المرأة بين الهويَّة والحداثة والتقاليد
فايزة مُحمَّد
تُعتبر قضية المرأة من ضمن القضايا الجدلية المهمة اليوم في عالمنا العربي، خاصة في السِّجال الفكري بين التيارات الدينية المعتدلة/المتطرفة والمدنية/الليبرالية/العلمانية، وقد تطوَّر هذا السجال بعد التغييرات السياسية التي حدثت في بعض الدول العربية “الربيع العربي”، التي لعبت فيها المرأة دورًا كبيرًا في ذلك، خاصة في مصر وتونس.
ولكن مع ذلك، يبدو أنَّ الطريق لا يزال طويلا وشائكا أمام المرأة العربية من أجل أن تحظى بالمكانة التي تستحقها في المجتمع أسوة بأخيها الرجل؛ إذ إنها لا تزال تعاني من الاضطهاد والتمييز في بعض الدول، خصوصا في المناطق التي تسيطر عليها الجماعات الدينية المتطرفة. وقد تناقلت وكالات الأنباء العالمية والعربية -في الأشهر الأخيرة- أشكالا كثيرة من ذلك في المناطق الخاضعة لسيطرة الجماعات الدينية في سوريا والعراق والصومال، والمؤسف أنها جميعها تحدث باسم الدين.
… لقد عرفت المرأة العربية طريقها إلى التحرُّر من أشكال العبودية المختلفة بعد الحدث التاريخي الذي وقع في القرن السابع الميلادي، والذي دشَّن عهدا جديدا للبشرية؛ وهو انبثاق الإسلام في مكة المكرمة. ولكنَّ الأمة دخلت بعد العهد الذهبي للإسلام -وتحديدا ابتداء من القرن الخامس الهجري- وبفضل عوامل متعددة سياسية/دينية/فكرية في أطوار أخرى، انقلبت بها من أمة رسالة وتجديد؛ إلى أخرى منكمشة على ذاتها في نصوص مغلقة، وتابوهات محرَّمة لا يمكن فتحها أو حتى النقاش والجدال في تفاصيلها، وانغلاق اجتماعي ومعرفي شمل الموقف من المرأة أيضا، والتي بات الحديث عنها وكأنه هرطقة أخرى من ضمن الهرطقات التي كان يُرمى بها كل من يجرؤ على انتهاك المقدس/التابو، والتي من السخرية أنها لا تزال كذلك حتى كتابة هذه السطور في كثير من السياقات العربية.
وفي دورات الانحطاط الحضاري التي دخلتْ فيها الأمة -خاصة في العهد العثماني-وشملتْ سياقات مختلفة: معرفية، واجتماعية، وسياسية…وغيرها، انعكس ذلك -أيضا-على قضايا المرأة العربية والمسلمة بتناقضاتها والتباساتها المتعددة، والتي وصلت ذروتها في تحريم القراءة والكتابة عليها؛ بحجة أنها تفتح لها أبواب الحرام، وكذلك تكريس النظرة الاجتماعية البائسة لها بأنها مخلوق ضعيف خُلق من ضلع أعوج من أجل خدمة الرجل والسهر على راحته فقط، أو وعاء بيولوجي من أجل الحفاظ على نسل سيدها الزوج. وقد ساعد على ذلك ترسانة ضخمة من المرويات الحديثية التي حملت بين طياتها إساءات بالغة للمرأة ودورها في المجتمع. وقد أدَّى جميع ذلك إلى تراجع دور المرأة في المجتمع، وحبسها في البيت في كثير من المجتمعات العربية درءاً للفتنة -حسب تعبير بعض رجال الدين.
