سما عيسى
كاتب وأديب وناقد سينمائي


مثلت الرومانسية دما جديدا في الثقافة الأوروبية، اذ وحدت الوعي بالطبيعة وأعطت موروثه دفعة جديدة الى الامام، ألغت الحدود بين الواقع والوهم، بين الحقيقة والخيال. أعطت للفنان حقه في العودة الى ذاته وفتحت أمامه أبواب العدم والقلق والتصوف. وفي كافة المجالات ربطته بفجائعية وجوده سواء في الإبداع أو في اُسلوب حياة الفنان، بل في بعض الأحيان في الإبداع والسلوك معا. والفنان كاسبار دافيد فريدريخ ١٧٤٤-١٨٤٠، هو أحد الوجوه البارزة والدالة على ذلك. رغم ان ألمانيا في القرن التاسع عشر قدمت ذروة عطائها في الفلسفة والموسيقى والشعر كشلنج، فيلسوف الرومانسية ومعه شليماخر وريتشل. أو ذروة الإبداع الرومانسي في الشعر كأناشيد الليل لنوفاليس، الا أنها على صعيد الفن التشكيلي بقيت متخلفة عن الدول الأوروبية الاخرى، كديلاكروا في فرنسا وفرانشسكو جويا في اسبانيا. وهنا تأتي أهمية تجربة كاسبار دافيد فريدريخ، الاستثناء الخاص عن أبناء جيله من التشكيليين الألمان؛ الذين اتسمت تجاربهم بالرقة والعودة الى استلهام منابع الدين المسيحي؛ كرد فعل على عقلانية عصر التنوير، في الوقت الذي خرج فيه فريدريخ نهائيا عن هذه الأُطر، وقدم تجارب تجاوزت رقة العاطفة الى الروح وقيمها الخلاقة وقلق أعماقها الدفينة.

يعبر فريدريخ عن فهمه للفنان على النحو التالي: “ينبغي الا يصور الفنان ما يراه فحسب وإنما ما يراه في داخله هو كذلك، فإذا لم ير شيئا داخله الاجدر به ان يكف عن تصوير ما يراه خارجه وإلا كانت لوحاته أشبه بتلك الستائر؛ التي لا نتوقع ان نجد خلفها غير مرضى أو جثث موتى”.

فمنذ بداية مجرى حياته تشكلت ثيمه الفنية الأساسية: الموت، الزوال، والقبر … لقد كانت هذه الموضوعات بالنسبة لعالمه الأكثر سيطرة على تفكيره. لذلك فقد دخلت عالمه التصويري باكرا جدا على وجه التحديد. رسم عام١٨٠٠خرائب مدينة ألدينا في جو مأتمي جنائزي، وبالمثل فقد كانت اجواء الهجير التي يوحي بها الشتاء هي الأكثر تكرارا في لوحاته عن إيحاءات الفصول الاخرى. ثم في عام ١٨٠٣ ابتدأ يوثق الصِّلة بين هذه الثيم الاساسية خاصة الخرائب والقبور. بعد ذلك بوقت قصير منذ تلك المرحلة ابتدأت لوحاته تأخذ شكل التلاشي والغياب اللانهائي.

في الفترة ما بين ١٨٠٦ – ١٨٠٨ قام بتصوير مجموعة من الاعمال التي تتعمق لديه فيها رؤية الارض الموتى وتهجيرها وفصولها وذلك في أعمال أهمها الشتاء والراهب، وقبور في الثلج، وفي الأعوام اللاحقة ١٨١٣ – ١٨١٤، صور لوحته الشهيرة ذكريات رجل سقط في الحرب من أجل الحرية، واللوحة تصوره ميتا بالقرب من قبره كنصب عسكري، غير أنه لا ينعزل عن تيمة القبور والموت كتيمة ثانوية هامة في اللوحة.

فقط في اللوحة التي صورها لذكرى صديقه المقتول جيرهارد لون كوجلجلن، تتوضح صورة القبر كتيمة أولى ووحيدة عن عناصر الهجير والزوال الاخرى. وكان الفنان قد أعطى هذه اللوحة الى ارملة صديقه التي رحلت عن المدينة إثر ذلك في عام ١٨٢٢، في نفس ذلك العام صور مدخل كنيسة المدينة ولكن بشكل مختلف عنه عندما صور مدخل جبانتها.

