دور القيم في ثقافة السلام
د. صالح الفهدي
تشكِّلُ القيم مرجعاً أصيلاً في بناءِ شخصية الإنسان بناءً سليماً، متعامد الأركان، متوازن الجوانب نفسياً وجسدياً وفكريا وروحياً، ذلك لأنها القاعدة التي يقومُ عليها البناء الشخصي، والمنبع الذي تستقى منها المباديء والمُثل الفاضلة. ولهذا كانت رسالة النبي صلى الله عليه وسلم واضحة لإتمام مكارم الأخلاق، أي القِيم.
لهذا وصف الله سبحانه وتعالى الدّين الإسلامي بقوله عز وجل “ذلك الدِّين القيِّم”[الروم:30]. فهو دينُ القيم التي أعلت شأنه، ورفعت عماده. وإذا كانت المجتمعات الإنسانية لا تقومُ إلاّ على القيم في نمائها، وتقدّمها فإنه أصبح من غير المجدي إضاعة الوقت في أهمية الدور القِيمي لحماية المجتمعات الإنسانية من الإنحراف، والضلال، والإستبداد، والظلم.. يقول المفكر الفرنسي جاك بيرك : « أعتقد أن من المستحيل أن يصل شعب من الشعوب إلى مستقبل سليم دون احترام القيم وإحيائها».
لقد سُألت ذات مرة في لقاء صحفي: هل نحن محتاجون للحديثِ عن القيم؟ فكانت إجابتي هي: ليس المجتمع وحسب بحاجة للحديثِ حول القِيم وإنّما العالمُ بأسره..!! وقلتُ للسائل: سأعطيك دليلاً على ذلك ففي عام 2001 عقدت منظمة التربية والثقافة والعلوم اليونيسكو عدة جلسات حوارية تحت مظلّة “محاورات القرن الحادي والعشرين” شارك فيها عشرات المفكرين من مختلفِ أرجاء العالم للنقاش حول موضوع عنوانه”القيم إلى أين؟” وقد صدرت النسخة العربية في كتاب يحمل نفس العنوان صيف 2005م. هذا يعطيك دليلاً بارزاً على أن هناك استشعاراً دولياً ثقافياً بوجود تغيير على صعيد المنظومة القِيمية في أصعدةٍ واتجاهاتٍ مختلفة لا نريد الخوض فيها حتى لا نثقل على القاريء. أضفت قائلاً: “في الغرب وخلال القرنين التاسع عشر والعشرون ارتكزت التساؤلات الفلسفية في مسألة القيم لدى فلاسفة من أمثال “نيتشه” و”ميشال فوكو” و”هايدغر”، وفي العصر التنوير في القرن الثامن عشر يقول فولتير”لا يوجد إلا منهج أخلاقي واحد، كما لا يوجد إلا علم هندسي واحد” .. هذا يقين مستمد من الإيمان بالخالق ورسالته على الأرض، لكن الإشكالية في نظر “جيروم بندي” تكمن في “المحاولات المتعددة لتجريد القيم من قدسيتها وتحويلها إلى أغطية أيديلوجية تتستر خلفها آليات سلطوية أسهم في زعزعة الإعتقاد الفلسفي والديني والفني بالحق والخير والجمال كقيم مطلقة”. وأردفتُ متابعاً الإجابة على سؤال الصحفي بالقول: “أجد نفسي متفقاً في الكثير مما قال كويشيرو ماتسوا الأمين العام الأسبق لمنظمة اليونسكو “أن الأزمة التي نجتازها تدل على أننا أضعنا بوصلتنا الأخلاقية، ولم نعد نتمكن من تحديد الإتجاه الصحيح. لا توجد أزمة قيم –وعندنا منها الكثير- بقدر ما توجد أزمة في تحديد معنى القيم وفي الإستعداد والأهلية لإدارة شؤوننا فالمسألة الملحّة تتلخص إذن في معرفة كيفية توجهنا بين القيم”.
ولأن العالم قد أضاع بوصلته القيمية فقد انحدر في طرق زلقةٍ، وصراعات دموية، واقتتالات طائفية، ومذهبية، وجهوية وما شابه ذلك من هذه السقطات الإنسانية الوضيعة التي يتخبط فيها الإنسان وكأنّما هو في مستنقع وحلٍ يعمّه الظلام الموحش في حين تحمل أياديه شتى أنواع الأسلحة الفتاكة ووسائل الفتكِ والدّمار ..
هذا المشهد الدموي الذي مزّق أثواب السلامِ البيضاءِ الطاهرة، دفعني لعمل مبادرة شخصية أسميتها “مبادرة نداء السلام” جمعتُ فيها 155 طفلاً من 65 جنسية ليرفعوا نداء للسلام، عبر رسوماتهم البريئة، فكان للمبادرة صدى واسعاً حيث شاركتنا فيه منظمة الأمومة والطفولة التابعة للأمم المتحدة (اليونسيف) وباركتها منظمة التربية والثقافة والعلوم (اليونسكو) ..
ما الذي يمكنُ إذن أن تفعله القيم لترسيخ ثقافة السلام؟
هذا السؤال يلزمنا بإجابةِ سؤال ملح قبله: ما مدى فاعلية القيم في تشكيل شخصية الإنسانِ، وتهذيب سلوكه؟
تعتبرُ القيم الإنسانية أكان ذلك في رسالات الأديان، أو دعوات المصلحين الإجتماعيين، أو الأعمال الإنسانية السامية قواعد تشكّل المنظومة الأخلاقية التي ترتبطُ بها الفطرة الإنسانية السليمة.
