عبدالله‭ ‬الشعيبي‭ ‬

مدخل‭ ‬

تُشكِّل‭ ‬القصَّة‭ -‬بشكلها‭ ‬العام‭- ‬مَدْخَلا‭ ‬يتدرَّج‭ ‬من‭ ‬تَفَاصيل‭ ‬التفاصيل،‭ ‬انتهاءً‭ ‬بالمشاهِد‭ ‬العامَّة‭ ‬المشفوعة‭ ‬بخارطة‭ ‬لُغَوية‭ ‬سردية،‭ ‬مُشبَّعة‭ ‬بمناخات‭ ‬تجمع‭ ‬بين‭ ‬عناصر‭ ‬مُعقَّدة،‭ ‬تهدف‭ ‬لإنبات‭ ‬الدَّهشة‭ ‬والأسئلة‭ ‬وفلسفة‭ ‬الوجود،‭ ‬مُرتهنة‭ ‬لعوالم‭ ‬داخلية‭ ‬ذاتية،‭ ‬أو‭ ‬عوالم‭ ‬خارجية‭ ‬منقولة‭ ‬عبر‭ ‬المشاهَدة‭ ‬أو‭ ‬الرِّواية‭ ‬الشفهيَّة‭ ‬عبر‭ ‬راوٍ‭ ‬وسيط؛‭ ‬لتصل‭ ‬في‭ ‬المُجْمَل‭ ‬إلى‭ ‬تعزيز‭ ‬مناخ‭ ‬المخيلة،‭ ‬ودورها‭ ‬الجمالي‭ ‬في‭ ‬إثراء‭ ‬القص‭ ‬وتجربته‭ ‬السردية‭ ‬المقروءة‭ ‬في‭ ‬المقام‭ ‬الأول‭.‬

هَذِه‭ ‬المُشَاركة‭ ‬ستحاول‭ ‬تناول‭ “‬النص‭ ‬القصصي‭ ‬العُماني‭ ‬القصير‭” ‬وليس‭ “‬القصة‭”‬؛‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الخلخلة‭ ‬التي‭ ‬حصلت‭ ‬لثوابت‭ “‬القصة‭” ‬مُتحوِّلة‭ ‬إلى‭ “‬النص‭”‬،‭ ‬مع‭ ‬لفت‭ ‬النظر‭ ‬إلى‭ ‬أنَّ‭ ‬هذه‭ “‬الخلخلة‭” ‬تحملُ‭ ‬سمات‭ ‬ومُؤشِّرات‭ ‬إيجابية‭ ‬جدًّا،‭ ‬يُمكنها‭ ‬أن‭ ‬تصنع‭ ‬فارقا‭ ‬في‭ ‬فهم‭ ‬بنية‭ ‬القص‭ ‬التي‭ ‬تحصل‭ ‬الآن‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الحادي‭ ‬والعشرين،‭ ‬وفي‭ ‬ظلِّ‭ ‬وجود‭ ‬تحولات‭ ‬جذرية‭ ‬في‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬المكتوب‭ ‬ذاته‭: ‬من‭ ‬الورقي‭ ‬إلى‭ ‬الإلكتروني‭ ‬التفاعلي،‭ ‬ومن‭ ‬العابر‭ ‬إلى‭ ‬المكتظ‭ ‬بالفلسفة‭ ‬والدلالات،‭ ‬ومن‭ ‬المقيَّد‭ ‬بأغراض‭ ‬رسالية‭ ‬مُحدَّدة‭ ‬إلى‭ ‬المتشظِّي‭ ‬والمتَّسع‭ ‬والشمولي‭ ‬والأعمق‭.. ‬هذا‭ ‬باعتبارنا‭ ‬نُقارب‭ ‬المكتوبَ‭ ‬النصيَّ‭ ‬القصصيَّ‭ ‬في‭ ‬السلطنة‭.‬

بَيْن‭ ‬القصة‭ ‬والنص‭ ‬

مَألُوفٌ‭ ‬فِي‭ ‬القصَّة‭ -‬بعيداً‭ ‬عن‭ ‬التعريفات‭ ‬اللغوية‭ ‬والاصطلاحية‭- ‬أنَّها‭ ‬تتألف‭ ‬من‭ ‬مُقدِّمة‭ ‬وعُقدة‭ ‬وخاتمة،‭ ‬بينما‭ ‬النصُّ‭ ‬هو‭ ‬خليطٌ‭ ‬يُمكنه‭ ‬أن‭ ‬يفتح‭ ‬آفاقا‭ ‬مُختلفة‭ ‬أثناء‭ ‬الكتابة‭ ‬وخلال‭ ‬ممارسة‭ ‬القراءة‭ ‬بعد‭ ‬الانتهاء‭ ‬من‭ ‬الكتابة‭ ‬من‭ ‬جانب‭ ‬المتلقي‭. ‬ولهذا‭ ‬الاعتبار،‭ ‬فإنَّ‭ ‬المألوف‭ ‬هو‭ ‬السَّائد‭ ‬عندما‭ ‬يطرح‭ ‬المكتوب‭ ‬ذاته‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬قصة‭ ‬قصيرة‭ -‬وربما‭ ‬صار‭ ‬من‭ ‬المناخ‭ ‬البصري‭ ‬للوهلة‭ ‬الأولى‭ ‬أنه‭ ‬يسهل‭ ‬تحديد‭ ‬الماهية‭ ‬من‭ ‬واقع‭ ‬الأركان‭ ‬الثلاثة‭- ‬لكن‭ ‬قليلا‭ ‬من‭ ‬التبصُّر‭ ‬والتأمُّل،‭ ‬يجعلنا‭ ‬نُعيد‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬كَوْنه‭ ‬قصة‭ ‬أمينة‭ ‬على‭ ‬سياقاتها‭ ‬الأركانية،‭ ‬أو‭ ‬أنها‭ ‬اختارتْ‭ ‬نَسَقا‭ ‬مُختلفا‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬السياقات‭ ‬الثلاثة‭ ‬سوى‭ ‬تمويه‭ ‬بصري،‭ ‬ويتبدَّى‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬واقع‭ ‬القراءة‭ ‬المختلفة‭ ‬للنصوص؛‭ ‬باعتبار‭ ‬زوايا‭ ‬النظر‭ ‬ومستوى‭ ‬المعرفة‭ ‬الذاتية‭ ‬للمتلقي‭.‬

