صفية البكري
عضو رابطة الكتاب الأردنيين
مقيمة في الكويت


وميض خاطف يلفني ، يحاصرني، أحس باعياء مفاجئ، أكاد أسقط أرضا، أختنق، طيف لسماوات عظام يظللني، يخطفني بعيدا وجسدي يرتشف غيوم المكان.

ضجيجٌ يعمر الرصيف بأرضيته المتيبسة الضيّقة، فقد جعلني إعيائي المفاجئ بذكرياتي الماضية مع صديقتي القديمة أنحني في أحد جذوعه …

 في طفولتي كنت ساذجة كما هي حالي  الآن، لكنني اللحظة أشد من ذي قبل.

كنت قد توقفت بمحطة النقل الاولى، أبصرته ومعطفه الاسود الثقيل يخفي نصف وجهه، وحذاؤه الشتوي ذو الرقبة المرتفعة كنهار معطل المبيت، حقيبته ترتجف تحت قفازه الاسود.

الطقس بارد وخامل، فلا ريح تهز الغيمات لتمطر، ولا هبة ساخنة من رياح الخريف تخمد هذا الصقيع.

نعم، أبصرته يعدو متجاوزا كل الوقوف، انفتحت حقيبته وانفرطت أسراره على الارض !!!.

عشرات من الصور واللوحات الصغيرة، وصوت تكسّر زجاج، واطار بلون الفضة  مفكوك الجانبين، تفر من بين أنيابه صورة مرسومة بطريقة غبارية وغبية.

لا أدري ما الذي دفعني للاقتراب منه، قدماي تقودانني الى حيث الصورة القريبة جدا، والريح تعزف خوفا جبليا لمطاريد الغبار …

ارتجافات تهزني، وجسدي يتشبت بنيران تنبعث من فمي، لكن أسناني تصطك فلا أستطيع حتى أن أتم السؤال على نحو ما أرى.

وعلى الرغم من أن جميع الواقفين لم يفكروا حتى في متابعته وهو يلملم أشياءه، ناولته الصورة وتمكنت من رؤية وجهه على نحو صريح.

ودخان سيجارته يصطدم بوجهي، سعلت على نحو منخفض وتمتمت … فأنا أكره رائحة التبغ، عينيه العسليتين من تحت منظاره الطبي، وشاربه ولحيته البسيطة التي يغزوها الشيب، لا أدري لماذا أدركت أنه ربما عازف بيانو أو رسام أو ربما روائي يعشق الكلاسيكيات ، فهيئته تشي بذلك.

اعتدل بوقفته وقال: أعتذر آنستي  أل … لم أقصد مضايقتك بسيجارتي، واشكرك على لملمة الصورة، وأعتذر مجددا لما سببّه لك زجاج الصورة المتناثر من جرح.

 كنت فقط أتأمل الصورة ولم أكن أعي ما يقول سوى نظراته المبعثرة التي نبّهتني الى خيط الدم النازف من ابهامي، فهمّ يحاول ايقافه، وبالكاد نزعت أصابعي بقوة من بين يديه المبطنتين بمنديل لا أحتمل النظر اليه، وصحت بغضب: كيف تجرؤ؟ شعرت باحمرار وجنتي الذي تجاوز حمرة قطرات الدم، فغمرت منديله الازرق المتعفن، وسارعت بالقول: لا بأس .. أعجبتني الصورة ولم أتخيلها تطير مع هبة ريح بآخر هذا الخريف.

ضحك بدهشة تجمّد خلالها الدم في عروقي من فرط الخجل “عكس خلق الله “.

 طلب مني الاحتفاظ بالصورة ذات الاطار المفكوك، ولكن بعد تنفيذ شرط يسبقها، وكالعادة حجم دهشتي لا يوازي أبدا قبول تلك اللوحة، قال وهو يعاود نفث دخانه المتطاير من بين شاربيه المتباعدتين:

–  اجعلي للصورة اطارا يضاهيك !!! بل وأكثر !!! كنت أحاول معرفة ما يعنيه حينما طلب أن يرسم وجهي كما ألحّ، ولكن على طريقته الكلاسيكية !!! أقصد الغبارية.

أمسكت بالصورة التي يحويها بقايا اطار مكسور الزجاج مقطع جانبي لوجه امرأة تبكي، فباغته بسؤالي: كيف أوافق على شرط  لم أقبل جزؤه الاول وأنا لم أرك قبلا ولا أظن أنا أحدا هنا يعرفك.

ابتسم وتلاشت عيناه مع ارتفاع وجنتيه النحيلتين.

–  فقط قفي لبعض الوقت ودون حركة، الحديث معك مسل وممتع ومضحك على نحو واسع.

امتثلت أمامه كقطة جاري العجوز الذي أحس بذنب نحوه، أوكلت اليه مؤخرا البحث عن”كرت الجنة” والذي لطالما سيلهيه التفكير بأنه نسيا منسيا وقد يفارق الحياة بأي لحظة ويترك وراءه كل ما يمتلك وعكازه وقد لا يجد كرت الجنة ليعبر الباب بسلام، كل ما أردته أن يستمر بالحياة دون ملل.

