النُّخب البرجوازيَّة في دولة الاستقلال العربيَّة
علي بن مسعود المعشني
”البرجوازية.. هي طبقة اجتماعية ظهرتْ في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، تمتلك رؤوس الأموال والحرف، كما تمتلك القدرة على الإنتاج والسيطرة على المجتمع ومؤسسات الدولة؛ للمحافظة على امتيازاتها، ومكانتها، بحسب نظرية كارل ماركس” (ويكيبيديا).
”وبشكل أدق: البرجوازية هي الطبقة المسيطرة والحاكمة في المجتمع الرأسمالي، وهي طبقة غير مُنتجة، لكن تعيش من فائض قيمة عمل العمَّال؛ حيث إن البرجوازيين هم الطبقة المسيطرة على وسائل الإنتاج. ويقسِّمهم لينين إلى فئات؛ حيث يشمل وصف البرجوازيين العديد من الفئات تنتهي بالبرجوازي الصغير، وهم المقاولون الصغار وأصحاب الورش الصغيرة. وعلى الرغم من عيوب البرجوازية، إلا أنها ساعدت على تمويل الثورة الفرنسية حتى تم النصر لها”.
الديمقراطية البرجوازية.. مُصطلح استعمله لينين، ومن بعده الشيوعيون، لوصف الديمقراطية السائدة في أوروبا الغربية آنذاك، والولايات المتحدة الأمريكية؛ حيث إن الديمقراطية اصطلاحاً هي حكم عامة الناس، أو بتعبير آخر حكم الشعب نفسه بنفسه، وترى الدول الليبرالية أن ديمقراطيتها هي ديمقراطية شرعية في تمثيل الشعب، لكنَّ الشيوعيين يرون أن مَن يترشح للانتخابات البرلمانية غالباً يكون من طبقة ميسورة ماديا، لكي يستطيع تمويل حملة انتخابية؛ فهو بالتالي يُمثل مصالح هذه الطبقة دون غيرها، أو أنه يتمول من شركات وأصحاب مال ليمثل مصالحهم؛ لهذا سُمِّيت الديمقراطية المطبقة في الدول الليبرالية بالديمقراطية البرجوازية. ويعتبر الشيوعيون أنَّ الديمقراطية الاشتراكية هي التمثيل الحقيقي للشعب” (م.المعرفة) (انتهى).
علاقة البرجوازية بطبقة الأرستقراط هي علاقة عضوية وثيقة، بحُكم تقاطع المصالح، بينما علاقتها بطبقة العمال أو البروليتاريا علاقة طردية موتورة بطبيعة الحال؛ كونها تقتات على إنتاجهم ومن فائضه. بزغت نواة دولة الاستقلال العربية منذ الأربعينيات من القرن الماضي، وتشكلت من الأقطار العربية التي نالتْ استقلالاتها تباعًا من الاحتلالات الغربية المباشرة. وبهذا؛ تشكل التفاوت والفجوات التنموية والسياسية والعلمية بين الأقطار العربية، وبالنتيجة تباينت الأولويات بينها بحكم منسوب التراكم الثقافي والوعي السياسي، وتشكُّل الطبقات والنُّخب في كل مجتمع، والزاد المعرفي لديها.
وبالمحصلة النهائية، فقد أنتج هذا التفاوت تباينًا حادًّا على صعيد توحيد النظرة العربية نحو العمل العربي المشترك والتضامن العربي، ووقف كحجر عثرة نحو طريق الوحدة العربية، بل وأنتج نُخبا عربية مُشتَّتة في الرؤى والطرح والمعالجات؛ نتيجة غياب الوعي الجذري والجمعي بالصراع الحضاري بين الأمة العربية والغرب، وغياب فلسفات الحُكم الرشيد في عدد من الأقطار العربية؛ بفعل شطط بعض النُخب وضحالة وعيها وزادها المعرفي، وزاد الطين بلة تولي نُخب من الثقات على حساب الكفاءات لمصير دولة الاستقلال العربية، تلك المعادلة التي وجهت بوصلة النخب الحاكمة وحواسها نحو الانبهار بالغرب (المستعمر السابق)، ومحاكاته، وكأنه النموذج المصيري المحتوم للبشرية، وجهل هؤلاء أنَّ ذلك الانبهار والمحاكاة ما هو إلا أداة صلبة من أدوات الاستعمار الجديد، وعنوانها التبعية.
