الرِّسالة.. وثيقة تاريخيَّة عالية القِيمة يلزمُ المحافظة عليها (2)
قدمنا في الجزء الأول من المقال -الذي نشرته “شرق غرب”- تعريفات مُتعدِّدة للرسالة، وبيَّنا أهميتها وقيمتها التاريخية، وشخصياتها وتعدُّد أغراضها، وعرضنا لنماذج منها، وسوف نُكمل في هذا الجزء محاور أخرى لم يَعْرِض لها المقالُ المنشور في العدد الخامس عشر – نوفمبر 2017م.
تسيرُ الرسالة مع القافلة، وعلى البواخر والسفن، أشهر وأسابيع، تجتازُ بحارًا ومُحيطات ودولًا ومَنَاطق، صَحاري وجبالا؛ حتى تصل إلى المكان والإنسان اللذين تقصدهما؛ سواء أكان أمًّا أم أبًا أم أسرة، صديقًا أم حاكمًا أم شيخًا، أديبًا عالمًا…إلخ، وتنثرُ الرسالة أجواءَ الفرح والسعادة إذا أتت بأخبارٍ سارَّة، ومعلومات مطمئنة، ومكاسب ونجاحات مُنتَظَرة لعملٍ أو تجارةٍ، وأرباحٍ واستقرار، عن الأحباب والأصدقاء والأقرباء، وأجواء يلفُّها الحزن والألم والقلق والخوف والأسف إذا كانت تتضمَّن أخبارًا لوفاةٍ، أو مرض، أو جفافٍ، أو اضطرابٍ، أو خسارة. وتعيشُ الزَّوجة والأم والأب والأبناء أشهر طويلة من الانتظار، وتلقَّف الأخبار وتوالِي الأسئلة عن رسائل الأزواج والآباء والأبناء التي يتسلَّمونها بشوقٍ وحبٍّ وسعادةٍ بالغة، ويتحوَّل اليوم إلى عيد، يظلون يقرأون فيه الرسالة مرَّات ومرات، تتناولها الأيادي، وتتشمَّمها الأنوف، ويحلِّلون كل كلمة فيها، ويضعُون التوقعات، ويتخيَّلون حياةَ الحبيب البعيد وفقًا لذلك التحليل. أطفالٌ وشبابٌ وكهول، يستقبلون القافلة التي وصلتْ للتوِّ قادمةً من زنجبار -ودول الخليج في الخمسينيات والستينيات- مُرُورًا بمسقط؛ حيث تُستبدل الجِمال الصحراوية بالسفن البحرية، يبدأ رجالُ القافلة في فكِّ الحبال المعقودة، وإنزال الأثقال من على ظُهور الجِمال، وأبناء البلدة جميعًا يُراقبون بقلق وينتظرُون بفارغ الصبر؛ فالزمن يمرُّ ثقيلا وئِيدا ما بَيْن وصول القافلة وعملية التوزيع التي يتمُّ فيها إيصال الرسائل إلى أصحابها.. زوجة تتسلَّم مع الرسالة الزاد والمئونة التي بَعَث بها زوجها؛ فالغذاء شحيح، والمعيشة شاقة، والأطفال يشكون الجوع والهزال. عجوزٌ طاعِنة في العُمر تنتظرُ الاطمئنانَ على ابنها، ومساعدة أو دواء عسَى أن يكون بَعَث بهما ولدها القائم في “تانجنيكا”. أختٌ أضناها الشَّوق إلى توأم روحها، شقيقها الذي تزوَّج وأَلِف العيشَ في زنجبار، تتنسَّم الأخبارَ علَّ أن يكون لدى أفراد القافلة رسالة أو قصيدة تروي بها ظمأ شوقها. أخٌ ينتظرُ ما يُفيد إتمام صفقة شراء “الشانبة”، ولديه الأملُ بأنَّ إخوته قد بَعَثوا له بثمن غَلَّتها. وآخَر ينتظرُ المبالغ النقدية والتفويضَ الذي بمُوجَبِه سوف يشتري بُستانَ النخيل لابن عمِّه، الذي رحل إلى زنجبار لطلب الرزق. أما الشيخ، فنصيبُه عشرات الرسائل بحُكم مكانتِه وعلاقاتِه