“المنزفة: بيوتها الأثرية وتراجم أعلامها” ليعقوب بن سعيد البرواني
سَيْف بن عدي المسكري
حَازَ كتابُ “المنزفة: بيوتها الأثرية وتراجم أعلامها وهجرتهم إلى الدريز وغيرها من البلدان في عُمان وإفريقيا الشرقية”، للباحث يعقوب بن سعيد البرواني، على جائزة الإبداع الثقافي لأفضل إصدار في مجال الدراسات التاريخية للعام 2017م، مُنَاصفة مع كتاب “جمال عبد الناصر والحركات السياسية في عُمان” لرنا الضويانية. صَدَر الكتاب عن مكتبة السيدة فاطمة الزهراء بعُمان 2017م. ويعتني بقرية من القرى المهمة في شرقية عُمان، مُقدِّما مثالا نموذجيا على كيفية التعاطي مع التاريخ المحلي للقرى والتجمُّعات السكانية في عُمان، لتكون نواة للتاريخ العُماني بصورته العامة. وللباحث جهودٌ ملموسة في هذا المجال، يعرفها الكثيرُ من المهتمين بحقل الدراسات التاريخية العُمانية.. ضمَّ الكتابُ في فصوله التسعة مواضيع شتَّى حول الأنساب، والآثار العُمرانية، والتراجم، والهجرات، ونشأة القرى، وتأسيس الأفلاج. والبحث في أصله الدقيق، دراسةٌ لقرية المنزفة، وعلاقتها بالحارات الثلاث: حاجر البراونة من حاجر سفالة إبراء، وحارة الدريز، وحارة فلج مسعود.
الحيز المكاني للدراسة
تحتلُّ قرية المنزفة الجزءَ الجنوبي الغربي من إبراء، التي تعدُّ من أهم مدن الشرقية، وكانت مركزًا رئيسيًّا لإدارة كامل الشرقية في العصر اليعربي. وإبراء منطقة واسعة، تضمُّ قديما المساحة من برج وريد شمالا حتى بدية جنوبا، وتحدها ولاية دماء والطائيين من الشمال الشرقي، ونيابة سمد الشأن من الشمال الغربي، وقرى ولاية المضيبي من الغرب، وبدية من الجنوب، وسلسلة جبال الحجر الشرقي من الشرق (المنزفة، ص:41).
ولم يَرِد ذكرٌ لسبب التسمية، غير أن هذا المصطلح يُطلق عُمانيًّا على الأراضي المرتفعة عمَّا سواها، والتي ينزف إليها الماء، وهذا هو الأقرب للقرية محل البحث؛ فهي مُرتفعة عن الحارات التي تجاورها، وإنْ كان للاسم معانٍ أخرى. ولا يُعْرَف بالتحديد متى تمَّ بناء القرية غير أنَّ أقدم النقوش التي حَمَلتها مبانيها الأثرية يعود للعام 1128هـ/1716م. والنمطُ الذي شُيِّدت به القرية يعكسُ الفنَّ المعماريَّ الإسلاميَّ، وهندسة الاستحكامات العسكرية السكنية؛ حيث تضمُّ مجموعة من البيوت الأثرية التي يبلغ ارتفاع بعضها ثلاثة طوابق، ويحيط بالقرية سورٌ مضلع به عدد من الدراويز يصل عددها إلى تسع (المنزفة:41،42).
المصادر والمنهجية
لا شكَّ أنَّ الحفر في مصادر متعددة ومتنوعة، ولمدة زمنية طويلة في موضوع مثل هذا، يحتاج إلى صبرِ الباحث ورصانته، وهو ما تبيَّن من ثنايا هذا السفر؛ مُتمثلا في عددٍ كبيرٍ من الوثائق، يعود أقدمها إلى مُنتصف القرن الثاني عشر الهجري/الثامن عشر الميلادي، وقد حَصَل الباحثُ عليها من أماكن مُتعددة؛ أبرزها: الوثائق الشخصية المحفوظة لدى مجموعة كبيرة من الأسر والأفراد، وكذلك المؤسسات كهيئة الوثائق والمحفوظات، وجامعة السلطان قابوس، والأرشيف الزنجباري. وقدم حولها تفصيلا يُعِيْن من يأتي بعده قاصدا البحث فيها.
