النظام الإعلامي بَيْن النسقيَّة وعمليَّات الاتصَال
د. عايدة النبلاوي
كليَّة الآداب والعلوم الاجتماعيَّة – جامعة السُّلطان قابوس
ينظرُ مدخلُ دِراسة النُّظم للعلاقة الوثيقة بين الإعلام والمجتمع، على أنه نسقٌ اجتماعيٌّ يخضع لشمولية التحليل النسقي؛ وبهذا يتخطى النموذج الوظيفي الكلاسيكي بعد أن أصبحت فكرة النسق جوهرية داخل العلم الاجتماعي. ويُمثِّل هذا الاتجاه كلٌّ من: روبرت ميرتون، وجورج هومانز، وتالكوت بارسونز، وماريون ليفي، وروبرت بيلز. وينظر أنصارُ هذا الاتجاه إلى أيِّ شيء على أنه نَسَق أو نظام يتألَّف من أجزاء مُترابطة كأنساق فرعية، ولكلِّ نسق احتياجات أساسية للحفاظ على استقراره وتوازنه، كما يحاول النسق تحقيق احتياجاته بواسطة العديد من المتغيرات أو البدائل.
نسقيَّة النظام الإعلامي:
باعتبار النظام الإعلامي نسقًا، يُعرَّف النسق الاجتماعي بأنه عبارة عن فاعلين، أو أكثر، يحتل كلٌّ منهم مركزاً، ويُؤدي دوراً متمايزاً؛ لذا فهو عبارة عن نمط مُنظَّم يحكم عَلَاقات الأعضاء، ويصف حقوقهم وواجباتهم تجاه بعضهم البعض، في إطار من المعايير والقيم المشتركة، إضافة إلى أنماطٍ مختلفة من الرموز والموضوعات الثقافية المتعددة. ويهدفُ النسق الاجتماعي إلى تحقيق الأهداف الجماعية، وتعبئة أفراد المجتمع وموارده لتحقيق هذه الأهداف. وذلك من خلال التنشئة الاجتماعية؛ حيث تنتقلُ الثقافة إلى الفاعلين ويتم استدماجها؛ بحيث تصبح عاملاً مهمًّا في دافعية سلوكهم الاجتماعي؛ وذلك يتم داخل الأسرة كنسقٍ اجتماعي، ووسائل الاتصال الجماهيري، فضلاً عن النقابات والأحزاب السياسية، كلها تقوم بدور تعليمي.
وهنا.. أكَّد بارسونز أنَّ لكل نسق بيئتَه التي تشملُ مجموعة الأنساق الفرعية التي يتفاعَل ويتبادَل العلاقات معها، في إطار شبكة من الاعتماد المتبادل، هذا مع حِفَاظ كلٍّ منهم بدرجة من الاستقلال؛ بحيث يمكن تمييزه -على المستوى التحليلي- عن الأنساق الأخرى. فالنسقُ الاجتماعيُّ يستمدُّ من نسق الشخصية الدافعيةَ اللازمةَ؛ من خلال مجموعة من الاستعدادات والميول التي تقُود الفاعلين نحو سلوك يُلائِم مصالح النسق؛ أي نَحو القابلية الاجتماعية، والتضامن واستدماج المعايير، والقيم والأيديولوجيات. كما يستمدُّ النسق الاجتماعي من النسق الثقافي اكتساب الشرعية (Legitimations)؛ بمعنى: مجموعة القيم والمعايير التي تُساعد على خلق التضامن والولاء، ومن ثمَّ الضبط. ويكتسب النسق الاجتماعي من ذلك قدرًا من الثبات النسبي عبر الوقت.
