عرش الهوامش
مهدي زلزلي – قاصّ لبناني
-1-
”لا تطرح دُرَرَكَ أمام الخنازير”.. سبق أن قلت لَكَ ذلك ألف مرَّة!
خاطبني زياد بغضبٍ وصوت مسموع، فحاولت إسكاته بغمزة من عيني اليمنى مصحوبة بعضّ خفيّ على شفتي السّفلى، قبل أن أهمس معاتباً: سيسمعكَ الرجل!
-2-
كان زياد أوَّل من لاحظ الأمر. لم يمنعه من ذلك احتشاد دخان النراجيل في المقهى المغلقة كلّ منافذه في وجه هواء كانون البارد. الرجل منصرف بكليّته إلينا فعلاً، وبشكل يبعث على الضيق.. ولكن الحق أنَّ زياد سريع الاشتعال أيضاً.
لم يكن الحديث بيننا يدور حول التخطيط لهبَّة شعبيَّة تطيح بالعروش على أيّ حال، واحترام الخصوصيَّة لم يكن يوماً أمراً ذا شأن في مجتمعنا كي نأسف الآن لتبدّل الأحوال.
حاولت تبسيط الأمر فقلت لزياد بصوت خافت أنَّ الرجل منجذب – دون شكّ – لحديثنا حول النزوح الجماعي للروائيين العرب إلى الصوفيّة في محاولة مكشوفة لصيد الجوائز والقرَّاء معاً، وعقَّب كريم على كلامي مخمّناً ان يكون المسكين محكوماً بالجلوس إلى صديقَين لا يشاركانه اهتماماته وهمومه.
قطع الرجل تخميناتنا وشكوكنا باليقين حين استدار بشكل كامل صوبنا، مضيفاً بأزيز كرسيه المزيد من الجلبة إلى جوّ المقهى الصاخب أصلاً، وهتف بنبرة مرحة: واضح من حديثكم أنكم مهتمون بالشعر!
لم يكن أحد منا نحن الثلاثة قد أتى على ذكر الشعر، ولكن ليست هذه هي المشكلة، فَـ “كله عند العرب صابون”. ما جعلنا ننظر إلى بعضنا باستغراب هو مستوى تطفل الرجل الذي عبَّرت عنه خطوته الجديدة.
لم يملك كريم سوى هزّ رأسه موافقاً، أمَّا زياد فقد تظاهر بالإنشغال بالنظر إلى شاشة هاتفه المحمول، وكتمتُ أنا ضحكة كادت – لسبب ما – تفلت مني ما إن نظرت إلى وجه الرجل الذي بات مواجهاً لي تماماً.
- أظنّ انَّ سبب تفوّق الغرب علينا في كل ميدان هو انصرافه إلى الفيزياء والكيمياء والعلوم المختلفة وانشغالنا بالشعر وسواه من وسائل اللهو وإضاعة الوقت.
كنتُ فاشلاً في تنويع الخطاب بحسب ثنائيَّة المقام والمقال وهوية المخاطَب، ولا أجيد سوى قول كلّ ما أعرفه أمام كلّ من أعرفه، وكنتُ راغباً بالثأر لكرامة صديقنا كريم أيضاً، فاندفعتُ أفنّد قول الرجل كما لو أنني إزاء طرح فكريّ عميق، فقلتُ له أنَّ الغرب لم يكن ليصل إلى ما وصل إليه لولا اهتمامه بالأدب والفنون، وأنَّ التكامل هو السبيل إلى رفعة المجتمع، وأنَّ نظريَّته حول الأولويَّات عفا عليها الزمن، وأنَّ الشعر العربي فضلاً عن جانبه الجماليّ لطالما كان محرّكاً للشعوب وباعثاً على نهضتها. وكان هذا ما أغضب زياد وجعله يعيد عليّ العبارة التي انتقاها من “إنجيل متى” دون غيرها، وأعادها على مسمعيّ مرات كثيرة لم تبلغ الألف بطبيعة الحال.
ربما كان زياد على حقّ، ولكن إلقاء الدرر أمام الخنازير أثمرَ هذه المرة، فقد وجد الرجل نفسه معنيَّاً بالدفاع عن نفسه أمام النظرات المصوّبة إليه من كلّ جانب من جوانب المقهى الذي صمت معظم من فيه للإنصات إلى مطالعتي وانتظار جوابه عليها، ففاجأنا بعبارة أخرى:
– أرجو ألا يُفهَم من كلامي معاداتي للشعر والأدب، فأنا – وإن كنتُ رجل أعمال ناجحاً ليس لديه الكثير من الوقت ليضيعه – لا أبدأ نشاطي اليوميّ قبل الاستماع إلى قصائد نزار قباني الجميلة مصحوبةً بالموسيقى. تعجبني كلها، وخصوصاً تلك التي يقول في مطلعها: ”أنا ملكُ الصدى، لا عرشَ لي إلا الهوامش”.
