بَلَىٰ قَادِرِينَ عَلَىٰ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ
حسن بن علي جواد اللواتي
قَالَ تَعَالى: “عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ”؛ فمنذ بداية الإنسان إلى يَوْمِنا هذا، فإنَّ الإنسانَ بطَبِيْعَته يُحبُّ البحثَ والاكتشاف؛ لذلك استطاعَ أنْ يَخْتَرِع ويَكْتَشِف خَبَايا الحياة التي حوله. وبواسطة التقنيات، استطاعَ أنْ يَكْتَشف لنفسه مَا كان غَامِضًا أو غَيْر مَعْرُوف. وَكَذَلك بَنَى الإنسانُ نماذجَ علميَّة وتكنولوجية في حَيَاته اليومية، وكان هو أحد الأسباب التي جعلته يتعرَّف ويَعْرِف عن نَفْسِه، ويكتشف مَدَى تعقيد بناء تكوينه هذا؛ سواءً كان جسمه أو تفكيره. وهنا، نُوضِّح نموذجاً واحدًا للمقارنة رُبَّما يكُون فيه نَوْع من المقارنة بَيْن التكنولوجيا الحديثة واستعماله، وبَيْن ما يحدث للإنسان في المستقبل. ونأخُذ هُنَا ذاكرة الإنسان منذ ولادته إلى مَمَاته، ثم إلى مراحله الأخرى.
مَرَّت على بَنِي البشر مُنذ وُجُوْد أدم -عليه السلام- سنينَ عديدة -وقد تكون مئات الآلاف أو رُبَّما ملايين من السنين- ولكنْ لا يعلمها إلا الله الخالق، وتستمرُّ الحياة إلى اليَوْم الموعود، ولا نعلم متى يكون.
وَمرَّ الإنسان -خلال هذه الفترة- بتطوُّرات كثيرة وعديدة. تطوَّر من الإنسان البدائي إلى إنسان مدني، ومن إنسان الغابات إلى إنسان الحضارات، ومن إنسان جاهل المعرفة إلى إنسان المعرفة والتكنولوجيا والسرعة.
وَكَذلك مرَّ الإنسان على مَرَاحل التفكير كثيراً، وقد خَلَق لنفسه كياناً مُستقلا في التفكير، وَخَلَق أيضًا لنفسه مُعتقدات قد تُوْصِله أو تنجِّيه من فراغ تفكيره. فالتجأ إلى عِبَادة الماديات؛ ومنها: الأجرام السماوية، والأصنام من شتَّى أنواعها، وخلق لنفسه عبادات قد لا تخْطُر على البال، وفي الوقت ذاته بُعِثتْ له الأنبياء والرُّسل من خالقِه ليضيء لهم الطريق: فبعضُهم آمَن، وبعضُهم أَنْكر، وبعضُهم استمرَّ على اعتقاداته.
وَلَكنْ هُنَا في رأيي شيء مشترك في كلِّ هذه الأديان والاعتقادات، وهو أن الإنسان لم يُخْلَق سُدى؛ لذا قام الإنسان بتطوير نفسه إلى حياة أفضل، وبناها لفترة أطول، وكأنَّه يعيش أبدًا؛ سواء لهذه الحياة أو لحياة بعد الممات. فمنهم من آمن بحياة ثانية بعد مَوْته، والبعضُ آمن بمرحلة أخرى بعد هذا الموت، ومنهم من آمن بيوم القيامة أو يوم الحساب. لذلك؛ أَوْجَد لنفسه أسلوبَ حياة يُوْصِله إلى مراحل أسمى وأعلى. ولكن السُّؤال هنا: كيف يستطيع الإنسان أن يُحقِّق هذا؟ وما السبيل إلى معرفة بياناته لمواصلة ما آمن به بعد مماته؟ كيف سيكون هذا الإنسان بعد أن اندثر بعد موته؟ فمنهم من يُحرق، ومنهم من يُدفن، ومنهم من يُترك للطيور بعد موته، ومنهم من يمُوت في البحار والمحيطات أو الجبال والغابات أو الصحارى والثلوج. فكَيْف يعرف ما فعل في حياته الأولى ليتمكَّن من مُوَاصلة ما كان يتمنَّاه بعد مَوْتِه، وما عمل لنفسه، ليعيش أبدًا حسب اعتقاداته.
