أنيسة الهوتي


تهامست جميعُ حيوانات غابة الصفصاف فيما بينها على إنبهارهم بصوت البُلبُل، الذي يأتي كُل مساءٍ ليُغَرِد على أغصــان أعلى شجرة صفصاف فيها.
وأصبحوا يُتابعون قُدومه بِكُل شَغَفٍ وشَوق ، ويتجمعون تحت تلك الشجرة وحولها حتى يستمتعوا بِشدوهِ ، وتغريده العذب الذي يُلامِسُ القَلبَ والروح.
وَلَم يَكُن البُلبُل المسكين يعلم بأمرِ ذَلِك التجمع المسائي المُتَكرر لسِماع صوته، فهوَ لَم يَكُن يسعى إلى كسب إعجاب كُل تِلك الجموع، ولَم يكُن يسعى إلى نيل الإطراء والمديح ، ولَم يكُن يسعى إلى إبهارِهِم بصوتهَ!
لأجل ذَلك كان يأتي مساءً مُتخفياً كي لا يُرى لِعين، ولا يُعَرِف حالهُ وألمهُ لأحد، كانَ فقط يبُثُ شوقهُ وحُزنهُ ويُنَفِسُ كَبتهُ بذَلِك التغريد
الممتلئ ألماً وشجواً وجمالاً، وسُبحانَ من صَبَ الجمال في ذلك الألم.
ولَكن الحمار لَم يُعجِبهُ كُل ذَلِك، وبدأت الغِيرة تأكل قلبه قضمةً قضمةً، وتبلعهُ لُقمةً لُقمه، وبدأ الحِقدُ يتوسدُ المساحات التي كانت الغيرة تُعَفنها، ومَع مرور الأيام ، لَم يبقى في قلبه مساحة بيـضاء بعد أن تحول من الغيرة والحقد والحسد ذي لونٍ أسود بدمٍ أسود كريـهِ الرائحة.
فلَم يستطع أن يتحمل سماع كلام الإطـراء، وتجمع الإعجاب اليومي لحيوانات الغابة، فَقَرَرً أن يجذبَ إنتباههُم، كَي يكون الإطراء والإعجاب له وحده وليس لأي أحدٍ غيره، ففَكر مليــاً ماذا عساهُ أن يفعل كي يسحب البِساط الأحمر من تحت
البُلبُل ، ويجلس عليه وحده بحوافرهِ الأربعة!
فوجدَ أن لا وسيلة غير أن يبدأ بشتم البُلبُل أمامهم جميعاً وإحتــقار شدوه، كي يتنافروا من صوته ثم يبدأ بالغناءِ لهم.

وفي ذَلِك المـساء، إجتمعت حيوانات الغابة لِسماع شَدوا البُلبُل الحزين.
فجأةً وهُم في ذَلِك الإنتظار، أتى الحِمــار صارخاً: (ماذا بِكُم يا قوم، لقد سَحَركُم البُلبُل وجعلكم لا تميزون
بين الجمال وعدمه، أتسمعون النشـاز وتصفونه بالجمال!؟ لقد سئمتُ ذَلك حقاً، إلى متى ستبقون على ضلالكم هذا، وتُسَمون القُبحَ جمالاً؟ّ
إذن فقد ماتَ الجمال إن كانَ هذا جمالاً!! سأموتُ مِن غيرتي على الجمال يا سادتي الكِرام عُذراً فإني ماعُدتُ أطيق إهانتكم للجمال)
وبَينما الحِمار يَصرُخُ ويَصرُخ، كانَ البُلبُل قد طارَ بعيداً عن شجرة الصِفصاف، وذهب إلى تلةٍ عاليةٍ بعيدة وبدأ يُغَرِدُ  مِن هُناك ليُخفف ألمَ قلبهِ وروحه وحزناً كان قد غلفَ قَلبه.

ولَكِن لَم تستطع حيوانات الغابة سماعه من ذاك البعد، فإستشاطت غضبـاً على الحِمار لتصرفه الحاقد، وبدأ كُل واحدٍ مِنهُم يُردد بِكلماتٍ ساخطة على الحِمار، مَع ذلك لَم ينتبه الحِمار لغضبهم فقد أعمته ثقته الزائدة بنفسه، وبدأ يقول:
(لِماذا الغضب يا قوم ، الحمدلله أن ذهب عنـا ذلك المشؤوم الحزين صاحب الصوت النَشِز، الآن سأغني لكم وأُمَتعِكُم بِغنائي هيا إسمعوني)

فبدأ الحِمارُ بـالغناء، وما أن بدأ بذلك إلا والحيوانات جميعها هربت بعيداً عنه لِصوتهِ المُزعج ولَم يستطيعوا تحمل ذلك الضوضاء والنشاز المزعج!
وتقدم مِنهُ النَمرُ غاضبــاً وقال له:
(ماذا دهاك يا حِمار، انسيت أن صوتك ينهق ولا يُغَرِد! أتُريدُ أن تُقنِع حيوانات الغابة أن النهيق تَغريد! ماهكذا يُطَبِلُ المَرءُ لِنفسه، إذهب أيها الحاقد إلى ما كنت فيه، وخُذ معك نهيقك الذي سودت به وجهك أمــام حيوانات الغابة، وسَتُذكَرُ هذه الحادثة على لِسان الجميعِ أمداً، وستبقى الحيوانات تتنافر من صوتك أبداً)
فذَهبَ الحِمار مُسودَ الوجه مُفتضحاً بين اقوام الحيوانات في الغابة، وبقى أضحوكةً بينهُم على مدى الدُهور.

أما البُلبُل فلَم يَرجِع إلى غابة الصفصاف قط، وبقى يغردُ وحيداً على التله.

 4,513 total views,  2 views today

Hits: 910