الاجتماعية، ومجموعة من الجرائد والصحف على رأسها جريدة “الفَلَق”… يتشمَّمُون الرسائل ويضمُّونها، وتنهلُّ دُموعهم غزيرة مِدْرَارة، ومع الموقف الذي أشعلَ الذكريات، وأجَّج المشاعر، وأعادَ الزمن إلى الخَلف سنوات، يُصبح كلُّ جزءٍ من هذه الأماكن يُذكِّرهم بحبيب، وأخ، وصديق، وقريب… تركُوا الأهل والأحبَّة، فارقوا المكان والنخيل والنسيم والخيل التي لطالما أَلِفُوها وأحبُّوها، وما حَسِبُوا أنَّهم يفارقوها يومًا، تغنَّوا بها في أشعارهم وأحاديثهم وسَمَرهم. هذه رِسَالة يشكُو فيها صاحبُها آلام الشوق، وزخم الذكريات التي تؤرقه، يستعرضُ أمنياته التي يَسَأل الله أن تتحقَّق: جولة صباحية في بُستانه الظليل والأثير على قلبه، شربة ماء باردة من جحلة مبخَّرة، غَداء مكوَّن من أرز ومعصورة تحت ظل غافة قرب الجدول المائي الرقراق، نسمات كوس باردة مع الصَّحب والأصدقاء في الأمسيات اليومية، صلاة الفجر في مسجد القرية… رسالةٌ أخرى يطلبُ فيها عمٌّ من ابن أخيه الإسراعَ بالسفر إلى زنجبار للزواج من ابنة عمِّه التي أشرفتْ على البُلوغ… رسالةٌ ثالثة تتحدَّث عن أخبار العرب في إفريقيا، والوضع السياسي في العالم، وعن مُجريات الحرب العالمية الثانية، والوضع المتأزِّم بين المسلمين والهندوس في شبه القارة الهندية… رسالةٌ رابعة تستعرضُ أسعارَ القرنفل، ومُستويات الأمطار، والحقوق المستحقَّة على الآخرين من غلَّة القرنفل، سؤالٌ عن أخبار الطقس، وأثمار النخيل، ومناسيب الأفلاج، وسعر البسر في عُمان، والوضع السياسي.
وكثيرًا ما تُرفق بالرسالة ملاحِق تُعْنَون بـ”لاحقة رقم 1”، و”لاحقة رقم 2”، وقد تصلُ إلى أكثر من ذلك، وكل واحدة مِنها تتضمَّن معلومات وأخبارا ومشاهِد مُستجدَّة طرأت بعد كتابة الرسالة الأولى (الأصل)؛ أي في فترةِ انتظار مَوْعِد انطلاقة القافلة، أو الشخص المسافر الذي سيحملُ الرسالة. وتؤكد الإحصائيات والإصدارات المتواصلة، وما تُظْهِره الهيئة العامة للوثائق والمحفوظات الوطنية، في معارضها السنوية -ومن بينها: عرض الرسائل التي تمَّ استلامها من المواطنين، وإبراز الجهود التي تمَّت في توثيقها وأرشفتها- وما تحتفظُ به المكتبات الخاصة والعامة والمتاحف المتعددة، على غزارة الرسائل القديمة، وقيمتها: التاريخية، والأدبية، والاجتماعية، وتعدُّد أغراضها وانتشارها على مِسَاحات واسعة داخل السلطنة وخارجها. وتعدُّ هذه الرسائل اليوم مصدرًا مهمًّا للباحث والكاتب في مُختلف المجالات التي يكتُب فيها: التاريخية، والفقهية، والأدبية، وسِيَر الشخصيات، واعتمدتْ العديد من الدراسات والكتب والمؤلفات التي صدرت حديثا عليها، والتي تطلبت سنوات من البحث والتنقيب، والمقارنات والترميم، وفك الخط والرمز، ومعالجة بعض الإشكالات، وصولا إلى المعنى لبعضها، وقد استثمرَ بعض هؤلاء المشتغلين بالتأليف والكتابة الكثيرَ من الوقت والجهد في المكتبات العامة والخاصة، وفي خزانات كبار السن وأبنائهم من الشخصيات الاجتماعية البارزة خاصة، والعلماء الذين ارتبطُوا بعلاقات واسعة مع مختلف فئات وشرائح البشر داخل السلطنة أو خارجها، وتحمَّلوا عبء القضايا المجتمعية، وكانوا أطرافا مهمة في مجال القضاء والإفتاء والصلح بين الناس، وشهودا ووكلاء في عمليات البيع والشراء وكتابة الوصية التي تتم عبر التوثيق الخطي، وتمَّ توثيق هذه الرسائل وإلحاقها كمرفقات في هذه الكتب، وهي خدمةٌ أخرى جليلة للمكتبة، والباحثين الآخرين، والأجيال القادمة، في إخراج هذا الإرث وحفظه من التلف، وتقديمه كمصدر مهم للمزيد من البحث والكتابة. فالدكتور محسن بن حمود الكندي -على سبيل المثال- الذي اشتغل في السنوات الأخيرة على كتابة “السيرة”، وتناول عددًا من الشخصيات العُمانية -في كتبه: “الصحافة العُمانية المهاجرة: صحيفة الفلق وشخصياتها.. الشيخ هاشل بن راشد المسكري نموذجا”، و”عبدالله الطائي وريادة الكتابة الأدبية الحديثة في عُمان”، و”الشيبة أبو بشير مُحمد بن عبدالله السالمي.. رحلة حياة ومسيرة واقع”- اعتمدَ اعتمادًا كبيرًا في أعماله على الرسائل كمصدرٍ أساسيٍّ لها؛ فكتابه الأخير -الذي صَدر في أربعة مجلدات، عن رياض الريس للكتب والنشر- تمَّ تخصيص المجلديْن الثاني والثالث بعنوان “الوثائق والمدونات”، واللذين تجاوز عدد صفحاتهما الـ700 صفحة، لرسائل “الشيبة”، ويتحدَّث الباحث الدكتور محسن الكندي عن الإشكالات والمعيقات التي واجهته في عملية البحث عن هذه الرسائل؛ إذ “لم يكن الحصول على وثيقة من وثائق الشيبة أو رسالة من رسائله، بالأمر الهيِّن الميسور، وقد كلَّفنا مرارًا السفر والتنقُّل داخل عُمان وخارجها مئات الكيلومترات…”. وفي مكان آخر من الكتاب، يُشير إلى أن “ثمَّة مُعضِلة أخرى أحاطتْ برسائل الشيبة؛ فعلى الرَّغم من كَثْرَتها، لم نستَطِع الوصولُ إليها بصُورة مُكتملِة؛ لعدم وُجُود أصول لها بأيدِي من وُجِّهت إليهم، أو عدم الرَّغبة في إبدائِها..”. واستفادَ الأستاذ أحمد الفلاحي في كتابه “بطين.. لمحات عنها تذكرة للأجيال القادمة” من الرسائل -التي استحوذتْ على الشَّطر الأكبر من الكتاب- في رَصْد تاريخ قريته، والتقديم لشخصياتها، والتعريف بإسهاماتهم الاجتماعية والعلمية، وضِمن كتابِه -الذي طُبع على نفقة مؤسسة “الرؤيا” للصحافة والنشر- مُرفق دَسِم منها، تصوِّر حركة التواصل بين أهل بطين وعدد واسع من الشخصيات، وتسلِّط الضَّوء على الحياة الاجتماعية والأدبية لمرحلة تاريخية تصل إلى أكثر من قرن ونصف القرن، إضافة إلى وثائق كثيرة؛ منها: “الوكالات والوصايا وصكوك البيع…”، وقد تمَّ أخذها كعينة -عشوائيًّا كنموذج لأمثالها- والتي ينعِي الكاتب ضياعَ الكثير منها “بفعل: الرمة، والمطر، ومرور السنين”. وتضمنت “موسوعة عُمان