التكنولوجيا الرقميَّة والمهارات اللغويَّة للطفل
إعداد: بسمة الخاطريَّة
إنَّ المهارات اللغوية هي السبيل الأقصر والأجدى نحو تطوير عملية الاكتساب المعرفي؛ فكُلما ازدادت المهارات اللغوية ازدادت القدرة على التواصل؛ وبالتالي تزداد القُدرة على اكتساب المعرفة، وتوظيفها، وفتح آفاق لا حدود لها، ونظرًا لأهمية التكنولوجيا الرقمية، والتي خلقت بيئات تعلم إبداعية تجديدية ابتكارية، وقادة التعليم نحو الريادة، ودفعت الكثير من منظمات التنمية والاقتصاد إلى إدراك هذه الأهمية، في تحقيق التنمية المستقبلية لجيل أكثر وعيًا وإدراكًا وقيادة، ولنعرف كيف خدمتْ التكنولوجيا المهارات اللغوية، وجعلت الطفل أقدر على استخدام ما لديه من مهارات وخبرات ومفردات لغوية؟ أم أنها كانت سببًا إضافيًّا لإعاقة استخدام تلك المهارات الفطرية للطفل؟
سوف نتابع معًا في هذا الاستطلاع مع عدد من المختصين بقضايا الطفولة والتكنولوجيا، أثر التكنولوجيا الرقمية على المهارات اللغوية للطفل.
الدور المهم للتكنولوجيا الرقمية في حياة الأطفال
حيث يرى محمد الجفيري مؤسس مركز صناع الإبداع في قطر، أنه لا يمكننا تجاهل الدور المهم للتكنولوجيا الرقمية في حياة الأطفال، وأنها قدمت خدمة كبيرة في إكساب الأطفال المهارات اللغوية، والقدرة على التحدث والاستماع والتحاور.
بينما يرى الدكتور محمد الغزي أستاذ الأدب القديم بجامعة نزوى، أنَّ التكنولوجيا الرقمية تركت آثارها واضحة على مهارات الطفل اللغوية.. ويتجلى ذلك في:
– هيمنة الصورة على اللغة، وهيمنة الألوان والأشكال على فنون القول؛ فالتكنولوجيا الرقمية القادمة من الضفة الأخرى تُخاطب في المقام الأول حاسة البصر؛ ولهذا يُفتن بها الأطفال، ومن ثمَّ فهي لا تسهم إسهامًا فاعلًا في إثراء الزاد اللغوي وتنويعه، وإذا كان لها أن تستخدم اللغة فهي تستخدم لغة أجنبية.
– إقحام الازدواجية اللغوية بوصفها واقعًا جديدًا بات يفرض نفسه على الطفل من خلال وسائل الاتصال الحديثة، وهذه الازدواجية التي تداهم الطفل قبل دخوله المدرسة من شأنها في هذه السن أن تخلق اضطرابا في ذهنه؛ بحيث يصبح مُمزَّقا بين لغته الأم من ناحية، ولغة أجنبية باتت لغة التكنولوجيا الرقمية من ناحية أخرى.
– عدم اهتمامها بالفوارق بين الثقافات.. فهذه التكنولوجيا تُخاطب طفلًا غير واضح المعالم، لا ينتمي إلى ثقافة معينة؛ ولهذا يتساوى عندها الأطفال مهما كانت خلفياتهم الثقافية والحضارية، وهذا من شأنه أن يخلق للطفل ثقافة نمطية لا ينتسب إليها، ولا تنتسب إليه.
كلُّ هذا يحتِّم علينا أن نطوع هذه التكنولوجيا لمُقتضياتنا الحضارية والثقافية، وأن نوجهها الوجهة التي نريد.
كيفية الوصول إلى تكنولوجيا رقمية سليمة
أمَّا عن رأي الدكتورة سناء الحاج (دكتوراة فلسفة – وزارة الإعلام اللبنانية)، فإنَّه مع تزايد تطور التكنولوجيا الرقمية وتأثيرها بشكل متزايد على كل جوانب الحياة للأطفال في مختلف أنحاء العالم، ومع الاعتبار في يومنا الحالي أن التكنولوجيا الرقمية باتت لازمة وتعتبر من الكفاءات الأساسية اللازمة للنجاح، وأنَّ المهارات الرقمية هي جزء أساسي للتعليم بشكل عام.
