دفاعًا عن الفلسفة .. !
أ.د. سمير إبراهيم حسن
ورقة مشاركة في “منتدى اليوم العالمي للفلسفة”، الذي أقامته جامعة السلطان قابوس ومجلة “شرق غرب” الثقافية، بالنادي الثقافي مساء 29 نوفمبر 2017م
هذا المقالُ نَوْع من الاحتفاء بالفلسفة، في يومها العالمي “عيدها”، وفي مجتمعاتنا وبعض جامعاتنا عادةً ما نتلكَّأ في الاحتفال أو الاحتفاء بالفلسفة، التي تظلُّ الأخَّ الفقير في مُؤسساتنا الجامعية العامة والخاصة؛ ونتمنَّى ألا يكون ذلك مُؤشراً على الانتقاص من قيمة الفلسفة، ولكنَّ ذلك هو واقع الحال!! وبصفتي مشتغلًا في العلوم الإنسانية، لا أزال أشعرُ بروابط القربى وصلة الرحم مع الفلسفة، خاصة باتجاهها العقلاني النقدي أنَّى كان منشؤه. والحديث عن الفلسفة في عيدها يعني الدفاع عنها، ومحاولة رد الاعتبار لها، ولدورها، ومكانتها، وإزالة سوء الفهم المحيط بها.
يُحاول مقالنا إذن، الدفاع عن الفلسفة في الفضاءات العملية والعلمية والتكنولوجية مترامية الأطراف، والتي أخذتْ تعمي الأبصار والأفئدة في أيامنا، وتحاصر الفكر والاهتمام. فقد توحي تطبيقات العلم المعاصرة وتشعباتها، لدى البعض، بأن الفلسفة قد أصبحت حملاً زائداً على منظومة العلوم، وأن مهمتها ودورها قد انتهيا مع تقسيم العلوم وتعمُّق التخصصات، أو على الأقل أن أهميتها تراجعت أمام الحياة اليومية المثقلة بملموس العيش، وبأولوية الحاجة للعلوم الأساسية، أو العلوم التطبيقية والتكنولوجية، والتنمية المادية، والتشغيل وحاجات السوق في عالمنا الراهن؛ أو أنها ليست من صنف العلوم النافعة؛ فهل ذلك صحي أو صحيح؟
والمقالُ مقالُ مناسبةٍ، وهو ليس مقالاً في الفلسفة، بل مقال عن الفلسفة؛ إنه مقالٌ احتفاليٌ، ولا يدعي مطلقاً القول الفصل؛ فالفلسفة هي تاريخ الفلسفة -بمعنى دلالي ومجازي- فهي مترامية المدى والأطراف، والاتجاهات والتساؤلات، ومتغيرة الرؤى والاهتمامات. ولا بد من أخذ تاريخها بعين الاعتبار، والتخلص من النظرة التعميمية الواحدة عنها؛ والانطلاق من هذه النظرة إلى بخسها قيمتها، بل و”أبْلَسَتِها” لإبعاد الناس عن دنسها ووساوسها.
ندَّعي إذن أنَّ هناك نوعًا من إهمال الفلسفة في مُجتمعاتنا وجامعاتنا، والانتقاص من دورها في تطور وتقدُّم المجتمعات المعاصرة، مقابل التركيز الزائد على ما يُسمَّى العلوم الطبيعية والتكنولوجية، بينما تفترض فكرتنا هنا أن هذه الرؤية ناقصة ومضللة، وأن الفلسفة جديرة بمكانة كبيرة من الأهمية والاحترام في نهضة أي مجتمع، وأي حضارة.
