الوَعْي في المدرسة النقديَّة لفرانكفورت
وضحاء شامس سعيد الكيومي
تعدُّ النظريَّة النقديَّة لمدرسة فرانكفورت أوَّل تيار فلسفي-اجتماعي-نقدي ومعاصر وجَّه نقدُه للأفكار التي دَعَا إليها عصر التنوير ونكص عن تحقيقها، في مُحَاولة لوضع نظرية نقدية للمجتمع تربط بين التفكير والممارسة ربطاً جدليًّا، وتهدف إلى إنقاذ الإنسان وانتشاله من هوة الجهل والخرافة ونقدها؛ بهدف إيقاظ الوعي الإنساني فيها (الحيدري،2000). وقد اتفق علماء هذا الاتجاه النقدي على أهمية المحور الإنساني في العملية البنائية التاريخية للمجتمعات البشرية؛ لما له من دور فاعل في تشكيل العقل الإنساني الناقد المؤدِّي لتحرير الإنسان. وأكَّدوا على عنصر الذات في النشاط الواقعي من خلال الوعي الذاتي؛ فالوعي الذاتي التاريخي هو القادر على إطلاق القدرات المحدودة للإنسان، وأشاروا إلى أنَّ الوعيَ هو البديل لأزمة الواقع الاجتماعي، وأنَّ غياب الوعي وتزييفه هو لب أزمة المجتمع الرأسمالي (حلس، مهدي،2010:145). ومن أهم الروَّاد المؤسِّسين لنظرية “النقدية” في مدرسة فرانكفورت، وسوف نسلِّط الضوء عليهم هنا؛ وهم: هربرت ماركيوز، ويورجين هابرماس، وبياربورديو.
الوَعْيُ في فكر هربرت ماركيوز (1898 – 1979م):
تركَّزتْ قضيَّة الوَعْي عند هربرت ماركيوز في نقدِه للمجتمع الصناعي المعاصر والبرجوازي ذوي السلطة، والثروة، والمعرفة، والسيطرة على المجتمع. ويقول يوسف الكلاخي (2013م) في مقاله المنشور بعنوان “قراءة في كتاب الإنسان ذو البعد الواحد” لهربرت ماركيوز إن مشروع ماركيوز يبحث عن إجابة للتساؤل الآتي: لماذا لم تقم الثورة في البلدان الصناعية المتقدمة؟ وعلى وجه التحديد في البلدان التي افترضت النظرية النقدية الكبرى (الماركسية)؟! بل لماذا باتت شبه مستحيلة في عالم يمتلك منذ أكثر من قرن القوة الكلاسيكية للثورة (أي: البروليتاريا)؟
وفي هذا الصدد، نقتبس ما قاله جورج طرابيشي (1988:14) في مقدمته لترجمة كتاب “الإنسان ذو البعد الواحد” لماركيوز: “إنَّ الآلة نفسها تلعب دوراً سياسيًّا بارزاً في المجتمع التكنولوجي. فمكننة العمل، وتأليله، أبطلا مفعول الرفض والنفي الذي كانت تمثله الطبقة الكادحة، ودفعا بهذه الطبقة إلى الاندماج بالنظام القائم؛ فصار مطلبها الأول المساهمة في تسيير المشاريع، لا تغيير النظام الذي يُوفِّر لها نسبيًّا رَغَد العيش والرفاهة”. ويتَّضح مما سبق أنَّ الوعي البروليتاري يكاد يتلاشى في المجتمعات الصناعية؛ نتيجة قوة تأثير الآلات التي تنقلها من مرحلة الإدراك بما يحيط بها، إلى مرحلة التشيُّؤ -كما أشار إليه جورج لوكاش سابقاً- ويفسر هربرت ماركيوز مفهومَ الوَعْي في المجتمعات الصناعية المعاصرة بأنَّ وَعْي الإنسان في هذه المجتمعات أحادي البعد بفعل التكنولوجيا؛ وبالتالي يصبح وعيه وعياً زائفاً، وتغيير الواقع يتم من خلال رفض الوعي على مستويين: المستوى الفكري؛ حيث يتوجَّب معارضة أساليب التفكير السائدة. والمستوى الواقعي؛ حيث يجب رفضه من خلال السلوك الفردي الذي يُحطِّم مظاهر القهر المفروضة على الأفراد. وأشار ماركيوز إلى أنَّ تركيبة النظام السياسي القائم في المجتمعات الصناعية، وتسلط وسائل الإعلام أغرقا الفرد بالمعلومات والفرضيات المغلوطة؛ بهدف تجميد الوضع على ما هو عليه؛ مما ترتَّب عليه اعتبار أي بديل مطروح هو تفكير سلبي، وقد تمكَّن النظام -عبر استغلال كل الإمكانيات البشرية، والاجتماعية- من المحافظة على بنائه، كما استغل الحرية والديمقراطية الزائفتين لإيهام الفرد بأنه حر (المصري،2007:45؛ يحياوي،2011:60). وعلى الرغم من محاولات ماركيوز للإجابة عن السؤالين السابقين في كتابه، إلا أنَّه اتُهِم بالنزعة المثالية، والذاتية، والخروج على التصورات الأساسية للنظرية الماركسية.