وتأسيساً على ذلك فإن القيم هي المرجعية الأصيلة لبناءِ شخصية قوية، متماسكة، تستطيع أن تتعاطى مع شؤون الحياة، وتتعامل مع البشر وفق معطيات واضحة تمكّنها من الإرتكاز عليها في مختلف المواقف والأحداث والقرارات المختلفة.
ويبدو ذلك واضحاً جداً في طبيعة الشخصية الإنسانية التي تمتلك أو تفتقد إلى قيمة معينة كالصدقِ مثلاً أو الإحترام أو الأمانة وغير ذلك.. فإن افتقدت هذه الشخصية إحدى القيم فإنها لاشك ستنحدرُ إلى طريق لا يحمدُ عقباه، ونالها الخسران كنتيجة واقعية على ما قامت به بسبب افتقادها إلى تلك القيمة الأساسية في شخصيتها، أما امتلاك القيم فسيرفع ذلك الإمتلاك شأنها، وسيكون لسمعتها بين الناس الأثر الطيب.
إذن فالقيم تشكّل حاجزاً وضابطاً يمنعُ الإنسان من الإنحراف عن الجادّة التي رسمتها له القيم الفاضلة التي تتسقُ مع الفطرةِ السليمة، كما أنها ضامنة له لكي يصل إلى يصبو إليه من طموحات شريفة. لقد كانت الإنحرافات الأخلاقية سبباً وراء انهيار الأمن، وهشاشة مفهومِ السلام في بعض المجتمع وذلك لأن الإنحرافات الأخلاقيات تُخرج السلوك البشري من دائرة التقيُّد بالنظم والقوانين والأنظمة التي تضبطها القيم الإنسانية فضلاً عن أنها خروج عن الفطرة الإنسانية السليمة التي أكدّت عليها الرسائل السماوية للأديان.
دور القيم في ترسيخ ثقافة السلام:
السلامُ في حدِّ ذاته قيمة رفيعة تطمحُ إليها الشعوبُ الراقية، ويسعى إليه القادةُ المصلحون في الأرض، ولا شك بأن افتقاد الوازع القيمي السليم يقودُ إلى وأدِ قيمة السلام..
وهنا نضربُ المثلَ في السلام والعنف بالقصة التي حدثت بين أبناءِ سيدنا آدم عليه السلام قابيل وهابيل في بداية الحياة الإنسانية على ظهر الأرض.. قصّة توضّح سمة الحقد والحسد عن قابيل وهي صفاتٌ تحاربُ السلام الذي كانت نفس هابيل ترتقي به في قوله ” لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ۖ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28)
وعلى ذلك فإن التعارض النسبي بين السلام والعنف يبدو واضحاً لا يحتاجُ إلى دليل، فكلّما ارتقى المجتمع في قِيمه انخفضت درجة العنف فيه أو تلاشت، أمّا إذا انحدر في قيمه فإن العنف سيطفو كسلوكٍ قبيح بين أفراده، فيهدِّد أمنه واستقراره.
ومن هنا فإن بناءَ السلام الذي يقود إلى تطوِّر الحضارات يرتهنُ “بقدرة المجتمعات على مواجهة العنف الاجتماعي، وتجفيف مصادره، وتقليص آثاره إلى الحدود الدنيا” ذلك لأن نتائج العنف مدمّرة على الأفرادِ والمجتمعات والمجال البيئي بصورة أوسع.
القيم الأخلاقية تحصّن المجتمع من الإنحرافات:
إن الإنسان الذي يفتقدُ إلى القيم الحصينة لا يصبحُ في مأمنٍ على نفسه من أن تطأ قدمه طريق الخطيئة الزلقة، وأن يُلقي بنفسه في مستنقعات الرذيلة العفنة، كما لا يجدُ ما يمنعه من مصاحبة رفقاء السوء، أو يحميه من الإصابة بالأمراض النفسية التي تبعده عن المجتمع، وتُلقيه في أحضان أمراض العزلة والإكتئاب والقلق ثم تجرّه إلى عوالم إدمان المخدرات أو أوكار الفاحشة أو تصيبه الإعتلالات النفسية الفتّاكة، التي يتغيّر سلوكه بسببها فيصبحُ حادّ الطبع، عنيف السلوك، منطويا على ذاته، لا يعنيه أمر الآخرين من أفراد المجتمع، ولا يتفاعل مع مشاعرهم أو قضاياهم مما يعني أنه أمر ضررهم عنده يصبح هيّناً في أيّة لحظة تطغى فيها أنانيته، وتعظم فيها نزواته.
وفي المقابل فإن الإنسان الذي يتسلّح بالقيم السامية الحميدة يكون محصّناً ضد الآفات من الأمراض والإعتلالات النفسية، ومصاناً من الإنزلاقات والإنحرافات الخلقية، ومحميّاً من الرِّفقة الفاسدة، وآمناً من الوقوع في براثن السوء، وأوكار الخنى، وأرجاس الفاحشة.
