صادق بن مُحمَّد بن سعيد اللواتي
كاتب عُماني


كُنت قد أمضيتُ معظمَ نهار ذلك اليوم في النوم، وعليه لم أستطع أن أنَام في تلك الليلة. وبعد قضاء عدة ساعات على الفراش مُتقلباً إلى اليمين وتارة إلى الشمال، قرَّرت النهوضَ منه والتوجه إلى القراءة، لا حُبًّا للقراءة في تلك الساعة المتأخرة من الليل، وإنما لاتخذها وسيلةَ ضغط على الجفون، أو قل مادة لإخداع الجينات المسؤولة على النوم لتستجيب الداعي.

هكذا وجدتُ نفسي في الساعة الثانية بعد منتصف الليل أقرأ في أحسن وأشهر الروايات، وبعد قراءة ما يُقارب العشر صفحات، خابَ ظني في القراءة؛ إذ إنَّها لم تفلح في الضغط على الجفون، ولم تستطيع السيطرة على الجينات.. يبدو أنني وصلت إلى المرحلة التي لا يفيد فيها الدواء للداء.

مررتُ ببصري على الصُوَر المُعلَّقة على الحائط لعلني أجد فيها ما يساعدني على النوم، لكن المحاولة هذه لم يكتب لها النجاح أيضاً؛ حيث لم أجد في الصور شيئاً يشفي غليلي. وهكذا وقع بصري على التلفاز وبدأت التأمُّل فيه.. تُرى كيف يعمل؟ من الذي اخترعه؟ وماذا نعرف عنه؟ وما الذي جعله يفكر في هذا الاختراع؟ وبينما كنت غارقاً في تفكيري؛ إذ دخل عليَّ صديقٌ قديم الذي لم التق به منذ 70 عاماً، قد يكون في خلال تلك المدة ألمح أحدنا للآخر، ولكن كلانا مشى في طريقه وكأننا لا نعرف البعض.. تُرى كيف جاء إلى هنا وفي مثل هذه الساعة من الليل؟ هل لا يزال يذكُرني بعد مُضي كل هذه السنين؟

إنَّ صديقي هذا يُشبه بعض الشيء التلفاز، إنَّه لا يُعطي جواباً عند التحدث معه، ولكن الفارق بينهما هو أن صديقي صغير في الحجم ولم يصنعه إنسان، لكن كيف جاء إلى هنا؟ لا بد أنه يُقيم قريبًا من بيتي، وإلا فكيف يُمكن له أن يأتي إلى روي من مطرح؟ فالمعروف عنه أنه يعيش في مكان خَرِب. تُرى هل غيرت التقنية الحديثة حتى الحشرات؟ إنه صرصور، الحشرة.

لي قصة طريفة مع هذه الحشرة الصغيرة.. تُرى هل جاء الآن هنا ليطالبني باعتذار على معاملتي له عندما كان عُمري أربعة أعوام؟ أم أنه جاء ليخفف عني معاناتي ووحدتي؟ إذا كنتَ قد حضرتَ لتشتكي مني وتُطالبتي بالاعتذار لك، فأنا أطلب السماح والعفو منك على تلك المعاملة، مع أنك تعرف أنَّ الذنب لم يكن ذنبي. عندما فشل والدي في الإمساك بجرادة لأطيِّرها مع بقية الصبية، ولإرضاء ابنه الصغير الذي لم يكن يميز بين الصرصور والجرادة، ربط خيطاً في رجلك ورفع منزلتك إلى منزلة الجرادة.. أذكُر كم صِرتُ مسروراً بك لأنني كنت الوحيد بين مجموعة الصبية الذي يملك جرادة حَمراء، ولكنني أتذكر أيضاً كيف ترحَّمت عليك وأخليت سبيلك عند غروب الشمس حين حان وقت الرجوع إلى البيت.