وتستندُ عملية تحليل التبادل داخل النسق على جانبين؛ أولهما: تفسير التبادل في ضوء خريطة المدخلات والمخرجات (Input-output table). أما الثاني: التأكيد على الأهمية النظرية للتبادل من خلال الرُّموز التي تُسهل عملية الاتصال والتبادل بين النسق والأنساق الفرعية. وتتضح ضرورة وسائل الاتصال لشبكة التبادل من خلال التأثير (influence)، ومصدره نسق التكامل؛ بمعنى مجموعة الروابط المجتمعية. والتأثير هو القدرة على الحصول على الموافقة أو القبول أو الولاء عن طريق ممارسة الإقناع (Persuasion)، ويختلف التأثير عن القوة في أنه لا يُعتبر صورة من صُوَر الإجبار، كما أنه لا يتطلَّب أي ضَرب من ضروب القسر (Force)، ويرتبط التأثير بمقدار الهيبة التي يتمتَّع بها الشخص الذي يمتلك التأثير، أو الذي في مقدُوره أن يدعو إلى التضامن. والتأثير أيضًا يتمتَّع بمساحة من الحركة تُسهِّل عملية التبادل، ويزداد التأثير أو يتقلص طِبْقًا لدرجة استخدامه من خلال الأفراد الذين يُمَارسونه، والجماعات التي تمتلكه.
والنسق الاجتماعي عُرضة للتغيُّر بسبب عمليتين؛ هما: الاتصال واتخاذ القرارات؛ فإنَّ كل عملية اتصال تتضمَّن قراراً، يُحدِّد طرف الاتصال الآخر فائدته وضرورته. وهاتان العمليَّتان تتسببان بطبيعتهما في تخلخل التوازن؛ ذلك لأنَّهما يدخلان عناصر جديدة على الموقف. وفي هذا الإطار، يُمكن تحليل العمليات الدينامكية داخل النسق وفق منظور بارسونز بالاستعارة من علم السيبرنطيقا (Cybernetics)، في إحداث التكامل أو التغير داخل النسق، الذي تتميَّز طبيعته بوجود تداول مستمر للطاقة والمعلومات. فتبادُل المعلومات والطاقة بين أجزاء النسق هو الذي يحركه نحو الفعل، غير أنَّ الأجزاء المختلفة للنسق لا تمتلك قدراً متساويًا من المعلومات والطاقة؛ فالأجزاء التي تملكُ درجةً عاليةً من المعلومات تفرضُ ضوابط على الأجزاء التي تملكُ درجة عالية من الطاقة؛ مثال: نسق الشخصية يحتل درجة وسطى في التدرج السيبرنطيقي؛ حيث تتلاقى وتتصارع الطاقة والمعلومات، فإن تنظيم الشخصية يحتاج تزويدها من الخارج بالمعلومات. كما تحتاج الشخصية إلى الدافعية؛ باعتبارها طاقة داخلية، والمعلومات من خلال مؤثرات خارجية، وأن كلًّا من المعلومات والدافعية إمَّا أنْ يُوجدان في البيئة الخارجية عن الشخصية، أو يتم استدماجهما داخل الشخصية.
وهُنَا.. يطرح المدخل النسقي رُؤية شاملة لمفهوم النظام الإعلامي العربي؛ باعتباره مجموعةً من المدخلات تتفاعل في سياق ونسق منظم ومخطط ومُنضَبِط للحصول على مُخرَجات محددة. وهنا يُقال: “نحن العرب مع غيرنا من الدول النامية خارج هذه المنظومة”، وإذا كان لنا فيه شيء، فهو مُجرَّد الانتفاع من مُخرَجات هذا النظام. ومع ذلك، يُمكن قَبُول فكرة النظام مع إدراكنا لبعض القصور.
ووِفْق هذه الرؤية، فإنَّ الإعلامَ الوطني نظامٌ مُستقل ومُتفاعل مع بقية النظم الفرعية المكوِّنة للنظام الاجتماعي العام. وإذا كانت درجة تفاعله وارتباطه بالنظامين السياسي والثقافي تفُوق ارتباطه ببقيَّة النظم الفرعية داخل المجتمع؛ أي أنَّ دائرة فِعله تتوسط ما هو سياسي وثقافي دون انفصالٍ أو استقلالٍ عن بقية الأنظمة الفرعية داخل النظام الاجتماعي العام. هذا على الرغم من شُيوع نظرة سطحية للنظام الإعلامي، وتصويره على أنَّه مُجرد تابع للنظام السياسي. وخلاصة القول هنا، أنَّ هناك ثمة تداخلاً وتفاعلاً بين النظام الإعلامي الوطني والنظم الاجتماعية الأخرى الفرعية التي تكوِّن النظام الاجتماعي العام في المجتمع. حيث يعمل في إطار تفاعلي يشمل الهياكل الأساسية، ووسائل الاتصال والعمليات الاتصالية التي تتم عبر وسائل الاتصال الجماهيري؛ سواء بين الدول أو الشعوب.