أمَّا الروايات الشفهية، فكان لها دَوْر كبير في صياغة محاور الكتاب؛ حيث أجرى الباحثُ مقابلات عديدة مع المسنين من أهل المنطقة؛ ومنهم من توفاه الله، ومنهم من لا يزال حيًّا. وما يحمله هؤلاء من معارف تُشكِّل مخزونًا كبيرًا يبني عليه محاورة ومناقشة مع المصادر الأخرى المكتوبة والمنقوشة. وهنا دَعْوة يُقدِّمها الباحث إلى الجميع بأنْ يسعوا لحفظ أكبر قدر من الروايات الشفهية لمن عاصر الأحداث الماضية حتى لا تَطْوِي يدُ النسيان هذه المعارف مع رحيل أصحابها.
وللمخطوطات العديدة أهميةٌ كبيرةٌ ساعدتْ الباحثَ على تقصِّي الأعلام، وأشهر الأحداث وإثبات السنين.. وهي مُتنوعة، يعود أقدمها إلى بداية عصر اليعاربة، وإلى جانب ذلك استعانَ الباحثُ بالمراجع الحديثة والمجلات والدوريات المختلفة. وأجدُني هنا أضيفُ مصدرًا آخر؛ يتمثَّل في المسح الميداني الذي قام به الباحث؛ ذلك أنه لم يكتفِ بسبر جوانب المدون من المصادر؛ بل نزل إلى الواقع مُفتِّشا في بقايا آثار المنزفة، وبالخصوص النقوش التي ضمَّتها جُدران الحصون والبيوت. ومثال ذلك: النقش المدون في بيت الوالي -والمسمَّى بيت السدور- الذي يبتدئ بـ”لا إله إلا الله محمد رسول الله”، وفيه إشارة إلى دمام “تسقيف” البيت في عهد الإمام سلطان بن سيف الثاني (1123هـ/1711م-1131هـ/1719م) وكان في العام 1128هـ. وهو أقدم نقش تمَّ التوصُّل إليه في القرية، ولم يبقَ منه سوى سطر واحد، بعد أن جرت عليه عوادي الزمن، والفضل في معرفته كاملا يعود للصورة التي أخذها الباحث له في العام 1996م.
المباني الأثرية
تتنوَّع المباني التي تُزيِّن المنزفة بَيْن: البيوت، والمساجد، والمدارس، والمجالس؛ ومن أهم بيوت المنزفة الكبيرة: بيت السدور، المكوَّن من طابقين، لم يبقَ منهما الآن سوى الأطلال والأعمدة في الطابق الأرضي (المنزفة،ص:51). ويتميَّز بأنه استحكامٌ سكنيٌّ حربيٌّ، تُزينه الأقواس، والعقود، وتشكيلة جميلة في تقسيم الغرف، كما يوجد به سجن، وحمامات، ومسبح، وبئر ينزف منها بدلاء نحاسية (المنزفة، ص:55). وبيت الشريعة: المبنى الضخم المكوَّن من ثلاثة طوابق، والمبني بالجص والحصى. وقد اتُّخذ سكنًا من قبل العديد من الأسر، ومن الشخصيات البارزة التي سكنته: فاطمة بنت عمر بن مسعود البروانية، التي عاشت زمن السيد سعيد بن سلطان (1219هـ/1804- 1273/1856م)، وعُرفت بالكرم والصلاح، وسعت للصلح بين القبائل، بذلت مالها، ولها بئرٌ للمسافرين بين القابل وإبراء يُسمَّى جفر فاطمة (المنزفة،ص:80).