إن ترسّخ القيم الأخلاقية في المجتمعات الإنسانية يقيها من عوارض الإنحرافات، ويحفظها من الأمراض القلبية كالحسد، والحقد، والضغينة، والبغضاء، والغيبة، والنميمة وغيرها، كما يحصِّنها من الغدر، والمكر، والغش، والإحتيال، والكذب، فيصبحُ الجميع على كفةٍ واحدة في ميزان العدل والمساواة، وتسود الثقة بين أفراد المجتمع، وتصبح للكلمة بينهم قيمة عليا، وللمصلحة القائمة على منفعة الجماعة المنزلة الأعلى فوق المنافع الذاتية.
القيم هي الحصنُ الآمن للمجتمعات الإنسانية:
لا ريبَ أن الشواهد التاريخية تنبّأُ عن الخراب الذي أودى بالمجتمعات الإنسانية التي أصابها الإنحلال الأخلاقي، والإنحدار القيمي وذلك لأسبابٍ شتى من ذلك الترف في الماديات، والتبذير في الثروات والنّعم، والفساد المادي والأخلاقي، وممارسة الإستبداد والتعسف، وانتشار الظلم، وغير ذلك مما يعدُّ أسباباً خارجة عن القيم السوية انحدرت بها إلى هوة سحيقةٍ تلاشت فيها من التاريخ.
أما المجتمعات التي حصّنتها القيم الفاضلة، فقد شهد التاريخ على أثرها في تقدّم الإنسانية، وسمو مقاصد أعمالها الصالحة التي قصدت بها تنمية الإنسان من جميع النواحي. هذه القيم تعدُّ أثمن ما تملكه الأمم، وأعظم ما تحرصُ على بقائه لأن مصيرها متعلقٌ به، وفي ذلك يقول دوركايم بقوله :”الأمور الأخلاقية لها قيمة لا تقاس بسائر القيم الإنسانية، وآية ذلك أننا نضحي بأنفسنا من أجلها مما يدلُّ على أنها لا نظير لها، والعواطف الجماعية هي التي يتوافر فيها هذا الشرط ولأنها الصدى في نفوسنا لصوت الجماعة العظيم”، وإيجازاً لذلك فإن القيم هي أساس التنمية، ومحرّك التقدم، وصمّام الأمان للمجتمعات.
وفيما يلي أستعرضُ بعض القيم الأساسية لترسيخ قيمة السلام في المجتمعات:
أثر قيمة التعايش السلمي
التعايش السلمي هو نتيجة القدرة الإنسانية على تحقيق مصالح مشتركة في إطار جغرافي واحد، ويأتي ذلك كمحصّلةٍ لتجاوز البشر الإختلافات الفكرية، والدينية، والعرقية، وغير ذلك مما يعدُّ فارقاً بين فئةٍ وأُخرى.
هذه القيمة الإنسانية الرفيعة تتجاوز معنى الإختلاف وتتأسس على معنى التعارف المبني على الإحترام، وتبادل المصالح المشتركة في إطار من القوانين المنظمة، والأفق الفكري والنفسي الواسع. انطلاقا من قوله تعالى ” يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13/الحجرات).
وفي مسعى التعايش السلمي ضرب لنا قدوتنا الحسنة، نبينا الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام مثلاً عظيماً لإرساء مبدأ السلام الذي جاءَ به الإسلام وذلك من خلال معاهدة المدينة التي أبرمها مع الطوائف الأُخرى في السنة الأولى لوصوله المدينة وتأسيس الدولة الإسلامية. حيث اعتبرت بمثابة “أول دستور مدني في التاريخ، واعتبره الكثيرون مفخرة من مفاخر الحضارة الإسلامية، ومَعلَمًا من معالم مجدها السياسي والإنساني” .
سعى النبي الكريم في هذا الدستور إلى “تنظيم العلاقة بين جميع طوائف وجماعات المدينة، وعلى رأسها المهاجرين والأنصار والفصائل اليهودية وغيرهم، يتصدى بمقتضاه المسلمون و اليهود وجميع الفصائل لأي عدوان خارجي على المدينة” . وبموجبه يوافق الجميع بما جاء فيه من بنود منصفةٍ للفصائل الموقعة عليه، وبناءً على ذلك “صارت المدينة المنورة دولة وفاقية رئيسها الرسول-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وصارت المرجعية العليا للشريعة الإسلامية، وصارت جميع الحقوق الإنسانية مكفولة، كحق حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر، والمساواة والعدل” .
يقول المستشرق الروماني جيورجيو
”حوى هذا الدستور اثنين وخمسين بندا، كلها من رأي رسول الله. خمسة وعشرون منها خاصة بأمور المسلمين، وسبعة وعشرون مرتبطة بالعلاقة بين المسلمين وأصحاب الأديان الأخرى، ولاسيما اليهود وعبدة الأوثان. وقد دُون هذا الدستور بشكل يسمح لأصحاب الأديان الأخرى بالعيش مع المسلمين بحرية، ولهم أن يقيموا شعائرهم حسب رغبتهم، ومن غير أن يتضايق أحد الفرقاء. وضع هذا الدستور في السنة الأولى للهجرة، أى عام 623م. ولكن في حال مهاجمة المدينة من قبل عدو عليهم أن يتحدوا لمجابهته وطرده” .
هذه الوثيقة تعبِّر بجلاءٍ تام على أن الإسلام –دينُ القيمِ السامية- قد جاءَ لإفشاء السلام، فقد اقترن اسمه بالسلام، وهدف سعيه إلى إشاعة القيم الحميدة الرامية إلى توطيد السلام بين أبناءِ أب البشر آدم عليه السلام.