الاتصال وعمليَّاته:
يُعدُّ الاتصال من أهم الأنشطة الإنسانية في العصر الحديث؛ حيث تتدفَّق المعلومات وتتضاعف المعرفة، وبات من السهل تواتر الانتقال السريع للأشكال الثقافية والمعلوماتية؛ مما يترتب عليه تغييرات واضحة في أساليب الحياة. وهنا تتزايد أهمية الاتصال عامة والاتصال الجماهيري خاصة، ويشكل أحد أهم التخصُّصات العلمية ضمن فروع العلوم الاجتماعية.
وفي هذا الإطار، فإنَّ البحثَ الإعلامي عبر التخصصات المتعدِّدة يهتم بكونه آلية توصيل الأفكار والمعلومات؛ من خلال رموز في وسط اجتماعي ثقافي. وتحتاج الرسالة الإعلامية لتفسير من أجل تحديد جملة التأثيرات المتنوعة. مع الأخذ في الاعتبار أنَّ وسائل الاتصال ذات تأثير على المدى الطويل؛ نظراً لاستمرار عملية التواصل مع الجمهور على مدار الساعة.
ويُشير الاتصال إلى العملية التي تنتقلُ بها الأفكار والمعلومات بين الناس داخل نسقٍ اجتماعيٍّ مُعيَّن؛ سواء من حيث الحجم، أو محتوى العلاقات المتضمَّنة فيه. كما يتميَّز بالتفاعل والتبادل. ويحدث الاتصال عندما يستجيب الإنسان لمجموعة من الرموز، خلال عملية نقل المعلومات، أو الأفكار، أو المشاعر، أو المهارات، أو الخبرات. وهذا من خلال موقف سُلوكي بين شخص أو أكثر إلى شخص أو أكثر، ينقل فيه المصدر رسالة إلى مستقبل أو مستقبلين؛ بهدف التأثير في سلوكهم. هذا مع مُرَاعاة أن هناك تفسيرات مختلفة للمضمون من جانب الناس، بحسب اختلاف المرجعية الاجتماعية والثقافية.
وقد بَرَز الاتصالُ الجماهيريُّ -في إطار أشكال الاتصال البشري الأخرى- باهتمامِه بعمليَّة تبادُل الرسائل؛ من خلال رموز شفهية ومكتوبة. وقد زادتْ التكنولوجيا من فاعليَّة الاتصال الجماهيري؛ فانطلقت الرسائل حول العالم عبر الفضاء الخارجي. وبذلك، يعدُّ الاتصال الجماهيري أعلى مستويات الاتصال، ويعرف بأنه عملية استخدام وسيلة إعلام جماهيرية لإرسال رسائل إلى عدد كبير وغير محدود من الناس بغرض الإعلام، أو التسلية، أو الإقناع.
كما يتميَّز الاتصال الجماهيري بما يحدُث خلاله من تغذية مرجعية مؤجلة؛ بمعنى أنها تعطي إجابات عن أسئلة مطروحة. هذا إلى جانب أنه يعمل في إطار اجتماعي معقد تتأثر استجابة الجمهور بدورها بهذا الإطار. كما أن طبيعة رد الفعل تتقرَّر جزئيًّا بشكل ذاتي، ثم سُرعان ما يختلطُ بأناس وجماعات يُؤثِّرون في طريقة الاستجابة للرسائل التي تستقبل عبر وسائل الاتصال.