هممتُ بتنبيه الرجل إلى خلطه بين نزار قباني ومحمود درويش، وإلى كون العبارة التي ذكرها مطلعاً للمقطع الذي يستمع إليه أو يشاهده عبر “يوتيوب” وليست مطلعاً للقصيدة نفسها، إلا أنَّ نظرة أخرى من زياد لجمتني فآثرتُ الصّمت، ولكن رغبتي في مناكفة كريم أو ربّما في تحصيل حقه المعنويّ، دَفَعَتني إلى الحديث مجدّداً:
- على كلّ حال، نحن الإثنان مرجعنا في الشعر هو الأستاذ كريم، صاحب التجربة الشعريَّة الأبرز في البلاد هذه الأيام، ولا بد أن تكون قد سمعت باسمه من قبل.
وفيما انخرط كريم مع الرجل في حديث جانبيّ، استلزمتْ مواصلتُه انتقالَه إلى الطاولة الأخرى تحت وطأة إلحاح الأخير، كان زياد يعاتبني على ما أقدمت عليه من تصرّف غير أخلاقيّ، في إشارة إلى تملصي من الحوار العبثيّ عن طريق توريط كريم الهادئ والمسالم فيه نيابةً عني، وكدتُ أشعرُ بالذنبِ فعلاً لولا أنَّ كريم عاد سريعاً إلى طاولتنا بعد أن اكتشف أنَّ علاقة رجل الأعمال الناجح هذا بالشعر لا تقتصر على درويش ونزار، وأنَّه يعرف عدداً لا بأس به من الوافدات إلى عالم القصيدة من بوَّابة أطباء التجميل. وقال كريم أنَّه أنهى الحديث بحزم بعد أن انقلب الرجل على عقبيه وعاد إلى آرائه الأولى متسائلاً عن السّبب الذي يدفعنا إلى ندب السّعادة الضائعة بأسلوب أدبيّ جميل طالما أننا نستطيع شراءها بأموالنا، وعن السّبب الذي يدفعنا إلى الإنشغال عن تحصيل الأموال بالبكاء على الأطلال.
كان زياد أوَّل من لاحظ الأمر، لم يمنعه من ذلك احتشاد دخان النراجيل في المقهى المقفلة كل منافذه في وجه هواء كانون البارد، هذا الشتاء أقسى مما سبقه بما لا يقاس. الرجل نفسه يجلس قبالتنا كما لو كان يوجّه خطابه إلينا دون غيرنا، وإن كان يطل هذه المرَّة عبر شاشة تحمله إلى الملايين من الناس غيرنا. يتحدَّث عن اهتمامه بالأدب والشعر ودعمه للمواهب الشابّة، وتخصيصه بعضاً من وقته الثمين للإشراف على دار نشر أسّسها مؤخراً لهذه الغاية، مستفيداً من منحة ماليّة كبيرة قدَّمتها الحكومة الهولنديَّة لترجمة أعمال روائيَّة وشعرية عربيَّة إلى اللغة الهولنديّة وبالعكس.
وقال الرجل في ما قاله أنَّ الناس في هولندا وفي الغرب عموماً لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه لولا اهتمامهم بالآداب والفنون، وأنَّ الشعر العربي – وكذلك الرواية – كانا على الدوام المحرّك للشعوب والباعث على نهضتها، ومن حقهما علينا نقل التجارب المضيئة فيهما إلى لغات العالم، وزادَ أنَّ الاستثمار في الثقافة واجب أخلاقيّ وإنسانيّ.
كنت أظنّ أن لا أحد سوانا من روَّاد المقهى المنصرفين إلى لعب الطاولة وتدخين النرجيلة وتجاذب أطراف الحديث، مهتمّ بمتابعة المقابلة في التلفزيون، لولا أنَّ شتيمة مقذعة انطلقت من زاوية المقهى زعم صاحبُها أنَّه مترجم تعرَّض للنصب من ذلك الناشر الأفاك الذي نقده أجراً زهيداً لقاء ترجمة رواية هولنديَّة كبيرة الحجم، وأجْبَرَهُ على التوقيع على ورقة تفيد أنَّه تقاضى عشرة أضعاف المبلغ الحقيقي لتقديمها إلى الجهة المانحة.
رفعتُ يدي مضمومة الأصابع في وجه الرجل ثم خفضتها، وكرّرتُ ذلك بحركة سريعة، ففهم أنَّ عليه الصمت قليلاً ليتسنى لنا السَّماع بوضوح، كانت المحاوِرةُ في هذه اللحظة تقول للرجل الجالس قبالتها أنَّ “عرش الهوامش” التي جعلها اسماً لدار النشر خاصَّته، مقتطعة من قصيدة لمحمود درويش، لا لنزار قباني!
—————————
– مهدي زلزلي قاصّ لبناني، صدرت له مجموعة قصصيّة بعنوان “وجهُ رجلٍ وحيد” عن دار الفارابي ٢٠١٨.
– حائز على تنويه لجنة التحكيم في جائزة “دبي الثقافيّة” للإبداع (الدورة السّابعة/ ٢٠١١) لحلوله بين العشرة الأوائل عن مجموعته القصصيّة غير المنشورة “خبرٌ سارّ”.
- حائز على جائزة مسابقة “قصص على الهواء” الشهريّة التي تنظمها مجلة “العربي” الكويتيّة وإذاعة “مونتِ كارلو” الدوليّة، ثلاث مرّات، عن قصصه: “بعد عشرين عاماً”، و”الكاتب الستينيّ”، و”الفستان الأبيض”.
+++++++
3,387 total views, 5 views today
Hits: 145