“الرسول المتخيل” لنبيل فازيو.. قراءة نقدية في صورة النبي في الاستشراق
شيخة البادي
شكَّلت قضية التأليف في شأن سيرة النبي مُحمَّد واحدًا من أبرز اهتمامات المستشرقيْن الذين كتبوا في التاريخ الإسلامي من مُختلف أفقه المعرفية؛ فمنهم من قارب هذا الموضوع كقضية فرعية ضمن الحديث عن الحضارة الإسلامية؛ مثل: رينان وانيال، وبرنارد لويس، وكلود كاهن…وغيرهم. ومنهم من تناول شخصية النبي ضِمْن دراسته القرآن؛ مثل: نولد كه، وشفالي، وكايتاني. فحسب رأي نولد كه، لم يكُن منطقيًّا دراسة القرآن دون دراسة مُحمَّد؛ لأنه مصدر القرآن وصاحبه.
ثمَّ قسمٌ ثالث تعمَّد التأليفَ في سيرة النبي مُحمَّد؛ ومنهم: البريطاني مونتجمري واط، والفرنسي مكسيم رودنسون. وقد شكَّلت كتابات هذا القسم المرجع الرئيس الذي يتكئ عليه الوعي الغربي خصوصًا في بلورة تصوره عن الإسلام ونبيه. ومن هنا، تأتي الحاجة إلى دراسات تناقش كتابات هذا القسم وتنقدها.
ومن ضِمْن هذه الدراسات: كتاب “الرسول المتخيل” للمغربي نبيل فازيو، الذي تناول فيه بالنقدِ والدراسة آراءَ وكتابات المستشرقيْن: واط، رودنسون. تلك الدراسات التي تخصُّ النبيَّ مُحمَّد قبل البعثة وبعدها، والظروف الاجتماعية والدينية والسياسية…وغيرها التي سادت المجال المكي والمَدَنِي قبل ظهور الإسلام وبعده.
وقد قسَّم فازيو مؤلَّفه إلى ستة فصول في قسمين، إضافة إلى مدخل عام، وخلاصة.
أما القسم الأول، فعنونه بـ”الدعوة المُحمَّدية والمجال المكي”؛ وشمل ثلاثة فصول قدَّم فيها وصفًا عامًّا لمعالم الحياة الاجتماعية والسياسية للعرب قبل الإسلام. كما تحدَّث عن طفولة النبي ونشأته، وبدايات البعثة والمعارضة والأذى ثم الهجرة.
ثمَّ القسم الثاني الذي تضمَّن هو الآخر ثلاثة فصول؛ عنونه بـ”الدعوة المُحمَّدية والمجال المدني”، ونَقَدَ فيه حديث واط ورودنسون بشأن حدث الهجرة إلى المدينة، وأحداث الغزوات والسرايا، ومعاهدات الصلح، والحياة الشخصية للنبي…وغيرها من القضايا ذات العلاقة.
***
يعرضُ الكتاب مُوجزًا عامًّا عن صورة النبي التي تشكلت إبان السجالات الأولى التي دارتْ بين الفكر الإسلامي واللاهوت المسيحي. ويرى المؤلف أنه من الطبيعي جدًّا أن يُوظِّف الفكر المسيحي المتقدم أدواته للتخلص من الإسلام، الذي كان توسعه الجغرافي لا يعني غير تأجيل تقدُّم المسيحية وانتصارها. وعليه؛ فقد رأت المسيحية في الإسلام خصمًا شحذت له عِدَدها، وسيَّرت الحروب الصليبية لمواجهته. ولكن ما يجب أن نُشير إليه، أنَّ العلاقة بين الإسلام والمسيحية اتَّسمت بداية ظهوره بنوع من الهدوء، وسر هذا -نقلاً عن طه حسين- هو أنه لم يُنافس المسيحية في أرضها، ولو ظهر في الحيرة أو نجران لكان ردهم ما كان من قريش ويهود المدينة.
ويستشهدُ نبيل فازيو هنا بتقسيم هشام جعيط لصورة مُحمَّد في الكتابات المسيحية المتقدِّمة إلى قسميْن: شعبي عامي، وعالم. وقد يشترك هذان القسمان في أحكامهما العامة والقاسية ضد مُحمَّد والحضارة الإسلامية.