الوثائق السرية” -التي أعدها وترجمها الأخ مُحمَّد بن عبدالله بن حمد الحارثي- عددًا كبيرًا من الرسائل السياسية والاجتماعية، ضمن ملاحقها، تعرضُ للكثير من الأحداث وشخصيات المرحلة، ودورها التي تغطيها الموسوعة. واحتوَى كتابي “من زنجبار إلى دار السلام” -الذي صدر عن مؤسسة “بيت الغشام” للنشر والترجمة- على ثلاثٍ وثلاثين رسالة لمراحل زمنية ومواضيع متعددة ولطوابع قديمة ما زلتُ أحتفظُ بها ضمن ملفِّ الرسائل. ويبذلُ عددٌ من الباحثين -من أمثال: مُحمد بن عامر العيسري، وسلطان بن مبارك الشيباني- جهودًا مُقدَّرة ضمن مشروع “ذاكرة عُمان”؛ للاستفادة من الرسائل القديمة كمصدر لا غنى عنه في التحقيق لعشرات المخطوطات من الكتب والمؤلفات وسير العلماء والأدباء، ونشرها تباعًا، ولهم في هذا الحقل إنجازات مُقدَّرة يشكرون عليها. وتعرضُ بعض الرسائل لتفاصيل دقيقة، وتناولت مواضيع تتَّسم بالشمولية والتنوع، ونقلتْ في صفحاتها أحداثًا وتطورات سياسية واقتصادية واجتماعية؛ فتَتَعاظم بذلك قيمتُها لتكون مصدرًا لعدد من الدراسات والكتب، وإن اختلفت أغراضها، لتعدُّد وشمولية موضوعات هذا النوع من الرسائل ومحاورها، ويصلُ بعضها إلى عددٍ من الصفحات، وتصلح بعد مراجعتها وتنقيحها لتصدر في كتيبات صغيرة مطبوعة مع الملحق أصل الرسالة، وهو مشروعٌ لو تبنَّته بعض المؤسسات المختصة لتمكنا بحقٍّ من حفظ جزء من الذاكرة العُمانية.
وصحَّحت العديدُ من الرسائل مفاهيم وقناعات وأخطاء تاريخية، وأبرزت أحداثًا اجتماعيَّة وسياسيَّة غير دقيقة، وقع فيها بعضُ الباحثين، أو وردت في أحاديث كبار السن، وقدَّمت معلومات قيمة لتواريخ ووفيات بعض الشخصيات، وسجَّلت ما قدموه للمكتبة من مؤلفات وأعمال وآراء وفتاوى في مختلف التخصصات. وتضمَّنت تفصيلات دقيقة لأحداث تاريخية ما كانت معلومة لدى الكثير من الباحثين الذين كتبُوا عنها، أو لا تزال مشروعاتهم في طَوْر الإعداد. وأعرف عددا من الكتابات تأخَّرت لسنوات لأسباب فنية، أو لنقص أو شك في معلومة أساسية أو تثبتا في التحقيق.. وجاء التأخير لصالح تلك المشروعات الكتابية بعد وقوع رسائل مهمة ذات علاقة بها أضافت جديدا عليها. ومن المؤسف أنْ يتعامَل البعضُ مع هذه الرسائل؛ باعتبارها إرثًا خاصًّا، وشأنًا من شُؤون الأسرة، وسرًّا من أسرار الآباء لا يُعلنون عن وجودها، ولا يُبادرون إلى تقديمها للجهات الخاصة لترمِيمها، وتصويرها، وتوثيقها بالشكل الذي يضمن بقاءها حيَّة مدى الزمن. ولا يسمحون حتَّى للباحثين والمشتغلين بالتأليف بالاطلاع عليها، والاستفادة منها لخدمة مشاريعهم الكتابية. وهو ما يفرض علينا العمل على تعزيز الجرعات التوعوية لإقناع هؤلاء بأنَّ هذه الرسائل هي الذاكرة الحقيقية للوطن، وتعدُّ اليوم مِلكًا عامًّا ووثيقة وطنية لا يجُوز التكتم عليها باعتبارها شيئا شخصيًّا.