رُبَّما‭ ‬كَانَ‭ ‬مِن‭ ‬المجْدِي‭ ‬طَرْح‭ ‬أسئلة‭ ‬مُغايرة‭ ‬في‭ ‬القراءات‭ ‬الملتزمة‭ ‬نقديًّا‭ ‬بمثل‭ ‬هذه‭ ‬النصوص؛‭ ‬لتفتيت‭ ‬البنية‭ ‬التقنية‭ ‬لها،‭ ‬والخروج‭ ‬من‭ ‬مألوف‭ ‬التفسير‭ ‬والشرح‭ ‬للمواقف‭ ‬الحدثية،‭ ‬والانتقال‭ ‬نحو‭ ‬ما‭ ‬يستكن‭ ‬خلف‭ ‬النص‭ ‬ذاته،‭ ‬والتماهي‭ ‬مع‭ ‬خياراته‭ ‬الخاصة‭ ‬واستقلاليته‭ ‬التي‭ ‬تجعله‭ ‬خارج‭ ‬نمط‭ ‬مألوف‭ ‬القصة،‭ ‬ومنحازا‭ ‬نحو‭ ‬مكتوب‭ ‬تشي‭ ‬تقنيته‭ ‬وآليته‭ ‬بأنه‭ ‬نص‭ ‬منفتح،‭ ‬وليس‭ ‬منغلقا‭ ‬على‭ ‬تقنية‭ ‬القص‭. ‬غِيَابُ‭ ‬هَذَا‭ ‬الاشتغالِ‭ ‬النقديِّ‭ ‬جعل‭ ‬الساحة‭ -‬وتحديدا‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬المجموعات‭ ‬القصصية‭- ‬تبني‭ ‬أفقا‭ ‬عاديا‭ ‬لمناخ‭ ‬القصة،‭ ‬بينما‭ ‬هناك‭ ‬ما‭ ‬يتجاوزها،‭ ‬ولا‭ ‬نتكلم‭ ‬هنا‭ ‬عن‭ ‬مصادرة‭ ‬الذائقة،‭ ‬بل‭ ‬عن‭ ‬أسئلة‭ ‬النقد؛‭ ‬فهذا‭ ‬الأخير‭ ‬تحفِّزه‭ ‬الاختلافات،‭ ‬بينما‭ ‬التلقي‭ ‬العادي‭ ‬يميل‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬جبلت‭ ‬الذات‭ ‬ذائقتها‭ ‬عليه‭.‬

لَنْ‭ ‬أدَّعِي‭ ‬هُنا‭ ‬أنني‭ ‬أطرح‭ ‬أسئلة‭ ‬النقد،‭ ‬بل‭ ‬سأكرِّس‭ ‬مقاربات‭ ‬المتلقي‭ ‬المختلف،‭ ‬الذي‭ ‬أجده‭ ‬مُهمًّا‭ ‬في‭ ‬التشكيك‭ ‬بالجدوى‭ ‬الكلاسيكية‭ ‬النقدية‭ ‬في‭ ‬تقييمها‭ ‬للمكتوب‭ ‬قصصيًّا‭ ‬ونصيًّا؛‭ ‬من‭ ‬واقع‭ ‬أنَّ‭ ‬ما‭ ‬يريده‭ ‬المتلقي‭ ‬مُرتبط‭ ‬بزمنه‭ ‬وبالمعرفة‭ ‬التي‭ ‬يستقيها‭ ‬منه،‭ ‬ويعول‭ ‬على‭ ‬وعيه‭ ‬الخاص‭ ‬من‭ ‬خلالها،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬يفعل‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬صمت‭.‬

تَدَاخل‭ ‬الأجناس

خَرَج‭ ‬المكتُوبُ‭ ‬الذي‭ ‬يَضَع‭ ‬خارطة‭ ‬الحدث‭ ‬عن‭ ‬مألوف‭ ‬القص‭ ‬إلى‭ ‬النص‭. ‬وهنا،‭ ‬ينبغي‭ ‬الالتفات‭ ‬إلى‭ ‬الإشارات‭ ‬والعلامات‭ ‬التي‭ ‬يحملها‭ ‬كلا‭ ‬النمطين؛‭ ‬حتى‭ ‬يسهل‭ ‬الفارق؛‭ ‬ففي‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬تكون‭ ‬فيه‭ ‬القصة‭ ‬القصيرة‭ ‬أمينة‭ ‬على‭ ‬الأحداث‭ ‬سبكا‭ ‬وصياغة‭ ‬وتسلسلا،‭ ‬يتحرر‭ ‬النص‭ ‬من‭ ‬ذلك؛‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬إدخال‭ ‬تقنيات‭ ‬سردية‭ ‬بخفاء‭ ‬تام‭ ‬لا‭ ‬يشعر‭ ‬معها‭ ‬المتلقي‭ ‬بتلك‭ ‬التضمينات؛‭ ‬وبالتالي‭ ‬يعيش‭ “‬وهم‭ ‬القصة‭”‬،‭ ‬بينما‭ ‬هو‭ ‬يعيش‭ “‬حقيقة‭ ‬مختلفة‭”‬،‭ ‬وهذا‭ ‬ليس‭ ‬مُتجذِّرا‭ ‬في‭ ‬غالب‭ ‬النصوص‭ ‬القصصية‭ ‬التي‭ ‬تحويها‭ ‬دفَّات‭ ‬المجموعات‭ ‬الكثيرة،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬منزرعة‭ ‬في‭ ‬مصادر‭ ‬نشرية‭ ‬أخرى،‭ ‬وهذه‭ ‬المصادر‭ ‬مهملة‭ ‬تماما،‭ ‬وإذا‭ ‬وجدنا‭ ‬مجموعات‭ ‬تفصح‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬فهي‭ ‬قليلة،‭ ‬ولكن‭ ‬النقد‭ ‬لم‭ ‬يقاربها،‭ ‬وهذا‭ ‬خَلَق‭ ‬مأزقا‭ ‬أفقدنا‭ ‬التوازي‭ ‬مع‭ ‬النصوص‭ ‬المختلفة؛‭ ‬فذابت‭ ‬في‭ ‬‭”‬وهم‭ ‬القصة‭ ‬القصيرة‭”‬،‭ ‬بينما‭ ‬هي‭ ‬تتجاوزها‭ -‬جماليا‭ ‬وتقنيا‭- ‬بمراحل‭ ‬كثيرة‭.‬