لقد كانتْ الفلسفة أمَّ العلوم، كما هو معروف، كان الفيلسوف طبيباً، وفلكيًّا، ورياضيًّا، وفيزيائيًّا؛ بل كان البعض يسميها “العلم النظري”. ولكن اليوم: ما مآل أمومتها؟! وما الذي يتبقى لها من موضوع بعد انفصال أبنائها وبناتها من العلوم عنها، واستقلالهم وبلوغ معظمهم سن الرشد والرجولة، بل والكهولة، وربما حالة العقوق؟! ما موضوع ومهمة الفلسفة في هذا العالم سريع التكنولوجيا؟ وما هي مكانة الفلسفة اليوم؟ وما هي ضرورتها؟ وما هو دورها في مثل هذا العالم؟ وما العمل مع الفكرة الخاطئة -أو فلنقل الفكرة العامية والساذجة- عن الفلسفة، والتي ترى أنْ لا جدوى منها في الحياة العملية وفي المستوى المعيشي؟ وكيف يمكن تصحيح الفكرة، أو الأفكار الخاطئة أو الساذجة، عن الفلسفة؟ وهل لنشر الفكرة الخاطئة عن الفلسفة علاقة بالخوف منها؟ وهل لذلك علاقة بالخوف من العقل؟ ومن الذين تخيفهم الفلسفة؟ وهل لخوفهم من الفلسفة علاقة بخوفهم من العقل؟.. تساؤلات عديدة برسم الفلاسفة الحقيقيين، وربما الفلاسفة الشجعان، في مجتمعات لا تستمع إلى الفلسفة.
أهمية الفلسفة
حين نُشير إلى تاريخية الفلسفة، ونومئ إلى العقلانية في الفلسفة؛ فإننا يمكن أن نرصد في هذا التاريخ نوعيْن واسعيْن من العقلانية: العقلانية التقليدية، والعقلانية النقدية.. فالعقلانية التقليدية، التي هيمنت منذ بدايات الفلسفة اليونانية حتى العصر الحديث، قامت على الاعتقاد بإمكانية بلوغ معرفة “مطلقة اليقين”، وأنَّ واجب العلم أن يصل بالمعرفة إلى هذه الحالة. أما عقلانية الفلسفة، والتي سادت في العصر الحديث، وتجلت بأشكال مختلفة، فهي العقلانية النقدية التي لا ترى أن هناك معارف غير قابلة للمراجعة والنقد، أو العرض على الامتحان النقدي؛ وذلك ما هو معيار وأساس مناهج العلوم بميادينها المختلفة اليوم.
إنَّ اهتمام منظمة اليونسكو بتخصيص يوم عالمي للفلسفة، هو تقديرٌ عال لمكانة الفلسفة في تاريخ الفكر الإنساني، وهو من جهة أخرى فكرة لرد الاعتبار لهذه المكانة في حياتنا الفكرية والعلمية الراهنة، وإقرار بضرورة الفلسفة.
وللفلسفة -منذ نشوئها المؤرَّخ في الفترة اليونانية، القرنين السابع والسادس قبل الميلاد، ولستُ متأكدًا فيما إذا كان هذا التحديد نوعاً من المركزية الأوروبية، أم أنه يرتبط فقد بظهور المصطلح- وظيفتان: وظيفة معرفية، ووظيفة أيديولوجية، وهما وظيفتان مُتكاملتان، ولقد طغت الوظيفة الأيديولوجية العملية على الوظيفة المعرفية في مراحل مهمة من تاريخ الفكر الفلسفي؛ ألم ير مُؤسِّس اتجاه فلسفي اجتماعي واسع منذ منتصف القرن التاسع عشر أن الفلسفة اكتفت سابقا بتفسير العالم، بينما المهم تغييره؟ أوليس ذلك هو مبدأ فكرة العلم النافع؟ وهو اليوم مبدأ جميع العلوم الاجتماعية الإنسانية؟ وإلا: ما الغاية من علم الاجتماع، أو علم الاقتصاد، أو التربية، أو حتى التاريخ، وربما الشِّعر والمسرح والرواية…إلخ، إن لم يكن التغيير أو المساعدة في التغيير أو الإيحاء بالتغيير؟
هكذا ظهر من دعوا لـ”فلسفة ملموسة”، ومن دعوا لـ”فلسفة تطبيقية”، و”فلسفة عملية”، مع أن ذلك قد يعتبر بنظر كثير من الفلاسفة التقليديين تناقضًا في الحدود؛ إذ إن الفلسفة إما أن تكون نظرية وذات فضاء حر، أو لا تكون. فحدودها هي حدود تصور العقل البشري.