وتُشكِّل رسائل الحُكَّام والزعماء عبر الفترات الزمنية المتعاقبة، مادة خصبة لدراسة المواقف السياسية، واهتمامات أولئك الزعماء، ورصد مُستوى الثقافة والحنكة والإدارة التي يتمتَّعون بها، وعُمق العلاقات التي ربطتهم بشيوخ القبائل وشرائح المجتمع، وسرعة وبساطة التواصل مقارنة باليوم، وأهمية تلك العلاقات في تشكيل وتعزيز الولاءات، والحصول على المعلومات التي من شأنها استشراف المستقبل، وتكوين رأي يكون أقرب إلى الدقة والصواب، وتعود نتائجه لصالح الوطن أو الأطراف المتصارِعة والمتنافرة، أو لطرف من الأطراف ذات العلاقة بمحتوى الرسالة، هذا فضلًا عن طبيعة المرحلة التاريخية التي تُمثلها وأحداثها. وتقدِّم هذه الرسائل كذلك صورةً أخرى للتعرُّف على حدود الدول في منطقة الخليج، والمناطق التي تُهيمن عليها، ومقدار التغيُّر الذي طرأ على الحدود السياسية توسعًا، أو انكماشًا، وأسماء البلدان والسياسات. إذا ما علمنا أنَّ الأرشيف العُماني يتضمَّن كمًّا كبيرًا من الرسائل التي تُشير إلى حجم التواصل، وعُمق العلاقات بين الحُكام والشيوخ والشخصيات الاجتماعية على مُختلف المستويات في البلدان الخليجية التي تُعبِّر عن الحميمية. على سبيل المثال، وتأكيدا لهذه الحقيقة، وعلى ضوء مُرَاجعتي لعدد من الرسائل التي يدخل تصنيفها ضِمن هذا النوع، وتحتفظُ بها مكتبتي الخاصة، فسوف أعرضُ بعضَ النماذج باختصار يتوافق مع المساحة المخصَّصة للمقال: في رسالة من السلطان تيمور بن فيصل من مومباي في 22 أبريل 1953م، والتي تميَّزت بخط عربي أنيق تضمَّنت خبرا بـ”عودة السلطان -أيده الله- من لندن إلى عدن، ومنها قصد ظفار”، والمقصود بالطبع السلطان سعيد بن تيمور مع الدعاء بأن “يسُر به كل مُحب، ويكبِت كلَّ حسُود جهول…”، فقد عرَّفتنا الرسالة بأنَّ السلطان زار عدن بعد لندن، وفي مكان آخر استشعار بنعمة الأمن، وضرورة الحفاظ عليها بالعمل والدعاء: “وما ذكرته من الأمن والاطمئنان، فيلزمنا سرًّا أن نشكر الله تعالى، ونحمده على نعمه ومننه التي لا تُعد ولا تحصى..”. وفي رسالة أخرى في 19 مايو 1954، تعبير عن مشاعر مؤلمة وصفها السلطان تيمور “بداهية الدهياء.. موت العلامة الخليلي”؛ فبسبب المواقف السياسية المتجاذِبة بين الإمامة والسلطنة آنذاك، نجد أنَّه لم يُطلق عليه لقب إمام، رغم أنَّه مُنتخب ومُعترف به من قبل مُعظم العُمانيين. وبرغم ذلك، فإنَّ الخلافَ لم يُنقص من قدره ومكانته عنده -فالرجال تقدِّر الرجال- في وصف خسارته الكبيرة. وفي رسالة من السلطان سعيد بن تيمور في 8 جمادى الأولى 1372 إشارة إلى السَّفر إلى خارج عُمان: “فقد اقتضتْ بعضُ المصالح بالسفر إلى الخارج بعد بضعة أيام إن شاء الله، ومن ثمَّ العودة إلى مسقط، بعد زيارة ولدنا قابوس بظفار…”. وفي رسالة أخرى في العام نفسه: “وكما علمت أن الدولة البريطانية توسَّطت في مسائل البريمي..”