التسامح فن العيش المشترك:
إذا كان التعصّبُ يعني الإنحياز الأعمى للذات ورفض الآخر المختلف عنّا فكراً وعقيدةً مما يعني خلق إشكاليات معقّدة في المجتمعات الإنسانية، فإن التسامح هو فضيلة الرقي الإنساني في التعاطي مع الآخر المختلفِ عنّا في قناعاته وأفكاره، وفق ضوابط معيّنة فـ”التسامح بالمعنى النبيل لا يستند إلى أساس التساهل، ولا الشهامة والضعف، ولا الحساب النفعي أو الذرائعي، إنه الاعتراف بتعددية المواقف الفلسفية الإنسانية، والإعتراف بتنوع الآراء والقناعات والأفعال، والأخلاق الناجمة عنها وبضرورة التوفيق بين تبايناتها الحاسمة وتنافراتها ضمن نظام مدني سياسي” .
وإذا كانت الأشياء تتمايز بأضدادها فإن التعصّب المدمّر قد حكم بالمواتِ على العيش الإنساني المشترك، في حين فإن التسامح أحياهُ على مبدأ سامٍ يقوم على تقدير الإختلاف وعدم إقصاء الآخر المختلف وفق نظامٍ حقوقي رفيع، والتسامحُ بهذا “يرتبط ارتباطا عميقا بمفهوم السلام، فالسلام هو لازمة طبيعة لمفهوم التسامح فإذا كان السلام هو غياب الحرب، ووجود الأمن فإن هذا يعني وجود التسامح كضرورة حيوية لمفهوم السلام. وهذا يعني في نهاية المطاف أن التسامح والسلام هما مفهوم واحد بوجهين متشابهين إلى حد كبير” .
العدلُ والحق والمساواة أُسس السلام
حين كان مبعوث كسرى يبحثُ عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وجده نائماً تحت شجرة، فقال مقولته المشهورة “حكمت فعدلتَ فأمنتَ فنمت” فالعدلُ هو مؤسس السلام، وهو لبنةُ البناءِ الصلبةِ في الأوطان، إذ أن أية دولة تحيد عن العدلِ هي دولةٌ هشّة البناء، متداعية الأركان. ذلك لأن “العدل أساس الملك” فهو القائم على تجاوز الأهواءِ والعواطف والإنفعالات مع جميع الناس على اختلاف أجناسهم، ومراتبهم، وألوانهم، فلا تعيقه ضغينة في النفس، ولا يتحيّزُ إلى هوى، أو يميلُ إلى مصلحة قال تعالى: ﴿ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ [المائدة: 8] أي: لا تدفعكم خصومتكم لقومٍ من الأقوام على أن تظلموهم حين تقيمون العدل، بل أن تترفعوا في أحكامكم عن كل هوى، وتتنزهوا عن أيّة مشاعر شخصية.
فإذا تم ذلك للعدلِ كان أساساً قويماً للأمنِ في الأوطان، إذ يشعرُ كل فردٍ بأنه في مأمنٍ على نفسهِ، وأهلهِ، وعرضه، وماله، وهذا ما يشيع السلامَ ويقوي أثره، ويوسّع ظلّه.
الأمانة والاخلاص أعمدة البناءِ المجتمعي
تعدُّ الأمانة قاعدة المعاملات التي يقوم عليها البشر، وأساس الحكمة في بناءِ الدول، وإدارة شؤون الأفراد فيها، فلا سلام دون شيوع الأمانة بين أفراد المجتمع إذا تفشّى الغشُّ والفسادُ والنَّصْبُ والإحتيال والتدليس والكذب، لهذا يحذّر النبي صلى الله عليه وسلم من غياب الأمانة في ركنٍ مهم من أركانها وهو الركن الخاصُّ بإدارة شؤون الدول، حيث يقول ((إذا ضُيِّعَتِ الأمانةُ فانتظر الساعة, قال: كيف إضاعتُها يا رسول الله؟ قال: إذا أُسندَ الأمْرُ إلى غير أهله، فانتظر السَّاعة)) .
ولا يجدُ عليه أزكى صلاة وتسليم غضاضة من إخراج الغاش من ربقة الإسلام بقوله “من غشّنا فليس منّي” وذلك حينما أدخل يده الشريفة في طعام فوجده أسفله مبلولاً بالماء. وهنا يرتبطُ مفهوم السلامِ بالأمانة والإخلاص فيها ارتباطاً قوياً إذ أن المجتمعات التي يضيّع أفرادها ما أئتمنوا عليه من الواجبات والمسؤوليات بالإفسادِ فيه، والغش، والإهمال، والإرتشاء، وعدم الإكتراث، وقضاء المصالح الشخصية، والمحسوبيات فإنها تفتقدُ إلى السلامِ في مفهوم الشامل.