الوعي في فكر يورجين هابرماس (1929م):
يورجين هابرماس أهم ممثلي النظرية النقدية المعاصرة من الجيل الثاني في مدرسة فرانكفورت، وقد حَاوَل التغلُّب على نقاط الضعف في عمل هربرت ماركيوز؛ ألا وهي فكرته عن الوعي الفردي وتشيؤوه (هاو،2010). كما أكَّد هابرماس أنَّ كارل ماركس أخفق في التمييز بين الوعي المكتسب من التحليل السببي، والوعي المكتسب من الاستبطان الذاتي والتفاعل. ويَرَى في ملحق كتابه “المعرفة والمصالح الإنسانية”: أنَّ المعرفة (الوعي) ليست شيئا واحدا، بل أشياء متعددة، محكومة بمصالح معرفية مختلفة، لكلٍّ منها افتراضاتها الأساسية التي تحدِّد نوع المعرفة التي تنتجها؛ فهناك ثلاثة أنماط من المعرفة (الإمبريقي التحليلي، التأويلي، التحرري). ومن هذا المنطلق، أعاد هابرماس صياغة المادية التاريخية بنظرية الاتصال، التي حاول فيها تحويل النظرية الاجتماعية النقدية من نموذج الوعي إلى نموذج الاتصال (خلف،2011: 518-519؛ هاو، 2010:173). وتقوم نظرية الفعل التواصلي عند هابرماس على أنه لا يفصل بَيْن النشاط التواصلي وفعل العقلنة، وبأنَّ نظريته المعيارية في الحداثة تدمج التواصل والعقلنة ضمن جدلية تعطي للفعل البشري أبعاده العملية (أفاية،1998:194)؛ فنجد أنَّ بداية العلوم التحليلية والتجريبية تدخل مصلحة معرفة تقنية، وفي منطلق العلوم الهرمنوطيقية-التاريخية تدخل مصلحة معرفة عملية. أما مُنطلق العلوم المتوجِّهة نقديًّا، فتدخل مصلحة المعرفة المحررة تلك التي تُشكِّل بصورة غير مُعترف بها أساسًا في النظريات التقليدية (هابرماس،2003:146). وفسَّر هابرماس قضية الوعي الطبقي بأنَّ منظمات المجتمع الطبقي تعدُّ ضرورية؛ لأنَّ أساسها يقوم على الاهتمامات غير العمومية، ويفهم من ذلك أنها تخدم مصالح بعض الأقليات ذات الوضع الإستراتيجي في البناء الاجتماعي، ويُوضِّح التوزيع غير المتكافئ للقوة والملكية في المجتمع (المصري،2007:48)، أنَّ فكر هابرماس قائم على نفس الأسس الفكرية لمدرسة فرانكفورت بصفة عامة؛ وأهمها أنَّ المعرفة هي نتاج المجتمع، وهو نتاج عرضة في كثير من الأحيان للتزييف، وأنَّ التأمُّل النقدي كفيلٌ بكشف هذا الزيف والتغلب على هذا التشيؤ (مصطفى، د.ت:397).