ونستطيع أن نفهم أن كثيراً من هذه الروايات والنصوص المسيئة للمرأة تعكس طبيعة النظام المعرفي الذي كان سائدا آنذاك، وكذلك نمط التفكير في المجتمعات الدينية في تلك الفترة. ولكن -وللأسف الشديد- فإنَّ كثيرا من هذه تلك الكتابات لا تزال تتجدد ولكن بصورة حديثة، وكأن دورة شيطنة المرأة تعيد نفسها ونسجها من جديد، وتتجدد. وفي وسط هذه الأجواء شديدة القتامة لم يكن غريبا أن تظهر أصوات حرة، انتصرت للمرأة وللمبادئ والقيم الحضارية للإسلام، أصواتٌ استطاعت أن تكرس فكرها وقلمها لدعوة المرأة العربية والمسلمة للتحرر من أغلال الماضي، والتحليق في فضاء الحاضر والمستقبل، وتأكيد حقها في الحياة والتعليم والعمل. ومن أبرز هذه الأصوات: قاسم أمين في مصر، والطاهر الحداد في تونس، ونظيرة زين الدين في الشام، وهدى شعراوي في مصر، وفاطمة حسين في الكويت…وغيرهم.
وفي هذا السياق الحضاري الذي بدا وكأن فجرا جديدا قد أطل على المرأة العربية ليعلن بداية ميلاد عهد جديد لها، خرجتْ إلى العلن دعوات مضادة من خارج الحياة والتاريخ، لتعلن أنَّ جميع هذه الدعوات تهدف إلى مسخ هوية المرأة وانسلاخها من هويتها الإسلامية والوطنية، ودعوة إلى تغرُّبها وإبعادها عن دينها. وكأن المرأة عندما تعمل مع أخيها الرجل في خدمة وطنها وأمتها ترتكب بذلك إثما عظيماً. أو كأنها عندما تمارس حقها الطبيعي في ممارسة حقوقها الاجتماعية قد ابتعدت عن طريق الهداية الربانية وسلكت مسلك الشيطان.
وتعتبر قضية الهوية من ضمن المحاور الرئيسية عند الحديث عن ؛ سواء من جانب المنظمات الحقوقية أو الدينية أو الفكرية المختلفة؛ فهناك فئة كبيرة تنطلق في تفكيرها ضمن إطار ديني/اجتماعي تعتبر لباسَ المرأة -مثلا- مقياسا حقيقيا لمعرفة هويتها. وفي المقابل، فإنَّ تيارات الحداثة المختلفة لا ترى ذلك؛ إذ إنها تعتبر ذلك من ضمن المناطق التي تخضع في صيرورتها لقانون المتغير لعلاقتها بالجانب الاجتماعي لحركة المرأة في الحياة وليس للجانب الديني.
ويتحدث علماء الاجتماع عن نوعين من الهوية للإنسان: الهوية الاجتماعية، والهوية الذاتية؛ فالهوية الاجتماعية: تتأثر بالبيئة الاجتماعية التي يعيش فيها الإنسان -سواء بالسلب أو الإيجاب- طبقا لنوعية هذه البيئة؛ حيث تتحدَّد من خلالها الأنماط السلوكية التي يلتزم بها في الحياة. وأما الهوية الذاتية؛ فهي مما يتميَّز بها الإنسان كهوية مستقلة كذات إنسانية لها فلسفتها ومنظومتها الفكرية في الحياة؛ فأنا -كامرأة مثلا- لا أستطيع أن أخرج عن البيئة الاجتماعية التي لا شك أنني جزءٌ لا يتجزأ منها، ومن منظومتها الأخلاقية والسلوكية، ولكني قد أتميَّز عنها بهويتي الذاتية كمعلمة أو موظفة أو ربة منزل، لها اهتمامات معينة وطريقة تفكير ولباس معينة تختلف عن الآخرين، ولكنها لا تخرج عن الهوية الاجتماعية التي نظل تحت منظومتها.