القِصَّة‭ ‬القَصِيْرة‭ ‬عندما‭ ‬تحوَّلت‭ ‬إلى‭ ‬نصٍّ‭ ‬صارت‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الأجناس‭ ‬الأدبية‭ ‬التي‭ ‬تُعتبر‭ ‬مستقلة،‭ ‬لكنها‭ ‬قابلة‭ ‬لأنْ‭ ‬تكون‭ ‬جزءا‭ ‬من‭ ‬نصٍّ‭ ‬في‭ ‬حال‭ ‬تم‭ ‬توظيفها‭ ‬بشكل‭ ‬جيد‭.‬

حمود‭ ‬سعود

السِّيرَة‭ ‬الذاتيَّة‭/‬الغيريَّة‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الأجناس‭ ‬التي‭ ‬أشرنا‭ ‬إليها،‭ ‬ويُمكن‭ ‬اعتبار‭ ‬الكاتب‭ ‬حمود‭ ‬سعود‭ ‬أحد‭ ‬الكتاب‭ ‬العُمانيين‭ ‬الذين‭ ‬يَدْمِجون‭ ‬في‭ ‬كتابتهم‭ ‬السردية‭ -‬التي‭ ‬تتخذ‭ ‬شكل‭ ‬القصة‭ ‬في‭ ‬جوهر‭ ‬وظيفتها‭- ‬يدمجون‭ ‬بين‭ ‬السيرتين‭ ‬الذاتية‭ ‬والغيرية‭ ‬والمذكرات‭ ‬وما‭ ‬يشبه‭ ‬اليوميات،‭ ‬وهذا‭ ‬يتضح‭ ‬في‭ ‬كتبه‭ ‬الثلاثة‭ ‬التي‭ ‬أصدرها،‭ ‬ولكن‭ ‬يمكنني‭ ‬التوقف‭ ‬عند‭ ‬إصداره‭ ‬الأخير‭ “‬غراب‭ ‬البنك‭ ‬ورائحة‭ ‬روي‭”‬،‭ ‬الذي‭ ‬صَدَر‭ ‬عن‭ ‬دار‭ “‬سؤال‭” ‬في‭ ‬العام‭ ‬2017م،‭ ‬بعدد‭ ‬من‭ ‬الصفحات‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬72‭ ‬صفحة‭ ‬من‭ ‬القطع‭ ‬المتوسط،‭ ‬والتوقُّف‭ ‬تحديدا‭ ‬عند‭ ‬النص‭ ‬الذي‭ ‬يحمل‭ ‬عنوان‭ ‬المجموعة‭ (‬ص‭:‬9‭). ‬

إِذَا‭ ‬اعْتَبَرنا‭ ‬أنَّ‭ ‬اللغة‭ ‬هي‭ ‬أساسُ‭ ‬التكنيك‭ ‬الكتابي،‭ ‬فإنَّ‭ ‬الكاتب‭ ‬يَبْدأ‭ ‬نصه‭ ‬بصِيْغَة‭ ‬المتكلم‭ ‬الذي‭ ‬يفترض‭ ‬مُخاطبا‭ ‬أمامه‭ “‬هل‭ ‬أنت‭ ‬قلق؟‭”‬،‭ ‬ليترك‭ ‬الإجابة‭ ‬ليست‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬سطر‭ ‬منقط‭ ‬مفتوح،‭ ‬ثم‭ ‬يكرر‭ ‬الاستفهام‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬بصيغة‭ ‬مُختلفة،‭ ‬وبالتقنية‭ ‬الخطابية‭ ‬ذاتها‭: “‬ما‭ ‬الذي‭ ‬يوترك‭ ‬هكذا؟‭”‬،‭ ‬ولأنَّ‭ ‬البداية‭ ‬تفترضُ‭ ‬جُملة‭ ‬إنشائية‭ ‬ذات‭ ‬دلالة‭ ‬إنسانية‭ ‬تسعى‭ ‬لانتشال‭ ‬الصامت،‭ ‬فإنَّ‭ ‬خطاب‭ ‬المتكلم‭ ‬في‭ “‬علينا‭” ‬ينقل‭ ‬مستوى‭ ‬اللغة‭ ‬إلى‭ ‬تبنِّي‭ ‬الرؤية‭ ‬والموقف؛‭ ‬ليتم‭ ‬إدخال‭ ‬النص‭ ‬ضمنيًّا‭ ‬بعينيْن‭ ‬مختلفتيْن،‭ ‬ولسان‭ ‬مُختلف،‭ ‬وهو‭ ‬لسان‭ ‬الصامت؛‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تبنِّي‭ ‬السيرة‭ ‬الذاتية‭ ‬للغير‭ (‬المخاطب‭)‬،‭ ‬واعتبارها‭ ‬سيرة‭ ‬لـ‭”‬الذات‭” ‬السَّاردة؛‭ ‬ليتحول‭ ‬النصُّ‭ ‬معها‭ ‬من‭ ‬سرد‭ ‬عابر‭ ‬إلى‭ ‬سيرة‭ ‬دامجة‭ ‬بين‭ ‬خطابي‭ ‬الغير‭ ‬والذات‭ ‬في‭ ‬سمة‭ ‬واحدة‭ ‬هي‭ ‬النص‭ ‬الذي‭ ‬يتحوَّل‭ ‬إلى‭ ‬عينيْن‭ ‬وأذنيْن‭ ‬وذاكرتيْن‭ ‬وشعوريْن،‭ ‬يندمجُ‭ ‬الاثنان‭ ‬في‭ ‬الواحد‭ (‬السارد‭)‬،‭ ‬الذي‭ ‬ينفصل‭ ‬أحيانا‭ ‬عن‭ ‬النص،‭ ‬وأحيانا‭ ‬يعود‭ ‬إليه،‭ ‬ناقلا‭ ‬المشاهد‭ ‬عبر‭ ‬لقطات‭ ‬قابلة‭ ‬للتمدد‭ ‬ذهنيًّا،‭ ‬عبر‭ ‬مخيلة‭ ‬المتلقي‭ ‬الذي‭ ‬يتشارك‭ ‬التفاصيل‭ ‬مع‭ ‬كليهما‭/‬الواحد‭.‬