الوعي في فكر بياربورديو (1930-2002):
يُعدُّ بياربورديو من أكثر علماء الاجتماع شهرة في سياق الكتابات ضمن الإطار النظري النقدي، وتميَّزت رُؤيته في الفهم الذي يقوم على ربط ما هو ذاتي بما هو موضوعي؛ إذ لا وجود لذاتية مستقلة في فهم الواقع الاجتماعي، كما هو الأمر لدى الاتجاه البنيوي الوظيفي، ولا للموضوعية المستقلة بذاتها، بحسب ما بيَّن الاتجاه المادي التاريخي (سالم،2002:5). وقد أشار بياربورديو (2007:64) في كتابه “الرمز والسلطة” للاتجاهين السابقين بقوله: “هُناك من يُسلِّم بوجود واقع اجتماعي مستقل عن وعي الأفراد وإراداتهم، ثمَّ هُناك مَنْ يرُد الواقع الاجتماعي إلى الوعي الذي تكوَّن لدى الأفراد عنه؛ فيتخذ موضوعاً له، وللمعرفة الأولى للعالم الاجتماعي”.
وجاءتْ نظرية الممارسة الموضوع الرئيسي في سوسيولوجية بورديو، التي تهتم بإعادة الاعتبار للفاعل وعلاقته بالبناء الاجتماعي، فيقول بورديو (1966:202) في كتابه “أسباب عملية..إعادة النظر بالفلسفة”: “إنَّه من الممكن استبعاد الذات من تراث فلسفة الوعي دون القضاء عليه لصالح البنية؛ فعلى الرَّغم من أنَّ الفاعلين نتاج البنية، إلا أنَّهم صنعوا ويصنعون البنية باستمرار”.
وترتبطُ نظرية الممارسة لبورديو بثلاثة مفاهيم أساسية: الهابيتوس، والمجال، ورأس المال.. ويمكن توضيحها كالآتي:
– الهابيتوس:
إنَّ مفهوم “الهابيتوس”(Habitus) جزء من نظرية بورديو حول الممارسة العملية، وقد استمد المفهوم من مارسيل موس (1872-1950)، فعمل على تطويره اعتماداً على معالجة هذا المفهوم بالعودة إلى وجوده في نصوص فلسفيه لأرسطو، وماكس فيبر، وهوسرل، وكان بورديو يريد من وراء استخدام مفهوم “الهابيتوس” التوصُّل إلى حل الإشكالية في العلوم الإنسانية بين الموضوعية والذاتية (يتيم،2011:60)؛ بحيث يسمح مفهوم الهابيتوس باستيعاب المعطى الموضوعي المكوِّن للظاهرة الاجتماعية، ويسمح في الوقت نفسه بتجاوزه من خلال إعادة الاعتبار إلى التجربة الذاتية للفاعلين، أي إلى المعرفة والممارسة العملية للأفراد المنخرطين في علاقات اجتماعية محددة. ويقول بورديو لحل إشكالية الموضوعية والذاتية: “إنَّ الهابيتوس هو الصيرورة المزدوجة لاستدخال الخارج، وتخريج الداخل” (العدوني،2010: 41-42). وهُنا إشارة إلى أنَّ مفهوم الهابيتوس مُفتاح لفهم إعادة الإنتاج الاجتماعي، وتنظيم الممارسات المسؤولة عن تشكيل الحياة الاجتماعية (يتيم،2011:60). فأصل الفاعليَّة الخارجية ليس ذاتاً تواجِه المجتمع كشيء خارج عنه. وهو لا يقوم لا في الوعي ولا في الأشياء، وإنما في العلاقة التي تربط حالتين من أحوال المجتمع؛ أي بين التاريخ الذي يسكن الأشياء في صورة ذلك النظام للاستعدادات، والمواقف التي نسميها الهابيتوس (بيار بورديو،2007:21).
ويعرّف بورديو الهابيتوس بأنه: “تهيُّؤ عام يولِّد تصوُّرات خاصة قابلة للتطبيق في ميادين مختلفة من الفكر والعمل”. ويعني أنَّ الهابيتوس: مجموعة من الاستعدادات المكتسبة، والإدراك، والتقويم، والفعل الذي طبعها المحيط الاجتماعي في لحظة محددة وموقع خاص. وإضافة إلى ما قيل، فإنَّ الهابيتوس هو: نسق الاستعدادات المكتسبة في الوقت عينه، ومنتج الممارسات، وأصل الإدراكات، وعمليات التقويم والأعمال. أي: “القواعد المولِّدة للممارسات”؛ فالهابيتوس يتوسط بين العلاقات الموضوعية والسلوكيات الفردية. فهو في الوقت نفسه ناتجٌ عن استبطان الشروط الموضوعية، وهو الشرط اللازم للممارسات الفردية (أنصار،1992:29،36؛ عبد العظيم، 2011:60-62).