. وفي رسالة أُرِّخت في 6 شوال 1376، أخبار عن أنَّ “الأخ طارق بن تيمور وجَّهناه إلى ذلك الطرف ومعه الجنود… فنأمُركم بأن تكونوا معه بكل جد واجتهاد…”، وهي إشاراتٌ مُوثَّقة بالتواريخ، تُقدِّم معلومات موجزة تفي بأن تكون مصدرًا مُوثوقا لأيِّ عمل كتابي أو دراسة لها علاقة بها. رسالة من السيد حمد بن فيصل بن تركي، وهو عم السلطان سعيد بن تيمور، تاريخها في 7 شوال 1366 هجري، مما تضمَّنته: “العالم الخارجي سُكون، وفي 27 رمضان حَصل من الدولة استقلال الهند، وتقرر بها حكومتان؛ الواحدة منهما للهنود المسلمين وأُطلق عليها اسم حكومة باكستان وعاصمتهم كراتشي، وثانية حكومة الهند للهندوس وعاصمتهم دلهي، وبومباي صارت لهم، وقد قُسمت الهند كلها بينهما، وحسب الاتفاق الواقع تقرَّر أن تكون هذه الدولة تحت الاتحاد البريطاني..”. وفي رسالة من علي بن عبدالله آل ثاني -ديوان حاكم قطر- أكَّدت أن “الشيء الذي استقامَ عليه الأسلاف منذ القدم لن يزيده إنْ شاء الله مرَّ الأزمان إلا تَوكيدا أمام التيارِ الطاغي، وفَّقنا الله وأياكم لما فيه جمع الكلمة، ولم الشعث، وخذل أعداء هذا الدين...”. وتعبر رسالة صقر بن سلطان القاسمي، بتاريخ 20/5/1369 هجري، والتي طبع على صفحتها شعارٌ باللغتين العربية والإنجليزية، بعنوان: “سلطان بن صقر القاسمي، الشارقة – ساحل عُمان)، عن علاقة وثيقة وصداقة متينة مع المرسل: “تحيات عاطرة، وأشواق حارة تغشى صاحب القول الفصل والشهامة والنبل أخي الهمام الأبر، حميد الفضائل والخصائل الشيخ… كان بوُدِّي يا صديقي العزيز أن أبل صَدى قلبي بمشاهدتكم هذا اليوم…”، وتؤكِّد الرسالة أنَّ تواصلا ثقافيًّا واهتمامًا أدبيًّا مُشتركا بين المرسل والمرسل: “الواصل إليكم ديوان شاعر النيل وفقيد الشعر مُحمد حافظ بك، هدية وذكرى؛ فعَسَاه يحوز القبول…”، وما أجملها وأثمنها من هدية من صديق إلى صديقه. وفي رسالة أخرى من عيسى بن سلمان آل خليفة في 11 ديسمبر 1961م، أشارتْ إلى أنه “حاكم البحرين وتوابعها”، تضمَّنت ردًّا على تعزية مُوجَّهة له بوفاة والده سلمان آل خليفة حاكم البحرين. تؤكِّد هذه النماذج المختصرة على مستوى التواصل، وحجم العلاقات بين العديد من الشخصيات والحكام والزعماء داخل السلطنة وخارجها، وتقدِّم الإشارات التي تضمَّنتها معلومات تصلُح لأنْ تكون مَصَادر يُمكن الاعتماد عليها، ومقارنتها بالمصادر الأخرى، أو تعزيزها، والإضافة إليها، في إعداد الدراسات وتقديم المؤلفات إلى المكتبة عن تاريخ وأحداث المراحل التاريخية.