فهل الاهتمام بما هو عملي وأيديولوجي يعيق ما هو فلسفي نظري معرفي عام؟ أي: هل يُعيق الهاجس الأيديولوجي الإبداعَ المعرفي الفلسفي؟ وقد يقول قائل: أليست الفلسفة تجلٍّ لأيديولوجية ما؟ أيديولوجية عصر أو أيديولوجية طبقة أو أيديولوجية مجتمع؟
وإذا كان ما يميز التفكير الفلسفي هو الاهتمام بما هو عام وشامل، فهل من خصوصية مجتمعيه للفلسفة؟ خصوصية بمعنى نسبتها إلى مُجتمع مُحدَّد؟
لقد درسنا -مثلا- الفلسفة اليونانيةـ والعربية، والإسلامية، والألمانية، والفرنسية، والإنجليزية، وأحيانا الفلسفة الغربية، والفلسفة الحديثة، والفلسفة المعاصرة.. فما الذي تبقَّى من هُوية، أو خصوصية مجتمعية، للفلسفة بهذا المعنى، في إطار العولمة والتواصل الراهن؟!
هل هناك من خصوصية للإنتاج الفلسفي العربي اليوم مثلا؟ وقد يتساءل مُتسائل غامزاً: وهل هناك من إبداع فلسفي عربي مُعَاصر أصيل، وخاص، ونوعي؟ وإذا كان نعم، فما هي سماته المميزة؟ وما الخاص الذي يُقدّمه في إطار الفكر الفلسفي العالمي؟
تساؤل مشروع؛ ذلك أنَّ البشر يتنفسون اليوم هواءً ثقافيا عالميًّا إلى درجة كبيرة، فما تأثير ذلك في الإبداع الفلسفي الخاص بالمعنى المحلي أو الإقليمي؟ بل وما هي إمكانية الإبداع الفلسفي الخاص في فضاء العولمة وثورة الاتصال الراهنة؟.. أسئلة كثيرة تخطر في الذهن، ولعل جوهر الفلسفة أنها تولِّد الأسئلة بشكل دائم: أسئلة تتعلق بالمجتمع، وأخرى تتعلق بالفلسفة ذاتها، كما تولد أسئلة العلوم المختلفة في الطبيعة والمجتمع.
والفلسفة حاضنة العلوم، وأرقى أنماط التفكر البشري؛ فهي لا تتفتح إلا في قمم الازدهار الحضاري، ألا يجدر إذن أن نتساءل: لماذا تزدهر الفلسفة، ويكثر مريدوها من المفكرين والمتلقين أوان صعود الأمم والحضارات والمدنيات والدول، وتفتحها وازدهارها، وتتراجع عند انحطاطها وأفولها؟ وهل لذلك علاقة بنهوض هذه الأمم والحضارات؟
تقديراً عالميًّا لمكانة وأهمية الفلسفة، يصفون بها أعلى الشهادات العلمية، وتخصص اليونسكو يوماً عالميًّا سنويًّا هو الخميس الثالث من شهر نوفمبر للاحتفاء بالفلسفة. أنا كدكتور أكاديمي لستُ مجرَّد مدرس ابتدائي، أو ثانوي، أو اختصاصي يلقن المعرفة وينقلها، فتلك مجرد حرفة، وقد لا تختلف في طبيعتها عن أي عمل وظيفي مهني، أما أن أكون دكتوراً في تخصصي -سواء كان من صنف العلوم الاجتماعية، أو الهندسية، أو الطبية- فتلك مسألة أخرى؛ إنها مسألة أن أكون فيلسوفاً؛ أن أكون متسائلاً، وباحثاً، وناقداً، وحرًّا، أو على الأقل أن أكون قريباً من ذلك؛ وربما نكون -وللأسف المحزن- مجرد حرفيين أو موظفين، أو مجرد ناقلين للمعرفة رغم الـ”PHD” التي نتباهى بها، والتي أنهينا بها دراستنا!!
هنا.. تكمُن أهمية الفلسفة؛ فهي أرقى تعبير عن ثقافة المجتمع والأمة. وهنا، تكمن دلالة دكتوراه الفلسفة في المجال العلمي المحدَّد، إنسانيًّا أو تطبيقيًّا، حين تفتح معرفتنا التخصصية على التساؤل، والنقد، والإبداع. وهنا.. تكمُن أهمية العلوم الاجتماعية بشكل خاص؛ فأن أكون دكتوراً في العلوم الاجتماعية والإنسانية، يعني ألا أكتفي بنقل المعرفة، بل نقدها وإبداعها؛ “والأستاذ الجامعي الذي لا يتميز بالعلوم الإنسانية، ولا يدرس إبداعاته الخاصة إلى جانب إبداعات العالم، يظل مُدرِّساً في المرحلة الإعدادية أو الثانوية، وعارضاً عرضًا سلبيًّا لما قاله فلان وفلان من الأغراب”.