وفي مواضع أخرى، يُقصد بالهابيتوس: التعبير بوضوح عن الميول في الحقل الاجتماعي؛ بحيث أنَّ الموقع يُشكل نظاماً من علاقات تقوم القوة التي تحمل مع النسبة إلى أولئك الذين يشتغلون المواقع في الحقل الاجتماعي، ولديهم الرغبة فيها. كما أن الهابيتوس نوع من القواعد في الأفعال يؤدي إلى التميز بين الطبقة (المهيمنة) وأخرى (المهيمنة عليها) في الحقل الاجتماعي؛ فالهابيتوس إذن نسق أو مخططات لإنتاج ممارسات معينة (ليشته،2008:106).
وينظر بورديو إلى مفهوم الهابيتوس من خلال ثلاثة مستويات للرؤية، متكاملة ومتفاعلة مع بعضها البعض؛ تتمثل في الآتي:
– المستوى الأول: يقع هابيتوس الفرد.
– المستوى الثاني: يتمثل في هابيتوس الجماعة المحلية المحيطة بالفرد بداية من الأسرة وجماعة الأقارب، وجماعة الجيران، والأصدقاء؛ حيث يذهب بورديو إلى أنَّ هذه الجماعات تملك الهابيتوس الخاص بها: “الناتج عن تماثل ظروف الوجود، الذي يؤدي إلى تآلف الممارسات وانصهار الفردي في الجماعي”، ويظل تأثير هابيتوس الجماعة في الفرد ممتدًا إلى ما لا نهاية.
– المستوى الثالث: هابيتوس المجال؛ حيث يرى بورديو أنَّ لكل مجال من المجالات القائمة (السياسي، الاقتصادي، القانوني، الثقافي..إلخ) في المجتمع، الهابيتوس الخاص بها؛ وهو “عبارة عن مجموعة من المهارات والأساليب الفنية والمرجعيات ونظم المعتقدات الواجب توافرها في عضو هذا المجال دون غيره من المجالات” (بدوي،2009:13). ويعدُّ الهابيتوس الوظيفي عند العامل مثلا هو رأسمال تقني ناتج عن خبرة في المهنة، ومجموعة من الحالات والمرجعيات والمعتقدات التي تجعله يؤدي عمله بإتقان، وينجز المطلوب ضمن تسلسل الاختصاصات.
ويتَّصف الهابيتوس عند بورديو بمجموعة من الخصائص كالقدرة على الاستمرارية، والديمومة، والبقاء، والجاذبية، والتأثير، والتوجيه، ويتمُّ تقمصه والانخراط فيه من طرف الأفراد، والمجموعات، وتنتقل ملكيته، وقابليته للاستعمال من طرف إلى آخر، حسب تغيُّر المهنة، وعلاقات القرابة، والمصاهرة، والتجارة، وإخضاع الفعل الذاتي، والاعتقادات الشخصية إلى جُملة من القواعد والتحديدات الموضوعية (الخويلدي،2013). كما يعمل الهابيتوس على ترسيخ القوة بتمايزاتها، وتفاضلاتها وجميع مظاهرها، فإنَّ الأيديولوجيا تقترب من المهمة ذاتها كذلك؛ فيربط بورديو بين القوة والأيديولوجيا؛ حيث يرى أنَّ الأيديولوجيات مثل مجموعة من التمثلات المشوهة عن العلاقات الاجتماعية تنتجها فئة أو طبقة لتحقق من خلالها مشروعية صريحة لممارساتها، كما هي الحال في حقل الإنتاج الرمزي (الحوراني، 2008:81).
– المجال:
حاول بيربورديو توضيح كيف تتمثل الذات الفاعلة الشروط الموضوعية-البنيوية، فأنتج مصطلح الهابيتوس Habitus، وكيف تؤثر هذه الذات في تلك الشروط، فأنتج مصطلح المجال Field؛ بحيث تُصبح الممارسة “محصلة العلاقة الجدلية بين الهابيتوس والمجال، أو هي نتاج تفاعل الهابيتوس والمجال (بدوي، 2009:12).