ومن القضايا التي تم التعامل معها وكأنها من أصول الدين، وركن أركان الهوية الإسلامية: مسألة زِي المرأة، بل إن التشدد في هذه القضية بلغ حدَّ دعوة بعض رجال الدين إلى تغطية المرأة حتى وجهها بحجة أنها عورة -معاذ الله- ومن ذلك “العباءة”؛ التي أخذ الحديث عنها وكأنها تعبير عن الهوية الوطنية والإسلامية للمرأة العُمانية، مع أنَّ السياق التاريخي المجتمعي العماني لا يؤيد ذلك، فـ”العباءة” دخلت المجتمع العُماني في وقت مُتأخر جدا قياسا بمجتمعات أخرى؛ إذ إنه حتى بدايات الثمانينيات من القرن الماضي كانت العباءة تستخدم بشكل قليل جدًّا، ولكنها دخلت -وبقوة أيضا- نتيجة التأثر بأحداث سياسية فرضت أجندتها السياسية/الأيديولوجية بقوة على كثير من المجتمعات العربية -ومنها المجتمع العُماني- حتى بات الاعتقاد بأن العباءة تشكل الزي الرسمي للمرأة المسلمة راسخا عند فئات كبيرة من النساء -خاصة المتدينات منهن- مع العلم بأن اللباس التقليدي للمرأة العمانية لا يشمل العباءة بشكلها الحالي، التي بدأت تتخذ أشكالا متطورة تبعا لتطور أشكال الموضة، ولا تزال المرأة العمانية في القرى ذات الحياة التقليدية -التي لم تتأثر بالحداثة، أو الصحوة الدينية- تحافظ على الزي التقليدي العُماني بشكله الجميل، دون أن يؤثر ذلك في هويتها العمانية أو الإسلامية، بل تحافظ عليهما للأجيال العُمانية القادمة.
… إنَّ اعتبار العباءة حاجزا فضائيا يفصل بين منظومة الأصالة وبين قيم الحداثة، لا يستند إلى قراءة دينية/سوسيولوجية صحيحة؛ لاعتبارات متعددة؛ منها ما تتعلق بالأحكام الدينية نفسها، التي لم تفرض زيًّا معينا على المرأة سوى اعتبار جانب الحشمة فقط؛ إذ إن هذه الظاهرة الاجتماعية لا توجد إلا في دول الخليج فقط -ومنها: إيران والعراق- أما المجتمعات العربية والإسلامية الأخرى، فإن غالبها لا يعرف العباءة، وإنما تلتزم النساء فيها إما بالملابس الوطنية التي تشكل جزءًا من هويتها الوطنية، أو الملابس الحديثة التي تنسجم مع قيم الحداثة، مع اعتبار جانب الحشمة فيها، والتي لا تظهر سوى ما أمرت الأحكام الفقهية بإظهاره، دون أن تعتبر ذلك مناقضة للدين أو أحكام الفقه الإسلامي.
إنَّ اختزال المنظومة الأخلاقية في أشكال الزي المختلفة -خاصة التي تتعلق بالمرأة- والنظر بشكل سلبي إلى العباءة الملونة أو إلى المرأة غير الملتزمة بالحجاب المعروف في السياق المجتمعي العُماني، إنما يُعبِّر عن قصور فهم، وقراءة خاطئة أيضا للدين، وفهم غير صحيح لمفهوم الهوية. وأنَّ نهضة أية أمة مرتبطة بشكل وثيق بالوعي الثقافي للمرأة فيها؛ فلا نهضة حقيقية دون مشاركة فاعلة للمرأة فيها، والسياق التاريخي للإسلام يُثبت ذلك لكل مُنصف؛ لذلك فإنه من المؤسف أن يتم اختزال الإسلام -هذه المنظومة الإلهية العظيمة في الفكر والأخلاق والتشريع- في مظاهر شكلية لا تُمثل قيمة أخلاقية، وإنما ترتبط كثيرٌ من مظاهرها بالأعراف الاجتماعية والعادات والتقاليد.
11,371 total views, 2 views today
Hits: 1370