بيت البومة.. ويُقْصَد به القبة في أعلى سطح البيت، وقد بُنِي في سنة 1222هـ، ويحوي نقوشا بديعة على الجدران الداخلية، وكتابات قرآنية، وحركات هندسية بديعة في غرفه وعقوده وروازنه (المنزفة:85). إلى جانب بيوت أخرى توقف عندها الباحث؛ كبيت الدروازة، وبيت البرج، والبيت العود، الذي يوصف بأنه أكثر المباني تماسكًا في المنزفة حاليا...وغيرها من المباني.
يُناقش البرواني إشكالية توثيق تاريخ تأسيس المباني؛ حيث إنَّ الركون للتواريخ المبينة في الأبواب فيه نظر؛ فقد يكون البيت قديما، لكن يُجدد بابه مع الزمن، ويكتب النجار سنة صنع الباب، وعندما يتم استبدال الباب بباب آخر يتوهم الزائر أن ذلك هو تاريخ بناء البيت (المنزفة،ص:125). وفي سياق آخر، نجد أن ما تحويه هذه الآثار البديعة من نقوش وزخارف وأبواب ونوافذ ومقتنيات مختلفة تتعرض لعوادي الزمن ذات المصدر الطبيعي، وفي أحيان كثيرة البشري؛ حيث يُسجِّل الكتاب حادثتين، تمَّ فيهما نقل أبواب من هذه المباني لتكون في مبانٍ أخرى جديدة، كما هي الحال في أخذ ماجد بن سعيد البرواني بابيْن من بيت الشريعة لبيته في السباخ، واستئذان أحمد بن خالد في أخذ أربع نوافذ (المنزفة:82)، وكان لبيت سالم بن عبد الله البرواني نوافذ جميلة طلبها ناصر بن عيسى بن صالح الحارثي من أهل البيت بزنجبار، فأعطوه إياها (المنزفة:102).
حَوَت المنزفة العديد من المساجد، والتي وثَّق الباحث لها، مُعتمدا على العديد من المكاتبات الخاصة بالأوقاف، ومياه الأفلاج. كذلك المجالس المعروفة محليًّا بالسبل. ويستوقف المطِّلع على مادة الكتاب إمكانية تلمُّس خصائص النشاط الاقتصادي للعُمانيين بشكل عام، ولأهل الشرقية بشكل خاص؛ من خلال الوثائق الواردة في الكتاب؛ حيث تشتمل على تفاصيل مهمة تتعلق بالمزارع، والأراضي، والبيوت، والأموال، والمحاصيل، والبضائع، وطرق إرسال الحوالات وقيمتها سواء في عُمان أو شرق إفريقيا.. وهذا الجهد التوثيقي يُحسب للباحث، ويُثنى عليه لأجله.
ومن جانب آخر، نجد أن الباحث يُخصِّص الفصل الثالث لتراجم وأعلام المعامرة أهل المنزفة، في حين ذكر الكثير منهم تفصيلًا في حديثه عن حارة المنزفة، والتي تمنَّينا عليه فيها أن يُلقي مزيدا من التفصيل حول النشأة، والبناء، والنشاط الاقتصادي، والسياسي والاجتماعي، عِوَضا عن الإسهاب حول الشخصيات المرتبطة بها، إلى حدِّ إصابة الملتقي بالملل أحيانًا.
التراجم والأعلام
إنَّ جُملة الأعلام الوارد ذكرهم في الكتاب يشكلون في حقيقة الأمر صورة لما كانت عليه المنطقة من ازدهار علمي واقتصادي كبير، ومرارا وتكرارا نشير إلى الجهد المبذول في تتبُّع كل ما يتعلق بهؤلاء الأعلام، عبر الفصول: الثالث “تراجم أعلام المعامرة: أهل المنزفة في عُمان وسلطنة زنجبار العربية”، والرابع “تراجم أعلام البروانة: أهل المنزفة في عُمان وسلطنة زنجبار العربية”، والسادس “آثار وأعلام حاجر البراونة والنطالة”، والثامن “تراجم أعلام البراونة في الدريز”.