كما تستندُ عملية الاتصال على مختلف الطرق والأساليب التي تنتقل بها الرموز، أو المعاني والأفكار بين الناس. في هذا الصدد، طَرَح شانون وويفر نموذجاً لتفسير كَيْف تتم عملية الاتصال من خلال ست خطوات: ثلاث منها للمرسِل، وثلاث للمستقبِل. الأولى: تشمل اتخاذ قرار الاتصال ونقل الرموز (Encoding). أما الثانية، فتتضمَّن استقبال الرسالة أي فك الرموز (Decoding)، ثم يأتي الفهم والاستيعاب بحيث يتعامل مع قدر المعلومات المنقولة، وليس مادتها أو مضمونها؛ أي لا يتعامل مع المعاني، ويركز فقط على الجوانب التقنية للاتصال. كما أنه نموذج ذو اتجاه خطي للاتصال الإنساني غير دقيق، ويبسط عملية الاتصال إلى حد كبير، ويختزلها عبر مراحل تبدأ من نقطة وتنتهي عند نقطة أخرى. هذا على الرغم من أن عملية الاتصال في حقيقتها تبدو أكثر تعقيداً من ذلك.
وقد طوَّر عالم الاتصال الشهير هارولد لازويل (Harld Laswell) نموذجاً للاتصال يُطلِق عليه البعض نموذج الحكاية (Narrative Model) يتكوَّن من خمسة أسئلة لوصف عملية الاتصال؛ تبدأ من المرسِل: يقول ماذا (الرسالة)؟ بأية وسيلة (الوسيلة)؟ لمن (المستقبِل)؟ وبأي تأثير (الأثر)؟ وقد حَدَث تطوُّر في إطار مضمون الرسالة؛ أي: ماذا تقول الرسالة؟ بمعنى لا ينبغي أن نقف عند ما يفصح عنه المحتوى، بل النظر في الدلالات الخفية وراء المضمُون من خلال التصورات المختلفة للجمهور. وهذا لا يتأتَّى إلا من خلال رسالة واضحة ومؤثرة، بداية من خلال طريقة الإعداد والعرض حتى نُفسح المجال العام أمام العديد من التحليلات والتفسيرات.
وإذا انتقلنَا إلى المرسِل، فإنَّه يُعد رسالته بطريقة تُمكِّن من تحقيق التناغم والتوافق مع المستقبل؛ ولن يتأتَّى ذلك إلا بارتباطِه بجَوَانب من الخِبرة تُشَابه إلى حدٍّ كبيرٍ خبرة المستقبل. وهنا، يحتاجُ الإعلاميُّ إلى مهارات الاتصال الشخصي خلال مَرَاحل إعداد الرسالة، للتعرُّف على رُدود أفعالِ الجماهير؛ حتى يُمكنه تعديلها بما يُرْضِي اهتماماتهم؛ أي: ضرورة المزج بين الاتصال الجماهيري والاتصال الشخصي. ثم تأتِي القُدرة على الإقناع على رأس المهارات، باعتبار أنَّ الإقناع إستراتيجية تُمكِّن الشخص من نقل الجمهور المستهدَف من موقف معين إلى موقف آخر يُرِيده القائم بالاتصال تَمهيداً لإقناعه، ومن ثمَّ تعديل الاتجاه وتغيير السلوك. كما أنَّ هناك أهميَّة خاصَّة لمُقدِّمي البرامج؛ فهو لابد أنْ يكون شخصيَّة مألوفة للمشاهدين، يُقدِّم لهم ما يمتعهم ويعلمهم أيضا.
والجمهور كطرفٍ آخر في عمليَّة الاتصال، ينبغِي دراسته من خلال مُحَاولة تحديد وتمييز الخصائص السيكولوجية والاجتماعية -متمثلة في مواقف الجمهور، وآرائه، وقيمه، وتقديره لنفسه- فضلاً عن التعرُّف على القضايا الاجتماعية الملحَّة التي تشغله؛ فعلى سبيل المثال: نظام الرعاية الاجتماعية الحالي لفئات ذوي الدخل المنخفض والمتوسط، هنا تستهدف الرسالة الإعلامية فئة معينة من الجمهور حتى يحقق الإعلام نجاحاً.