امتثلت أمامه وأنا ما زلت اتكئ على أحد أعمدة الهاتف القريبة من الرصيف بسذاجتي المعهودة، ما الذي سيحدث لو رآني أخي أو أمي على الاقل؟

وبدأ برسم اللوحة وسيجارته على جانب فمه، ينفث دخانه كما يشاء وقد اعتذر قبل لحظات بسببها.

غطت يقظتي في شرود: هذا الرجل مختلف قد يكون بحجم غرابتي، ولكن من هي صاحبة الصورة؟ وكز شرودي بسؤالي: يا ترى ماذا  سأسمي الصورة وقد اعتدت تسمية اللوحة قبل رسمها، أيقنت بأنه رسام متجول، صرخت بوجهه: وأجبت دون تفكير: ” دخان “.

تعجّب ورفع حاجبيه وخلع منظاره الطبي وتوقف عن اتمام اللوحة وكرر .. دخان … دخان !!! يا … أأسمي اللوحة دخان؟

قلت: نعم، كتلك اللحظة .. كل اللحظات الحلوة أخالها دخانا يتطاير بعد ثوان !!!

قد يظن أن سيجارته السبب … لم أعبأ، تابع الرسم وهو ينفث:

–  جميل جدا أن تتبخر تلك اللحظات، فانها إن تكررت، فلن تبقى في الذاكرة لحظة حلوة، ستموت بالاعتياد، أنظري مثلا لتلك اللوحة التي بين يديك والتي لم تعجبك طريقة تصويري لها، رسمتها منذ نحو عامين، وأنا هنا في مدينة عمان، وفي وقت خريفيّ تماما كما هذه الايام، وبيني وبين أرضي ساعات من الغربة والوجع، كنت يومها أرقد في احدى أسرة المشفى المجاور للمدينة الرياضية، باغتتني سيدة في أواخر الثلاثينيات بزيارة عابرة، بيضاوية ممتلئة الوجه، متوسطة القامة، تشع من عينيها لمعة كتلك اللمعة التي تبرق من عينيك الصغيرتين، لا أعرفها ولم أرها من قبل، وتركت باقة من الزهور الى جواري دون أن تنبس ببنت شفه، تكرر هذا المشهد ثلاث مرات على مدى ثلاثة أيام، فأستيقظ عند الصباح لأجد باقة من الورد لا رائحة تنبعث من فجواتها، حتى انتظرتها في اليوم الرابع، وجاءت برسالتها الوردية المعتادة حاولت ان أتحدث معها للاستفسار فقط، حالما خرجت ولم تأت، انتظرتها طويلا، سألت عنها الممرضة التي رمقتني بشيء من الغضب لم أجد له تفسيرا، فأخبرتني وهي تعاود مسح الابرة بنسيج مقعم، بأن تلك المرأة توفي عنها زوجها على الفراش ذاته الذي أستند فوق وسادته العالية، وهو عاشق للزهور، وقد اعتادت زيارة كل مريض يأتي الى هذا السرير لتهديه الورود، وانها لطالما سمعت من زوجها كلاما معسولا لم ينفثه في زواجهما الطويل.

  • صدقيني يا … ما اسمك بالمناسبة؟
  • أصدقك بماذا ؟ اسمي لا يعنيك، أكمل فحسب.
  • حسنا أيتها الشابة ال … صدقيني تمنيت بعدها أن تعود وبشدة، أريد أن أطلب اليها أمرا لا أكثر، فتماثلت للشفاء وانتظرتها بغير أمل، وعدت في زيارة عاجلة لنفس الغرفة أرقب طيفها دون فائدة، فرسمتها دون أن تكون جالسة أو واقفة أمامي مثلك يا من لا ترغبين ذكر اسمك.

–  أخيرا  … ها هي لوحتك قد اكتملت.

نظرت الى اللوحة بصمت مطبق بابتسامتي الفاضحة، انها بالفعل صورة طبق الاصل لملامحي على طريقتك الغبارية الكلاسيكية، لم يفهم ما أعني طلبت منه أن أحتفظ بها … إلا أنه ذكّرني بشرط لوحته الاولى.

هززت رأسي، طويت اللوحة بين دفتي حقيبتي السوداء وأطبقتها تحت ذراعي، أردت أن أشكر الرجل ، فأبصرته … ولكنني وجدته وقد مشى أكثر من خطواتي العشر التي ترهبني.

غادر الرصيف، فيما رحت أتقدم باتجاه المنزل ، أقترب وغيوم السماء تلتحم بأخرى على حين غرة من نسيان قريب، وأنا أقول في نفسي ربما أراد أن يطلب اليها زهورا برائحة عطرية … أو ربما … أو …

أما هو ظل يبتعد ويغيب تماما كالدخان .

 3,407 total views,  2 views today

Hits: 127