لم تستوعب النُّخب العربية -والتي تشكلت غالبيتها على عَجَل- عددًا من الفرضيات الملزمة لكل من ينشد دور الفكر الطليعي التنويري في مجتمعه، وعلى رأسها التكامل العضوي مع المجتمع، ومعرفة جرعات الوعي اللازمة لحِراك المجتمع، وأطوار الدولة، وقبل كل هذا أهمية معرفة القديم واستيعابه ونقده للبناء على إيجابياته وتجاوز عثراته. فقد انطلقتْ أغلب النخب العربية من باب الانبهار بالغرب دون دراية بالمخزون الحضاري والموروث المعرفي لأمتهم، والذي سيقيهم -بلا شك- من أعراض الانبهار، ويكون زادًا لهم في رحلة التنوير وتحقيق المشروع النهضوي للأمة.
استوردت النُّخب العربية -بلا وعي- كلَّ أدوات الغرب على عَجل، ودون تبصر منهم أو تفكُّر بما يُمكن أن يصنف في خانة الفكر الإنساني الذي يُمكن محاكاته وتقليده، وما يُمكن أن يصنف في خانة التجارب الخاصة غير القابلة للاستنساخ في بيئات أخرى، من وجودية، وعلمانية، وليبرالية، وحداثة، وديمقراطية، وتحرر، وعدالة، وتحزب…إلخ. دون إدراك منها بمدى اصطدام تلك الأفكار أو توافقها مع العقائد أو الموروث الفكري العربي، أو حتى التساؤل عن مدى حاجتنا كعرب ومسلمين لتلك الأفكار للنهوض ومواكبة العصر.
ولم تتوقف جهود النخب عند ذلك، بل مارست بسط ثقافة البؤس والفجيعة وجلد الذات والاحتقار للموروث بغثِّه وسمينه، والتجاسُّر على الثوابت بزعم الاستنهاض ورغبة البعض في اقتطاع هُوية ووجاهة فكرية خاصة به؛ حيث تفشَّت ثقافة المقارنات غير المنطقية وغير العلمية بين الأقطار العربية والغرب، وتارة أخرى بين أقطار عربية بعينها كمصر واليابان وكوريا الجنوبية، دون أدنى معرفة بتاريخ ووضع كل دولة، وخصوصيتها، وموقعها في الصراع الحضاري مع الغرب؛ حيث لم تدرك تلك النخب أنَّ مصر حاضن تاريخي وحضاري، ونواة للأمة العربية، وتقع في دائرة الاستهداف الغربي المباشر، وفي خاصرتها كِيان العدو الغاصب، بينما اليابان وكوريا دولتان مدنيتان تمثلان قاعدتين متقدمتين للرأسمالية الغربية في خاصرة أعتى قوتين عدوتين للغرب؛ هما: الاتحاد السوفييتي والصين. كما تبنت النخب ذاتها -وبلا وعي- الخطاب التحريضي على الحكومات والحكام بزعم التنوير والاستنهاضن واعتبرته مشروعًا نهضويًّا لمجتمعاتها؛ حيث تفشت وسادت شعارات الحقوق والحريات ومطالب الديمقراطية والدساتير التعاقدية…وغيرها، دون مراعاة منسوب الوعي، ولا الحاجات الحقيقية لتلك الشعوب، ولا أولوياتها التنموية والمعيشية، ولا دراية منها بأن تلك القيم هي قيمٌ إنسانية لم يبتكرها أحد، أو يخترعها، وأنها تنبع من حاجات الشعوب وتطبق بمنسوب ومقدار الحاجة والوعي لتترسخ وتقوى وتشب.
قرأتُ كتابًا قيِّمًا بعنوان “نهاية الديمقراطية”، من تأليف جان ماري جونيو، وتعريب ليلى غانم؛ تحدَّث فيه المؤلف عن الكثير من مؤشرات انهيار الديمقراطية في الغرب، واصفًا ومشبِّهًا انهيارها كانهيار جدار برلين؛ ذاك الجدار الذي يرمز للصراع وأدبياته وأهميته وأسراره، وبانهياره انهار معه الكثير من عوامل وعناصر البقاء والقوة معًا في الغرب، وأصبحت الديمقراطية شيئًا من التراث؛ فزادها الاتحاد الأوروبي وغياب الدولة، وأفول السيادة، كارثية للغرب ونموذجه الديمقراطي.
