فاكهه من صناديق الذاكرة
الأديب: مهند العاقوص
” تين”
الساعة الأن الرابعة فجرا بتوقيت المدينة، وللمدن ساعات تئن تحت عقرب معطل.
أستيقظ مقاوما كل قوى الجاذبية في سريري، أنكمش على نفسي ككائن ما، البس السترة العسكرية، ليس لأنني جندي، بل لأنني في معركة، وليس لأن البرد حاد الرأس، بل لأنني أفخخ سترتي ببضاعة سأبيعها في سوق الخضار…
أذهب مشيا مسافة نصف ساعة، أشعر بالخوف أحيانا، الأطفال يخافون من الليل والفراغ، حتى وإن قلدوا صوت الذئاب أثناء سيرهم…
أصل مع وصول الشاحنات القادمة من القرى، إنها كينابيع تصب في نهر من الفاكهة والخضار…
أبيع بضاعتي، ثم أقفل راجعا، ألبس الزي المدرسي، وأذهب كأي فتى عادي إلى المدرسة وكأنني لم أكن مفخخا بالبضائع قبل ساعتين…
ذات يوم، كان الظلام في السوق قهوة بلا سكر، فوقعت قدمي في صندوق طري، استطعت أن أدرك بعد ذلك أنه صندوق تين…
كمن يهرب من موقع جريمة هربت، خفت أن يغرمني البائع بثمن صندوق لا أقو على دفع ديته، لكنني قضيت أياما يحاصرني الشعور بالذنب، وكأنني قاتل سفك عسل التين الرقيق…
ذات فجر، كنت شجاعا مثل موقد في ليل، قلت للبائع ” منذ أيام خطوت بالخطأ في صندوق تين، وانا حاضر لتعويضك”
سامحني البائع مقدرا صراحتي، فنال قلبي صك براءته.
لكنني منذ ذلك اليوم، أحترم صناديق التين الخشبية، أحترمها كثيرا، إنها توابيت لا أقدر على حملها وحيدا…
تفاح
مرة اكتشفت اكتشافا كبيرا، اكتشاف أستحق عليه براءة من اي اكتشاف، وجائزة نوفل (بالفاء) للعلوم.
اكتشفت أن بصمة الوجوه في مدينتنا واحدة، وطبقت تجاربي على ثلاث عينات، سيدتان ورجل،…
يومها غرست وجوههم بالطحين، وتركت وجوههم االعلامات ذاتها بتطابق رهيب، فما السر في ذلك؟
راقبت الأمر…
في اليوم التالي، لاحظت خطا زائدا بوجه السيدة ( إحدى العينات) …
” لقد أكل طائر تفاحة ابني الوحيد” قالت السيدة. دامعة.
فأسرعت لأتحقق من وجهي العينتين الباقيتين…
قال الرجل الذي ظهر خط جديد على وجهه ايضا ” الطائر الوحيد الذي يملكه ابني أكل تفاحة الفتى”
قالت العينة الثالثة ” قطف الفتى آخر تفاحة في شجرة ابني الوحيدة”
بقيت بصمات تلك الوجوه متشابهة، وأنا لا زلت أراقب، لا بد أن أفوز ببراءة من أي اكتشاف، وجائزة نوفل بالفاء، أنا أستحقها، والسبب ببساطة أن نوفل هو اسم الفتى الذي سرق غرسة فصارت شجرة تفاح فيها تفاحة سرقها فتى آخر فأكلها طائر مسروق….
مشمش
مرة كنا في القرية، وكان المشمش في حمام شمسه يستلقي على أغصان الشجر، وكانت الصناديق تنتظر، إنها أكثر شوقا من جيوب الفلاحين وبطون أهل المدينة.
يومذاك حملت الصندوق، ولاحقني صوت جدي كشلال ” المشمش حساس، يهطل وحده، اجمع ما تجده بانتظارك تحت شجرة”
فعلت ما أوصانيه جدي لكن الصندوق لم يمتلئ، والصناديق أطفال يسعون لكمال، لذلك أقنعني الصندوق بصوابية الطمع.
رحت أهز الشجرة، هززتها كمن يهز ارجوحة ليسقط أو يعلو فرح.
ثم بعد ذلك، رحت ارشق الشجرة بالحجارة، فيسقط المشمش كمن يسقط في معركة، وبذلك ملأت صندوقي مشمشا.
عدت إلى جدي كبطل، لكنه استقبلني كخائن” يا ويلك من حزن المشمش الحساس” قال جدي وهو يستبعد مشمشا مجروحا لم ينضج بعد.
بعد أيام، انقضى عتب جدي من فعلتي، فسمح لي بالتقاط المشمش مجددا، ولاحقني صوته وصوت جدتي كنهر ” المشمش حساس يا بني، اتركه يهطل عليك بإرادته، لا تجرح كبرياءه بحجر”.
الأكدنيا
بجوار شجرة الأكدنيا بئر، وعلى الشجرة ثمرة وحيدة…
كنا أطفالا ممتلئين بالأسئلة والجوع والفرح، نسأل أي شيء، ونركض بعيدا قبل أن نسمع الإجابة.
مرة جرني سؤال بقوة، فسألت جدي “ لماذا لم تقطع الحبل والدلو، لماذا لم تردم البئر المعطلة؟”
لكنه ظل صامتا كبئر…
وبعد أيام، صرخت في معدة البئر ” هل انت جائعة مثلنا؟”
فاهتزت شجرة الأكدنيا، وسقطت الثمرة في البئر، وسمعنا صدى ارتطامها بماء انبجس فجأة.
حينذاك أسرع جدي ليرفع الحبل الذي لم يقطعه ابدا….