واستخدم بورديو مفهوم الحقل للإشارة إلى ميدان التنافس والصراع الاجتماعي؛ يتنافس الأفراد فيه كما في الألعاب يناورون، ويطوِّرون إستراتيجيات، ويناضلون من أجل الحصول على المصادر المرغوبة (الحوراني، 2008:78). وقد عرَّف بورديو مفهوم الحقل بأنه: “كالشبكة، أو شكل من العلاقات الموضوعية بين الموقع، تعرَّف تلك المواقع بشكل موضوعي في وجودها، وفي القيود التي تفرضها على محتليها؛ من خلال وضعها في بناء توزيع القوة أو (رأس المال)، والتي تسهل السيطرة عليها الوصول إلى فوائد أو أرباح مُحدَّدة هي بمثابة الجائزة أو الرهان في الحقل”.
إذن؛ يُمثِّل الحقل “نسقاً من المواقع الاجتماعية المبنية داخليًّا بالاستناد لعلاقات القوة”، وكل حقل يمثل محلاً لعلاقات القوة. وبينما تعيد الماركسية جميع علاقات القوة إلى وسائل الإنتاج -الحقل الاقتصادي- يُجادل بورديو في أنَّ الحقول المختلفة يُمكن أن تكون مستقلة تماماً، وأنَّ المجتمعات الأكثر تعقيداً تمتلك عدداً أكبر من الحقول المختلفة. وهنا يبدو بورديو متأثراً إلى حدٍّ كبير بتحليل ماكس فيبر، ويُضيف فكرة أنَّ القوة في الحقول المختلفة تعتمد بشكل حاسم على الأشكال المختلفة تمامًا لرأس المال (والاس، ولف: 2010:149-195).
وقد حلَّل بورديو المجالات الاجتماعي، وأوضاع الفاعلين داخلها، على أساس مبدأ التفرقة بين الفاعلين، وتنحصرُ وفقاً لمبدأين؛ المبدأ الأول: يقوم على الحجم الكلي من رأس المال الذي يحوزه الفاعلون في شتى أنواعه. والمبدأ الثاني: قائم على بنية حجم رأس المال، أي حسب الوزن النسبي لأنواع رأس المال (الاقتصادي والثقافي). وبذلك؛ يفسر بورديو المجال على أساس محورين:
– محور رأسي: يقيس الحجم الكلي لرأس المال.
– محور أفقي: يحدد بنيته أو مكونات رأس المال.
ويفترض بورديو أنَّ أكثر أنواع رأس المال تأثيرا في البلدان الصناعية هما: رأس المال الاقتصادي، ورأس المال الثقافي. وعليه؛ فإنَّ الفاعلين تجمعهم ممارسات مشتركة في أساليب العيش والمميزات الاجتماعية (بورديو، 1966:29). وإنَّ الفضاء الاجتماعي مبنيٌّ بحيث يكون الفاعلون الذين يحتلون مواقع متماثلة أو متقاربة موضوعين في شروط متماثلة وخاضعين لاشتراطات مُتماثلة، وأمامهم كلُّ الفرص لتكوين استعدادات ومصالح متماثلة، ومن ثمَّ إنتاج مُمارسات مُتماثلة، وتتضمَّن الاستعدادات المكتسبة في الموقع المحتل تكيُّفاً مع هذا الموقع (بورديو، 2002:212).
ويتصوَّر بورديو أنَّ هُناك خصائص عامة لكل المجالات، يُسمِّيها قوانين المجالات؛ وهي:
1- أن المجالات تتشكل حول علاقة القوة بين العناصر الفاعلة والمتصارعة في نفس الوقت؛ أي أنَّها تتشكل حول توزيع رأس المال النوعي.
2- أن المحتكرين لرأس المال النوعي في مجال ما، يميلون إلى إستراتيجيات المحافظة على الوضع؛ لما لهم فيه من مصالح، بينما يميل المجرَّدون من رأس المال إلى إستراتيجيات من شأنها تدمير البنية القائمة والقضاء عليها، أو مقاومة علاقات القوة السائدة داخل المجال.
3- أن كل المنتمين لمجال ما تجمعهم مصلحة مشتركة؛ هي: المحافظة على بقاء واستمرار المجال في حد ذاته. وإجماعهم على أنَّ ما يتصارعون بشأنه داخل هذا المجال هو بالفعل يستحق الصراع من أجله (عبدالفتاح،2010).