وتقول مُعرِّبة الكتاب ليلى غانم، في تعليقها على مادته: “الحقيقة، إنَّ المفكرين في الغرب نادرًا ما يتعلقون بهواية لعبة الأفكار المنزوعة عن شروطها؛ وهم غالبًا مفكرون اجتماعيون، بقطع النظر عن الميدان الذي يعملون به، والأفكار عندهم هي صدى المجتمع الذي يفكرون فيه، وهم بهذا المعنى ينتمون بأسرهم إلى مجتمعات”. ثم تقول: “وعلى العكس من ذلك، لا يتمتع أغلب “المثقفين” المحدثين العرب بفضيلة الانتماء”. وللأسف، يتخذ عملهم طابعَ الحرفة أو المهنة؛ مما يؤدي بهم إلى مجانبة الإبداع الفكري في معطيات مجتمعهم، ويقتصر على الذهنيات السريعة القريبة من الدعوات والدعاوي. ومن يعرف منهم ذلك يغالي عمدًا بالانتماء للفكر المطلق دون ركيزة مجتمعية أولى”. وفي موضع آخر: “كُنا نود القول بأن الغرب اعتاد تصدير “البضاعة المكسورة” إلى أسواق “البلدان المتخلفة”؛ سواء عني الأمر الآلات والسيارات المستعملة، أو المعلبات والمواد التي شارفت على نهايتها…إلخ، لكن في هذه الحالة العينية حريٌّ بنا القول بأن بعض “المثقفين” العرب (والعالم الثالث) هم الذين اعتادوا استيراد تلك البضاعة المكسورة وتسويقها” (انتهى).
تجلَّى خواء النخب العربية من المشروع والعقلانية والوعي في فصول ما عُرف بالربيع العربي، حين اعتبر الكثير منهم أن الإجهاز على الدولة الوطنية وتغييبها هو جزء لازب وطبيعي ومبرَّر من حراك الشعوب، واعتبروا خواء الدولة وغياب النظام وشيوع الفوضى والعبث بالجغرافيا والديموغرافيا ومكونات الوطن ضريبة طبيعية لتشكُّل دولة الحقوق والحريات، وشبَّهوا كلَّ هذا الغثاء بأعراض الثورة الفرنسية والتي دامت فوضاها 17 عامًا، حتى وجدت هُويتها وطريقها لبناء الجمهورية الأولى!! بل، وبلغ الشطط الفكري ببعضهم لاعتبار “داعش” حركة فكرية تعبر عن مدى اليأس والإحباط الذي أصاب الشباب العربي جراء فشل سياسات النظام الرسمي العربي”.
لا شكَّ عندي أنَّ نُخبنا العربية تمارِس الغواية والتحريض في أشد وأجلى صورهما، بوعي أو بدون، ول اشك عندي اليوم -وأكثر من أي وقت مضى- أنها جزء من المعضلة والمشكلة، ولن تكون أبدًا بهذا الخطاب والفكر جزءًا من الحل، طالما لا تزال تقارن البطيخة بالتفاحة، ولم تعِ فلسفات الحكم في كل بلد، ولا أهمية الموروث في تشكيل العقل الجمعي لكل شعب ومجتمع، ولا قيم الديمقراطية والعدالة والحرية وحدودها وأدواتها من مجتمع لآخر ومن دولة لغيرها، ولا الفارق ما بين الثورات ومشروعاتها وأدبياتها وانتفاضات الخبز وأسبابها وأعراضها.
كما لا تزال أغلب النُّخب لا تفرق بين المعارضة وفق الأدبيات السياسية وقواعد الديمقراطية، وبين العداء للحكومة والدولة وفق الثقافة الشعبية والأهواء النفسية وأساطير وخرافات الموروث.
كما لم تُفرق النُّخب ما بين الوجه المضيء للقبيلة والوجه القاتم لها، فأثخنت وأغلظت العداء للقبيلة دون وعي منها بأنَّ تركيبة المجتمع العربي هي تركيبة قبلية بحتة، وأنَّ الإجهاز على القبيلة وتجاوزها قسرًا، وبالغلبة، يعني استعداء ثقافة صلبة بلا وعي، والتأسيس لنشوء عصبيات أخرى أشد ضراوة وضررًا؛ وهي: الحزبية، والمناطقية، والطائفية، والجهوية، والزبونية السياسية.
لَيت نُخبنا العربية تعلم وتتعلَّم من النموذج الصيني، والذي غزا العالم وأبهره بتنميته وصناعاته وبلا ديمقراطية، وليتهم يقتفون أثر كلٍّ من د.مُحمد عمارة، الذي تجول من الشيوعية إلى رحاب الإسلام، بفكره الجوال، ومقارناته العلمية والمنطقية؛ حيث وجد في الموروث الإسلامي أضعافَ ما تدعو إليه الشيوعية من عدالة ومساواة، وتجربة د.زكي نجيب محمود في التحول من الانبهار بالغرب إلى الانبهار بحضارته العربية الإسلامية؛ حيث أطلق خصومه على تحوله بالردة الفكرية!!