ويُمكن تلخيص النظرة النمطية لمُحمَّد في الوعي الغربي الوسيطي في ثلاثة مرتكزات أساسية: “شهوانية النبي، ونبوته المزعومة، ولجوؤه إلى العنف لتحقيق مشروعه السياسي” (ص:18). فتشدُّد الرواية المسيحية على المنزع الحسي للنبي وشهوانيته، وتعتمد في ذلك على ما تورده كتب السيرة من زواجات النبي، واهتمامه بالنساء والجنس، وعدم اقتصار هذا على الدنيا بل إدراجه ضمن قيم تصور الجنة. ثم أن تمسك النبي بخيار الحروب والغزوات دال -حسب ذلك الوعي- على الأصل الدنيوي للإسلام، والتصاقه بالرهانات السياسية دون عنايته بالشأن الديني وما يقتضيه من البُعد عن العنف. وقد زاد من هذه النظرة زحف الفتوحات الإسلامية في اتجاه الأراضي المسيحية المجاورة، ونشر الإسلام فيها، وخيار السرايا والغزوات. لذا؛ فإنهم رفضوا مُحمَّدًا باعتباره نبيًّا. أما القرآن، فهو ليس في نظر المسيحية إلا اقتباسات مغلوطة ومشوهة عن الكتاب المقدس.
ورغم هذا، لا بد من وجود بعض الاستثناءات التي فطنت إلى ضيق هذه الصورة، غير أنها ظلَّت رؤى هامشية ومقصية. إذ يُشير الكتاب هنا إلى ملاحظة مهمة؛ وهي اختلاف الاستشراق الألماني عن عموم رؤى الاستشراق؛ فقد أبدى رصانة أعمق في مقاربته لتاريخ الحضارة الإسلامية، غير أنه لم يكن كافيًا لكبح ما تحدَّر من الرؤية المسيحية الوسطوية. (ص:22).
ثمَّ شكَّل المشروع الأنواري في القرن الثامن عشر الأوروبي مُنعطفًا في تاريخ تمثل الوعي الغربي للإسلام ونبيه؛ فقد أبدى بعض رواده تسامحًا وانفتاحًا، ورغبة في إعادة النظر في مفهوم الإسلام. يستشهد الكتاب -على سبيل المثال- برأي كارلايل الذي شدَّد على صدق الرسول مُحمَّد ودعوته، واعتبره من أبرز الشخصيات الإنسانية. غير أنَّ رُؤى هذا المشروع سرعان ما تلاشت بظهور أهداف جديدة للاستشراق، وهي خدمة الأغراض الاستعمارية للدول الأوروبية.
ثمَّ في محور آخر يتناول الخطاب الاستشراقي والوعي العربي المعاصر.. مشيرًا إلى كتابات النخبة الحداثية في الفكر العربي المعاصر؛ أمثال: أنور عبدالملك، وهشام جعيط (والذي اعتمد على آرائه بشكل كبير في أغلب فصول الكتاب)، ومُحمَّد عابد الجابري، وأركون.
ومن جُملة الآراء التي نُوقشت في هذا الكتاب: رأي رودنسون، الذي يخصُّ التعالق بين التوحيد الإِسلامي والمجال الصحراوي؛ حيث يؤكد أنَّ “الصحراء بفراغها وعدم استقرارها، دفعت الإنسان العربي إلى التفكير في وجود إله قوي وخفي”. وقول هؤلاء إنَّ الإسلام وليد البداوة، وتصوره -أي رودنسون- أفول الروابط القبلية والاجتماعية الذي مهَّد لبروز نزعة فردانية ومصلحية وهو برأيه -من جملة الظروف- التي مهَّدتْ ودفعتْ النبي للتوجه للإسلام. ويبرز المؤلف جملة من الآراء التي تدحض هذا الغياب للقبيلة وللروابط الاجتماعية؛ وهي بشكل عام: حماية عم النبي له، ووجود مؤسستي الثأر، والجوار، ثم إنَّ الصعوبات التي واجهها النبي في بدايات الدعوة -والتي تمثلت في ضرورة مواجهة قريش جمعًا وليس فردًا- تُعبِّر عن اجتماع قبلي راسخ.