لقد شكَّلت الفلسفة النقلة الأولى في تاريخ الفكر البشري من الماورائيات والخرافة والأسطورة، إلى العقل والمنطق، وهي مُثابرة على ذلك، بل رُبما يمكن القول بمعنى ما: إن الفلسفة عقلنت كل أشكال الفكر البشري بمجالاته المختلفة.
وعلى فلسفة المعرفة تأسَّست وتشذَّبت مناهج العلوم في الطبيعة والمجتمع، بل وفي الآداب والفنون، وفي الاتجاهات الفلسفية تتأسَّس أيضاً رُؤى العالم. بل يُمكن القول إنه من رؤى الفلسفة وتساؤلاتها تشكلت العلوم؛ “فمع نهايات القرن الثامن عشر أخذ الفلاسفة يفصلون تفرعاتٍ للمعرفة تركز على المجتمع، والحكومة، والذات الإنسانية علم النفس. وبدايات العلوم الاجتماعية الحديثة كانت في مجهودات هؤلاء الفلاسفة”، ونتيجة لمرحلة التنوير التي صنعها الفلاسفة -كما نتيجة لفكرة التقدم- نشأت الحاجة لجعل كل مجالات المعرفة البشرية علمية مهما كانت اجتماعية-إنسانية في مواضيعها، خصوصاً في الاستقصاء العلمي الحر، بغض النظر عن التداعيات الاجتماعية والأخلاقية لهذا الاستقصاء. والفلسفة -كما نوهنا- لم تظهر إلا في قِمم الحضارات؛ أعنِي في أوج ازدهارها؛ وتلك ملاحظة تاريخية تستحق التبصر:
أثينا المدنية.. قبلة الفلاسفة، ومدارس الفلسفة الإغريقية، وأكاديمية أفلاطون، والجمهورية، والديمقراطية، والمواطنة، والمنطق.
روما والأبيقورية والرواقية والشكية، وأفلوطين وأوغسطينوس وسينيكا وشيشرون (البرابرة، وسقوط روما، وبداية ظلمات القرون الوسطى، وموت الفلسفة).
الحضارة العربية الأموية، والعباسية، والأندلس، وازدهار الفكر والفلسفة (عصر الانحطاط وتدهور الحضارة، وحرب الطوائف ومحاربة الفلسفة والفلاسفة).
أوروبا الحديثة والمعاصرة وازدهار الفلسفة (أوروبا العصور الوسطى المظلمة، ومحاكم التفتيش، وشبهة الفلسفة).
أمريكا البدايات، وما قبل الاستقلال، والعبودية، والعنصرية (أمريكا المعاصرة المزدهرة، والمدارس الفلسفية الجديدة).
إنَّ إبداع العلم والتكنولوجيا سبقه وصاحبه وواكبه اهتمامٌ أكيد بالفلسفة، هكذا يمكن أن نلاحظ أن أكثر الدول تقدما في العلم والتكنولوجيا كالولايات المتحدة الأمريكية مثلاً، والتي لم يكن لها رصيد من الإرث الفلسفي مقارنة بأوروبا، تنشئ في جامعاتها أقساما للفلسفة، وتستقطب أهم الفلاسفة الأوروبيين لتحفيز الإبداع الفلسفي فيها، ويصدر منها اليوم أكبر حجم من الإصدارات الفلسفية في العالم.