لَيْس‭ ‬تَوْظِيْف‭ ‬السيرة‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬نعول‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬توظيف‭ ‬جنس‭ ‬أدبي‭ ‬مستقل،‭ ‬ودمجه‭ ‬مع‭ ‬جنس‭ ‬آخر‭ (‬القصة‭)‬،‭ ‬بل‭ ‬انتقالات‭ ‬الخطاب‭ ‬هي‭ ‬الأساس‭ (‬الـ‭”‬أنا‭”‬،‭ ‬الـ‭”‬هو‭”‬،‭ ‬الدمج‭ ‬بينهما،‭ ‬الـ‭”‬أنت‭”‬،‭ ‬الـ‭”‬نحن‭”)‬،‭ ‬وهي‭ ‬ما‭ ‬تشي‭ ‬بأن‭ ‬الالتفاف‭ ‬على‭ ‬الزمن،‭ ‬وكشف‭ ‬خبيء‭ ‬الذاكرة،‭ ‬والاستدعاءات‭ ‬المرتبطة‭ ‬بالمسكوت‭ ‬عنه،‭ ‬هذا‭ ‬كله‭ ‬يعطي‭ ‬انطباعا‭ ‬أوليًّا‭ ‬بأن‭ ‬التوظيف‭ ‬الجمالي‭ (‬اللغة‭) ‬والفكري‭ (‬التاريخ‭ ‬الاجتماعي‭) ‬والذاتي‭ (‬الذاكرة‭ ‬المثقوبة‭)‬،‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬خارطة‭ ‬إيحائية‭ ‬تفترض‭ ‬في‭ ‬السيرة‭ ‬مناخا‭ ‬لدمج‭ ‬المكاني‭ ‬مع‭ ‬التاريخي‭ ‬مع‭ ‬الواقعي‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬واحد‭ ‬عبر‭ ‬وظيفة‭ ‬روائية‭ ‬التوصيل‭.‬

وَجهٌ‭ ‬آخَر‭ ‬مِن‭ ‬التوظيف‭ ‬الروائي‭ ‬في‭ ‬النص‭ ‬السردي‭ ‬يضعه‭ ‬حمود‭ ‬سعود‭ ‬في‭ ‬العنوان‭ ‬ذاته‭ “‬غراب‭ ‬البنك‭ ‬ورائحة‭ ‬روي‭”‬،‭ ‬وهو‭ ‬اليوميات؛‭ ‬فهي‭ ‬تتَّضح‭ ‬في‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الفقرات‭ ‬المرقمة‭ ‬التي‭ ‬تشكل‭ ‬مفاصل‭ ‬النص،‭ ‬وهي‭:‬

‭”‬في‭ ‬هذا‭ ‬المساء،‭ ‬كُنت‭ ‬جالسا‭ ‬في‭ ‬المقهى‭ ‬المنزوي‭” (‬ص‭:‬20‭).‬

‭”‬في‭ ‬الخامسة‭ ‬مساء،‭ ‬ستخرج‭ ‬المرأة‭ ‬المصرية‭” (‬ص‭:‬20‭).‬

‭”‬في‭ ‬السادسة‭ ‬والنصف‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬المساء،‭ ‬لن‭ ‬يعبر‭ ‬غراب‭ ‬الربع‭ ‬الخالي‭ ‬فوق‭ ‬مبنى‭ ‬البنك‭ ‬المركزي‭ ‬في‭ ‬الحي‭ ‬التجاري‭ ‬بروي‭” (‬ص‭:‬24‭).‬

‭”‬في‭ ‬السادسة‭ ‬والنصف‭ ‬من‭ ‬كلِّ‭ ‬مساء‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭” (‬ص‭:‬25‭).‬