ويُؤكد واط أنَّ من أبرز القضايا التي يجب -حسب رأيه- الانشغال بها حين دراسة النص القرآني؛ تبين موقف القرآن من الديانات والآلهة السابقين وعلاقته بها؛ حيث نزل في سياق به بعض معتقدات المسيحية واليهودية والوثنية. ويرى واط أنه رغم تعدد الدراسات المهتمة بالعلاقة بين تعاليم الإسلام وأصولها المسيحية واليهودية، فإنه غالبًا ما تعمد هذه الدراسات إلى محاولة رد أصول هذا الدين إلى إحدى الديانتين التوحيديتين، ولا تُبدي استعدادًا لفهم أن القرآن هو كتاب آخر. ويتحدَّث نبيل فازيو عن أن القرآن نفسه شهد بقوة الروابط التي جمعته بالديانتين التوحيديتين، وأن مساره يندرج ضمن المسار العام للتوحيد الإبراهيمي. ثم إنَّ عزم الرسول على الذهاب إلى حراء قصد التحنث بعد تلقيه إشارات الوحي الأولى، فكرة تقترب من تعاليم المسيحية، حسب رأي هشام جعيط الذي يستشهد به المؤلف، إضافة إلى القبلة والصوم؛ مما يُمكن أن يناقش في هذا السياق. ولكن قطعًا لا يعني هذا أن القرآن تحريف عن تلك الديانتين.
ورَغْم أهمية المصادر التاريخية القديمة التي تناولت شخصية النبي بالعرض؛ مما سهل علينا معرفة الكثير عن هذه الشخصية، فإنَّ هذه المصادر تخفي أحداثًا مهمة، محاولة إضفاء هالة من القداسة على شخصية الرسول، وتقديمه الرجل المعد في أبسط تجليات حياته لأن يكون نبيا. ثم إنها تغيِّب مراحل تاريخية مهمَّة؛ ومنها مثلا: الحديث عن حياة النبي في الفترة ما بين تبني عمه له وزواجه من خديجة. وعليه، فلا يُمكن الاطمئنان التام لما تقدمه تلك المؤلفات التي لم تتناول الأحداث بتاريخيتها، بل بجانبها الديني. كما يجب التأكيد على وجوب إعادة قراءة تلك الكتب والتفكير في مضامينها.
ويرى واط أنَّ زواج النبي بخديجة أوَّل منعطف حاسم في حياته؛ حيث مثل له هذا الزواج فرصة الخروج من الفقر، وتحقيق آماله التي كان يحول الفقر دونه وتحقيقها. كما أنها وهبته عبدًا؛ حيث كان هذا إمارة شرف وغنى. ويسوق لنا الكتاب رأي رودنسون أن شخصية النبي، وبمقدار ما كانت توحي من اتزان وانسجام حسبما نقلت كتب السيرة، فإنَّ شعورًا قلقًا ظل يحركه، الأمر -حسب رأيه- الذي جعله ضحية أزمات نفسية وعصابية! وهو -أي رودنسون- يحاول البحث عن أسباب الشخصية القلقة للرسول، ويذكر منها حسب الكتاب: كونه أبتر، وشعوره بأنه شخصية استثنائية، وطموحه السياسي.
ويُناقش الكتاب كيف أنَّ رودنسون أيضًا شدَّد في جملة من آرائه على تداخل شخصية المسيح وشارلمان (أو كارل الكبير) في شخصية النبي مُحمَّد.
ويرى واط أنَّ الخطاب القرآني اتَّسم في بداياته بالتركيز على قضايا ذات بُعد أخلاقي، والحديث عن تصوُّر علاقة الإنسان بالله ومصيره؛ ويشاركه في الرأي نفسه رودنسون؛ إذ قال إنَّ القرآن حفل في بداياته بتنبيه الناس إلى مصيرهم، ثم تشديده على عظمة الله وانتقاده لسلوك الأغنياء. وعلى كل، فإنَّه لم يُجابه آلهة قريش في البداية بالنقد والرفض، ويستغل رودنسون هذا قائلاً إنَّ عدم المواجهة بدايةً سببه أن مُحمَّدا لم يكن قد حسم بعد أمر اختياره النهائي لدعوته الدينية، وفي موضع آخر يستشهد بقصة الغرانيق ليقول بحضور الوثنية في ذهن النبي بداية الدعوة.
ويُناقش الكتاب قضية تقسيم الدعوة إلى مرحلة: سرية وشبه سرية وعلنية، ويسوق الحجج بأنَّ هذا الفصل ليس مقنعًا. أي أنَّ السرية لم تكن مطلقة، ولنا أن نفكر في: عدد الذين دخلوا الإسلام في بداياته، وعدم تخفيهم عند ممارستهم شعائرهم الدينية (الصلاة مثلاً)”، إضافة إلى: “كيف أسلم الناس من قبائل العرب بعد كل من عبيدة بن الحارث وأبي سلمة…وغيرهما والدعوة لا تزال في طورها السري؟”.
