القوى المتصارعة؛ بحيث تتحول ظاهرة الإرهاب إلى أداة تدمير لبلوغ الغايات وفق ما طرحته حنة أرندت؛ إذ لا يمكن لنا قراءة الظاهرة دون متابعة لحركاته وسيناريوهاته المتشابكة الغريبة.
الإرهاب الأكبر .. وهو الإرهاب الذي ينبع من خلال الفجوات السابقة؛ لتحويل الظاهرة -وبإدارة فاعلة وسريعة وخفية، وبما يملك من قدرات مهنية، وقوى استخباراتية (كما أشار هابرماس)- إلى أداة رعب يمكن توزيعها وفق ما تريد هذه القوى من ممارسة بوليسية في المجتمعات الآخذة في النمو؛ بحيث إن المحرك الفاعل لا يمكن لنا أن نجده داخل حركة العنف، فننشغل بما هو مادة الفعل ووسائله المباشرة دون النظر فيما ورائياته.
خلاصة القول:
إن ظاهرة الإرهاب والإقصاء تعد أهم عراقيل التنمية الإنسانية، وبناء المجتمع المدني القائم على المواطنة والتعددية، وهما أساس الديمقراطية؛ فالمجتمع المدني ينظر إلى الإنسان باعتبار إنسانيته، ودون شرط أو قيد، في حدود المشتركات الإنسانية، وتجعل حقه في الاختلاف حقا أصيلا نابعا من حريته، وطبيعته الأصيلة.
ولكي نفهم هذه الظاهرة، علينا فهم الجذور التي يختزلها هابرماس في مصطلح “الأرثوذكسيات المتحجرة”؛ لاستيعاب أساليب تفكير العقل الديني الموغل في الإقصاء. فبرودة السطح لا تعني خمول البراكين في الأعماق.
—————————————————-
المراجع:
- في العام 2014م.
- منير الكشو، “علمنة الأخلاق وظهور مجال الضمير: مقارنة بين السياقين الغربي والعربي”، الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، مجلة “تبين” (ع.18، مجلد 5، خريف 2016)، ص:9.
- يورجين هابرماس، “مستقبل الطبيعة الإنسانية نحو نسالة ليبرالية”، تر. جورج كتورة، بيروت: المكتبة الشرقية، 2006، ص:123- 139.
- سايمون تورمي، وجولز تاونزند، “المفكرون الأساسيون: من النظرية النقدية إلى ما بعد الماركسية”، تر. مُحمد عناني، القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2016، مقدمة المترجم، ص:22.
- إدموند هوسرل، “أزمة العلوم الأوروبية والفنومينولوجيا الترنسندنتالية”، تر. إسماعيل المصدق، بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2008، ص:43.
- راجع مقدمة سلامة كيلة للكراسة الماركسية (4) حول المسألة اليهودية لكارل ماركس، روافد للنشر والتوزيع، 2014، ص:8.
- ميرتشيا إلياده، “البحث عن التاريخ والمعنى في الدين”، تر. سعود المولى، بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2007، ص:40.
- سايمون تورمي، وجولز تاونزند، “المفكرون الأساسيون من النظرية النقدية إلى ما بعد الماركسية”، ص:82.
- يعدّ القرار رقم (1267/ 1999م) الصادر عن مجلس الأمن الدولي قرارا مفصليا وتاريخيا بشأن ظاهرة الإرهاب، وتتبع منابعها وشخصياتها على مستوى العالم، والذي أدان بشدة استمرار استخدام الأراضي الأفغانية لإيواء الإرهابيين وتدريبهم.. انظر وثيقة القرار في: مصطفى العاني، “مكافحة الإرهاب وآلية العدالة الدولية: لجنة “1267” التابعة لمجلس الأمن الدولي”، دبي: مركز الخليج للأبحاث، 2005، ص:45-51.
- المرجع السابق، ص:33.
- كريم مزعل شبي، “مفهوم الإرهاب: دراسة في القانون الدولي والداخلي”، مجلة “أهل البيت” (ع2) ص:32.
- حنة أرندت، “في العنف”، تر. إبراهيم العريس، بيروت: دار الساقي، 1992،ص:5-6.
- إيريك فروم، “تشريح التدميرية”، تر. محمود الهاشمي، دمشق: دار نينوى، 2016، جـ1/ ص:40.
- ماكس فيبر، “العلم والسياسة بوصفهما حرفة”، تر. جورج كتورة، بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2011، ص:18.
- المرجع السابق، ص:18.
- مصطلح المعنكر.. مصطلح منحوت من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في التراث الإسلامي، الذي تحول من حالة تدافع نقدي إلى حالة إرهاب الآخر، وفق الأرثوبراكسية الدينية المنغلقة والأحادية (الباحث).
- يورجين هابرماس، “مستقبل الطبيعة الإنسانية نحو نسالة ليبرالية”، تر. جورج كتّورة، بيروت: 2006، ص:123.
- فريدريك معتوق، “العصبيات: آكلة الحريات السياسية”، الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، مجلة تبين (ع.17، مجـلد5، صيف 2016)، ص:67.
- المرجع السابق، ص:61.
- المرجع السابق، ص:63-64.
- بالنسبة إلى هيجل “أن الإنسان يختلف جذريا عن الحيوانات؛ لأنه بالإضافة إلى ذلك يرغب في رغبة الناس الآخرين؛ أي أنه يريد أن يتم الاعتراف به، خاصة يريد أن يُعترَف به ككائن إنساني، أي كائن مزود بكفاءة وبكرامة معينة ترتبط بالدرجة الأولى بإرادته في احتمال تعريض حياته في صراع من أجل الاعتبار فحسب. فالإنسان وحده يستطيع أن يتجاوز غرائزه الحيوانية الخالصة، ومن بينها بشكل رئيسي غريزة البقاء -من أجل الالتزام بمبادئ وأهداف أسمى وأكثر تجريدا”. انظر: فرانسيس فوكوياما، “نهاية التاريخ والإنسان الأخير”، بيروت: مركز الإنماء القومي، 1993، ص:27.
- يورجين هابرماس، “مستقبل الطبيعة الإنسانية نحو نسالة ليبرالية”، ص:123.
- المرجع السابق، ص:124.
- المرجع السابق، ص:124.
- المرجع السابق، ص:124.
4,086 total views, 2 views today
Hits: 216