الخلاصة:
تُؤكِّد المشاهدات والنماذج التي عَرَض لها المقال في جزأيه، والإصدارات العُمانية المُتَتابعة التي تعتمدُ على الرِّسالة كمصدرٍ أساسيٍّ من مَصادرها، والمعارض التي تُقيمها الهيئة العامة للمخطوطات والوثائق الوطنية، على غزارة الرسائل القديمة التي تُعد نتاجًا طبيعيًّا للازدهار الذي شهدتهُ الحضارة العُمانيَّة، وعلاقة العُمانيين العَميقة مع مُختلف الأمم والشعوب، وإسهاماتهم في النهضة الإنسانية العلمية، وأسفارهم بحثًا عن الرزق، والعمل في التجارة والصيد، وربانا وقادة وعاملين في مَجالات مُتعددة في السفن البحرية التي تجُوب بحارَ وقارات العالم. ولا تزال العديد من تِلكم الرسائل مُتناثرة في الكثير من دُول العالم محفوظة في المتاحف والمكتبات والبيوت ومراكز البحوث ودوائر الأرشفة… وغيرها، وبالأخص في مناطق شرق إفريقيا التي كانتْ جزءًا من الإمبراطورية العُمانية، ونتيجة للعلاقات التاريخية الوثيقة التي ربطتها بعُمان، وتواجد العُمانيين هناك قبل قُرونٍ من الزمان، كانتْ فيه الرسالة هي صِلَة التواصل الوحيدة بين الناس.
تُعبِّر الرسالةُ عن مرحلةٍ تاريخيةٍ أصبحتْ من الماضي البعيد؛ فتصلُنا بطبيعة الحياة فيه، لما تحتويه -أي: الرسالة- من معلومات قيِّمة عن الزراعة والتجارة، ومُقوِّمات الاقتصاد في تلكم الفترات، ومواسم الجفاف والخصب والكوارث الطبيعية، وأنماط الحياة وتقاليدها في القرى والأحياء السكنية، وتفاصيل إحياء المناسبات الدينية والاجتماعية، وتنقلُ لنا مستوى التعليم وأثره على المجتمع، على ضَوء أسلوبِ الكتابة وأدبياتها وقوَّة لُغتها من عدمه، وما تحتويه الرسالة من أسئلة فقهية وحوارات أدبية شيِّقة، وتعرض للإصدارات الجديدة من الكتب ونتائج الحوارات والمناقشات بين العلماء والاهتمام بالأوقاف، وتتضمَّن تواريخ مواليد ووفيات عدد كبير من الناس، فضلًا عمَّا تقدمه من تفاصيل للأحداث السياسية ونشاط الحُكَّام والزعماء؛ لذلك باتتْ الرِّسالة مصدرًا مهمًّا للكتاب والباحثين والمهتمين في التاريخ العُماني، وسير شخصيَّاته والحياة القديمة بتفاصيلها المختلفة.
مِنَ المُؤسف أن يتعامل البعض مع هذه الرسائل؛ باعتبارها إرثًا خاصًّا وشأنًا من شؤون الأسرة، وسرًّا من أسرار الآباء، لا يُعلنون عن وجودها، ولا يُبادرون إلى تقديمها للجهات الخاصة لترميمها وتصويرها وتوثيقها بالشكل الذي يُبقيها حيَّة مَدَى الزمن. ولا يسمحُون حتى للباحثين والمشتغلين بالتأليف بالاطلاع عليها، والاستفادة منها لخدمة مشاريعهم الكتابية. هذا الواقع الذي أشار إليه عديد من الباحثين يحثُّنا على تعزيز الجرعات التوعوية لإقناع هؤلاء بأنَّ الرسائل القديمة هي الذاكرة الحقيقية للوطن، وتعدُّ اليوم مِلكًا عامًّا، ووثيقة وطنية، لا يجوز التكتُّم عليها؛ باعتبارها شيئًا شخصيًّا.