إنَّ تكوين الدولة لا ينفصل عن مسار توحيد مُختلف المجالات: الاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية، والسياسية..إلخ؛ ذلك المسار الذي يرافق التكوين التدريجي لاحتكار الدولة للعنف الشرعي الطبيعي والرمزي، إنَّ للدولة القدرة على تنظيم عمل المجالات المختلفة؛ بسبب كونها تضمُّ مجموعةً من المصادر المادية والرمزية؛ إمَّا عن طريق التدخُّل المالي (كما في المجال الاقتصادي، والمساعدة العامة للاستثمار أو في المجال الثقافي، وإعانة هذا النوع من التعليم)، أو عن طريق التدخل القانوني (مثل: وضع القواعد المختلفة التي تحكم عمل المنظمات أو سلوكيات الفاعلين) (بورديو، 1966:66).
– رأس المال:
يُعدُّ مفهوم بورديو عن رأس المال والعلاقات التي تربط بين أشكاله، من الأدوات التفسيرية المهمة لفهم الحراك الاجتماعي، وصوره، وأشكاله، وأسبابه. وهو يتميَّز بقابليته للتطوير والتوسُّع الدائميْن (بدوي،2009:17)؛ حيث يُمثِّل مفهوم رأس المال مفهوماً مركزيًّا آخر في المشروع النظري لبورديو؛ فعمل على توسيع فكرة رأس المال لتشمل جميع أشكال القوة؛ سواء المادية أو الثقافية أو الاجتماعية أو الرمزية؛ فالأفراد يستحضرون مصادر ثقافية واجتماعية ورمزية مختلفة من أجل المحافظة على مواقعهم ووضعهم في النظام الاجتماعي. ويوضِّح بورديو أنَّ هذه المصادر تُمثِّل “رأسمال” عندما تقترن بعلاقة قوة اجتماعية؛ بحيث تُصبح موضوعات ذات قيمة يناضل الأفراد من أجل الحصول عليها (الحوراني، 2008:75).
ويعتبر بورديو أنَّ كلَّ طاقة اجتماعية قابلة لأن تنتج مفاعيل، فإنَّ من اللازم اعتبار كل طاقة قابلة أن تكون مستخدمة (بشكل واعِ أو لا واعي) كأداة في عملية التنافس الاجتماعي؛ لذلك يتسع مفهوم رأس المال ليشمل كلَّ أنواع الممتلكات التي يستخدمها الفاعلون في ممارساتهم (أنصار، 1992:97).
وَيَرَى بورديو في كتابه “رأس المال” أنَّ هناك ثلاثة أنواع أساسية لرأس المال؛ هي:
– رأس المال الاجتماعي: يشير إلى مجموعة الصلات التي يعقدها الفرد داخل الشبكة الاجتماعية، وهذه الشبكات مُفتاح الفوائد الرمزية، مستثمراً العلاقات الاجتماعية لزيادة الرأس المال الكلي الخاص؛ متمثلة في شبكات من الدعم والنفوذ، يتمكَّن الناس من دخولها بواسطة مواقعهم الاجتماعية (عبدالعظيم،2009:18).
– رأس المال الثقافي: يوليه بورديو أغلب اهتمامه، كما يرتبط بمساهمته الأساسية في النظرية السوسيولوجية (والاس. ولف، 2010: ص195)؛ حيث قسَّمه إلى نوعين؛ أحدهما موروث وهو كل ما يناله الفرد خلال عملية التنشئة الاجتماعية؛ مثل: عناصر البنية العقلية ومفردات اللغة. والآخر مُكتسب؛ وهو كل ما يكتسبه الفرد من مُؤهلاته التعليمية، وسنوات الدراسة (أنصار، 1992:95).
– رأس المال الرمزي: ويقصد به بورديو الموارد المتاحة للفرد نتيجة امتلاكه سمات محددة، كالشرف، والهيبة، والوجاهة، والسمعة الطيبة، والسيرة الحسنة التي يتمُّ إدراكها وتقييمها من جانب أفراد المجتمع (عبدالعظيم، 2011:65). وينظر بورديو إلى تلك السمات كمصدر حيوي للقوة؛ فرأس المال الرمزي هو كأي شكل من أشكال رأس المال الذي يتم التعامل معه بصفته منظومة محسوبة من التصنيفات.