ويحصر واط -حسب فازيو- المحطات الكبرى في معارضة قريش للنبي في: إن الرفض المطلق لدعوة الرسول جاء بعد التهجم على الأَصنام، ثم إنَّ الرفض اقترن بوفد الطائف، وهذان الحدثان سبقا الهجرة إلى الحبشة. ويرفض المؤلف المحطة الأولى حسب واط؛ ذلك لأنَّ موقف الإسلام من الأصنام لم يكن مُتطورًا، إنما كان واضحًا منذ بدايته، ويمكن أن يفهم هذا من مضمونه التوحيدي.
انتقلت الدعوة المحمَّدية بعد الهجرة إلى مرحلة جديدة، وقد كان النبي -حسب رودنسون أيضًا- يدرك أهمية “إدارة التوازنات بين المهاجرين والأنصار”، وظهر هذا في مواقف؛ أولها: طريقة اختياره مكان إقامته. ثم يقدم لنا الكتاب -حسب واط- مسوغ ترحيب المدينة به؛ حيث كانوا يريدونه مُلمًّا لشتات بدأ بينهم وحكمًا في ذلك.
ويعرضُ الكتاب أيضًا بنوع من التوسع هنا كيف أنَّ النبي غدا رسولاً مُسلحًا، ومفهوم الجهاد الذي تبلور بعد الإقامة في المدينة. ويرى المستشرقون أن المسلمين هم من بدأ بمهاجمة خصومهم والتمهيد لذلك باعتراض قوافل قريش وليس العكس، وقد ردَّ الكتاب على هذا بتبريره لحاجة المهاجرين للمال حيث فقرهم المدقع، ثم أيضًا إدراك النبي بمكانة التجارة في مكة واعتبارها قناة لتبليغ رسالات سياسية إليهم. (ص:182).
ويكشفُ لنا الكتاب أيضًا آراء المستشرقين (تلك التي اعتمدا فيها على ما ترويه كتب السيرة والتاريخ لا القرآن أيضًا) ومناقشاتهما المتعلقة بأحداث بدر وأُحد والخندق، ودوافع صلح الحديبية وفتح مكة الذي مثل -حسب جعيط- الخطوة الفاصلة بين مُحمَّد وتحقيق حلمه بتوحيد العرب وحملهم على تحقيق توسعات جديدة للدولة الإسلامية. وأيضًا أحداث ما بعد الفتح…وغيرها؛ مما مثَّل لحظات إثبات الوجود والقوة بالنسبة لجماعة المسلمين.
كما يعرضُ لنا المؤلف اختزالًا مارسه الخطاب الاستشراقي لبعض معطيات الثقافة العربية الإسلامية من مثل النقاشات الفكرية والكلامية في مسائل أصل القرآن وطبيعته.
***
وهكذا.. يُمكن أن يوصف هذا الكتاب من حيث علاقته بالخطاب الاستشراقي بأنه سَعَى إلى الإنصات إلى هذا الخطاب ومحاورته، والدعوة إلى الاستفادة منه وفق مقتضيات الممارسة العلمية في سد الثغرات المنهجية في مؤلفاتنا الحديثة في هذا المجال، ثم أيضًا في إعادة قراءة المؤلفات المتقدمة، والسعي إلى التعامل النقدي معها، والاهتمام بإعادة قراءة فهم المستشرقين وتأويلاتهم. هذا إضافة إلى لفته الانتباه لأفكار جديدة -بالنسبة لي- مثل: طبيعة الخطاب القرآني في بداية الإسلام وأفكاره، وقراءة المستشرقين لحض القرآن على طاعة الله ورسوله في البداية وتأكيده على هذا، ثم أيضًا مفهوم الهجرة وأبعادها، والتآخي بين المهاجرين والأنصار وأبعاده.
ويُمكن أن نخلص أيضًا إلى أنَّ المستشرقين واط ورودنسون حملا رُؤيتيْن مختلفتين؛ ففي حين اعتمد رودنسون على الأحكام النمطية المتداولة عن النبي في الوعي المسيحي والغربي غالبًا (رغم تعاطفه الظاهري أحيانًا ورغم عدته المنهجية)، نجح الثاني -إلى حد كبير- في تبنِّي رؤى مغايرة، ومقاربة حدث السيرة وفق رؤيته الشخصية واطلاعه.
11,547 total views, 2 views today
Hits: 1245