حيث تتنوَّع نماذج هؤلاء الأعلام بين: الوالي، والفقيه، والتاجر، والسياسي، والمقاتل، ومن عني بالصحافة والكتابة. فمن الولاة المشهورين: عامر بن محمد بن مسعود المعمري، الذي تولى الشرقية من إبراء إلى صور في عهد الإمام سلطان بن سيف بن مالك اليعربي (1059هـ/1649م-1090هـ/1679م)؛ حيث كان يُشرف منها على البلدان والنواحي في الشرقية، ويتبيَّن من المراسلات بينه وبين علماء عصره سعة علمه وفقهه، وأخذ عنه العلم جملة من الفقهاء، وله الفضل في تشجيع الخراسيني على تأليف كتابه “فواكه العلوم”. وأورد الباحثُ نماذج من أحكام هذا الوالي وفتاواه، وثناء العلماء ومدح الشعراء له. وقد حفظت المصادر له رسالة في صفة الصلاة، وأخرى في صلاة العيدين، إلى جانب العدد الكبير من المسائل العلمية.
كذلك شخصية محمد بن خلفان بن خميس البرواني، والمشهور باسم “روماليزا”، والتي تعني “عليك بالإنجاز”، أو “اشرع بعمل ما أقول لك”؛ حيث كان كثيرَ التكرار لهذه العبارة.. وُلد في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، وكوَّن إمارة شملتْ المنطقة الواقعة على الضفة الشرقية لبحيرة تنجانيقيا. دخل في حروب مع البلجيك الذين سعوا لبسط نفوذهم الاستعماري في المنطقة، وقد عُرف عن هذه الشخصية المغامرة -والتي تعود في جذورها إلى المنزفة- الكثير من المواقف التي أوضحها الباحث، وقد عاش روماليزا حتى العقد الثاني من القرن العشرين الميلادي (المنزفة:277-302).
كما نجد التفصيل حول شخصية حمود بن سالم بن راشد البرواني، والمعروف “براعي النجم”، وكان رجلا ثريًّا اشتهر بالسخاء، بنى بيت النطالة الذي انتهي من بنائه بتاريخ (8 ذي الحجة 1279هـ/ 26 مايو 1863م)، وشق فلج الصافي، وقيل إن سبب التسمية نسبة لبندقية كانت معه تُسمَّى النجم لا تخطئ الهدف، وقيل لكثرة أمواله؛ حيث أين ما هوى نجم فإن له في ذلك المكان مالًا. عُرِف عنه حرصه على دفع الديات حقنا للدماء، وله مآثر عديدة (المنزفة:480-486).
وبالمجمل.. اشتمل هذا البحث على الكثير من المعارف؛ سواء المتعلق منها بالحياة الاجتماعية، أو الاقتصادية لهذا الجزء من عُمان، وإن كان مسطِّره قد وَضَع له هدفا مُتمثلا في توثيق العلاقات النسبية بين الأسر المختلفة لأجل صِلة الرحم، وتنبيه الأجيال المعاصرة لما كان عليه سلفهم فذلك هدف قد تحقق بشكل كبير، عبر التفصيلات المهمة للأسر، وامتدادها الزمني والمكاني. الكتاب كبير في حجمه، ومتنوع في مواد طرحه، مُشتمل على الصور واللوحات والوثائق، وهذا الاستعراض الموجز المخل سعى للفت انتباه القراء إلى هذا العمل، حتى تتعدَّد زوايا الاطلاع، وتتسع آفاق الرؤية لجانب مهم من جوانب تاريخنا المحلي.
9,297 total views, 14 views today
Hits: 1670