مُخطَّط رقم (1) يوضِّح نظرية الممارسة في أطروحات بورديو
وقد ظهر مفهوم العنف الرمزي في كتابات بورديو المبكِّرة بداية من العام 1972؛ من خلال كتاب “إطار نظرية الممارسة”، غير أنَّه في كتاب “الهيمنة الذكورية” -الذي أصدره في العام 1990- أسهبَ في شَرْح الجوانب التحليلية للمفهوم. ويعرِّف بورديو “العنف الرمزي” بأنه القدرة على فرض دلالات ومعانٍ معينة بوصفها دلالات ومعاني شرعية، وإخفاء علاقات القوة التي تمثل الأساس الذي يرتكز عليه هذه القدرة (عبدالعظيم، 2011:66). فعندما يستخدم الفاعل الاجتماعي نوعاً من ممارسة “العنف الرمزي”، وهو بمثابة فرض مجموعة أفكار على الفاعلين الاجتماعيين المسيطر عليهم، والذين يرون بدورهم أنَّ ذلك دليل على عدالة النظام الاجتماعي، على هذا النحو يُعدُّ العنف الرمزي أكثر فاعلية من العنف الجسدي أو الفيزيقي؛ ذلك أنه مُتضمَّن في أنماط الفعل وبُنى الأفراد الذهنية؛ بحيث تكون النتيجة فرض الرؤية الشرعية للنظام الاجتماعي القائم (يتيم، 2011:62).
ويوضِّح الحوراني (2008:85) مخطط رقم (1) القوة والمعنى في أطروحات بورديو:
يُوضِّح المخطط رقم (1) أنَّ أساس التفاضل في القوة عند بورديو هو رأس المال، الذي يتنوَّع في أشكاله (السياسية، والاقتصادية، والثقافية..)، ويستحضره الفاعلون في الممارسات كتفعيل لعلاقة قوة معينة، ويرتبط رأس المال وعلاقة القوة بالهابيتوس والمجال (الحقل) في آن معاً؛ حيث ينتج الهابيتوس في مجال اجتماعي معين، وبدوره يعمل على إعادة إنتاج كل من القوة والمجال وشكل رأس المال. وهكذا تبدأ علاقة القوة في أطروحات بورديو باستحضار الفاعلين لرأس مال مُعين في علاقة قوة معينة، وتنتهي بإعادة إنتاج الوضع القائم.
ويتَّضح مِمَّا سَبَق عَرْضُه من فكر بورديو نحو نظرية الممارسة، أنَّه ركَّز على ثلاثة مفاهيم رئيسية: الهابيتوس، والمجال، ورأس المال، في تحليلاته السوسيولوجية للمجتمع؛ فتقارب مع فكرة الذاتية عند الاتجاه البنيوي الوظيفي، ومع فكرة الموضوعية في الاتجاه الماركسي مكوِّناً نظرية الممارسة كحلقة وصل بينهما، مع وجود علاقة جدلية تسعى لإعادة إنتاج البناء الاجتماعي. ومؤكِّداً على أهمية الفاعل الاجتماعي بعد أن أُهْمِل من قبل الاتجاهات النظرية الأخرى.
—————————————————-
المصادر والمراجع:
* الحيدري. إبراهيم (2000)، “مدرسة فرانكفورت: تأسيس نظرية نقدية” (مقال منشور)، جريدة الشرق الأوسط، العدد: 10337، استرجع منhttp://bohothe.blogspot.com.
* حلس. موسى عبد الرحيم، مهدي. ناصر علي (2010)، “دور وسائل الإعلام في تشكيل الوعي الاجتماعي لدى الشباب الفلسطيني”، مجلة جامعة الأزهر بغزة، سلسلة العلوم الإنسانية، المجلد 12، العدد 12، ص:135-185.
* الكلاخي. يوسف (3 فبراير2013)، “قراءة في كتاب الإنسان ذو البعد الواحد لهربرت ماركيوز”، الحوار المتمدن، العدد 3992، استرجع منhttp://www.ahewar.org.
* ماركيوز. هربرت (1988)، “الإنسان ذو البعد الواحد”، ترجمة جورج طرابيشي، الطبعة الثالثة، منشورات دار الآداب، بيروت.