السُّؤال هنا: إذا كانتْ هُناك حياة أخرى أو مرحلة ثانية بعد الموت؛ فكَيْف يستطيع الإنسان أنْ يُعِيْد كلَّ هذه الكمية الهائلة من المعلومات والتي تسجَّل على مدار أربعٍ وعشرين ساعة يوميًّا، ولمدة قد تصل إلى مُتوسط ثمانين عاما من عُمر الإنسان الحالي، وكذلك هذا الكم الهائل من البشر على مرِّ مئات بل آلاف من السنين. هذا السُّؤال الذي يطرحه الإنسان على نَفْسِه مرارًا وتكرارًا، وكذلك يُجادل البعضُ خالقه بقوله: “وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ”؛ لتبسيط الفكرة في هذا المقال، سَوْف أختصر الموضوع في خمس نقاط لهذه المرحلة، والتي أقوم بمقارنتها بطريقة مُبسَّطة وملموسة من حياتنا اليومية وفي هذا العصر، لنرى: هل هناك إمكانية للرجوع إلى هذا الكمِّ الهائل من المعلومات عن كلِّ إنسان منذ البداية البشرية إلى يوم القيامة، أو إلى رحيله لعالم آخر بعد مماته.
وَهِي:
– كيفيَّة تسجيل الكمية الهائلة من المعلومات.
– كيفيَّة انفصالها عند الموت عن الجسم.
– كيفيَّة إعادتها للجسم مرَّة أخرى.
– كيفيَّة ترتيب إحداثيتها.
– كيفيَّة إعادة استخدام البيانات بعد المَوْت.
كيفيَّة تسجيل الكمية الهائلة من المعلومات
أَثْبَتت الدِّراسات الحديثة وُجُوْد الحمض النووي (DNA) في جسم الإنسان، والتي تحتوي على ثلاثة بلايين من الأحرف الكيماوية، وأنَّ كل حمض النووي في جسم الإنسان باستطاعته أن يخزن ما يعادل ألف كتاب مُرتَّبة حسب الأحرف وبالتسلسل. وأنَّ الطول التقديري الذي يتواجد في جميع خلايا الإنسان يكون طوله حوالي 16 إلى 32 بليون كيلومتر، وأنَّ كلَّ جِرام واحد من الحمض النووي (DNA) باستطاعته أنْ يخزن 700 تيرا بايت (Terabyte) من المعلومات. فقدِّر أيها الإنسان وتخيَّل الكم الهائل من المعلومات يستطيع جسمك أن يخزنها.
إنَّ هَذِه المعلومات محفوظة في جميع خلاياك في جسمك وكل أعضائك، وأنت في هذه الدنيا، ومُسجَّلة كل لحظة وكل ثانية، بل أقل من الثانية. قال تعالى: “حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ”؛ لأنَّ كلَّ أعضائك مكوَّنة من الخلايا والتي تحتوي على الحمض النووي (DNA)؛ وبذلك مليئة بالمعلومات والبيانات اليومية من حياتك.
كيفيَّة انفصالها عند الموت عن الجسم
هُنَا نَتعلَّم من التكنولوجيا الحديثة، تكنولوجيا آلة الحاسبة، كان بإمكان الإنسان قبل فترة وجيزة أنْ يحتفظ بكلِّ معلوماته وبياناته على الورق وتجميعها إلى كُتب، ثمَّ بَعْد ذلك تطوَّرت الأمور بعد اكتشاف الآلة الحاسبة، أصبحتْ المعلومات تُخزَّن على الجهاز، وفي الآونة الأخيرة باستطاعة جهاز صغير -مثل الهاتف النقال- أن يُخزِّن ملايين الأحرف والصور. ولكن الآن، وبتقدُّم العلم، يتمُّ حفظ المعلومات على آي كلاود (ICloud) أي أنَّك لا تحتاج إلى حفظ بياناتك في جهازك، بل في آي كلاود (ICloud)، وفي نفس الوقت تستطيع أن تُخزِّن ملايين الأحرف على آي كلاود (ICloud) وبعيدة عنك وعن جهازك. ورُبَّما بياناتك قد تكون محفوظة بهذه الطريقة إن لم تكن أفضل منها بآلاف المرات.
كيفيَّة إعادتها إلى الجسم مرة أخرى
إنَّ هَذِه العملية أصبحتْ سَهْلة وقابلة للفهم؛ حيث يكُوْن لك اسم المستخدم ورقم سري، وبمجرد استخدام رقمك السري يتم تحميل جميع بياناتك على أيِّ جهاز ترغب فيه، وحتى إن كُنت قد قُمت بمسحها من جهازك. كذلك يتم تخزين جميع بياناتك في هذه الدنيا من خلال خلاياك في الحامض النووي، وتكون مخزونة في آي كلاود (ICloud)، وتستطيع أن تُحضرها في حياتك الثانية بإدخال اسم المستخدم ورقمك السري فقط لا غير. حين يقول سبحانه وتعالى: “وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا”.