وداد‭ ‬المانعية

المُذكَّرات‭ ‬جنسٌ‭ ‬كتابيٌّ‭ ‬مُستقل،‭ ‬لكنه‭ ‬أيضًا‭ ‬قابل‭ ‬للتوظيف‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬روائي،‭ ‬وحين‭ ‬يتعلَّق‭ ‬الأمر‭ ‬بـ‭”‬الوصف‭”‬،‭ ‬فإنَّ‭ ‬هذه‭ ‬تعتبر‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬وظائف‭ ‬الرواية‭ ‬والقصة‭ ‬القصيرة،‭ ‬مع‭ ‬الفارق‭ ‬بين‭ ‬حجم‭ ‬التفاصيل‭ ‬والتكثيف،‭ ‬وهي‭ ‬سِمة‭ ‬عامَّة‭ ‬في‭ ‬السرد‭. ‬وهُنا،‭ ‬يُمكن‭ ‬طرح‭ ‬نموذج‭ ‬كتابي‭ ‬للكاتبة‭ ‬وداد‭ ‬المانعية،‭ ‬وهو‭ ‬نصٌّ‭ “‬فيسبوكي‭” ‬طويل‭ ‬مكوَّن‭ ‬من‭ ‬سبع‭ ‬حلقات،‭ ‬يحمل‭ ‬عنوان‭ “‬بنجر‭ ‬السكر‭”‬،‭ ‬والنموذج‭ ‬المعنيون‭ ‬به‭ ‬هنا‭ ‬منشور‭ ‬في‭ ‬26‭ ‬نوفمبر‭ ‬2016م،‭ ‬وهو‭ ‬الحلقة‭ ‬السادسة‭ ‬من‭ ‬السلسلة‭. ‬ما‭ ‬يقوله‭ ‬هذا‭ ‬النموذج‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬تقوله‭ ‬القصة‭ ‬القصيرة‭ ‬من‭ ‬بوابة‭ ‬الوصف‭ ‬وأسئلة‭ ‬السارد،‭ ‬إلا‭ ‬أنَّ‭ ‬البطل‭ ‬هنا‭ ‬هو‭ ‬الكاتبة‭ ‬ذاتها‭. ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬كَوْن‭ ‬النص‭ ‬–ظاهريا‭- ‬يحملُ‭ ‬سمة‭ ‬مغايرة‭ ‬للقصة،‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬غياب‭ ‬الحبكة‭ ‬أو‭ ‬العقدة،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬ضمنيًّا‭ ‬يحمل‭ ‬العقدة‭ ‬التي‭ ‬تتشكل‭ ‬من‭ ‬بوابة‭ ‬الأحداث‭ ‬المتلاحقة‭ ‬التي‭ ‬يمر‭ ‬بها‭ ‬الفريق‭ ‬الذي‭ ‬يشكل‭ ‬بنية‭ ‬الأحداث‭ ‬التي‭ ‬ترصدها‭ ‬المانعية‭.‬

يُوْرِد‭ ‬النصُّ‭ ‬السرديُّ‭ ‬المذكراتي‭ ‬ما‭ ‬يلي‭:‬

‭”‬وبعدَ‭ ‬تناولنا‭ ‬وجبة‭ ‬الغداء،‭ ‬أكملنا‭ ‬جولة‭ ‬التسوق،‭ ‬ولكن‭ ‬المشهد‭ ‬يأبى‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬يتكرَّر‭ ‬مرات‭ ‬أخرى،‭ ‬ولكن‭ ‬هذه‭ ‬المرة‭ ‬كان‭ ‬الأبطال‭ ‬هم‭ ‬الأطفال‭ ‬الذين‭ ‬استمروا‭ ‬ملتصقيْن‭ ‬في‭ ‬المجموعة‭ ‬على‭ ‬امتداد‭ ‬الشارع‭ ‬المزدحم‭! ‬الغريبُ‭ ‬في‭ ‬الأمر‭ ‬أنَّهم‭ ‬يلاحقوننا‭ ‬نحن‭ ‬فقط،‭ ‬والأكثر‭ ‬غرابَة‭ ‬أنهم‭ ‬يرددون‭ “‬الله‭ ‬كريم‭”‬،‭ ‬وأدعيَة‭ ‬دينية‭ ‬أخرى‭! ‬وعند‭ ‬إعطاء‭ ‬زميلتي‭ ‬بعض‭ ‬النقود‭ ‬لأحدهم،‭ ‬جاء‭ ‬البقية‭ ‬يلهثون‭ ‬خلفنا‭ ‬ويستمرون‭ ‬في‭ ‬ذكر‭ ‬الله‭ ‬والمناجاة‭ ‬بالدعاء‭! ‬كلُّ‭ ‬هذا‭ ‬كان‭ ‬يُعيد‭ ‬فتح‭ ‬جراح‭ ‬الأسئلة‭ ‬التي‭ ‬استمرَّت‭ ‬تغلي‭ ‬في‭ ‬وعاء‭ ‬عقلي‭!”.‬

هَذَا‭ ‬المشهدُ‭ ‬القصيرُ‭ ‬المستقطَع‭ ‬من‭ ‬النصِّ،‭ ‬يعتمد‭ ‬في‭ ‬بنائه‭ ‬التقني‭ ‬على‭ ‬القصة؛‭ ‬بالنظر‭ ‬لأركانه‭ ‬الثلاثة‭: ‬المقدمة،‭ ‬والعقدة،‭ ‬والخاتمة؛‭ ‬سنجده‭ ‬يعتمد‭ ‬الوصف،‭ ‬ليصل‭ ‬في‭ ‬سطره‭ ‬الأخير‭ ‬إلى‭ “‬القفلة‭” ‬المدهشة،‭ ‬والمعزَّزة‭ ‬بشعرية‭ ‬الموقف‭ ‬لغويًّا‭ ‬وصدمته‭ ‬الفكرية‭.‬

ولَإِن‭ ‬اسْتَطَاعتْ‭ ‬المانعية‭ ‬أنْ‭ ‬تعكسُ‭ ‬المنظور‭ -‬وهو‭ ‬توظيف‭ ‬القصة‭ ‬القصيرة‭ ‬ضمن‭ ‬بناء‭ ‬تقني‭ ‬مذكراتي‭- ‬مع‭ ‬التسليم‭ ‬بأن‭ ‬النص‭ ‬الروائي‭ -‬تقنيًّا‭- ‬يحتوي‭ ‬الجنسين‭ ‬بحسب‭ ‬التوظيف،‭ ‬فإنَّ‭ ‬هذا‭ ‬يفترضُ‭ ‬أن‭ ‬تعيد‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬الخاصية‭ ‬الكتابية‭ ‬التي‭ ‬تتفاعل‭ ‬مع‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬تنتمي‭ ‬إليه،‭ ‬وتحاول‭ ‬توظيف‭ ‬ما‭ ‬تستطيعه‭ ‬ضمن‭ ‬بنية‭ ‬نص‭ ‬واحد‭.‬