إذا كانت لوحة قبر كوجلجلن تشكل مقابلا للمقبرة نفسها حيث يكّوم الفنان في هذه اللوحة الصلبان والقبور؛ فان الصياغات الاخرى للتجربة كما في لوحة مدخل الى كنيسة المدينة تضعنا في مواجهة الجبانة بسهولة، فان الطريق يتسلق بشكل قاس عديم الشفقة من البدايات الاولى لقطعة القماش التي يعمل عليها الفنان مرورا بالطريق الى الصلبان. الامر الذي يقضي في النهاية الى ان تكون قادرة على الإيحاء بتنويم المرء أمامها؛ أو تسميره قبل الوصول الى عوالمها.

ان اللوحة بأكملها تتألق في ظلال معتمة غير ان القبر نفسه مليء بالضوء وهنا يتداعى الى ذهن المرء ما أراد الفنان ان يوصلنا اليه، وهو ان الموت طريق يؤدي الى الحياة، فالضوء يمزج الفراغ بالصلبان موصلا بذلك فكرة الموت بفكرة الأمل. وفي الوقت الذي كانت فيه لوحة مدخل الى باحة الكنيسة الكثير من المنظر الطبيعي نفسه، والتي على مضض تلمح الى سيطرة الرمزية على العمل، فان لوحة مدخل الى الجبانة تؤكد بأهمية على فكرة الموت، بطريقة تخلده كنصب تذكاري، فالفنان ابتدأ بوضع حقيقي: باب مروع مشتق من مدخل الى جبانة مدينة درسدن، غير أنه قام بتغيير هذا عن طريق تكثيفه وأبعاده الى الخلف؛ أي نقل التجربة من الواقعي الى الرمزي. هذه اللوحة لم يكملها الفنان أبدا، ربما بسبب مرضه في عام ١٨٢٤ومضاعفات ذلك. وذلك ربما أيضا لان الفنان قد لاحظ ان اكتمال هذه اللوحة قد يقلل من قيمتها. وتظل قيمتها في تراثه الخلاق اكتمال الثيم الاساسية التي طاردت الفنان وسحقته كخاتمة لحياته: .. الاشجار. الموت. الاطلال. القبور القديمة. ثم الفضاءات والمناخات مفتوحة الافاق، ما حرره الرومانسيون الغربيون في اللوحة من محدودية مكانها وانغلاقه.

في عام ١٨٢٦ أكمل فريدريخ لوحة مقبرة في الثلج. حاول الفنان أن يرسخ ذكرى هذه التجربة بتاريخها، ذلك أنه لا توجد لدينا طريقة أخرى لتفسير تاريخها من حيث انها اللوحة الوحيدة المؤرخة له. ان مالك هذه اللوحة كان هو البارون فون سبيك؛ الذي مثلما عرف عنه أنه أعد قبرا له ولزوجته اثناء حياته، وكانا كثيري التردد على قبريهما. على كل حال يظل التاريخ المنقوش على اللوحة غامضا علينا لحد الان. واللوحة هذه تعود الى الرسم المنظوري، حيث يتولد الانطباع نفسه لدى مشاهدها من أي جهة ينظر اليها. من المقبرة تتحرك عيوننا عبر هاوية القبر ثم الى البوابة المفتوحة، هناك هذه الطبقة من الفراغ تأتي الى النهاية، حيث الاشجار الموتى تسجي المنطقة وبجانبها سماء خالية، تأتي كسحر يكشف لنا حتمية الموت. وهي أيضا تضيف حرية الأمل بجانب القبور، ما يجعل المرء يفكر بأن الفنان هدف الى تصوير ما لا يزول، ما يبقى ويخلد وذلك عن طريق اضافة رموز الفناء: القبور، المجاريف، الصلبان، الثلج، الاشجار العارية، الأزهار الذاوية.

حتى نهاية حياته ظل الموت والقبر الموضوع الرئيسي لأعماله، والاكثر ظلمة من هذه الاعمال جميعا، هي لوحة منظر القبور، يبدو النسر وهو يجلس مطرقا على قمة المجراف الذي ينغرس في قبر مفتوح، القمر عنصر روحي، فهو لا يظهر في اللوحة غير أن نوره يسطع بروحانية شفافة، ما حدا بناقد لأعماله هو بورش سوبان؛ الذي أول النجوم لديه كرمز للبعث من الموت، سواء صح ذلك التأويل أو لم يصح، فاللوحة مليئة باليأس الخاوي والموقف العدائي من الحياة.