لا تقل لي الآن يا صديقي الصغير بأنني أطلقت سراحك خوفاً من لونك الأحمر وحركاتك غير الجرادية! قل لي يا صديقي العزيز ما اسمُك؟ وما عملُك؟ وكيف تقضي أيامك؟ هل تقضيها على أساس أنك تعيش أبدأً، أم تقضيها وكأنك تموت غداً؟ قل لي ما هي حصتك من مجموعة الجهد الذي تبذله الكائنات في حفظ البيئة والتوازن؟ حقاً لقد أخطأت كثيراً عندما اعتقدت أنك تعيش داخل المجاري بدون عمل وبلا هدف.. لا بل أنك تعيش في كل بقعة وُجِد فيها الإنسان، وتقوم بعمل ما في مصلحة الإنسان، فضلاً عن أنَّ هناك بعض الشعوب تتلذذ بأكل لحمك.

إذن صديقي، أنك لم تُخلق هباءً منثوراً.. لا.. طبعاً لا.. لقد خلقت مع بقية الكائنات لهدف معين، والذي يصب في مصلحة الإنسانية. تعرف أنت هذا الهدف جيداً وتؤديه على أحسن وجه، ولكن الإنسان لا يعرفه. إنه لا يشكرك على الخدمة الجليلة التي تقوم بها، بل يقابل حسناتك بسيئات، فيقوم بإنتاج كل أنواع السموم القاتلة للقضاء عليك وعلى عائلتك.. سامحني يا صديقي العزيز، أنا متعب الآن وأريد أن أنام، لن أذهب إلى حُجرتي، بل سأنام هنا في المجلس لأكون قريباً منك. إنَّ الفراق الذي دام 70 سنة لطَويل.. طويل.. طو…..يل.

استيقظتُ في الساعة الخامسة على صَوْت المؤذن. قبل أن أنهض عن الأريكة التي نمت عليها، ألقيتُ نظرة على الصرصور لأتأكد أنه لم يفارقني وأنني لم أكن أحلم. كلا. لم يكن ذلك حُلما، فها هو صديقي قد اتَّخذ هو الآخر مكاناً لينام فيه. تُرى هل هو نائم الآن أم يقظ؟ وفي تلك اللحظة سمعت صوت الراديو في حجرة ولدي المجاورة وقارئ القرآن يقرأ: “قُلْ سِيْرُوا فِي الأَرْضِ فانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأ الخَلْق).. وهنا ارتعدتُ قليلًا.. لا، أحسست بأن أحداً أمسكني من ظهري ورفعني ثم أنزلني أرضاً.. هل كان الغرض من مجيء الصرصور أن يقول لي بأنَّ صُنع التلفاز وما شابه ذلك ليس أمراً صعباً. إن الذي اخترعه لم يصنعه في القالب الذي تراه اليوم، ولكنَّ أناساً آخرين أسهموا مساهمة كبيرة في تطويره، وحتى هؤلاء استفادوا بقوى عقولهم في صنع هذا الجهاز، فهل أوجدوا ذلك العقل في جماجمهم؟ إنهم بطبيعة الحال لا يتوقعون من نظرائهم من البشر أن يقعدوا ويتأملوا في صنعهم، بل عليهم أن يفعلوا مثلهم، وأن لا يعلِّقوا شهاداتهم الأكاديمية في أعناقهم ويتفاخروا بها، فعليهم أن يفيدوا الناس بعلمهم، أليس القائم أفضل من القاعد عند الله؟

شكراً يا صَدِيقي الصَّغير، لقد أرشدتني إلى الحقيقة التي لطالما كُنت أبحث عنها.. فهيَّا بنا نُغادر المجلس إلى الخارج، ونحدِّد موعداً آخر للقاء، فإنني أود أن أعرف عنك أكثر؛ لعلني أكتشف في لقاءاتي القادمة بعضَ الشيء المفيد.. هيا.. هيا.. فلنُسرع قبل أن تلمحك “أم العيال”، بعدها سيكون مصيرك أن تفرغ في وجهك الصغير علبة كاملة من المبيد الحشري.

قُمت من مكاني لأُمسِك بالصرصور حتى أُخرجه من المجلس، فوجئت بما رأيت. لقد كان مُفارقَ الحياة.. أخذتُه بيدي المرتعشة وقبلته.. فأنا قد أكون أول إنسان أقام علاقة صداقة مع صرصور لمدة 70 عاما.. وعند مماته قبَّلته وتمنيتُ أنه لم يمُت.. ولكن كيف مَات؟ فهذا موضوع آخر يحتاج إلى مزيد من التأمُّل والتفكير.

 2,587 total views,  2 views today

Hits: 59