“عملية القوقاز – تربص.. نضال.. تآمر”
عماد بن جاسم البحراني
تعدُّ حرب الاستنزاف، التي انطلقتْ بعد هزيمة العرب أمام إسرائيل، في حرب الخامس من يونيو 1967م، حلقةً من حلقات الصِّراع العربي-الإسرائيلي المستمر منذ عُقود. ورغم أهمية هذه الحرب، إلا أنها لم تحظَ بالقدر الكافي من الاهتمام، وتسليط الأضواء على مجرياتها وتبعاتها الإستراتيجية؛ فقد كانت محطة مهمةً لعبور الأمة العربية من الهزيمة في يونيو 1967 إلى الانتصار في أكتوبر 1973م.
كتاب “عملية القوقاز”، لمؤلِّفه الإسرائيلي ديما أدامسكي، يعدُّ شهادةً مهمة لباحثٍ من قلب المؤسسة العسكرية الإسرائيلية؛ حيث إنه يعمل في وزارة الجيش الإسرائيلي.
هذا الكتاب عبارة عن رسالة ماجستير، قدَّمها المؤلف إلى جامعة تل أبيب. وقد قام بترجمة الكتاب الدكتور المصري جمال الرفاعي أستاذ اللغة العبرية بكلية الألسن في جامعة عين شمس.
وتكمُن أهمية الكتاب في تناوله لتفاصيل المشاركة السوفييتية في حرب الاستنزاف، ودعم القوات المسلحة المصرية بعد النكسة؛ وذلك حسب الرواية السوفييتية؛ من خلال اطلاع المؤلف على الوثائق الروسية ذات الصلة بحرب الاستنزاف، أو عملية القوقاز -كما أَطْلَق عليها السوفييت آنذاك- وهو ما لم يُتح للباحثين السابقين، حسب ادعاء المؤلف.
ويحتوي الكتاب على ستة فصول؛ في الفصل الأول استعرضَ المؤلف المستوى الإستراتيجي والتكتيكي والتنفيذي لعملية القوقاز، وحلل أسباب التدخل السوفييتي في هذه الحرب وأهدافها، وأجاب عن عدة أسئلة حول دوافع التدخل السوفيتي، وهل كان تدخلاً مفاجئاً أم كان جزءًا من سياسة سوفييتية مرسومة مسبقاً؟
وقد بيَّن المؤلف أن الكرملين اتخذ قراره الخاص بإشراك سلاح الطيران وسلاح الدفاع الجوي السوفييتيين في مطلع خريف 1969م، عقب قيام إسرائيل بتصعيد القتال على جبهة قناة السويس، بدءًا من يوليو 1969، وتدميرها بشكل منظم منظومة الدفاع الجوي المصرية، ونُفذ القرار بعد الزيارة السرية التي قام بها عبدالناصر إلى موسكو في يناير 1970م؛ وذلك خلافاً لما هو سائد في المؤلفات والدراسات التي أرَّخت لهذا القرار، بل إن المصادر الروسية -كما يُشير المؤلف- تفيد بأنَّ هذه الزيارة تمت في ديسمبر 1969م، وليس يناير 1970 كما يشير معظم الباحثين.
أمَّا الفصل الثاني من الكتاب، فخُصص لبحث تفاصيل عملية اتخاذ القرار في الحكومة الإسرائيلية بشأن ضرب العمق المصري، وكان الهدف من هذا التصعيد -كما ذكر رئيس الأركان الإسرائيلي- تعميق شعور وطأة الحرب على المصريين؛ وبالتالي إجبار عبدالناصر على وقف الحرب، وقدَّرت المخابرات العسكرية أن ضَرْب العمق المصري سيكون له أثر كبير في إنهاء حرب الاستنزاف.