ولعلَّ الطريف -لكنه ذو دلالة عميقة لا تغيب عن الفطن- أنه في العام 529م، كان تاريخ إقفال الكنيسة لأكاديمية أفلاطون في أثينا في عهد جوستينيان الأول، وهو نفسه تاريخ منح البركة، الذي اعتبر أول قانون كهنوتي.. وهكذا اعتبر تاريخ عام 529م تاريخاً لوضع يد الكنيسة على الفلسفة الإغريقية، وهي نفس فترة دخول عموم أوروبا عصر الظلمات، الموازي لسيطر الكهنة على التعليم والفكر والتأويل (ودخلت أوروبا عصر الظلمات، عصر ثبات الظلمات ((الثبات الشتوي)) للفلسفة). ألا يجدر الانتباه أيضاً -وذلك ما يهمُّنا بشكل خاص كأكاديميين- إلى أنه كان للفلاسفة الدور الأول في تأسيس مفهوم العلم الحديث،وتمحيص وبناء مناهجه وطرقه؟ بما في ذلك المناهج العلمية للعلوم الاجتماعية؟
إن المفهوم الحديث للعلم، وللمنهج العلمي في البحث، لم يتشكل على أيدي علماء الطبيعة وحدهم، ولم يكن لمناهج العلوم أن تتقدم وتزداد رهافة ودقة لولا النقد الفلسفي لها في مجالات المنطق وفلسفة المعرفة والإبستمولوجيا وعلم اجتماع المعرفة. واقتضت المدنية الأوروبية ثلاثة قرون على الأقل من التهيئة في مجالات الفلسفة العقلانية والتنويرية، قبل أن تترسخ وتنشر خيراتها العلمية والتكنولوجية والأكاديمية علينا (دون نسيان شرورها أيضاً). فكان للفلاسفة رؤية واضحة تمام الوضوح لمتطلبات العلم، وهم من أدركوا ما يحتاج إليه العقل البشري والعلوم الاجتماعية والإنسانية التي نلهج بها من مناهج علمية للبحث.
كان الفيلسوف فرنسيس بيكون مثلاً، أول من عرض العلم الحديث في مواجهة الفلسفة التقليدية المثالية “الأرغانون الجديد” -في مواجهة “أورغانون” أرسطو- واتجاهه تجاه الفلسفة الطبيعية، ودعوته للتجريبية العلمية، وأثره القوي في الموسوعيين الفرنسيين كديدرو ودالامبير و”الأنسكلوبيديا”، وتأكيدها على الفنون التطبيقية. فقد مثلت فلسفة بيكون دليلاً للروح العلمية الجديدة ومنهجيته التجريبية العلمية، التي بتاريخيتها -وعلى أساسها- تطورت مناهج العلم الحديث.
إنَّ الحاجة للنقد مثلاً أمرٌ لا بد منه في كلِّ مجال معرفي يريد أن يكون علماً، والفلسفة هي التي تمدنا بالأسس المنهجية العقلية المنطقية لهذا النقد؛ منهجية لا تنفصل عن الامتحان النقدي للمعرفة، والفلسفة بصفتها معقولية، تمثل أساساً لكل نظرية علمية عن المجتمع وعلاقاته، بما في ذلك النظريات ذات التوجه الإمبيريقي.والفلسفة العقلانية هي نقدٌ، أو هي قابلية نقد، وبفعل ذلك أو بإمكانية ذلك، تؤسس ليقينية المعرفة، أو لمعايير اليقين الموضوعي. والفلسفة العقلانية تعني -مع إمكاناتها النقدية- أن الإنسان في وضعية تؤهله لأن يعرف العالم.
ولعلَّ هناك بين الفلسفة الحديثة والعلم، عقدًا غير مُعْلن؛ حيث تمد الفلسفةُ العلمَ بمنهجيته العقلانية النقدية، وتستمد منه رؤيتها للعالم، وهنا تجعل الفلسفة بُنى العلم المعرفية غرضاً أو موضوعاً لها، وتعتبر عقلانية العلم أساسَ عقلانية المعرفة، التي نرى العالم بها اليوم.
وهكذا.. نجد مثلاً أن علم الاجتماع يستخدم منهجاً بحثيًّا ملزماً لاختبار المعارف الناتجة من الواقع، وفي الوقت ذاته اختبار المعارف الافتراضية، منهجاً يلزم بمراجعة القناعات والمعارف عند إدراك أن أحدَ أسسها خاطئ، أو عندما يتم الوصول لمعارف جديدة ذات تأسيس واقعي أمتن، “فلا شيء غير القدرة على النقد والنقد الذاتي يجعلنا نفصل بين العلم والقناعات الأخرى”؛ وذلك ما تكفله الفلسفة أو الفلسفة العقلانية الحديثة التي ترى العقلانية في النقد ذاته، حيث يكون العقلاني بهذا المعنى هو كل من يخضع الآراء جميعها للنقد، ويرى العقلانية في قابلية الامتحان النقدي للمعرفة.