وفي ظل الكثير من الدراسات والأبحاث، فإننا نرى أنَّ تأثير التكنولوجيا الرقمية على المهارات اللغوية للطفل كثيرة ولا حَصْر لها، منها سلبي ومنها إيجابي؛ وبالتالي فإنه لا يُمكن تطويرها وتحفيزها تفاعليًّا من خلال ما يتلقى الطفل في التكنولوجيا الرقمية فقط، ولكن الأمر يتطلَّب الكثير من الوعي، قبل الوصول إلى ما يُسمَّى بالذكاء الرقمي عند الطفل، وربما علينا المرور بالطفل عبر عدة مراحل وخطوات للوصول به إلى تكنولوجيا رقمية سليمة؛ ومنها:
* البدء منذ الصغر، والأشهر الأولى للطفل، بتدريبه لاكتساب مهارة الذكاء العاطفي، كيف يعبِّر، وكيف يتذوق، وكيف ينطق، وكيف يتواصل، وكيف يُحب، وكيف يكره، وباكتساب مهارة الذكاء العاطفي ننتقل إلى المرحلة الثانية؛ وهي: مهارة اللغة. وفي المرحلة الثانية، يكون الطفل قد تحصَّن بالذكاء العاطفي، الذي يؤهله ويزيده كفاءة للدخول إلى عالم اللغة والتواصل والتعبير والنطق السليم والتذوق والفهم والقراءة والكتابة، وإلى كل ما يُمكن أن يكون من أساسيات مهارة اللغة. والمرحلة الثالثة: الدخول إلى عالم التكنولوجيا الرقمية، ومعرفة أدواتها وإداراتها، والاسترشاد بمن يلزم للإشراف على الطفل ولتحصين موقعه وشخصه من العالم الخارجي الكبير جدًّا.
التكنولوجيا الرقمية وتعليم أساسيات التواصل اللغوي
في حين أنَّ عبدالعزيز الجلاصي – خبير تربوي من تونس، يرى أنَّ الأجهزة الرقميّة الحديثة تمثّل عنصرا مهمًّا، ومكوِّنا رئيسيًّا في حياة الطفل، وهذه حقيقة لا يمكن إخفاؤها، فهي ماثلة أمامنا في البيت وفي المدرسة؛ بهدف الاستفادة من هذا المُعطى الجديد في الحياة التعليمية للأطفال، وبما أنَّ الطفل يتطوّر بشكل مرن وعفويّ في العالم الرقمي إلى حدٍّ يُبهرنا نحن الكبار، ونجد صعوبات جمَّة في التعامل معه؛ لذلك فعلينا أن نفكّر في تعليم المهارات اللغوية للطفل منذ مرحلة ما قبل المدرسة، مُستغلِّين أكثر فأكثر التكنولوجيا الرقمية، وهي تجربة نجحت فيها بعض الدول، واستطاعت استثمار هذا المعطى الرقمي في تطوير مهارات الأطفال اللغوية، واستثمار هذا الميل العفوي للشاشات الرقمية لدى الأطفال الصغار؛ من أجل عرض محتوى تعليمي مناسب يجمع بين الإمتاع وشدّ الانتباه بالصورة واللون والحركة، وتعليم أساسيات التواصل اللغوي؛ خاصة ألعاب الوعي الفونيمي، التي أثبتت جدارتها بتملُّك المهارات اللغوية اللازمة للتعلّم. لكنّها تجربة تظلّ تحتاج إلى التطوير في تعليم وتعلّم اللغة العربية.