وفي الفصل الثالث، يتناول المؤلف رؤية المخابرات الإسرائيلية للتهديد السوفييتي بعد حرب يونيو 1967م، ويصف مرتكزات الرؤية الاستخباراتية وآليات تقدير المخابرات العسكرية الإسرائيلية لإمكانية التدخل السوفييتي كردِّ فعلٍ محتمل لعملية القصف الإسرائيلي للعمق المصري في المستقبل.
وركز الفصل الرابع على تناول تقديرات المخابرات الأمريكية للتهديد السوفييتي قبيل حرب الاستنزاف وخلالها.؛ حيث رأت المخابرات الأمريكية أن دخول سلاح الجو الإسرائيلي إلى المعركة في صيف عام 1969م، أدى لتصعيد القتال، إلا أن باحثي المخابرات الأمريكية لم يروا أن لقصف إسرائيل للعمق المصري في هذه المرحلة تبعات بعيدة المدى على الموقف السوفييتي. ويزعم المؤلف -وفق المعلومات التي توفرت لديه- أنه لم يكن هناك تنسيق كامل بين قادة المخابرات وسدنة الدولتين في كل من إسرائيل والولايات المتحدة، بشأن تقدير التهديد السوفييتي.
وفي الفصل الخامس، بحث المؤلف الدلائل المتراكمة والمتزايدة والخاصة بالتحرك السوفييتي، واستعداداته للتدخل العسكري في الحرب إلى جانب مصر، وتضمنت هذه المعلومات: مقالات منشورة بالصحف، وتلميحات سوفييتية لجهات دبلوماسية إسرائيلية وغربية، ورسالة من الحكومة السوفييتية تضمنت تهديداً صريحاً بالتدخل، وصوراً واضحة لأعمال الحفر المحيطة بالخنادق استعداداً لنصب صواريخ أرض جو، وعلى نحو لم يحدث من قبل.
إلا أن كل هذه الأمور لم تؤدِّ إلى أي تغيير في موقف وحدة البحوث بالمخابرات العسكرية الإسرائيلية؛ وبالتالي لم يطرأ أي تغيير على صورة الوضع التي عرضت على رئيس الأركان العامة والحكومة الإسرائيلية. وأدى هذا الفشل الاستخباراتي الإسرائيلي-الأمريكي إلى نجاح السوفييت في نقل الجنود والضباط سرًّا لمساعدة الجيش المصري، فيما أصبح يُعرف بـ”عملية القوقاز”، وحماية الجبهة المصرية من الضربات الإسرائيلية.
وتطرق الفصل السادس إلى وصف أجواء المفاجأة التي ألمت بإسرائيل نتيجة التدخل السوفييتي، وطريقة استيعاب القيادة الإسرائيلية والمخابرات العسكرية لدلالات تلك المفاجأة. ويتطرق الفصل كذلك إلى أسباب تجميد الولايات المتحدة الأمريكية إمداد إسرائيل بطائرات الفانتوم مطلع العام 1970م.
أما الفصل السابع -آخر فصول الكتاب- فقد استعرض المؤلف من خلاله المواجهة الإسرائيلية مع الوحدات السوفييتية، والتبعات التي نجمت عن وجودها، وتأثيرها على الطريقة التي انتهت بها حرب الاستنزاف، وبشكل غير مباشر على الوضع الذي نشبت فيه حرب أكتوبرح حيث يؤكد المؤلف أن التحرك السوفييتي أتاح للجيش المصري في نهاية أغسطس 1970م خيار العبور الضخم لقناة السويس، وتحييد التفوق الجوي الإسرائيلي عن طريق منظومة صواريخ أرض-جو التي تم تحريكها إلى الجبهة، تحت غطاء وقف إطلاق النار تنفيذا لـ”مبادرة روجرز”، وسمح هذا الوضع الجديد لمصر بالتوصل لقناعة كانت الأولى من نوعها منذ حرب يونيو 1967م، بأن شن الحرب لاسترداد جزء من سيناء أصبح مُمكناً من الناحية الواقعية.
4,516 total views, 5 views today
Hits: 138