والتليفزيون كإحدى وسائل الاتصال الجماهيري ليس مجرد آلة للإعلان عن نصٍّ ما، أو أنَّه مُجرد تسلية فقط، بل يتعدَّى ذلك إلى تناول قضايا المجتمع، حتى البرامج التي تبدُو ذات طبيعة عادية تتضمن أهمية؛ فبرامج الأطفال -على سبيل المثال- تتضمَّن العديد من الرسائل حول الاتجاهات الاجتماعية، والقيم المتضمَّنة في موضوع البرنامج. ففي إطار دراسة الشخصية المضحِكَة “دونالد دك”، أشار السوسيولوجيون -أمثال: ماتلارت، واريل دورفمان- إلى الطريقة التي تبدُو بها هذه الشخصية الهزلية؛ فهي تكشفُ عن عادات غريبة للبط، في إطار من التصورات الأيديولوجية حول الفردية والحرية، وعن كيف تصبح ثريا، وأيضا حول الجنس وطبيعة الأسرة. وبذلك؛ فإنَّ أي برنامج -سواء يُقدِّم معلومات، أو حقائق، أو حكايات، أو صورًا- يمدنا بأطر فكرية متضمنة داخل معلومات.
وسوف يحملُ التليفزيون المزيد للمجتمع خلال مراحل تطوره في حياتنا المعاصرة؛ فسوف تتغيَّر البرامج، وستكُون فئات المجتمعات المحلية مسؤُولة عن التغيير في الشكل والنوعية. هذا بعد أن أصبحَ مضمون الرسائل الإعلامية يُشكِّل قضية اجتماعية؛ فعلى سبيل المثال: النساء وكبار السن من فئات المجتمع التي صوَّرتها وسائل الإعلام من خلال خصائص سلبية لا تعكسُ واقع النساء أو كبار السن في المجتمع، مع العلم أن هذه الصورة آخذة في التغيُّر نظرًا لاقترابها أكثر من واقع الحياة اليومية.
أطر تحليليَّة:
أوضحتْ الأُطر النظريَّة المُبكِّرة لفهم تأثير وسائل الاتصال أنَّ الجمهورَ مجموعة من الناس، لا يُمكن تحديد هُويِّتهم، ولهم أساليب حياتهم المختلفة، ويتأثَّرون على انفراد؛ وبالتالي فهي تجربة فردية أكثر من كَوْنِها تجربة جمعية. هذا الإطار يُسمَّى نظرية الرصاصة -الحقنة تحت الجلد- وقد انشغلَ علماءُ النَّفس الاجتماعي بإعادة النظر في هذا الإطار؛ نظراً لعدم قدرته على تفسير استجابات الناس، إزاء الرسائل التي تصلهم. وهنا، برزت فكرة الجماعات الفرعية التي قدَّمت رؤية أعمق وجديدة لكيفية استقبال، والاستجابة للرسائل وما تتضمَّنه من معانٍ. ثم ما لبث أن ظَهَر تيارٌ يُركز على عمليات الإدراك، أو الرأي الاختياري لدى المتلقي؛ حيث إنَّهم يتبنُّون وجهات نظر عن العالم تتصف بالنسقية والثبات النسبي، ومن ثمَّ يُضفون قدرًا من الأهمية على المادة الإعلامية التي ترتبط بمواقف مُستقرة لديهم. وبناءً على ذلك؛ بدأتْ تصنف المناهج المستخدمة لفهم الرسائل إلى منهج الفروق الفردية، ومنهج الفئات الاجتماعية، ومنهج العلاقات الاجتماعية.
وقد كشفَ تُراث البحوث الإعلامية النقاب عن العديد من الأطر النظرية والمنهجية في إطار فهم الرسالة الإعلامية. فقد أشارت نظرية الغرس الثقافي إلى عملية اكتساب المعرفة من خلال الوسيط الثقافي -وسائل الإعلام- وتوضح مَقُولاتها كيفية تدفُّق التأثيرات بشكل دينامي ومُتفاعل بين الرسالة والسياق الاجتماعي الثقافي. أما على مستوى الأطر المنهجية، فقد طرحت قضية مهمة؛ هي: “أنه لا يزال فهم الرسالة إشكالية ممارسة، مهما كانت درجة وضوح الرسالة وطبيعتها؛ فالرسالة تتضمَّن رموزًا واحدة، ولكن يُمكن قراءتها بأكثر من طريقة. وبذلك؛ فإنَّ أي مُحاولة لفهم عملية الاتصال بشكل مُرضٍ، لا بد أن تأخذ في الاعتبار دراسة البرامج، ومُكوِّناتها، وما تحمله من رسائل، ثم عمليات تفسير هذه الرسائل، وتحليل مضامينها، وكيف وصلت إلى الجمهور.