ولا رَيْب في العلاقة الجدلية بين الفلسفة والعلم، والتأثير ليس وحيد الاتجاه، فتطورات العلم نقلت الفلسفة من فلسفة تقليدية كانت ترى أن المعرفة يجب أن تكون مطلقة، إلى فلسفة حديثة هي التي نتعامل معها اليوم؛ فلسفة عقلانية نقدية، هدمت التوافق الأرسطي الكنسي (السكولستيكية)، وفصلت مع الشكية، خاصة الشكية الديكارتية، العقيدة عن العلم، برفض أي شيء عقائدي بشري، يكون صحيحاً بالمطلق، ورأت إمكانية إخضاع كل الأحكام للتمحيص، للوصول إلى الحقائق عن الطبيعة والمجتمع. وفقط “الكوجيتو” هو المعطى غير القابل للشك، فقد أقامت فلسفة ديكارت منهج التحليل الرياضي كمفتاح لكل معرفة، وأكدت قدرة الإنسان على معرفة الطبيعة من خلال الرياضيات والتجارب العلمية؛ وذلك ما هو حتى اليوم مبدأ للاتجاه والمنهج الاختباري والطرق الإحصائية السائدة لموضوعية المعرفة في العلوم الاجتماعية، وفي علم الاجتماع بشكل خاص.
هاجم الإمام الغزالي الفلسفة بالفلسفة، في مؤلفه “تهافُت الفلاسفة”، قبل أن ينصرها ابن رشد بالفلسفة أيضاً في مؤلفه “تهافت التهافت”. ونحى، أو استبعد، كونت الفلسفة باعتبارها ميتافيزيقا إلى مستوى أدنى في تصوره للعلم ولعلم المجتمع، عندما أسس للسوسيولوجيا، ولكنه حتى باستبعادها كان مُؤسِّساً لأحد أكثر الاتجاهات الفلسفية تأثيراً في العصر الحديث “الفلسفة الوضعية”، والتي تأسَّست عليها الفلسفة الوضعية الجديدة، والوضعية المنطقية التي ما زالت تشغل عقول المعاصرين وعلومهم. وهي فلسفة ومنهج ونظرية معرفة في نفس الوقت. وبنفس التوجه المنهجي، رد ماركس برسالة “بؤس الفلسفة”، على مؤلف بردون “فلسفة البؤس”، ما بني عليه وعلى ما تبعه من مؤلفات ومناظرات وتأويلات، اتجاهٌ أيديولوجيٌ، وسياسيٌ، واقتصاديٌ، وثقافيٌ عاصفٌ في الشرق والغرب منذ أواخر القرن التاسع عشر.
كان هيجل يرى أن الدين والفن والفلسفة هي تجليات للروح المطلقة في التاريخ (يعني في حياة المجتمعات والشعوب)، وكان الفيلسوف والرياضي ديكارت يرى أن شيوع الفلسفة مقياسٌ لتحضر الأمم والشعوب.
هل يُمكن استحضار ازدهار حضارتنا العربية دون ابن سينا، والفارابي، والكندي، والشيرازي، وابن باجه، والغزالي، وإخوان الصفا، وابن رشد؟! أم يُمكن تصور النهضة ومنجزات الأزمنة الحديثة بدون بيكون، وهوبز، ولوك، ومنتسكيو، وروسو، وديكارت، وهيجل، وكانط، ولايبنتز، وسبينوزا، وفولتير، ووليم جيمس، وجون ديوي؟ أم يُمكن تصور القرن العشرين السابق، بكل عظمة إنجازاته التكنولوجية والعلمية، دون مانهايم، وماركوز هيدجر، وسارتر، وهبرماس، وفوكو، ودريدا؟
أمَّا تاريخنا العربي الحديث والمعاصر، فليس من الصعب الاقتناع بأنه سيكون فقيراً بدون الكواكبي، والأفغاني، ومحمد عبده، وقاسم أمين، وعلي عبد الرازق، وحسن البنا، وطه حسين، ونجيب محفوظ، وخالد محمد خالد، ومحمد النويهي، وأدونيس، وسهيل إدريس، وزكي نجيب محمود، وفؤاد زكريا، وحسن حنفي، وصادق العظم، وسمير أمين، وطيب تيزيني، والجابري، والعروي (بغض النظر عن اتفاقاتهم أو اختلافاتهم، معرفيًّا وأيديولوجيًّا، أو اتفاقنا أو اختلافنا معهم).