درّاق”
لم أكن أعرف الدراق، رأيته في كتاب الأناشيد ، كان النشيد يتغنى بالفاكهة ، حفظت النشيد بسرعة كبيرة ، ربما لأنني أحب الشعر ، أو لأن الفاكهة نادرة مثل القصائد .
كلمت أمي عن حبي للدراق ، لكنني لم أقل لأبي ، تفاديت نظرة الحزن في عينيه حين يعجز عن شراء ما نحب ، أبي كان دائم الحزن .
مرة مررت بالسوق ، فرأيت سيارة مليئة بصناديق الدراق…
حين بدأ العمال بإفراغ حمولتها ، فكرت ” حين تسقط حبة ، أحملها وأغسلها جيدا ثم أكلها ”
لكن الصناديق كانت كبيرة ومحكمة ، لذا خاب أملي بالحصول على واحدة .
تقدم رجل ذو كرش كبيرة ، واشترى صندوق دراق، حين رآني أنظر نحو الصندوق قال ” أتحمل هذا الصندوق نحو سيارتي؟”
حملت الصندوق الثقيل ، كنت أتخايل على التعب بالتفكير بالدراق، أتخيل أنني سأشتري بأجرتي كيلو غراما من الدراق.
حين أوصلت الصندوق ، أعطاني الرجل خمسين ليرة ، لم أفرح بها ، كنت أتألم بسبب جرح سببه خشب الصندوق في ساعدي .
لم أشتر الدراق، بل اشتريت الدواء ليدي ….
حين ذهبنا إلى القرية ، جلبت غرسة دراق وجلب أخي غرسة مشمش وأختي غرسة كرز ، فعلمت أن إخوتي مثلي يحبون الأناشيد .
زرعتا الغراس، وكبرت …..
أكل أخي ثمار المشمش ، وأكلت أختي ثمار الكرز ، أما أنا فقد وزعت كل ثمار الدراق على صغار كانوا يحفظون الأناشيد مثلي.
تعجبت أمي ” تزرع الدراق ثم لا تأكل حتى ثمرة !”
فقلت لها متحسسا مكان الجرح القديم في يدي : وزعته على الصغار كيلا يجرحوا سواعدهم بحب دراق له طعم الأناشيد الصغيرة .
برتقال
كان كل أطفال الحي يخافون من أبي هولا ، إنه رجل عجوز يعيش وحيدا ، ويحرس شجرة البرتقال بعصاه !
ذات يوم ، جمعنا المال انا وأطفال الحي ، واشترينا كرة لنلعب كرة القدم ، ولم نجد أفضل من الساحة لنلعب بها ، رغم أنها تقع أمام بيت أبي هولا !
في المباراة سددت الكرة لتطير عاليا ، وترتطم بشجرة البرتقال ، وتسقط في دار أبي هولا !
فزع الجميع وركضوا في كل اتجاه ، وبقيت أنا واقفا والرفاق يصيحون ” اهرب ! لقد جاء أبو هولا حاملا عصاه “
اقترب مني أبو هولا وأعاد لي الكرة ، وقال ” العبوا لكن لا تتلفوا ثمار شجرة البرتقال “
في الصيف ، وزع أبو هولا ثمار البرتقال على الأطفال ، وقال ” كان لي ولد من عمركم ، زرع شجرة برتقال قبل أن يستشهد في الحرب “
تغيرت نظرتنا لأبي هولا ، إنه طيب كثيرا ، صرنا نراه كأب أو جد ، وهو يرانا أشجار برتقال.
عنب
كانت دالية العنب في بيتنا حنونة ، ترتفع فوق سطح الدار المنخفض ، وتمتد مثل بساط اخضر فوق فسحة الدار ، فتمنحنا رقة ظلها نهارا ، وعذوبة الحانها مع النسيم ليلا …
ذات ربيع ، طلبت فاطمة بنت الحاج أبو ناصر عنقود حصرم ، فأعطتها أمي بسعادة !
ولما تذوقت فاطمة الحصرم ، حكت في كل بيوت الحي عن روعة داليتنا ، فكان يزورنا الجيران ويجلسون تحتها …
وفي الصيف ، وزعت أمي العنب على كل الجيران ، وتفاجأنا جميعا نتساءل ” كيف تطعم دالية واحدة كل الجيران من عنبها؟!”
فيجيب أبي ” ما حلت بركة في رزق إلا وفاض ليكفي ويزيد “
هكذا كنا نفعل كل عام ، نوزع الحصرم والعنب ، فتكبر الدالية وتكبر …
وفي يوم ، طلب الجيران فروعا من تلك الدالية ، فجاء الحاج أبو ناصر حاملا مقصه ، وقص بعض الأغصان من الدالية وهو يقول ” هذا سيجعل الدالية تكبر وتتجدد “
وزعنا الفروع على الجيران ، فززرعوها في دورهم ، بينما كانت داليتنا تنمو ويطيب ثمرها ….
وذات خريف ، شاخت داليتنا وصارت عجوزا ، وانتشرت حشرة في فروعها ، فأضعفتها وأتلفتها ، وصار لا بد من قصها !
حزن الجميع على قطع الدالية ، ودمعت عين أبي ناصر وهو يقصها ، وأنا بكيت كثيرا ….
في اليوم التالي ، كنت أمشي في الحي ، وأسمع صوتا يقول ” لا تحزن … نحن ذكرياتك … نحن معك دائما “
نظرت من حولي ، فرأيت الدوالي تطل من خلف جدران الدور ، وكل دالية تهتف ” أنا ابنة داليتكم ”
منذ ذلك اليوم ، أتذكر داليتنا ، فأزرع حيث استطعت، وقلبي يقول ” كل زرع سينمو ويزهر ويثمر “
3,442 total views, 2 views today
Hits: 97