الإسـتـقـامـة
صادق بن محمد سعيد اللواتي
استيقظ “خميس” من نومه مُبكِّراً على غير عادته، نظر إلى الساعة ليجد الوقت قد قارب الرابعة صباحاً.. قام من فراشه وتوجَّه إلى دورة المياه ومنها خرج من البيت.. لا يعلم لماذا خرج، ولا أين يذهب؟ إنه لنتيجة حالة الضيق والكآبة التي تواجهه منذ أيام، يشعر بأنه مُقدِم على القيام بشيء ما لا يعرفه، لكنه على يقين تام بأنَّ شيئاً ما على وشك الحدوث.
إنَّ مثل هذه الظاهرة ليست بغريبة، وكثيرٌ من بني البشر يشعرون بها في بعض مراحل حياتهم، والتي تعكر عليهم مزاجهم.. هذه الحالة هي تلك التي لا تدع المرء ينام أو يجلس مرتاحاً، أو ينجز أعماله بهدوء.. خرج من البيت وهو في حالةٍ يُرثَى لها. لا يعرف هل هو نائم أم مستيقظ.
سلك الشارع المعتاد، الذي يوصله إلى مقر عمله.. كان الشارع خالياً من المارة والسيارات تماماً.. إنه يكتشف لأول مرة أنه يمكن للشوارع أن تخلو من المارة والسيارات. وبدأ منظر الشارع يُضايقه نوعاً ما؛ إذ إنه لم يتعود على هذا الهدوء؛ حيث كانت حياته مليئة كلها باللعب والضجيج.. أنه لم يخرج من البيت قط في حياته على قدميه في مثل هذا الوقت. نعم، إنه عاد إلى البيت من سهرات اللهو واللعب في مثل هذا الوقت، لكنَّ ذلك في سيارته والموسيقى تتفاعل مع نفسه وتكوِّن حاجزاً بينه وبين الشارع وهدوئه.
شعر “خميس” بأنه يريد أن يتكلم. يقول أي شيء لأيٍّ من كان.. إنه لم يتكلم منذ أسبوع، منذ لازم البيت ولم يخرج منه. لا.. لا.. إنه يريد أن يبكي.. يبكي على أي شيء.
تذكَّر الخُروج المُذل لبوتفليقة والبشير من الحكم، واللذيْن كان يعتبرهما من القوميين العرب، يُعيدان فلسطين لأصحابها!! لم يتحقق له ما يريد، نعم حتى الدموع قد خذلته.. إنَّه يريد أن يبلغ أحداً بما يشعر. إنه ما لم يبلغ أحداً بما يشعر فقد يجن. وفي غمرةِ هذه الأحاسيس القاتلة إذ يُشاهد فأراً. توقَّف عن الحركة كي لا يدع الفأر يهرب من وطأة أقدامه. ها هو قد حصل على مُبتغاه، لقد وجد من يتحدث إليه. إنه يريد من أحد أن يستمع إليه، وإلى الحالة التي يعاني منها، لا أن يستمع إلى توجيهاته. وعليه، فلا يهمه إن كان الذي يستمع إليه هو فأر، والذي لا يستطيع الرد عليه.
تسمَّر “خميس” في مكانه، وأمعن النظر إلى ذلك الفأر. لا تبدو عليه علامات الكآبة. لا بل هو يبدو وكأنه يضحك. “لماذا أنت وحدك؟ أين زوجتك وأولادك؟ لا تقُل لي بأنك عازب. أنتم معشر الفئران تتزاوجون وتنجبون بدون قيل وقال.. فقل لي أين أهلك وأصدقاؤك؟ آسف.. آسف.. لقد نسيت أنك لا تستطيع الرد على أسئلتي. أنا مجرد أحببت أن أتكلم. المعذرة.. المعذرة”. وتحرك الفأر من مكانه.. “لا تذهب عني، أرجوك.. أريدك أن تستمع إلى ما بي من معاناة. أرجوك قف لي رويداً”. وجرى وراء الفأر وكأنه يريد الإمساك به، والفأر يجري بأقصى سرعته أمامه. دخل الفأر في حجرة. فلم يُفلح “خميس” في إسماعه بعضَ ما يعانيه من اضطرابات نفسية، فقرر أن يعود إلى البيت، لعله يستطيع أن ينام قليلاً ويستريح مما هو فيه.
وفجأة.. توقف عن الحركة على صوت يأتيه من بعيد. ما حلاوة هذا الصوت! إنَّ لهذا الصوت ذكريات لا يمكن له أن ينساها أبد الدهر.. إنه يذكِّره بأيام الطفولة عندما كان يخرج مع والده إلى حيث يأتي منه هذا الصوت العذب. إنَّ حياته المليئة باللهو واللعب قد أنسته حلاوة هذا الصوت، وحتى أنسته والده.. ذكر أباه، وتمنَّى لو أنه كان يعيش ليمسكه من يده، ويتوجَّه به إلى ذلك المكان كما كان يفعل في طفولته.. وبدأ يتأمل نبرات الصوت، الكلمات هي نفسها لم تتغير، يبدو أنَّ لمعاني الكلمات تأثيراً أكبر مما كان عليه في طفولته. إنَّه صوت المؤذِّن يُؤذِّن لصلاة الفجر.
إنَّه لم يدخل منذ شبابه المسجد. والآن، بعدما قارب على الأربعين شعر وكأنَّ قوة عجيبة تجرُّه نحو هذا الصوت.. دخل المسجد، وألقى نظرة على المكان الذي كان هو ووالده يصليان فيه.. وأجهش “خميس” بالبكاء. بكى طويلاً وهو يردِّد بصوت خافت: “سامحني يا الله.. سامحني أوباه. لقد نسيتكما ونسيت آلاءكما التي منحتاها لي. أنا آسف جدًّا. ها أنا أعود إلى الله من جديد وأتوب إليه، فهل من المغفرة؟”. ومن حُسن حظِّه، لم يكن المصلون قد حضروا للصلاة ليقفوا على حاله وهو يبكي ويناجي.. وعند خروجه من المسجد بعد الصلاة لم يستشعر بتلك الحالة المشمئز منها التي كانت تلازمه.. وبدأ يكتشف أن حالة الكآبة وخروجه في هذا الوقت من البيت والفأر، هم ليسوا إلا وسيلة لإنارة طريق الهداية والاستقامة.
وعرف ساعتها معنى قول البارئ -عز وجل: “ألا بذكر الله تطمئن القلوب”.. خرج من المسجد وتوجَّه ليقدم اعتذاره لأبيه.. جلس على قبره. ومرة أخرى بدأ يبكي بكاءً شديداً وهو يردِّد: “أوباه، أنا ابنك “خميس”، أوباه سامحني، أعتذر منك على هذا الجفاء”.
2,184 total views, 2 views today
Hits: 127