كَوْن هذه الرسائل فرضتْ نَفْسَها كمصدرٍ مُهمٍّ للعديد من الدراسات والإصدارات العُمانية؛ فهي كَذَلك تُعدُّ مُحفِّزا للباحثين والكتاب العُمانيين للاستفادة منها في إعداد دراسات متخصصة في العديد من الجوانب المرتبطة بالحياة العُمانية القديمة، التي تُبرز دورَ العُمانيين في إقامة مُجتمع أهلي مُتَكامِل، مُعتمد على نفسه في إدارة موارده المائية ومشاريعه العامة كالمساجد، والمدارس، والأسواق، والمجالس، وأموال، الأوقاف، والقضاء… وغيرها، وتقاليد وقيم المجتمع، وتكافله، ومقوِّماته، ودراسة أنشطته الاقتصادية، وجهوده في تنظيم الزراعة والصيد، والاستفادة من الثروات المتوفِّرة في تعزيزِ مَوَارده، وازدهار حياته المعيشية، وعلاقاته الخارجية، وتجارته في أصقاع المعمورة.. فمُجتَمع اليوم في أشد الحاجة لاستلهام نجاحات الماضي وتطويرها بما تتناسب مع العصر.
لقد أَجْمَع النّقادُ العرب القدامى على “أدبية النص التراسلي”، ويُدخله العديدُ من المتخصصين ضِمن الأجناس الأدبية؛ كونها -أي: الرسائل- نصًّا نثريًّا كُتب باللغة العربية، ويُعبِّر عن مشاعر إنسانية، ويحمل أفكارًا وثقافة المرسل، وتفاصيل دقيقة يُمكن أنْ تُشكل في مُجملها مذكرات لمشاهد وصُور الحياة للمرحلة التي كُتبت فيها. وبهذه الصفة، فالرسائل القديمة تحملُ جماليات فنية وأدبية تُعبِّر عن عُمق اللغة والمحتوى، والبلاغة والدِّقة في التعبير، والغزارة الثقافية في انتقاء المفردات، والكثير منها كُتِب بخطٍّ عربيٍّ أنيق، بل حتَّى الورق والأظرف وألوان الكتابة والطوابع البريدية… تُعبِّر عن أزمنة مختلفة، وتُشكِّل في مُجملها إرثًا متنوعًا يحتاج إلى من يَدرسه، ويستخرج جمالياته، ويقدِّم بشأنه بحوثًا متخصِّصة تُبرز قيمةَ تلك الرسائل، ودورها في الازدهار الأدبي والعلمي، والتواصل بين الدول والشعوب والأفراد، وتقديم مرئيَّات في كيفية الاستفادة منها، وتوظيفها للمزيد من الدراسات والأبحاث.
… تتضمَّن الرسائل القديمة كذلك كنزًا من المعلومات، قُوامها كمِّيات هائلة من الكلمات والمصطلحات اللغوية التي تمزجُ بين العامية والعربية، أو التي يعتقدُ الكثيرون أنَّها عامية، لكنها عربية قحة، أو محلية خالصة، وأسماء القرى والجبال والأفلاج والأودية والمناطق العُمانية، واحتوتْ على الكثيرِ من الجوانب المرتبطة بالأنظمة والأعراف والأساليب التي تُشكِّل هُوية المجتمع، وقوام معيشته؛ المتمثلة في: نظام الري، والزراعة، والتجارة، وعمليات البيع والشراء، وإدارة الأوقاف، والمساجد، والأسواق، هذا فضلًا عن الفصل في القضايا، والصلح بين الناس، والمساجلات الأدبية؛ لذلك باتَ من الأهمية أنْ تَخْضَع كلُّ هذه المحاور والمعلومات إلى الدراسات والأبحاث التي تُبرز جوانبَ مُشرِقة من حَياة العُمانيين، وأدوارهم الحضارية عبر التاريخ.
3,928 total views, 5 views today
Hits: 170