بالله، إذا استبعدنا كل هؤلاء من التاريخ الحديث والمعاصر والراهن، فما الذي يبقى فيه غير السعي المحموم وراء السوق والمال، والاستخدامات الرديئة للاكتشافات العلمية والتكنولوجية، والاحتباس الحراري، وزعماء الحرب والنزعة العسكرية الكريهة؟
إنَّ المجتمعات التكنولوجية، وثورة وسائل الاتصال والإعلام والتواصل، والثورة المعلوماتية المنفلتة من عقالها، اليوم، تبحث عن أخلاقيات جديدة توجهها؛ فتبحث عن ضالتها لدى الفلاسفة وعلماء الاجتماع والتربية؛ فالفلسفة والآداب والفنون ومنظومة القيم والفكر الاجتماعي العقلاني، هي العنوانُ والأساسُ الرئيس، والحاضن لأي نهضة ممكنة. والفلسفة هي التي تهيِّئ الأطر المنطقية والمنهجية لعمل العلوم بمختلف مجالاتها.
الفلسفة والسوق
المطلوب اليوم: الاستجابة للسوق ورجال الأعمال، والتجارة والصناعة، والشركات، والخدمات، والأرباح؛ فماذا سيكون مصير الفلسفة؟ ما مصير الفلسفة لدينا أمام إغراءات التكنولوجيا والاستجابة لحاجات السوق؟ ما مصيرها في ضوء الفهم قصير النظر للعرض والطلب في سوق العمل؟
بمنطق السوق المبتذل: لا ريب أن الطلب عليها قليل، وأنها بضاعة صعبة التسويق. في كتابه “حالة ما بعد الحداثة”، يقرر ديفيد هارفي: “الشيء الوحيد الواضح في ما بعد الحداثة هو اعتبار مطلب الربح الصافي هو المحدد في المقام الأول”. والمسألة بنظره تجد تفسيرها في “منطق التحول والمضاربة لدى رأس المال، فثمة غير وسيلة لصنع الربح، وتبريرات قائمة على إمكانية وجود جواب إيجابي عن سؤال: “هل كان مُربحا؟”. وفي تقديمه لكتاب “انهيار العولمة وإعادة اختراع العالم”، يشير المرحوم حامد عمار إلى امتداد التجارة لتشمل ليس فقط السلع والخدمات، بل والقيم والأفكار والطموحات والإبداعات البشرية.
ونقرأ في تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2003: “ينطوي ترك منظومة اكتساب المعرفة لحافز الربح على خطر قلة إنتاج المعرفة، وحرمان الأضعف اجتماعيًّا من امتلاكها”. وشدَّد تقرير اليونسكو للعام 2005، على بناء منظور أرحب للمعرفة الإنسانية، منظور لا يحصرها في البُعدين العلمي والتقني، بل يَراها في بنيتها المتكاملة “التي لا تغفل الإنسانيات، ومختلف العلوم الأخرى، في الجماليات والقيم والفنون، ومختلف تجليات المنتوج الرمزي الصانع لحكمة الإنسان….”.
إن المبالغة في مديح السوق والتكنولوجيا، يؤدي لحياة تفتقر إلى البُعد الإنساني؛ لما تؤدي إليه من فقر ثقافي. ولكن “أيديولوجيا الحقائق الاقتصادية وحيدة الاتجاه تؤول إلى الغروب”، وتبقى الفلسفة والآداب والفنون محتفظةً بقيمة ودور لا يمكن استبدالهما بالتكنولوجيا، أو أية قيمة مادية أخرى.
لقد فهمت فكرة ربط الجامعة بالسوق في هذا السياق فهماً ضيقاً، فتقلصت خدمة المجتمع إلى خدمة السوق، وتراجعت بذلك أهمية الآداب والفلسفة والعلوم الاجتماعية. وبذلك أيضاً، أخذنا نجد طلابنا ينفرون تدريجيا من كل ما يمُت للفلسفة والأدب والثقافة الرفيعة، ومن كل ما لا يتصل اتصالا مباشرا بفرصة العمل، وربما في ذلك حقهم، لكنها مسؤوليتنا عن التهافت الثقافي الممكن في غياب الفلسفة.