مُذكَّرات‭ “‬بنجر‭ ‬السكر‭” ‬قَامَتْ‭ ‬بتوظيف‭ ‬العناصر‭ ‬الروائية‭ ‬بشكل‭ ‬واضح،‭ ‬ولكن‭ ‬غابت‭ ‬الرُّؤية‭ ‬الناقدة‭ ‬عن‭ ‬تلمُّس‭ ‬التفاصيل؛‭ ‬وبالتالي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تمر‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬النصوص‭ ‬وأشباهها‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تلفت‭ ‬أسئلتها‭ ‬الخاصة،‭ ‬ليس‭ ‬لقصور‭ ‬في‭ ‬البنية‭ ‬الكتابية‭ ‬لها،‭ ‬بل‭ ‬لقصور‭ ‬في‭ ‬الغوص‭ ‬فيها‭.‬

هَذِه‭ ‬الكِتَابات‭ ‬التِي‭ ‬قُمنا‭ ‬بتحليل‭ ‬خطابها‭ ‬وتجانسه‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬التقنيات‭ ‬مع‭ ‬الرواية،‭ ‬تعتبر‭ ‬عبورا‭ ‬سريعا،‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬تحتاج‭ ‬فيه‭ ‬عديد‭ ‬النصوص‭ ‬مُقاربات‭ ‬أكثر‭ ‬في‭ ‬استدعائها‭ ‬تقنيات‭ ‬الرواية‭ ‬ضمن‭ ‬القصة‭ ‬القصيرة،‭ ‬أو‭ ‬السرد‭ ‬القصصي‭ ‬القصير‭.‬

هَذَا‭ ‬يَنْطَبقُ‭ ‬عَلى‭ ‬اليوميات‭ ‬بمعناها‭ ‬التوثيقي،‭ ‬التدوينات‭…‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬الأشكال‭ ‬والأجناس‭ ‬المتاحة‭ ‬كتابيًّا‭ ‬بشكل‭ ‬مُستقل،‭ ‬لكنها‭ ‬عندما‭ ‬صارت‭ ‬جزءا‭ ‬من‭ ‬المكتوب‭ ‬العام‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬سردي‭ -‬بمناسيب‭ ‬مختلفة‭ ‬حسب‭ ‬مقتضيات‭ ‬الفكرة‭- ‬جذر‭ ‬النص‭ ‬السردي‭ ‬غايته‭ ‬الفلسفية‭.‬

لَيْس‭ ‬مِنَ‭ ‬السَّهل‭ ‬في‭ ‬النصوص‭ ‬السردية‭ ‬المحبوكة‭ ‬باحتراف‭ ‬أن‭ ‬يتم‭ ‬اكتشاف‭ ‬ذلك‭ ‬بسهولة؛‭ ‬لأنَّ‭ ‬التوظيف‭ ‬يَسْتَدعي‭ ‬تقنيات‭ ‬مازجة‭ ‬ومماهية‭ ‬بما‭ ‬لا‭ ‬يتيح‭ ‬للمتلقي‭ ‬مساحة‭ ‬ذهنية‭ ‬لاكتشاف‭ ‬ذلك؛‭ ‬لهذا‭ ‬تمرُّ‭ ‬هذه‭ ‬الأجناس‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬سردي‭ ‬واحد،‭ ‬على‭ ‬أنه‭ “‬قصة‭ ‬قصيرة‭”‬،‭ ‬بينما‭ ‬هي‭ ‬ليست‭ ‬كذلك‭.‬

الجُهُود‭ ‬النقديَّة‭ ‬الرَّصينة‭ ‬لم‭ ‬تكُن‭ ‬حاضرة‭ ‬لتُنْصِف‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬النصوص‭ ‬السردية‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬المُمكن‭ ‬أن‭ ‬تُشكِّل‭ ‬مناخا‭ ‬تطويريا‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬القصة‭ ‬القصيرة؛‭ ‬لذلك‭ ‬كانتْ‭ ‬اجتهادات‭ ‬واشتغالات‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬القاصين‭ ‬والقاصات‭ ‬محكومَة‭ ‬سلفاً‭ ‬بالتغييب،‭ ‬ومنذورة‭ ‬لتلاشي‭ ‬تقنياتها‭ ‬الكتابية‭ ‬في‭ ‬رياح‭ ‬الكتابات‭ ‬النقدية‭ ‬الكلاسيكية،‭ ‬خاصة‭ ‬وأنَّ‭ ‬الكثيرَ‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الاشتغالات‭ ‬أتت‭ ‬في‭ ‬فترة‭ ‬ذروة‭ ‬كان‭ ‬يَسْهُل‭ ‬تعيينها‭ ‬وتحليلها‭ ‬وبث‭ ‬روح‭ ‬تجاوزية‭ ‬مع‭ ‬أصحابها‭ ‬وصاحباتها‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬استمرار‭ ‬التجريب،‭ ‬لكن‭ ‬هذا‭ ‬لم‭ ‬يحصل،‭ ‬وظلت‭ ‬النصوص‭ ‬السردية‭ ‬الجيدة‭ ‬في‭ ‬قاع‭ ‬بئر‭ ‬القصة‭ ‬القصيرة،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬ظلها‭ ‬في‭ ‬أفضل‭ ‬الأحوال‭.‬