في حوالي عام ١٨٣٧ أبدع الفنان واحدة من أهم لوحات الفترة الاخيرة من حياته هي لوحة “قبر وتابوت وبومه”. ونشاهد في اللوحة البومة تجلس بضخامة على التابوت المغلق، هناك ايضا طائر ميت، قبر مفتوح، المجراف والحبال التي تستخدم لإنزال التابوت الى القبر، نبات شوكي، وخلف كل ذلك هناك البحر، الشاطئ المنحدر، سماء مقمرة، رموز الموت الحقيقي محكومة بتركيز مفرط وبشكل أحادي. ولكن الا يقدم القمر رمزا مضادا لكل ذلك؟ ما لا يجعل ذلك مغريا بالتصديق هي عيون البومة التي تنظر بشكل شرير، فضلا عن ان اللوحة بصورة عامة ارض خربة لا حياة فيها. ان عناصر الحياة والموت تجد تآلفها واتحادها بشكل طبيعي في لوحات هذه المرحلة، فالبوم كرمز للموت والقمر كرمز للحياة يشكلان عالما واحدا في لوحة مشتركة لهذين العنصرين دون أية عناصر اخرى، ذلك في لوحة “بومة تحلق أمام قمر تام ” ويسمح الفنان لكلا العنصرين الظهور في اللوحة بوضوح تام ما يفتح المجال واسعا لقراءة اللوحة وإعطاء مدلولات مختلفة لها. كإطلالة على العالم، يستخدم فريدريخ النافذة كثيرا ما تتكرر في أعماله بصورة عامة فهو يجلس بجانب نافذة في أحد أعماله المبكرة “بورتريه” وكذلك في لوحة شهيرة صور فيها زوجته. وحتى في لوحاته الطللية فان تيمة النوافذ المهجورة هي الغالبة على الاطلال، حيث منها نطل على رموز الحياة كالأنهار والاشجار. ذلك ما يتكرر في تجاربه المتأخرة التي تمتاز بعمق الحس التراجيدي، وما يتبع ذلك من رموز تجسد السوداوية واليأس.

هكذا دخلت البومة كطائر وحيد في الاعمال الكاملة للفنان، ومن الغريب أن فريدريخ في كل أعماله صور مخلوقات تشيح بعيونها عن المشاهد بعيدا، وأغلبها مخلوقات لا نرى وجوهها على الإطلاق. عدا البومة التي تحدق بشراسة في مشاهد اللوحة مرة من نافذة وأخرى على تابوت أو على صليب أو مجراف. في هذه التجارب المتأخرة التي ترتبط العلاقة الفنية لتصويرها مع إصابته بالسكتة الدماغية في عام ١٨٣٥م، وتحوله الى إنسان معوق، تتكرر لوحات القبور والتوابيت، فتظهر التوابيت وكأنها تنتظر من يواريها القبور، التي تبدو مفتوحة دوما. فالدافنون لم يصلوا بعد أو ربما لا وجود لهم اي لن يصلوا فغيابهم أسدل على الواقع المقفر العاري سحرا يتردد في كل تجاربه. ذلك بالطبع ليس وليد هذه المرحلة، هي ذروة معاناة طاردت الفنان على مدى أربعين عاما، منذ اكتشافه اطلال مدينة ألدينا وصورها في مرحلة مبكرة من عمره.

لقد كتب فريدريخ مرة: سئلت لماذا تختار الموت موضوعات لرسومك؟ ولماذا تكثر من تصوير القبر والفناء؟ فأجبت: لكي تتسنى للإنسان حياة أبدية عليه في أغلب الأحيان أن يسلم نفسه للموت. ما جعل الشاعرتيودور كورنر عندما استلهم قصيدته “طبيعة ميتة” من لوحة فريدريخ الشهيرة “دير في غابة بلوط”، يقول كأنه موجها أبياته لروح الفنان:

ان نبع النعمة يتدفق من الموت
وأن المباركين ببركة الله
هم الذين يمرون خلال القبر
الى النور الابدي.

الشاعر الروسي زاكوفسكي زار مرسم الفنان زيارة أخيرة في ١٩ مارس ١٨٤٠، تجول في المرسم ونظر الى الفنان الذي كان يصارع الموت بعد إصابته بالسكتة الدماغية قبل ذلك بسنوات. كتب زكوفسكي في دفتر يومياته: ” في الاطلال الموحشة لفريدريخ”، ثم بكى كطفل ومضى. بعد ذلك بعدة أسابيع في٧ مايو ١٨٤٠ توفي الفنان.


مصادر:

1- Casper David Friedrich

‏Life and work

‏Author :Jens christian Jensen

‏Translator :Joachim neugros

‏chel

‏Barron’s 1977London

2- The Romantic vision of Casper David Friedrich

‏The Metropolitan museum of Art New York 1991

3- الشعر والتصوير عبر العصور – تأليف د.عبدالغفار مكاوي – سلسلة عالم المعرفة – الكويت

 3,425 total views,  5 views today

Hits: 158