الخيرُ والإحسانُ والعطاء قيمٌ تقوي لحمة المجتمع
لنا أن نتخيّل صورة مجتمعٍ يتعاونُ أفراده فيما بينهم من أجلِ مساعدة المحتاج، والتفريج عن الفقير، ومساندة المعوز، وكفالة اليتيم، وإعانة الملهوف.. هذا المجتمع بلا شك قوي الأواصر، سميك الأركان، وهذا ما عناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله “مَثَلُ المؤمنين في تَوَادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفهم: مثلُ الجسد، إِذا اشتكى منه عضو تَدَاعَى له سائرُ الجسد بالسَّهَرِ والحُمِّى” ، فإحسان الغني للفقير، ومساعدة القوي للضعيف، ونجدة الموسر للمعسر، تشيع المودة بين مكوناته، وتقويّ العاطفة الإنسانية فيه، الأمر الذي يشيع السلام بين أفراده، وربوعه.
إن المجتمعات التي تنتشرُ فيها الأثرة، والمصالح الفردية، والجشع، تنتشرُ فيها الجرائم التي يكون دافعها في الأصل رغبة الإنتقامِ من المجتمع، والثأر مما يلقاهُ الفردُ فيه من عدم اهتمام ولامبالاة خاصة من أولئك الذين يملكون الثروة فيه، فلا يعنيه أمرَ الفقراءِ فيه، ولا حالة المعسرين، ولا شقاء المعوزين. ولا شك بأن كثيراً من الثورات قامت ضد الإقطاعين في أوروبا على سبيل المثال، وعلى المترفين في دولٍ عربية. وبناءً على ذلك فإن الإحسان والعطاء من خلال أبوابٍ كثيرة تحفظُ للمجتمع سلمه وأمنه، وهي واجبٌ محتم على القادر الذي رزقه الله مالاً ليعين به المحتاج، ويسعف به الفقير من أجل أن تسود الطمئنينة والمودة سائر أفراده.
الإطار القيمي يصنع التوازن في العلاقات الإنسانية
إن العلاقات الإنسانية السليمة هي التي تقوم على شيوع الإحترام والرحمة والمودة والسماحة والإعتدال، إذ أن هذه العلاقات هي التي تقدّر الذات البشرية، وتجعل لها قيمتها وتحفظُ لها كرامتها، وعلى ذلك تقوم أُسس العلاقات الراقية بين أفراد المجتمع، وتقوِّي اللُّّحمة الوطنية. يقول مارتن لوثر :”ليست سعادة البلاد بوفرة إيرادها، ولا بقوة حصونها، ولا بجمال بنائها، وإنما سعادتها بعدد المهذبين من أبنائها، وبعدد الرجال ذوي التربية والأخلاق فيها”
ولا شك أن الإسلام قد حضَّ على الأخلاق وجعلها غاية العبادات، ورفع صاحبها منزلة رفيعة، لأنها في المنظور الإسلامي هي أساس تقدُّم الشعوب، ورفعة شأن البشر؛ فبالقيم الأخلاقية تسود روح الأخوة، وتتوطد المحبة، ويقوى التضامن بين أفراد المجتمع، قال تعالى “واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا” (103-آل عمران).
الإحترام والتوقير قوام العلاقات الإنسانية:
العلاقات القائمة على الإحترام والتوقير بين أفراد المجتمع هي الأساس الذي ترتهن إليه قوة المجتمع لا المال، يقول عليه أفضل الصلاة والسلام:”إِنَّكُمْ لا تَسَعُونَ اَلنَّاسَ بِأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ لِيَسَعْهُمْ بَسْطُ اَلْوَجْهِ، وَحُسْنُ اَلْخُلُقِ” فلا قيمة للإنسان المغرور، المتعالي الذي يرى الآخرين من منظور الإستخفاف والاستحقار، ولذلك فإن السنة النبوية كانت حازمة في التعامل مع هذه النوعية من طبائع البشر بقول المصطفى عليه أفضل صلاة وأزكى تسليم :” لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ، قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا، وَنَعْلُهُ حَسَنَةً، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ” ، وفي المقابل حظ على الإحترام وتوقير الناس، وإنزالهم المقام اللائق بهم نظير شرفهم أو علمهم أو منزلتهم في قومهم، أو رجاحة عقولهم، يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “أنزلوا الناس منازلهم” ، وحذّر كل من يقسو على الصغير ولا يقيم وزناً للكبير لقوله عليه أفضل الصلاة والتسليم: “ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويعرف شرف كبيرنا” .
إن قيم الإحترام والتوقير والتواضع هي التي تجعل للفرد قبولاً اجتماعياً عند الناس لا ماله أو سلطته أو نفوذه، وبهذا تتحقق سعادته وسعادة المجتمع، ويتناغم الجميع في علاقة تزكو بها الأنفس، وترتقي بها المشاعر. فالتهذيبُ هو الحبل الجامع لفتائلِ قيم العلاقات الإنسانية، وبه ترقى المجتمعات، ويسمو الأفراد، يقول أوجست كانت : « إن النقص الحاصل من إهمال التهذيب أشد وطأة وأضر بالإنسان من نقص التعليم»
قيم التسامح والوفاق والتآلف
لبنات العيش المشترك:
يقول مارتن لوثر : « ليست سعادة البلاد بوفرة إيرادها، ولا بقوة حصونها، ولا بجمال بنائها، وإنما سعادتها بعدد المهذبين من أبنائها، وبعدد الرجال ذوي التربية والأخلاق فيها» وطبقاً لذلك فقد كان الشقاء مآل المجتمعات التي عصفت بها النعرات الطائفية، وبدّدتها العصبيات الدينية، أو القبلية أو غير ذلك من التحزّبات بالأوطان، ودمّرتها تدميراً عظيماً أتلفت فيها مقدراتها، ومكتسباتها، وأحالت العيش فيها مستحيلاً وذلك بسبب الإنحدار القيمي الذي غلبت عليه الأنانيات، والأفكار الرخيصة، والفتن، فلم يأمن الفرد فيها صيانة عرضه، وحماية ماله، بل شاع فيها الخوف، واضطرب فيها الأمن.