تمرُّد‭ ‬على‭ ‬القالب‭ ‬

أُحَاوِل‭ ‬أنْ‭ ‬أُشِير‭ ‬هُنا‭ ‬إلى‭ ‬أنَّنا‭ ‬نمتاز‭ ‬بوجود‭ ‬نصوص‭ ‬سردية‭ ‬لافتة،‭ ‬وهذا‭ ‬ليس‭ ‬جديداً،‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬معايشة‭ ‬مباشرة‭. ‬فَفِي‭ ‬بِدَاية‭ ‬تسعينيَّات‭ ‬القرن‭ ‬الفائت،‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬السلطان‭ ‬قابوس‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬كُتَّاب‭ ‬القصة،‭ ‬ممن‭ ‬حملت‭ ‬نصوصهم‭ ‬السردية‭ -‬تحت‭ ‬يافطة‭ ‬القصة‭ ‬القصيرة‭-‬‭ ‬علامات‭ ‬تجاوزية،‭ ‬تحقَّق‭ ‬هذا‭ ‬التجاوز‭ ‬في‭ ‬منافسات‭ ‬عامة‭ ‬مثل‭ ‬المسابقات؛‭ ‬ومنها‭: ‬مسابقة‭ ‬المنتدى‭ ‬الأدبي،‭ ‬وجائزة‭ ‬راشد‭ ‬بن‭ ‬حميد‭ (‬في‭ ‬الإمارات‭).. ‬نذكُر‭ ‬من‭ ‬بينهم‭: ‬يونس‭ ‬الأخزمي،‭ ‬ويحيى‭ ‬سلام‭ ‬المنذري،‭ ‬وعبدالله‭ ‬بني‭ ‬عرابة‭…‬وغيرهم‭. ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬ذلك،‭ ‬لم‭ ‬تجد‭ ‬تلك‭ ‬النصوص‭ ‬حياتها‭ ‬التجاوزية‭ ‬فعلا‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬النقدي،‭ ‬وحتى‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬تقارير‭ ‬لجان‭ ‬التحكيم،‭ ‬لم‭ ‬تُوْغِل‭ ‬التقييمات‭ ‬في‭ ‬رصد‭ ‬المختلف‭ ‬حقًّا‭ ‬بقصد‭ ‬ديمومته‭ ‬أو‭ ‬توجيهه‭ ‬نحو‭ ‬ما‭ ‬ينمو‭ ‬بالنص‭ ‬ويجذره‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬ذاته،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬سيجعل‭ ‬الناقد‭ ‬الرصين‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬النصوص،‭ ‬صحيح‭ ‬أن‭ ‬بعضه‭ ‬سيجده‭ ‬في‭ ‬مجموعات‭ ‬قديمة‭ ‬تواريخ‭ ‬النشر،‭ ‬وبعضها‭ ‬لم‭ ‬يُرِد‭ ‬لها‭ ‬أصحابُها‭ ‬أن‭ ‬تفارق‭ ‬الورق‭ ‬الذي‭ ‬هي‭ ‬عليه‭.‬

هَل‭ ‬كانت‭ ‬نصوصا‭ ‬متمردة‭ ‬على‭ ‬القالب؟‭ ‬

نَعَم،‭ ‬كانتْ‭ ‬كَذلك‭.. ‬ولكن‭ ‬لم‭ ‬يثبت‭ ‬النقد‭ ‬هذا‭ ‬التمرد؛‭ ‬لذلك‭ ‬خنقها‭ ‬بنسبته‭ ‬إياها‭ ‬إلى‭ ‬القصة‭ ‬القصيرة،‭ ‬وأدخلها‭ ‬دهاليز‭ ‬الشرح‭ ‬والتفسير‭ ‬والتأويل،‭ ‬ونأى‭ ‬بنفسه‭ -‬أقصد‭ ‬النقد‭- ‬عن‭ ‬غير‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬المهمات،‭ ‬التي‭ ‬أظن‭ ‬أنها‭ ‬كانت‭ ‬ستصنع‭ ‬فارقا‭ ‬في‭ ‬تجديد‭ ‬مناخات‭ ‬الكتابات‭ ‬القصصية‭ ‬والسردية‭ ‬في‭ ‬السلطنة‭.‬

فِي‭ ‬زَمَنِنا‭ ‬الرَّاهن،‭ ‬لدينا‭ ‬هذا‭ ‬الزخم‭ ‬من‭ ‬النصوص‭ ‬السردية‭ ‬المختلفة،‭ ‬المتمردة،‭ ‬المستقلة‭ ‬والمحكمة‭ ‬السبك،‭ ‬النافذة‭ ‬نحو‭ ‬المعارف‭ ‬المختلفة،‭ ‬لكنها‭ ‬تحاول‭ ‬أن‭ ‬تنتمي‭ ‬إلى‭ ‬زمنها،‭ ‬أعني‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬تطوير‭ ‬التكنيك‭ ‬الكتابي؛‭ ‬بحيث‭ ‬يصبح‭ ‬الوعي‭ ‬السردي‭ ‬يتجاوز‭ ‬خارطة‭ ‬القصة‭ ‬القصيرة،‭ ‬ليصنع‭ ‬لذاته‭ ‬مناخا‭ ‬كتابيا‭ ‬تقنيا‭ ‬مختلفا،‭ ‬لكنه‭ ‬يمرُّ‭ ‬بالمطب‭ ‬ذاته،‭ ‬النقد‭ ‬لا‭ ‬يُوَاكبه،‭ ‬لدينا‭ ‬نصوص‭ ‬تخلخل‭ ‬ثوابت‭ ‬التقنية‭ ‬الكتابية‭ ‬الكلاسيكية،‭ ‬وتنحاز‭ ‬تماما‭ ‬للتغيير‭ ‬الطافح‭ ‬بالتجريب‭ ‬الذي‭ ‬يصبو‭ ‬لنقد‭ ‬يفهمه‭ ‬ويشظيه‭ ‬ويعيد‭ ‬تكوينه،‭ ‬ولكنَّ‭ ‬صعوبة‭ ‬ذلك‭ ‬بادية،‭ ‬وكأن‭ ‬الزمن‭ ‬يعيد‭ ‬نفسه‭!‬