لَيت نُخبنا تعلم بالفارق ما بين الشيوعية كتحزُّب مُتزمِّت، والماركسية كنظريات علمية قابلة للنقاش والتطبيق والنقد، وكما قال الزعيم الخَالد جمال عبدالناصر للفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر. ليتهم يعلمون أن الثورة الفرنسية فجرها الجوع والخبز؛ لهذا تاهت هُويتها، وبحثت طويلًا عن قيادات لها. لَيتهم يعلمون أنَّ الثورة الفرنسية لو كانت ثورة قيم وعدالة وحرية ومساواة لما أخرجت من عباءتها أسوأ نظام كولونيالي استعماري عرفه التاريخ. ليتهم يعلمون أن كارل ماركس ليس مُنظِّرًا شيوعيًّا، بل عالم اجتماع مُتفرد في عصره وطرحه، وأن الشيوعية استلهمت من طرحه ونظرياته. ليتهم يتأملون بعمق في مقولة الأستاذ عبدالخالق محجوب زعيم الحزب الشيوعي السوداني، حين ردَّ على بعض مُنتقدي فكره السياسي، بالقول: “أنا لست شيوعيا، ماركس هو اللي مُسلم”. ليتهم يعلمون أنَّ اليابان احتلت كلًّا من: الصين وأراض واسعة من روسيا القيصرية؛ بفضل صناعاتها العسكرية المتطورة جدًّا في بدايات القرن العشرين، وأنَّها شاركت في الحرب الأوروبية (العالمية) الثانية بعتاد من إنتاجها، وأنَّ سبب نهوضها بعد الحرب هو مشروع مارشال الأمريكي، ووضعها تحت المظلة العسكرية الأمريكية للدفاع؛ الأمر الذي وجَّه جل مقدراتها إلى الإعمار والتنمية وتجنب التسليح، وهذا ما لم يتوفر لمصر، ولن يتوافر لقطر عربي على الإطلاق. ليتهم يُدركون خطورة وضع الثوابت -العروبة والإسلام- في صناديق الاقتراع، وليتهم يُدركون أن القومية العربية والإسلام لا يفترقان، ولا يتعارضان، كحالات حضارية دائمة، وأنَّ فشل أو تعثُّر تسييسهما وأدلجتهما لا يعني فشل العروبة أو الاسلام وتبرير مُعاداتهما. ليتهم يُدركون أن اللغة العربية لغة علم ومعرفة، تستوعب كلَّ الأطوار والتحولات، وأنَّ العجز في الناطقين بها وسياسات التعليم وليس فيها؛ بدليل أن هناك لغات بُعثت من تحت الركام كالعبرية لتتعاطى مع أرقى العلوم والمعارف اليوم بإرادة سياسية قبل كل شيء. ليتهم يُدركون أنَّ النُّخب الطليعية في المجتمعات لا تعرف البؤس ولا تروج له؛ فرسالتها هي الاستنهاض وليس التدمير والإحباط. ليتهم يُدركون مغزى تصنيف منظر العنصرية الغربية برنارد لويس حين صنَّف الصراع الغربي مع ثلاثة فئات؛ وهي دول خاملة لا تمتلك أيَّ رصيد حضاري؛ وبالتالي لا تشكل أي خطر على الغرب، ومدن متطورة ومُقلدة للغرب وتدور في فلكه كاليابان وكوريا، وحتى ماليزيا رغم إسلامها، والخطر الماحق في تصنيفه للحضارة العربية الإسلامية، والتي لو ترك لها المجال لتبعث كَوْن أدواتها وتاريخها وثوابتها ورصيدها الحضاري متعارضًا مع المدنية الغربية، ومتفوقا عليها، ويمكنها طُمسها بالنمو فقط دون حرب. من هنا، كان توصيف لويس للحضارة العربية الإسلامية بأنها كالنمر المتوحِّش، الذي لا يُمكن مواجهته، بل بالسعي لترويضه وجعله مهرِّجًا في سيرك الأمم، كما يقول. ليتهم يُدركون المغازي والدلالات التاريخية والحضارية من غرس الكيان الصهيوني، وبتوافق دولي، في قلب الأمة. ليتهم يُدركون آثار ومخاطر الفجوة المعرفية الهائلة التي أحدثها الحكم العثماني المتخلف لستة قرون، دون أثر تنويري أو معرفي واحد، ودور ذلك في إعاقة نمو الأمة، وما تلاه وتخلله من احتلالات استعمارية غربية مباشرة. ليتهم يُدركون أثر الصدمات التي يمارسها الغرب ضد الأمة بقصد الإعاقة الحضارية بالحروب والمؤامرات -منذ سايكس بيكو، ووعد بلفور، والكتاب الأبيض، واحتلال فلسطين، ومعركة السويس، والعدوان الثلاثي، وحرب يونيو، وحرب أكتوبر، وغزو لبنان، وحرب العراق وإيران، وحرب الكويت، واحتلال العراق.