بالمقابل فإن قيم التسامح والوفاق والتآلف قد عزَّزت شيوع السلام في المجتمعات الراقية، تلك التي اعتلى أفرادها فوق هذه النوازع الفردية، والنزوات الشخصية إلى مراتب إنسانية عُليا، توحّدوا فيها لصنع مستقبل مشترك، وتعاونوا فيها لتقرير مصيرٍ موحّد، فعم السلم، وشاع الأمن، وسكنت الطمأنينة في النفوس.
القيم الفلسفية المؤسسة للتجربة العمانية في صناعة السلام
عمانُ صانعةُ السلامِ. وصناعةُ السلامِ أجلُّ وأعظمُ صناعةٍ على وجهِ الأرضِ في الوقتِ الرّاهن. وإنّ من أبرزَ ما سيخلّده التاريخ عن عهدِ جلالة السلطان قابوس-حفظه الله ورعاه- هو صناعته للسلام.
إن وراءَ صناعةِ السلامِ فلسفة عميقة تمتدُّ بجذورها إلى النفس الإنسانية في منابعها الصافية التي لم يكدّرها بعدُ أي مكدّر خارجي، يقول (مارفين غاي ): “إذا لم تتمكن من إيجاد السلام داخل نفسك، لن تجده أبداً في أي مكان آخر” وهذا ما نجدهُ في الشخصية العمانية المسالمة كثقافةٍ ضاربةٍ في العمق إذ هي شخصية متصالحةٌ مع ذاتها، متسالمةٌ مع نفسها، الأمر الذي انعكسَ على نظرتها للعالم. وليس صحيحاً ما يبرّره من يحدث القلاقل والبلابل للآخرين بأنّهم قدّموا الذرائع، ومهدوا للأسباب، وإنّما الصحيحُ هو أنه لم يصنع السلام في نفسه، لهذا نظر إلى العالم بقتامةٍ وبؤس فخافَ على مصيرهِ من أن يُقضى عليه وهو في ذلك واهمٌ مخادع..!
إن الذي يستشعرُ السلامَ في نفسه، يعيشهُ في واقعه، وعندها يصبحُ مبادراً لأجلِ أن يعمّ السلام ليس في وطنهِ وحسب بل وفي سائر أصقاعِ الأرض، أمّا ذلك المضطربِ في نفسه، الغير متوافق ذاتياً في جوهره فهو الموقدُ للفتن، المشعلُ للحروب، المنشغلُ بالتفاهاتِ من الأمور..!
أمّا عمان فهي في الأصلِ ذاتٌ وطنيّةٌُ مسالمة مع التسليم بالقولِ بأنّه لا يوجدُ على ظهرِ الأرضِ مجتمعٌ متجانسٌ كليّةً لكنّ هناك سمةٌ غالبة تطبعُ الروح الجمعية للوطن وهذا ما حدث مع العمانيين الذين تآلفوا مع بعضهم على اختلافهم وهنا تقعُ الرؤية الفلسفية الثانية للسلام والتي يقول عنها الدالاي مايا :” السلام لا يعني غياب الصراعات، فالاختلاف سيستمر دائما في الوجود .. السلام يعني أن نحلَّ هذه الإختلافات بوسائل سلمية عن طريق الحوار، التعليم، المعرفة، والطرق الإنسانية”.
كنتُ مشاركاً ذات مرّةٍ في حلقة نقاشٍ تلفزيونية مع مفكرين عرب، حينما قال أحد المشاركين: معلومٌ دون شك أن السياسة لا تقوم على أخلاق..! بعده أبديتُ وجهة نظري المختلفةِ إذ قلتُ: إن كانت هذه المقولة واقعيّة في عالمٍ لا يؤمنُ بالأخلاقيات فذلك صحيح، أمّا في عالمنا فهذا أمرٌ لا يستندُ على دليل، فالبرهانُ الأوضحُ لدينا هو الذي يثبتُ على أنّ السياسة التي تطبّقها عمان قائمةٌ على الأخلاق؛ أُنظر إلى اتفاقيات السلام التي وقّعتها عمان مع سائر جيرانها الذين كان بعضهم في يومٍ من الأيامِ أعداءً، أُنظر لمنطلقات السلامِ الذي تبنّته من أجلِ عيشٍ وفاقٍ دائم مع الآخرين أولاَ ينطلقُ ذلك من أخلاقيات العيش الإنساني المشترك المصير..؟! أُنظر إلى سياسةِ العفو والتسامح في الداخل والخارج من أجل استتباب السلام.. أولاَ يستندُ ذلك على قاعدةِ الأخلاقيات المثلى؟!.
صناعةُ السلامِ هي أرقى صناعة على وجهِ الأرضِ لأنّها لا تصدرُ إلاَّ عن نفسٍ زكيّةٍ، تحترمُ نفسها، وتقدّر الإنسانية على اختلافاتها، وتسعى إلى تحقيق غاياتٍ عُليا لشعوب الأرض على قاعدة الإحترامِ المشترك وعدم التدخّل في شؤون الغير، وهذه هي العبارة التي نشأنا ونحن نتلقاها دائماً من رجل السلامِ جلالة السلطان –أطال الله في عمره-.