نصوص‭ ‬تفاعلية‭ ‬

لِمَاذا‭ ‬خَارِج‭ ‬السياق؟‭.. ‬يظل‭ ‬المتلقي‭ -‬ومن‭ ‬خلفه‭ ‬الناقد‭- ‬في‭ ‬رُدْهَة‭ ‬النصِّ‭ ‬الذي‭ ‬تتضمنه‭ ‬المجموعة‭ ‬القصصية؛‭ ‬باعتبار‭ ‬المجموعة‭ ‬مانحة‭ ‬الشرعية‭ ‬للنصوص‭ ‬والتجارب‭ ‬التي‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬تأخذها‭ ‬الندوات‭ ‬والمحاضرات‭ ‬والصالونات‭ ‬للنقاش‭ ‬والحوار‭ ‬والتفسير‭ ‬والشروحات،‭ ‬بينما‭ ‬التجارب‭ ‬الأخرى‭ ‬تبقى‭ ‬خارج‭ ‬الصلاحية‭ ‬النقدية،‭ ‬وأبعد‭ ‬نقطة‭ ‬عما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تثيره‭ ‬لدى‭ ‬المتلقي،‭ ‬وهي‭ ‬التي‭ ‬تعيش‭ ‬بين‭ ‬أكناف‭ “‬الفيسبوك‭” ‬و‭”‬التدوينات‭” ‬والصفحات‭ ‬الشخصية‭ ‬في‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬التطبيقات‭ ‬الإلكترونية‭ ‬التفاعلية‭. ‬والغريب‭ ‬في‭ ‬الأمر‭ ‬أنَّ‭ ‬نسبة‭ ‬التصفُّح‭ ‬الإلكتروني‭ ‬تفوق‭ ‬بكثير‭ ‬نسبة‭ ‬التصفُّح‭ ‬الورقي‭. ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬ذلك،‭ ‬تظل‭ ‬غير‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬استدراج‭ ‬الناقد‭ ‬إليها،‭ ‬رغم‭ ‬حيازتها‭ ‬صك‭ ‬اختلاف‭ ‬لافت‭.‬

تَلْفتُ‭ ‬نَظَرِي‭ ‬كثيراً‭ ‬العديدُ‭ ‬من‭ ‬النصوص‭ ‬السردية‭ ‬الإلكترونية؛‭ ‬باعتبار‭ ‬أنَّ‭ ‬العالم‭ ‬الافتراضي‭ (‬الإنترنت‭) ‬مصدر‭ ‬مُهم‭ ‬للحِرَاك‭ ‬الثقافي‭ ‬والإبداعي،‭ ‬ومناخ‭ ‬جيد‭ ‬لمعرفة‭ ‬المختلف‭ ‬والمنسَاق‭ ‬نحو‭ ‬استقلاليته،‭ ‬وهناك‭ ‬أسماء‭ ‬مُتحققة‭ ‬من‭ ‬واقع‭ ‬تجاربها‭ ‬السردية‭ -‬سمُّوها‭ ‬قصصية‭ ‬إن‭ ‬شئتم‭- ‬لكن‭ ‬الخشية‭ ‬على‭ ‬تجاربها‭ ‬من‭ ‬الانزواء‭ ‬تبقى‭ ‬محل‭ ‬تَسَاؤل‭ ‬مُلِح‭ ‬ومُهم‭. ‬

وَفِي‭ ‬رَأيي‭ ‬أنَّ‭ ‬هذا‭ ‬المصدرَ‭ ‬الإلكترونيَّ‭ ‬هو‭ ‬أحد‭ ‬بواعث‭ ‬التنافسية‭ ‬والنقد‭ ‬الرصين،‭ ‬بل‭ ‬وتحفيز‭ ‬استمرارية‭ ‬المختلف،‭ ‬ولا‭ ‬يمنع‭ ‬قيام‭ ‬ندوات‭ ‬ثقافية‭ ‬ونقدية‭ ‬وحوارية‭ ‬لاستجلاء‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬ونصوصه‭ ‬السردية؛‭ ‬فلا‭ ‬مهرب‭ ‬منه،‭ ‬لكن‭: ‬هل‭ ‬هُناك‭ ‬من‭ ‬سيُسمِّيه‭ ‬مصدراً،‭ ‬خاصة‭ ‬إذا‭ ‬كانتْ‭ ‬المُعرِّفات‭ ‬كاتبة‭ ‬النصوص‭ ‬حقيقية‭ ‬وليست‭ ‬وهمية،‭ ‬وموجودة‭ ‬على‭ ‬أرض‭ ‬الواقع؟‭ ‬

خاتمة‭ ‬

مَا‭ ‬هِيَ‭ ‬العَلَاقة‭ ‬بَيْن‭ ‬النص‭ ‬القصصي‭ ‬العُماني‭ ‬القصير‭ ‬والرواية؟‭.. ‬هي‭ ‬علاقة‭ ‬وطيدة‭ ‬بلا‭ ‬شك؛‭ ‬بدليل‭ ‬أن‭ ‬تداخل‭ ‬الأجناس‭ ‬في‭ ‬النص‭ ‬الروائي‭ ‬موجودٌ‭ ‬في‭ ‬النصوص‭ ‬السردية‭ ‬القصيرة‭ ‬العُمانية،‭ ‬التي‭ ‬يتم‭ ‬تكريسها‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬نصوص‭ ‬قصصية‭ ‬قصيرة‭.‬

 4,777 total views,  2 views today

Hits: 198