ربما لا تعي الشركات، ورجال الأعمال، والمستشارين، والمخططين الاقتصاديين الحرفيين، أهمية الفلسفة، أو لا يهتمون بها أساساً؛ لأنهم يفكرون بالدخل والعمالة ومتطلبات السوق، ونادراً ما تهمهم الهُوية والثقافة، إلا بقدر ما تكون استهلاكية وطالبة للسلع؛ ولكننا نفترض -أو نعتقد – أن تكون الجامعة أكثر حكمة، في تعهد الفلسفة، والثقافة، والعلوم الإنسانية، ورعايتها.
إنَّ بناء الإنسان، وروحه، وهويته، ونمط تفكيره، وتفتيح قدراته الكامنة، هي وظيفة ورسالة الفلسفة والعلوم الإنسانية والآداب والفنون، وهي لا تقل أهمية عن التكنولوجيا إن لم تكن أشق وأهم. ويفترض بالجامعات أن تتمثل هذه الرسالة وتنظر من خلالها إلى المجتمع، وذلك ما يمنحها أفقًا تنمويًّا إنسانيًّا، وإستراتيجيًّا أوسع.
فقد يكون بإمكان العديد من مجتمعاتنا أن تمتلك التكنولوجيا، أو تشتريها (منطق السوق)، وبإمكان جامعاتنا بسهولة أن تعد من يقدح زناد الآلات، وينقر على الأيقونات ولوحة المفاتيح، ونتخيَّل بذلك أننا نلج عصر المعلومات ومجتمع المعرفة، ولكن الأمر يحتاج في الواقع إلى أكثر من إمكانية اقتناء التكنولوجيا وتشغيلها؛ إنه يحتاج للذهنية العلمية، وبناء العقل العلمي التحليلي المقارن والنقدي، الذي تفتحه الفلسفة؛ سواء تعلق الأمر بالمجال المعرفي العلمي والتكنولوجي، أو بالمجال الاجتماعي الإنساني. ولا يكتملُ كلُّ ذلك دون توسيع الأفق الثقافي والحس الجمالي، والتنوُّع الغني للقيم الأخلاقية بطابعها الإنساني العالمي.
ولا رَيْب لدينا بعد كل ذلك في أنه ليس بالفلسفة والعلوم الإنسانية وحدها تحيا المجتمعات، ولكن الوظيفة الإنسانية الاجتماعية الثقافية هي الأساس الرئيس، والراسخ؛ من حيث تضمنها لإمكانيات بناء الإنسان وروحه وهُويته ونمط تفكيره. فإذا كانتْ العلوم المادية والتقنية تصنع الجسد، فإنَّ الفلسفة والآداب والعلوم الإنسانية، والفنون، تهذِّب الروح، وليس من الحكمة إهمال إحداهما لصالح الأخرى.
وأخيراً.. وإذا كان لا بد من إيماءة إلى العلوم الاجتماعية الإنسانية، فإن الفلسفة تمدُّ هذه العلوم بالأساس النظري المنطقي، و”التعقيلي” المعياري، اللازم لضبط علميتها ومنهجيتها، ولا يُمكن تصوُّر علم من العلوم الإنسانية اليوم -من علم النفس إلى علم الاجتماع، والتاريخ، والسياسة، والقانون، والتربية، وحتى اللغة والآداب- دون هذا الأساس، الذي كوَّن منظورات ونظريات التحليل والفهم والتفسير المختلفة في العلوم؛ وفيما بين العلوم؛ ليس العلوم الاجتماعية الإنسانية فقط، بل والعلوم الطبيعية أيضاً؛ حيث تشكل الفلسفة أرضية الدراسات البينية، وأساس تضافر العلوم في تكوين رؤية العالم المعاصر.
أمَّا ما بعد أخيراً، فهذا خطابٌ، أو ادعاء، مُنسجم مع مبادئه الفلسفية العقلانية النقدية الحديثة؛ لذلك فهو قابل للاختلاف والنقد.
5,698 total views, 2 views today
Hits: 679