كيفيَّة ترتيب إحداثيتها
هُنَا يُجَادِل الإنسانَ ربُّه بقوله: “أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ”؛ فالموضوع سَهْل جِدًّا، ومِثَال ذلك في الدنيا والآلة الحاسبة؛ فإذا كان لك آلة حاسبة ولك حساب في آى كلاود، وبعد استعمالك للجهاز أربع إلى خمس سنوات يكون جهازك قد قَدِم، ولا يستطيع أن يقُوْم بمهمات كثيرة، ويكون بطيئا جدًّا لأي سبب كان، فتقوم أنت باستبدال جِهَازك بجهاز آخر وأحدث، ولكنْ ليس في الجهاز الجديد أية بيانات فيها، خاصة البيانات التي تَخصَّك. هنا، تقوم أنت بإدخال اسم المستخدم ورقمك السري، فيقوم الجهاز بتنزيل جميع بياناتك على هذا الجهاز عن طرق آي كلاود من أولها إلى آخرها، وحسب التسلسل والترتيب الذي رتبته أنت في جهازك القديم.
كَذَلِك، سَوْف يكون وضعك عند موتك حين تترك جسمك البالي، ويوم القيامة تُعْطَى جسما جديدا لتقوم أنت بإدخال اسم المستخدم ورقمك السري؛ لتظهر لك جميع بياناتك في الدنيا. يقول تعالى: “وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ”. هنا، وفي رأيي، رُبَّما يكون السائق اسم المستخدم، ويكون الشهيد رقمك السري.
كيفيَّة إعادة استخدام البيانات بعد الموت
وَكَذَلِك، عِنْد استعمال جهازك في الدنيا، وكيفيَّة استخدامه؛ سواء كان جهاز الآلة الحاسبة أم البيانات التي في الجهاز؛ أي بمعنى آخر جسمك وتصرفاتك في الحياة كلها يعتمد عليك. فإذا كُنت محافظًا على جهازك، فقد يطول معك فترة أطول، وفي نفس الوقت إذا كُنت مُحَافظا على بياناتك، ولم تدخل في المواقع التي ربما تضرُّ جهازَك من الفيروسات، فسوف تكون حياتك أسهل وأرتب، وتكون بياناتك محفوظة وسليمة.
وَكَذَلِك، يَوْم القيامة: إذا أُعطيت جهازًا جديدًا (جسمًا جديدًا)، سوف تقوم بإنزال بياناتك بإدخال رقمك السري، فإذا كانت بياناتك سليمة، فسوف تنزلها بكل بساطة وسهولة وتمر بسلام. أمَّا إذا كانت بياناتك مُعقَّدة ومليئة بالفيروسات، فإنك ستحتاج وقتًا أطول، أو ربما أن بعض الفيروسات قد لحقتْ ببياناتك، وتكون مُعقَّدة جدًّا وقد لا تستطيع حلها. حين يقول سبحانه وتعالى: “خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَّا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا”، وكذلك قوله تعالى: “يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا”. وفي النهاية، ليس المقصود هُنا أنْ أُبْرِهن على كيفيَّة إعادة الإنسان في يوم القيامة، أو في حياة ثانية، أو مرحلة أخرى عند البشرية، ولكن مُجرَّد تبسيط الفكرة وإيصالها بأنَّ هذه العملية سَهْلة جدًّا، مُقارنة بما نرى خلال التطوُّر التكنولوجي اليوم. لذلك؛ فلابد للإنسان أنْ يُفكِّر في كلِّ ما يفعله في حياته، وليعلم أنَّ كلَّ شيء محفوظ عنده. لذلك؛ أوْلَى بِه أنْ يَعْمَل خيراً لنفسه ولغيره، ويبتعد عن كلِّ سُوء ربما يضر غيره في هذه الدنيا. فعلاقة الإنسان بأخيه مُهمَّة جدًّا، وفي الوقت ذاته يكون الإنسان صادقا مع نفسه، ولا يغافل نفسه بالمبررات التي لا تُحصى.
وَأَخْتِمُ هُنَا بقول الإمام علي -عليه السلام- “أتزعُم أنَّك جُرمٌ صغـير، وفيك انطوى العالم الأكبر، وأنت الكِتَاب المبين الذي بأحرفه يظهر المضمر”.
4,766 total views, 2 views today
Hits: 166