أما الفلسفة الثالثة للسلام فهي أن صناعة السلامِ لا يمكنُ أن تتم بإخضاعِ الآخر كُرهاً وإذلالهِ قسراً كي يتوائمَ ويتكيّف مع سياسةِ القوي الذي يدّعي صناعة السلام..! هذا أمرٌ لا يتحقق حتى بين الأبِ وأبنائه، أو بين المعلّم وطلاّبه..! لقد أثبتت التجارب العلمية والنفسية والإجتماعية أن سياسة الإكراه والإذلال لن تصنعَ أحراراً بل تخلق عبيداً حاقدين لن يلبثوا عند الفرصة المواتية حتى يثوروا ثورةَ انتقامٍ وثأر..! يقول ألبرت إينشتاين :” لا يمكن المحافظة على السلام باستخدام القوة .. يمكن تحقيق السلام فقط من خلال التفاهم مع الاخرين”. لقد تمسّكتُ عمانُ بهذه الفلسفة منذ نشأة الدولة العمانية الحديثة وجعلتها شعاراً لا تغيّره الأهواءُ ولا العلاقات ولا المصالح إنّما شكّل بالنسبة لها مبدأً من مباديء وجودها كدولةٍ أصيلةٍ، ضاربةٍ في القدم.
فحين كان الآخرون يرون أن تحقيق السلامِ لا يكون بغير القوّة كانت عمان ولا تزال ترى غير ذلك، لأنّها تؤمنُ بأن تحقيق السلامِ بالتقتيلِ والتدميرِ والإذلال قد يوصل الآخر إلى الإستسلامِ ولكنه لن يوصله إلى السلام، وستظلُّ قضيّة الدّم والثأر تتوارثها الأجيال عقب الأجيال..! فالقوي كما يقول فولتير “ليس من يكسب الحرب دائما وإنما الضعيف من يخسر السلام دائما”.
لقد نظرت عمانُ دائماً إلى الجانب الآخر من الإنسانية، الجانب النفسي والعاطفي والأخلاقي، الجانب الذي يمكنُ أن يخضع بالحبِّ والإحترامِ ويستثار بالقوةِ والإذلال..! نظرت لهذا الجانبِ فرأتهُ هو المنفذ الأمثل لصناعة السلامِ مع الآخر، فإذا بعدوِّ الأمس يصبحُ الصديق الحميم لا بالمالِ ولا بالسلطةِ وإنّما بتقدير الذات، واحترامِ الفكر، وخلق الحوار الإنساني على قاعدة ” «إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ» “(الأنبياء/92)، وعلى دعائمِ التاريخ والأرض المشتركَين لا على وقعِ رصاص، ودويِّ المدافع..!
أما الفلسفة الرابعة لصناعة السلام فهي أنّه الإيمانَ بالسلام لا ينطلقُ من موقفٍ ضعيفٍ، ولا نفس متخاذلةٍ، مستكينةٍ، تداري عن ضعفها بإيمانها بالسلام، وإنّما ينطلقُ من قوة الموقف، وسلامةِ المبدأ، وشكيمة النفس، يقول جلالة السلطان قابوس حفظه الله ورعاه :”إنّ السلام الذي نؤمن به ليس سلام الضعفاء الذين لايقدرون على ردِّ العدوان والمحافظة على كيان الدولة واستقلالها وسيادتها، وانما سلام الاقوياء الذين يعدُّون للأمر عدَّته كما أمر الله” وهذا ما يجعل صناعة السلام مرتبطة بالحرية، إذ لا يمكن أن نتصوّر شعباً مسالماً غير حر، لأن السلام إن لم يرتبط بالحريّة كان مسكَنةً وذلّة وذلك لا يمكنُ أن يسمّى سلاماً..!
لهذا فإن صناعة السلام ليست مجرّد أقاويلَ أو شعارات إنّما هي إرادةٌ فاعلة، وشكيمةٌ متوقّدة لا تغيّرها التقلبات ولا توهنها المتغيرات، فالدّول التي تزعمُ صناعتها للسلامِ عن طريق استخدام القوّة مع قدرتها على تحقيق السلامِ بغير بالقيم الإنسانية المثلى لن تجني سوى العواقبَ الوخيمة التي ستدفعها أجيالها المتلاحقة..! أمّا الدول التي أوقدت الضوء في الظلام، وحملت غصون الزيتون في وقت الهجير فإن أجيالها سينعمون بالعيش الهانيء الرغيد.
لقد أصبح العالم يموج بالفتنِ والصراعات التي لو نظرَ إليها العاقل من أعلى كوكب الأرض لرآها تافهة المعاني، حقيرة الأهداف، لأنه لا يمكنُ لغايات كريمة أن تتحقق بإشعالِ فتنةٍ، ولا بإفتعالِ سخيمة..! لهذا فإن العاقل الحكيم هو الذي يتبصّرُ في العواقب، وينظر في الآثارِ، ويتمعّن في النواتج فيتخذ السلامَ منهجاً ومذهباً، يقول جلالة السلطان قابوس المعظم:” إن السلام مذهب آمنا به، ومطلب نسعى إلى تحقيقه دون تفريط أو إفراط” ومعنى الإفراطُ والتفريط هو أن السلامَ فضيلةٌ بين رذيلتين: الضعف والبطش..!