وهنا.. برزتْ الحاجة لمنهج أكثر دقة لتحليل الرسالة؛ حيث أوضح كوينهان (Counihan) أنَّ من أجل تحليل بناء البرنامج يُثَار العديد من التساؤلات المهمة في عملية التحليل؛ هي: لماذا دراسة هذا البرنامج؟ وما الهدف من دراسته؟ ولماذا نُحدِّد تفاصيل مهمَّة حول ما تتضمنه عملية التحليل من حيث البناء والمحتوى؟ هذا فضلاً عن التعرُّض لمُعدِّي ومُقدِّمي البرنامج، والتعرُّف على المنطلق الأيديولوجي وراء عملية الاتصال. وإذا كُنا في صَدد تحليل محتوى برامج تتعرض للمشكلات الاجتماعية، نكون أمام نوعية ذات طبيعة خلافية تبرز العديد من الاتجاهات والقيم الاجتماعية، قد يكشف مضمونها حالة تحوُّل في حياتنا المعاصرة، الذي ينسحبُ على مَواقفنا تجاه العديد من المشكلات الاجتماعية. وتحتاج عملية تحليل هذا النوع من البرامج إلى دراستها كوحدات منفصلة (حلقات البرامج)، وتُطرح جُملة تساؤلات توصلنا إلى استنتاجات خاصة بهذه البرامج.
وعلى جانب آخر، تكشفُ عملية تحليل البرامج أنَّ هناك محتوًى ظاهرًا، وآخر كامنٌ؛ من خلال الدلالات والتصورات. ومن أجل الوصول إلى المستوى الكامن المتضمَّن في عملية الاتصال، نحتاج للذهاب إلى ما وراء ملاحظات وتصورات الناس ومشاعرهم. وهنا، نكون أمام إشكالية منهجية تُثير تساؤلًا حول كيفية بِناء منهج تحليلي يُمكننا من فهم مستويات عملية الاتصال الأكثر تَعقيداً. هذه العملية تحتاجُ للنظر بعُمق فيما هو حاضر وغائب؛ أي أنَّ هناك بعضَ الملامح غير المرئية نحتاج لمعرفتها والوقوف عليها. وهنا، تظهر العديد من المداخل المنهجية لتحليل الرسالة الإعلامية، ومع اختلافها تتَّفق حول تحليل البناء والمضمون في إطار دراسة العلاقة بين الرسالة والجمهور.
ومن المداخل المنهجية الجديرة بالاهتمام في هذا الصدد: منهج تحليل الدلالات (Semiology)، الذي يُشارك البنيوية في ترميز المعنى، ثم فك الرموز، إضافة للاهتمام بالعديد من المؤثرات المشتركة. كما تنظرُ السيميولوجيا إلى جميع الأفعال والقوالب الاجتماعية؛ باعتبارها سبلَ اتصال. ويذهب هذا المنهج إلى أبعد من التركيز على الواقع البنائي وجوهر الرسالة إلى البحث عن الظروف الأساسية المحيطة بمضمون الرسالة. ويهتمُّ هذا المدخل بتفسير الرموز المتضمنة في الرسالة، والتي تحمل مَعاني مُتعدِّدة مُوجَّهة للجمهور. ووفق هذا المنهج، يصعُب اختزال مضمون الرسالة ببساطة إلى معنًى واحد، بل دائمًا يملك القدرة على إنتاج العديد من المعاني؛ وبالتالي إمكانية طرح استخدامات مُتعدِّدة للمضمون. وهنا؛ تبدُو النظرة المتكاملة لعملية التحليل؛ بحيث تتخطى الاتجاه الخطي بين الرسالة والجمهور إلى جوهر التحليل النسقي للرسالة الإعلامية؛ والتي تمدُّنا بمزيد من المعارف حول قضية الإعلام والمجتمع.
6,873 total views, 5 views today
Hits: 981