الآثار الإيجابية والسلبية للتكنولوجيا الرقمية
وتؤكد الدكتورة عزيزة الطائية – كاتبة وباحثة في النقد الأدبي، أن طفل اليوم لا شك يعيش عالما رقميا، فالتقنية أخذت الكثير من حياة الأطفال، وسيطرت على مهاراتهم واتجاهاتهم، وسيزيد تأثيرها مع المستقبل، الذي سيكشف آثر تعلق الطفل بالتكنولوجيا الرقمية، وتأثيرها على مهاراتهم في اللغة؛ خاصة لغتهم الأم التي فقدها الطفل، وسيفقد إتقان التحدُّث بها مع الأيام. فقد أصبحت اللعبة الرقمية في متناول الجميع؛ الأمر الذي زاد من تأثيرها في كل مجالات حياته.
إلى جانب ذلك، فاللعبة الرقمية أسهمتْ في مساعدة الطفل الذي تخلف عن الركب -بل مكنته- من تنمية حواسه وتطوير مهاراته وتحقيق التوازن النفسي له بمساعدته على الالتحاق مع أقرانه.
لذا؛ على المعنيين والتربويين الوعي بالآثار الإيجابية والسلبية للتكنولوجيا الرقمية، حتى لا يفقد الطفل قدرته على التواصل والحوار والتحدث، وإبداء الرأي فيما يُسمع ويُشاهد. ولا يصل به المآل إلى التعلق السلبي بهذه التكنولوجيا، بل استثمارها بشكل صحيح حتى يبقى تأثيرها إيجابيًّا على حياته ومعاملاته عندما يكبُر.
أما الدكتور فاضل الكعبي أستاذ جامعي من العراق، فيرى أنَّ التكنولوجيا الرقمية تعمل على تحفيز قدرات الطفل، ودفعها للنمو والاكتساب والتطور بكافة الاتجاهات لطفل هذه الفئة في سنواته الأولى، خصوصاً الثانية والثالثة والرابعة وما بعدها؛ وذلك لما لهذه التكنولوجيات الرقمية -بعد اختبارنا وقياسنا لها- من تأثير واضح على هذا الطفل؛ فهي باختصار شديد تُسهم بزيادة محصُوله اللغوي وتطوير مهاراته اللغوية، مثلما تُسهم بتذليل صعوبات التعلم، وترسيخ ثقة الطفل بنفسه، وتقوية شخصيته، وتعمل على تنمية مخيلته ومهارات النطق عند الطفل.
بينما ترى لطيفة البطي – كاتبة وناشرة من دولة الكويت، أنَّ التكنولوحيا أصبحتْ من أساسيات الحياة اليومية، وهي تتَّفق مع الجميع أنه قد يكون لها تأثير إيجابي أو سلبي، ولكن بشيء من الجهد يمكن التغلب على السلبيات.
بينما تُطلِعنا سيرين يونس – مرشدة ومختصة بمجال الطفولة المراهقة والوالدية من فلسطين، عن آخر الدراسات في هذا المجال، وقد أثبت أنَّ تعرُّض الأطفال للشاشات من جيل صغير يُؤثر بشكل كبير على التطور عند الطفل. وفي بحثٍ قامت به الباحثة شيري ماديجان في جامعة كالجاري في كندا، قامت بفحص 2441 طفلًا أعمارهم ما بين سنتين حتى ثلاث سنوات، تبيَّن أنَّه كلما ارتفع تعرض الأطفال للشاشات من جيل صغير، كان تحصيلهم ضعيفًا باختبار دنفر لتحرِّي النماء. كل هذا يوضح لنا عدم جاهزية الأطفال لاحقا عند دخولهم مراحل المدرسة الأولى، وتأخرهم بالكتابة والقراءة والتواصل اللغوي، ومهارات التواصل عامة.
وأخيرا.. فإنَّ مرحلة الطفولة، أو مرحلة الأساس -كما يُسميها الكثير- هي الجذر الذي عبره سينمو النبات بأغصان وأوراق وثمار؛ لذلك فإنَّه حريٌّ بكل الدراسات والنظريات والإجراءات أن تهتمَّ بهذه المرحلة لما لها من تأثير على كامل حياة الإنسان بعد ذلك.
6,307 total views, 5 views today
Hits: 936