* هاو.آلن (2010)، “النظرية النقدية (مدرسة فرنكفورت)”، ترجمة ثائر ديب، الطبعة الأولى، دار العين للنشر، الإسكندرية.
* عبدالجواد. مصطفى خلف (2011)، “نظرية علم الاجتماع المعاصر”، الطبعة الثانية، دار المسيرة، عمَّان.
* أفاية. محمد نور الدين (1998)، “الحداثة والتواصل في الفلسفة النقدية المعاصرة”، الطبعة الثانية، إفريقيا الشرق، المغرب.
* هابرماس. يورجين (2003)، “التقنية والعلم كإيديولوجيا”، ترجمة حسن صقر، الطبعة الأولى، منشورات الجمل، بيروت.
* المصري. رفيق (2007)، “مستوى الوعي السياسي لدى أعضاء حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح)”، مجلة جامعة الأقصى، المجلد الحادي عشر، العدد الثاني.
* الحمداوي. بن عبدالله، فراسي. عصام، بو هريم. مصطفى، الكنوني. عادل (د.ت)، “الوعي واللاوعي”، استرجع بتاريخ: 22/6/20014، الموقع الإلكترونيhttp://tafalsouf.com.
* سالم علي (8 فبراير 2002)، بياربورديو السوسيولوجي الغائب كاشف “زيف” العَقْلَنَة الغربية (مقال منشور)، استرجع منhttp://www.maaber.org.
* بورديو، بيير (2007)، “الرمز والسلطة”، ترجمة عبد السلام بن عبدالعالي، الطبعة الثالثة، دار توبقال للنشر، المغرب.
* بورديو، بيير (1966)، “أسباب عملية”، ترجمة أنور مغيث، الطبعة الأولى، الدار الجماهيرية للطبع والنشر، طرابلس.
* يتيم، عبدالله عبدالرحمن (ربيع 2011)، “بياربورديو أنثروبولوجيا”، العدد 14، مجلة إضافات، ص:47-69.
* العدوني، عصام (خريف 2010)، “السوسيولوجيا والمجتمع لدى آلان تورين وبياربورديو”، العدد 12، مجلة الإضافات، ص: 28-47.
* أنصار، بيار (1992)، “العلوم الاجتماعية المعاصرة”، ترجمة نخلة فريفر، الطبعة الأولى، المركز الثقافي العربي، بيروت.
* عبدالعظيم، حسني إبراهيم (2011)، “الجسد والطبقة ورأس المال الثقافي: قراءة فيسيولوجية بييربورديو”، العدد 5، مجلة إضافات، ص:55-77.
* ليشته،جون (أكتوبر 2008)، “خمسون مفكراً أساسيًّا معاصراً (من البنيوية إلى ما بعد الحداثة)”، ترجمة فاتن البستاني، مراجعة: محمد بدوي، الطبعة الأولى، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت.
* بدوي، أحمد موسى (خريف 2009)، “ما بين الفعل والبناء الاجتماعي: بحث في نظرية الممارسة لدى بياربورديو”، العدد الثامن، مجلة إضافات، ص:9-23.
* الخويلدي، زهير (19 أبريل 2013)، نظرية الهابيتوس والرأسمال الرمزي عند بييربورديو (مقال منشور)، استرجع منwww.doroob.com.
* الحوراني، محمد عبدالكريم (2008)، “النظرية المعاصرة في علم الاجتماع التوازن التفاضلي صيغة توليفيه بين الوظيفة والصراع”، الطبعة الأولى، دار مجدلاوي، الأردن.
* والاس. ورث، ولف. ألسون (2010)، “النظرية المعاصرة في علم الاجتماع تمدد آفاق النظرية الكلاسيكية”، ترجمة محمد عبدالكريم الحوراني، الطبعة الأولى، دار مجدلاوي لنشر، عمَّان.
* بورديو، بيير (1966)، “أسباب عملية”، ترجمة أنور مغيث، الطبعة الأولى، الدار الجماهيرية للطبع والنشر، طرابلس.
* بيير. بورديو (2002)، بعبارة أخرى محاولات باتجاه سوسيولوجيا انعكاسية، ترجمة أحمد حسان، الطبعة الأولى، ميريت لنشر والمعلومات، القاهرة.
9,253 total views, 2 views today
Hits: 1712