هكذا سعت عمانُ دائماً إلى صناعة السلام، فبرعت فيها لأنها لم تتخذها رياءً وتملّقا، وإنما اتخذتها منهجاً ودستورا، فأقامت العلاقات على أسس الإحترام المشترك، وأنشأت التفاهمات على قاعدة عدم التدخل في شؤون الغير، وقرّبت الشعوب على أساسِ العيش الإنساني، فما كان تحريرها للأسرى والرهائن، وما كان الإحترام والتقدير من العالم بأسره لأدوارها السياسية الرزينة إلا وفقاً لنتاجِ هذه الصناعة العظيمة .. صناعة السلام..
الخاتمة:
إن تعزيز القيم الأخلاقية في المجتمع يُسهم بصورة فاعلة في نشر مظلّة السلام، ويرتبطُ به ارتباطاً وثيقا، كما أن ذلك التعزيز القيمي سيسهم دون أدنى شك في توثيق عُرى العلاقات الإجتماعية بين أفراد المجتمع على منطلقات أخلاقية تتوخى مصلحة الوطن السامية، وتتحرّز الوقوع في المصالح الشخصية الضيقة المبنية على الأنانية، كما وتوفّر أجواء من المحبة والتعاضد والتضامن والتآلف المجتمعي.
هذه الأجواء الصحية هي التي تكفل مدّ غصون السلام في المجتمعات ودفع الضرر عنها أيّاً كان مستواه ونوعه، كما وأنها ستكون مناخاً غير مواتٍ للكائدين الذي يسعون إلى إحداث الإنشقاقات الإجتماعية، وزرع الفتن بين مكونات المجتمع، ذلك لأن القيم قد شكّلت درعاً قوياً لا يسهل اختراق جسد المجتمع من خلاله بقصد تمزيق شرائحه، وإشعال الفتنة بين أعضاءه.
ولا ريب بأن فاعلية القيم في ثقافة السلام جوهرية لا يماري في قوتها وأهميتها عاقل، لأنها ضابطٌ محكم، ومرجعٌ حازم، ومُرشد خيِّر، يهدف إلى ازدهار التنمية، ورقي الإنسان، وعلّو شأنِ الأمم والأوطان.
—————————————————-
الهوامش:
في مقدمة كتاب”القيم إلى أين؟”الصادر عن المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون “بيت الحكمة”واليونسكو بقرطاج عام 2005م.
– المصدر أعلاه.
– المائدة.
– كارل ريموند كارل پوپر Karl Popper (28 يوليو 1902 في فينا – 17 سبتمبر 1994 في لندن) فيلسوف نمساوي-إنكليزي متخصص في فلسفة العلوم.
– إميل دوركايم (15 ابريل 1858 – 15 نوفمبر 1917) فيلسوف وعالم اجتماع فرنسي. أحد مؤسسي علم الاجتماع الحديث.
– ويكيبيديا: صحيفة المدينة
– المصدر أعلاه.
– المصدر أعلاه.
– المستشرق والوزير الروماني كونستانس جيورجيو (مولود عام 1916)
– المصدر أعلاه.
-علي أسعد وطفة، مجلة التسامح، وزارة الأوقاف والشؤون الدينية بسلطنة عمان، العدد11، 2005م.
– المصدر السابق.
– [أخرجه البخاري في الصحيح].
– صحيح مسلم” كِتَاب الإِيمَانِ” عن أبي هريرة رضي الله عنه.
– [أخرجه البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير]
– [ مسلم، الترمذي، أبو داود، ابن ماجه، أحمد ]
– رواه أبو داود
– حديث صحيح رواه أبو داود والترمذي
– أوغست كونت ( 19 يناير 1798 – 5 سبتمبر 1857) عالم اجتماع وفيلسوف اجتماعي فرنسي.
– مارتن لوثر (10 نوفمبر 1483 – 18 فبراير 1546) راهب ألماني، وقسيس، وأستاذ للاهوت، ومُطلق عصر الإصلاح في أوروبا
– د. صالح الفهدي “صناعة الإنسان وبناء الأوطان”، مؤسسة الرؤيا للنشر، ط1، 2017م
– مارفين غاي (بالإنجليزية: ) (2 أبريل 1939 – 1 أبريل 1984) هو مغني أمريكي وكاتب اغاني وموسيقي من اصول أفريقية
– الدالاي لاما (6 يوليو 1935م– حتى الآن) هو القائد الديني الأعلى للبوذيين التبتيين(ويكيبيديا)
– ألْبِرْت أينْشتاين (بالألمانية: Albert Einstein) (14 مارس 1879 – 18 أبريل 1955) عالم فيزياء ألماني المولد، سويسري وأمريكي الجنسية، من أبوين يهوديين،وهو يشتهر بأبي النسبية كونه واضع النظرية النسبية الخاصة والنظرية النسبية العامة الشهيرتين اللتان كانت اللبنة الأولى للفيزياء النظرية الحديثة (ويكيبيديا)
– العيد الوطني 28 عام 1998 – خطاب جلالته.
– العيد الوطني 24 عام 1994م- خطاب جلالته.
6,041 total views, 5 views today
Hits: 498