إلخ. ليتهم يُدركون أن وجود الكيان الصهيوني يعني قاعدة متقدمة للغرب في قلب الأمة، وفيتو غربي على أي مشروع أو نهوض أو تفوق عربي فردي أو إقليمي أو جماعي. ليتهم يُدركون أن الدول التي تطورت وواكبت العصر هي دول انتزعت تطورها من الغرب بالقوة، وبإرادتها الحرة؛ مثل: الصين، والهند، وروسيا، أو دول لا تشكل خطرًا حضاريا على الغرب بل تدور في فلكه الرأسمالي وتروج لثقافته. ليتهم يُدركون أن الغرب لن يسمح بأي إصلاح ديمقراطي أو سياسي لا يكون هو طرفًا فاعلًا وحاضرًا فيه. ليتهم يُدركون أنَّ الغرب يسعى لترويج نموذج ديمقراطيته الليبرالية الغربية، التي عُمدت بالدماء، وعززت باقتصادات فاحشة الثراء من مقدرات الشعوب كي يُثقل على الشعوب ويبقى هو المدير والراعي للتجربة، ويخترق من خلالها الدول ومنظوماتها الحرجة. ليتهم يقرأون كتابات د.عصمت سيف الدولة ليفرقوا بين العروبة الحضارية والعروبة المؤدلجة، وليتهم يقرأؤون كتابات شيخ المؤرخين العرب د.عبدالعزيز الدوري ليعلموا جذور القومية العربية في التاريخ كحالة حضارية حميدة ومنفتحة على كل الثقافات والأديان والحضارات. ليتهم يتساءلون: لماذا يتهافت الغرب على سرقة عقولنا، وفي المقابل يتهموننا بالتخلف وجامعاتنا بتدني التحصيل العلمي والمعرفي؟! ليتهم يُدركون أن صراعهم الحقيقي ليس مع حكامهم وحكوماتهم، بل مع الغرب الذي يُكبل الدولة الوطنية العربية، ويحارب بضراوة الزعماء الوطنيين. لهذا؛ كانت عبقرية الثورة الثانية في إيران عام 1979م، أنها اتعظت من ثورة مصدق الوطنية، والتي ركزت جل مشروعها على إسقاط الشاه ولم تتعداه لإسقاط داعميه ومكبلي نهوض الدولة الوطنية في إيران.
كل هذه التمنيات، وما على شاكلتها، يمثل المعرفة الجذرية للأحداث، وما عداها مجرد فروع وملامح ومحصلات، ومن يعلم المعلومة الجذر والأساس يمكنه القياس عليها، والخروج بنتائج حقيقية وسليمة، وقطعية الدلالة، ودقيقة لما يدور. بينما نُخبنا غوت، وانبهرت فأغوت معها عامة الناس، وأربكت أوطانها، وأثقلت عليها بضجيج التنظير والأحلام غير القابلة للتطبيق، فبرهنت انفصالها التام عن الواقع، وبعدها الضوئي عن الممكنات في أوطانها وحاجات شعوبها، فحققت الشهرة والنجومية لها وحدها، وطاب لها ذلك.
——————-
قبل اللقاء: كان الألمان في العهد النازي، وقبل إقدامهم على غزو أي دولة، يعكفون طويلًا على جمع وتحليل كتابات النُّخب فيها لقياس منسوب الكبرياء والعزة والإحباط ومشاعر الهزيمة؛ ليقرِّروا بعد ذلك موعد الغزو وحجمه من عدمه؛ كون تلك النُّخب تمثل بالنسبة لهم مؤشرات الضمير والإرادة والعقل الجمعي لأي شعب.. وبالشكر تدوم النعم.
4,068 total views, 2 views today
Hits: 197